الكاتب: مصطفى ناصر الدين

وضعت جائحة كورونا العالم على مسار جديد. فقد شكّلت الأزمة المستجدّة حدثاً نوعياً لم يسبق مروره على هذا النحو في التاريخ.  المعركة التي بدأت في مدينة ووهان التابعة لمقاطعة هوباي الصينية، غدت اليوم "معركة عالمية تخوضها دول العالم وتشكل أولوية عمل الحكومات واهتمام الشعوب في كل العالم"[1] .

وما زاد الطين بلّة، أن العجز الطبّي في مواجهة الفايروس الذي لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة، يأتي في ظل تقدّم علمي مدهش، يضاف إليه تراكم معرفي طبيّ يوازي أضعاف التراكم الذي كنّا نمتلكه في القرن الماضي. لم ينجح هذا التراكم المعرفي، ومعه مئات الآلاف من الأطباء المدجّجين بملايين الأجهزة الطبية في القضاء على هذا الفايروس، ليدخل العالم في مرحلة أشبه ما تكون بالغيبوبة التي يعيشها المصابون بهذا المرض قبل موتهم، الأمر الذي أدّى لشعور الناس بالتعب والحاجة إلى يد منجية [2] .

صحيح أن فايروس كورونا قد تسبّب بانهيار جزئي للأنظمة الصحيّة في بعض الدول كإيطاليا، وهنالك دول مهدّدة كالولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذا الانهيار حمل معه انهيارات أخرى منها ما قد حصل كالانهيار الأخلاقي[3] ، ومنها ما قد يحصل كالانهيار الاجتماعي والأمني في ظل تهافت بعض الشعوب على شراء السلاح وتخزينه كالمواد الغذائية.

اذاً، لم يكن العجز الطبّي هو العنوان الأوحد في المرحلة الحالية، بل كشفت هذه الأزمة بوضوح زيف، أو بعبارة أدقّ، نقاط الضعف التي تعتري النظام العالمي الحالي على مختلف مسمّياته وأشكاله؛ رأسمالي، ديموقراطي أو أيّ مسمّى آخر. لذلك، كثر الحديث عن نظام عالمي جديد في مرحلة ما بعد كورونا، حتى من أولئك الذين كانوا أحد أعمدة النظام العالمي القائم، من بينهم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون، هنري كيسنجر الذي اعتبر أن جائحة فيروس كورونا كوفيد - 19 ستغير النظام العالمي إلى الأبد [4] . لطالما ترافقت عملية سقوط الإمبراطوريات والأنظمة والنظريات مع صعود أخرى تسعى لمعالجة نقاط الضعف السابقة، وهذا ما قد نشهده اليوم. لذلك السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي أبرز مظاهر العجز في النظام العالمي القائم؟ وما هو البديل إن وجد؟

مما لا شكّ فيه أنّ النظام الديموقراطي يتمتّع بمقبوليّة واستقرار واسعين، لكن جائحة كورونا كشفت عورات هذا النظام وعجزه شبه التام في الحالات الاستثنائية، وإن أظهر "سكوناً كاذباً" في الحالات الطبيعية، أبرزها غياب الجانب المعنوي والغيبي وحضور الجانب المادّي البحت، ولعله أحد أبرز أسباب سقوط المنظومة الاخلاقية والحقوقية لدى هذه الأنظمة التي ابتعدت عن الدين وجعلت من المال والإعلام فيصلاً وحاكما. مقابل هذا النموذج، برز نموذج لا شرقي ولا غربي قدّمته الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية.

 لم يكن أداء الدول والحكومات في مسألة كورونا وليد الظروف فحسب، بل يستند إلى الأسس التي ترتكز عليها هذه الأنظمة. وبالتالي، نحن اليوم أمام نموذجين يقدّم كلّ منهما خلاصته في مواجهة كورونا، الأول غربي ظهر في أوروبا وأمريكا ويرتكز على أسس ديموقراطية ورأسماليّة بحته، في حين أن الثاني هو إسلامي تجلّت في تجربة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة المستندة إلى السيادة الشعبيّة الدينيّة، وهي الرؤية التي أطلقها الإمام الخامنئي بناءً على فقه ولاية الفقيه نظرياً، والتجربة القانونيّة والإداريّة والسياسية في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة عملياً [5].

فيما يخصّ النموذج الغربي القائم، هناك إشكالين رئيسيين: الأول يرتبط بالنظرة الماديّة وغياب البعد المعنوي. إن غياب البعد المعنوي، والذي يستند في أساسه إلى الفطرة، في النظام الغربي أفضى إلى المشاهد اللانسانية التي ظهرت بكثرة في دول وقوميات مختلفة. وأما السيادة الشعبية الدينية التي ترتكز على بعدين معنوي ومادي أظهرت تألق هذا النظام. فثقافة التضحية مرتبطة بالأساس الديني للنظام، وقد تجلّى هذا الأمر بشكل واضح بعد إصدار قائد الثورة الإسلاميّة الإمام السيد على الخامنئي في بداية الأزمة قراراً اعتبر فيه الأطباء والممرضين الذي يقضون في معالجة المرضى شهداء خدمة. وأما الإشكال الآخر في النظام الديموقراطي يتمثّل في القدرة على الموائمة بين حرية الناس من جهة، ومصلحتهم من جهة أخرى، فاذا ما قدّم الغرب المصلحة دون أخذ الحرية بعين الاعتبار سيصبح نظامهم استبدادي، كما أن إهمال مصلحتهم، والأخذ بالحرية فقط، أمر غير ممكن، أي أنه لا يمكّنهم من مواجهة جائحة كورونا. إذاً الغرب هنا أمام خيارين أحلاهما مر، ولكن تلك المرارة تارةً تكون بفشل الأداء، وأخرى بضرب الديموقراطية نفسها. وأما السيادة الشعبية الدينية، وانطلاقاً من الرؤية الإلهية التي تأخذ البعدين المادي والمعنوي بعين الاعتبار، فمن الواجب على رأس الهرم في هذا النظام  أي الولي الفقيه أن يوائم بين حرية الشعب من جهة، ومصلحته من جهة أخرى، فلا حريّة بحته، ولا مصلحة بحته، بل أمر بين أمرين، وقد تجلّى هذا الأمر بوضوح في الخطوات الإحدى عشر التي اتخذها قائد الثورة منذ بداية كورونا في ايران[6].

الأسس
لم تشعر البشريّة يوماً ما بحاجتها للمخلّص إلى هذا الحدّ [2]، هذه الحاجة التي ظهرت في وجدان الشعوب الغربية بشكل غير مسبوق بعد تفشّي الكورونا، وتستند إلى فطرة الانسان قبل أيّ أمر آخر، ضربت المقولة الأساسية التي بنى عليها الغرب مدارسه الماديّة بأن الله خالق، وليس بحاكم. ما حصل اليوم في قضية كورونا بعد العجز الأممي المادي، يشبه كثيراً ذلك الطفل الذي يفرح بخطواته الأولى التي يخطوها، ويرى نفسه أنّه لم يعد بحاجة لليد التي ربّته، ولكنه سرعان ما يعود إليها فطرياً عند أول سقوط على الأرض. وعندما تتمتّدّ له يد الأهل لوضعه مجدداً على طريق العافية، يستعيد ثقته بنفسه، ليشعر بحاجته إلى يد المخلّص عند السقوط التالي، وتتكرّر الحكاية.

وأما الأسس التي يجب البناء عليها هي أولاً العودة إلى الفطرة، والبناء عليها، أي قبول الولاية الإلهيّة، فالله الخالق، هو المدبّر والحاكم والمنجي، وبالتالي فإن الجانب المعنوي ركيزة أساسية. إن هذه العودة إلى الفطرة تبعث على الأمل، وهو أكثر ما يحتاجه الإنسان في الحالات الطارئة، فهو الذي ينجي الإنسان من حالة اليأس التي تجعله يقدم على أفعال عجيبة وغربية، شاهدنا بعض نماذجها في أوروبا وأمريكا مؤخراً، وفي مقدّمتها الانتحار.

رغم أهميته، لكن هذا الأمل المقرون بالصبر لا يبدو كافياً، بل هو المحرّك لمنظومة قيميّة تستلزم المشروعية الإلهيّة إلى جانب المقبوليّة الشعبيّة عنوانها الدين، ومن أبرز شروط المشروعيّة التقوى والعدالة التي لا يمكن حلها بواسطة العلم المتطوّر والتكنولوجيا المتقدمة[2] ، فالمسألة ليست تقنيّة، بل عقديّة وفكرية. ومع سيطرة مثل هذه الشروط الإلهية التي تحاكي متطلّبات الفطرة، فلا معنى حينها لحاكميّة المال والإعلام، كما هو الحال في الديموقراطيات الغربية [7] .

الأداء
في الحقيقة، لم يكن أداء الحكومات، ومن خلفها الشعوب، في مواجهة الجائحة إلاّ ترجمة عملية للأسس التي ارتكزت عليها هذه الأنظمة وتربّت عليها الشعوب. لا ننكر وجود بعض الحالات الانسانيّة الفرديّة في الأداء الغربي والتي لا يمكن البناء عليها لأن الوضع العام مختلف تماماً، فالغرب المتوحش أصبح حيًّا كما قال أحد النواب الغربيّين. في المقابل، تُرجمت أسس السيادة الشعبيّة الدينية في الجمهوريّة الإسلاميّة بنحو أظهر تألق الشعب الإيراني في هذا الامتحان، حيث ظهرت ثقافة التضحية بأبهى صورها، فلم يقتصر المتطوعون على أفراد الجهاز الصحيّ في إيران الذي تشكّل من الكادر الطبي والقوات المسلّحة[8] ، بل شارك عشرات الآلاف من طلاب الحوزة الجهاديّون، طلاب الجامعات الجهاديّون، والآلاف من عناصر التعبئة والأفراد من الناس ليقدّموا الخدمات القيّمة[2]، بينما غابت ثقافة التضحية هذه في دول الديموقراطيّة الغربيّة بشكل شبه تام. بدا لافتاً جداً التناغم الذي جمع بين أفراد الشعب الإيراني.

وهنا نذكر بعض النماذج:
أولاً: في حين يبدأ مشروع في كل حارة أضحية، حيث يجتمع أهل الحارة ويضحّون بخروف ويوزّعون اللحم للمحتاجين من تلك الحارة أو أن تخبز النساء وتوزع على الناس في دولة السيادة الشعبية الدينية، يعمد الغربيون كل يوم وفي مدة قصيرة، خلال ساعة أو ساعتين إلى إفراغ المحلات، حيث يحرصون على شراء الكثير من أجل ملء برادات وثلاجات بيوتهم وتصبح المحلات فارغة.

ثانياً: بينما تحوّلت العديد من البيوت إلى مراكز خياطة، بمشاركة أمهات الشهداء وطلاب الحوزات والجامعات ومختلف الأقشار، لإنتاج الكمامات وتوزيعها على الناس مجاناً، تعمد إحدى الدول لمصادرة الكمامات والقفازات المتعلقة بدولة أخرى وتحوّلها إلى نفسها.

ثالثاً: في حين شكّل طلاّب الحوزات والجامعات مقرّات لهم لتعقيم منازل الناس، تحصل معركة من أجل مناديل الحمام الورقيّة في الدول الغربية، والأهم من ذلك كلّه أنهم يصطفون لشراء الأسلحة، ما يعني وجود نيّة مبيّتة لإظهار وحشيتهم في الوقت المناسب، أو الدفاع عن أنفسهم أمام الوحوش في مجتمعهم.

رابعاً: في دولة السيادة الشعبية الدينية، ينزل العلماء ورؤساء الحوزات العلمية بأنفسهم إلى الساحة ترسيخاً لمبدأ أن الحكام هم خدّام الشعب والضيوف الأجانب في هذا البلد، في حين أن العديد من الدول الغربية ترفض التعاطي مع الإنسان كإنسان، وتمنع إستقبال أي ضيف أجنبي من المتواجدين على أراضيها في المستشفيات بصرف النظر عن حالته الصحيّة.

خامساً: وبينما يصر الأطباء على معالجة أحد المرضى المسنين في إيران، والذين كانوا قد تعرّضوا للكيميائي في حرب صدّام، يصرّ الأخير على تلقّي العلاج على الأرض إفساحاً للمجال أمام البقيّة للعلاج على الأسرّة. في المقابل، تضع الليبرالية الغربية أولوية للمرضى، فلا يعالجوا المريض المسن. يقولون إن المريض المسن غير المنتج لا ينبغي أن نشقى من أجله [2].

إن هذه النماذج تظهر منتج التضحية الذي ولد من رحم الثقافة الإسلامية، فهؤلاء الذين يضحّون دون أي مقابل مادّي يدركون أنّهم سينالهم الأجر والثواب الإلهي [9]، مقابل منتج التصفية في الثقافة الليبرالية المادّية، لتُسقط جائحة الكورونا مقولة "الإسلام بلا مسلمين في الغرب" دون رجعة. يمكن القول وبصراحة، إن السيادة الشعبية الدينية هي السبب في تألق الجمهورية الإسلاميّة في مواجهة كورونا. يوائم هذا النظام بين إرادة الشعب من ناحية، ومصلحتهم من ناحية أخرى.

في الختام، أظهرت الثقافة الغربية منتجها الذي رسّخ في إدراك النخب الحاجة إلى يد المخلّص الإلهي، في حين تجلّت هذه الحاجة في لاوعي الناس الغربيين عبر أفعالهم، فالسقوط الثقافي والأخلاقي والانساني هو تعبير واضح لفشل الليبرالية والديموقراطيّة في إيصال الناس إلى السعادة، خاصّة في الأزمات، وهذه نتيجة طبيعية للفلسفة الفرديّة والماديّة الحاكمة على الحضارة الغربية. قد يبتعد الغرب مجدداً عن الجانب المعنوي والبعد الغيبي الإلهي بعد مرور هذه الأزمة، لكنّه سرعان ما سيعود إليها مرّة أخرى عند أي مرحلة يأس مقبلة، فلا مفرّ للإنسان من فطرته.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir
 

المراجع:

  1. كلمة السيد نصرالله حول مستجدات جائحة كورونا بتاريخ  13/3/2020.
  2. كلمة الإمام الخامنئي بمناسبة ولادة الإمام المهدي في 15 شعبان بتاريخ  9/4/2020.
  3. سيناريو عالم ما بعد كورونا، الدكتور حسين البناء، صحيفة الرأي اليوم،30/3/2020.
  4. كورونا فايروس سيغيّر نظام العالم،هنري كسينجر صحيفة، وول ستريت جورنال الأمريكية، 3/4/2020.
  5. "السيادة الشعبيّة الدينيّة"، مجموعة من الباحثين، دار المعارف الحكميّة.
  6. 11 خطوة مهمة لقائد الثورة في مواجهة كورونا، نشرية خط حزب الله، العدد 232 (فارسي).
  7. السيادة الشعبية الدينية في فكر الإمام القائد، الشيخ د أحمد الواعظي، بقيّة الله، العدد 319.
  8. .قرار الإمام الخامنئي لرئيس الأركان بتأسيس"مقرّ صحّي وعلاجي"  بتاريخ 12/3/2020.
  9. .كلام الإمام الخامنئي في لقاء رئيس أكاديميّة العلوم الطبيّة بتاريخ  27/2/2020.