بسم الله الرحمن الرحيم (1)

و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا و حبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما بقية الله في الأرضين. اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه و على آبائه في هذه الساعة و في كل ساعة ولياً و حافظاً و قائداً و ناصراً و دليلاً و عيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً و تمتعه فيها طويلاً. اللهم أعطه في نفسه و ذريته و شيعته و رعيته و خاصته و عامته و عدوّه و جميع أهل الدنيا ما تقرّ به عينه و تسرّ به نفسه.
في بداية كلمتي من الضروري أن نبدي احترامنا و حبنا للساحة المقدسة لبقية الله الأعظم سيدنا الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه). المنقذ في آخر الزمان موضع إجماع كل الأديان الإبراهيمية؛ أنْ يأتي شخص و ينقذ العالم من مستنقع الظلم و الجور فهذا ما يوافقه و يؤمن به الجميع في الأديان الإبراهيمية. و في الدين الإسلامي تعيّن اسم هذا المنقذ، فجميع المذاهب الإسلامية تعرف هذا الكائن الإلهي و هذا الإنسان الخارق الكبير باسم المهدي. ربما لا يمكن ذكر أية فرقة بين الفرق الإسلامية لا تعتقد بأن المهدي (عليه السلام) سوف يظهر و أنه من ذرية الرسول الأكرم (ص)، بل إنهم يحددون حتى اسم و كنية هذا السيد الجليل. و الخصوصية الموجودة في عقيدة الشيعة هي أنهم يحددون هذه الشخصية بشكل معين و محدد، و يعتبرونه ابن الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت - سيدنا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - و تاريخ ولادته واضح معلوم على نحو التحديد في رأي مؤرخي الشيعة و متكلميهم، و سائر الفرق الإسلامية لم تذكر أو لم توافق في الغالب هذا الرأي، لكن الشيعة بأدلتهم الأكيدة القاطعة يثبتون وجود و ولادة هذا السيد العظيم. و قد استبعد البعض أن يولد إنسان و يبقى حياً لهذا الزمن الطويل. هذا هو الاستبعاد الوحيد الذي يطرحه المعارضون بخصوص فكرة المهدي المنتظر، لكن القرآن الكريم يزيل هذا الاستبعاد بنص صريح فيقول حول النبي نوح (عليه السلام): «فَلَبِثَ فيهِم اَلفَ سَنَةٍ اِلّا خَمسينَ عامًا» (2)، بمعنى أن نوحاً عاش بين قومه 950 سنة. لا أن عمره 950 سنة، بل الظاهر من الفكرة أن فترة دعوته قومه كانت 950 سنة؛ إذن، لا مكان لهذا الاستبعاد.
الميزة الأكبر لهذه العقيدة بين الشيعة هي بث الأمل. المجتمع الشيعي لا يعتمد فقط على مميزات تاريخه و عظمته في الماضي، بل ينظر أيضاً للمستقبل. الشخص المؤمن بالمهدوية طبقاً لعقيدة الشيعة لا يرى قلبه فارغاً من الأمل حتى في أحلك الظروف، فمشعل الأمل متقد دوماً، فهو يعلم أن فترة الظلام هذه و حقبة الظلم هذه و عهد سيطرة الباطل سینقضي يقيناً. هذا من أهم آثار و مكتسبات هذه العقيدة. طبعاً عقيدة التشيع بقضية المهدوية لا يقتصر على هذا الحد: «بِيمنِهِ رُزِقَ الوَرى‌ وَ بِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الأرضُ و السَّماء» (3). هكذا هو الإيمان بقضية المهدوية. لقد كان هذا المشعل الوضاء و هذا النور الساطع في المجتمعات الشيعية على مدى القرون الماضية و سيبقى قائماً و سينقضي زمن انتظار المنتظرين إن شاء الله. بالأمس كانت ذكرى ولادة هذا الإمام العظيم، و هذه الكلمات الموجزة من الحبّ و الولاء كانت بمناسبة هذه الميلاد السعيد أمام حشودكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء.
أما النقاط التي أعددتها بمناسبة الرابع عشر من خرداد [الرابع من حزيران ذكرى رحيل الإمام الخميني (رض)] لكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء الحاضرون في هذا التجمع العظيم الهائل، و كذلك لشعب إيران، فهي طبقاً للمألوف حول إمامنا الخميني الجليل. لقد قلنا الكثير في هذا الشأن و لكن لا يزال ثمة مجال واسع للحديث عن هذا الرجل الكبير. ما أقوله لكم اليوم سيكون تحت عنوان «تحريف شخصية الإمام الخميني»، فهل يمكن تحريف الشخصيات؟ عادة ما نستخدم عنوان التحريف و مصطلح التحريف لتحريف النصوص، فهل يمكن أيضاً تحريف الشخصيات؟ نعم، تحريف الشخصيات هو بأن تبقى الأركان الرئيسية لشخصية ذلك الإنسان الكبير إمام مجهولة أو تفسر بشكل خاطئ، أو تفسر بطريقة منحرفة و سطحية؛ هذه الحالات كلها من سنخ تحريف الشخصيات. الشخصية التي تكون نموذجاً و إماماً و قائداً ستبقي سلوكياته و أقواله مناراً و نبراساً للأجيال التي تأتي من بعده، و إذا جرى تحريف هذه الشخصية فسيكون الضرر كبيراً. ينبغي أن لا يجري الاهتمام بالإمام الخميني كمجرد شخصية تاريخية محترمة، و هذا ما يريده البعض، حيث يتصورون أن الإمام الخميني كان شخصية محترمة في تاريخ هذا البلد، عاش في زمن معين و كان ناشطاً و مفيداً ثم فارق الناس و الحياة و انتهى زمانه، فنحترمه و نذكر اسمه بجلال، هذا ليس إلّا؛ البعض يريدون أن يعرفوا و يعرّفوا الإمام الخميني بهذه الطريقة و يتصوروه على هذا النحو؛ هذا خطأ.
الإمام الخميني هو التجسيد العيني لمسيرة عظيمة بدأها الشعب الإيراني فغيّر تاريخه، و الإمام الخميني مؤسس مدرسة فكرية و سياسية و اجتماعية. و قد تقبل الشعب الإيراني هذه المدرسة و هذا الدرب و هذه الخارطة و هو سائر الآن على هداها، و مواصلة هذا الدرب منوط بأن تعرف خارطة الطريق هذه معرفة صائبة، فمن دون أن نعرف الإمام الخميني معرفة صحيحة - بمعنى معرفة أصول الإمام الخميني و مبادئه - لن تُعرف خارطة الطريق هذه. من البديهي أن نقاشنا حول الأسس الفكرية للإمام الخميني، و ليس نقاشاً حول قرارات آنية تتعلق بزمان أو مكان معينين، إنما هو نقاش حول الشكل الأصلي لفكر إمامنا الخميني الكبير، و نروم أن نعرف هذا الشيء بشكل صحيح.
طبعاً كان الإمام الخميني فقيهاً كبيراً، كان فقيهاً بارزاً كبيراً، و كان فيلسوفاً و خبيراً في العرفان النظري، و كان يعدّ في هذه الأمور و المجالات و الجوانب العلمية و التخصصية وجهاً مبرزاً، بيد أن الشخصية البارزة للإمام الخميني غير مرتبطة بأيّ من هذه المجالات، إنما الشخصية الأصلية للإمام الخميني تكمن في تحقيق مضمون الآية «وَ جاهِدوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِه» (4). الإمام الخميني الجليل بتوفره على تلك المواهب العلمية المميزة خاض في ساحة الجهاد في سبيل الله و واصل هذا الجهاد و المجاهدة إلى آخر عمره و أطلق حركة عظمى لا في بلاده و حسب بل في كل المنطقة و في كل العالم الإسلامي، و بمعنى من المعاني في كل العالم. و كانت ثمرة هذه الحركة ثمرة منقطعة النظير.
لقد تحقق على يد الإمام الخميني أمران و عملان كبيران غير مسبوقين في تاريخ هذا البلد، أحدهما إسقاط الملكية الوراثية الظالمة غير العقلانية التي استمرت في بلادنا لعدة آلاف من السنين. هذا البناء المتهرئ البالي الخاطئ بأنْ تكون السلطة و الحكم في البلد بيد أناس يتداولونه من شخص إلى آخر عن طريق الوراثة، أو ينتزعونه بالسيف و القوة العسكرية ثم يتوارثونه جيلاً بعد جيل، هو تقليد خاطئ و غير منطقي كان في بلادنا على مدى آلاف السنين، و كان العمل الأول الذي قام به الإمام الخميني هو أن هدم هذا البناء و أوكل الأمر للشعب.
العمل الكبير الثاني الذي قام به الإمام الخميني الجليل هو تأسيس حكومة و نظام على أساس الإسلام، و هذا الشيء أيضاً لم يكن مسبوقاً في تاريخ بلادنا بل في كل التاريخ الإسلامي بعد الصدر الأول. الجهاد الكبير لإمامنا الخميني الجليل كانت له مثل هذه الحصيلة القيمة، و لذا من المناسب حقاً أن يقال عنه «جاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِه» (۵)، كما جاء في القرآن الكريم: «وَ جاهِدوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِه» (6)، و كما يقال عن أولياء الدين فقد كان هذا الرجل الكبير أيضاً مصداقاً لـ «جاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِه».
طبعاً أقول على هامش هذا الكلام بأن جهاد هذا الرجل العظيم لم يكن جهاداً سياسياً و اجتماعياً أو جهاداً فكرياً فقط، إنما كان إلى جانب كل ذلك جهاداً داخلياً و جهاداً مع النفس و التزاماً بالصلة المستمرة و الدائمة مع الله تعالى، و هذا بحدّ ذاته درس و عبرة. ليس الأمر بحيث لو أننا خضنا في ساحات الجهاد الفكري أو الجهاد العلمي أو الجهاد السياسي أو الجهاد العسكري فسيكون من حقنا أن نصرف النظر عن هذا الجانب من الجهاد. لقد كان الإمام الخميني الجليل من أهل الخشوع و البكاء و الدعاء و التوسل و التضرع إلى الله. في شهر شعبان المبارك هذا كان كثيراً ما يكرر في خطاباته هذه العبارة من المناجاة الشعبانية: «اِلهي هَب لي كمالَ الِانقِطاعِ اِليك وَ اَنِر اَبصارَ قُلوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيك حتى تَخرِقَ اَبصارُ القُلوبِ حُجُبَ النّورِ فَتَصِلَ إلى مَعدِنِ العَظَمَة» (7). كان سلوكه هذا و بكاؤه في الأسحار و مناجاته و أدعيته و ارتباطه الدائم تمثل كلها أرصدته المعنوية للاستمرار في جهاده. لنتذكر هذا أيضاً على هامش الجهاد في سبيل الله الذي خاضه هذا الإمام الكبير.
المنظومة الفكرية للإمام الخميني لها سمات كاملة لمدرسة فكرية و اجتماعية و سياسية. أولاً كانت مستندة إلى رؤية كونية هي التوحيد. كل نشاطاته و كل منطقه كان قائماً على التوحيد، و هو البنية التحتية لكل الأفكار الإسلامية.
الخصوصية الأخرى لهذه المنظومة الفكرية و التي تجعلها بمثابة مدرسة بالمعنى الحقيقي للكلمة هي أن المنظومة الفكرية للإمام الخميني كانت عصرية و حديثة تطرح القضايا و الأمور التي تعاني منها المجتمعات البشرية و المجتمع الإيراني و يشعر بها المتلقون و الجمهور. في مدرسة الإمام الخميني الفكرية تحظى مناهضة الاستبداد و معارضة الاستكبار بالدور الأول، و هذا ما يشعر به الشعب الإيراني أيضاً و تشعر به الشعوب المسلمة الأخرى بل حتى الشعوب غير المسلمة؛ لذلك تنامت هذه الدعوة و الحركة و اتسع نطاقها.
الخصوصية الثانية لهذه المدرسة الفكرية هي أنها حيوية و حراكية و متوثبة و عملانية. لم تكن مثل بعض الأفكار و التنظيرات التنويرية التي تبدو كلاماً جميلاً معسولاً في أروقة الكلام و النقاش لكنها غير فاعلة و غير مجدية في ساحة العمل؛ لقد كان منطق الإمام و فكره و دربه عملياً عملانياً ممكن التحقيق و التطبيق على المستوى العملي الفعلي، و لهذا كتب له النصر و تقدم إلى الأمام، و غيّرت هذه الحركة مسار التاريخ في بلادنا.
لقد كنا نحن الشعب الإيراني شعباً خاضعاً و غارقاً في اللاهدفية و انعدام الأمل، كنا شعباً تابعاً فرضوا عليه عن عمد أن يبقى متخلفاً، و كانوا يفرضون علينا أفكارهم و ثقافتهم أيضاً، و ينهبون مصادرنا الاقتصادية و يصبّون على بلادنا، إلى ذلك، سيولاً من وحول العادات القبيحة؛ كنا مثل هذا الشعب. و بدّلنا الإمام الخميني إلى شعب متحفز مفعم بالأمل و نشيط متحرك و له أهداف كبرى. الشعب الإيراني اليوم شعب كثير الحراك و الفاعلية و متحفز و متفائل و سائر نحو أهداف كبرى. طبعاً لا تزال تفصلنا عن أهدافنا مسافة كبيرة لكن المهم هو أننا سائرون و المهم هو وجود الطاقة و الهمة للتقدم لدى شعبنا، و المهم أن شبابنا يؤمنون بقدرتهم على الوصول إلى هذه الأهداف، و أن بمستطاعهم تأمين العدالة الاجتماعية على نحو كامل، و بمقدورهم تحقيق التقدم و الثراء لهذا البلد، و باستطاعتهم تبديلنا إلى بلد متقدم ذي قدرة متلائمة مع هويته التاريخية؛ هذا الأمل يتموج اليوم في بلادنا، و شبابنا يتحركون بهذا الاتجاه. لقد خرجنا من حالة الخدر و الخمول و النعاس، و هذا ما قامت به نهضة إمامنا الخميني الجليل و ما قام به هذا الرجل الكبير.
إذا شاء شعب إيران أن يصل إلى تلك الأهداف و یواصل هذا الدرب فيجب عليه معرفة طريق الإمام الخميني الجليل معرفة صحيحة و معرفة أصوله و مبادئه معرفة صائبة، و أن لا يسمح بتحريف شخصية الإمام الخميني، فتحريف شخصية الإمام الخميني هو تحريف لدرب الإمام و تحريف للصراط المستقيم الذي يسير عليه شعب إيران. إذا أضعنا درب الإمام الخميني أو نسيناه أو لا سمح الله نبذناه عمداً فإن شعب إيران سيتلقى الصفعات. على الجميع أن يعلموا أن الهاضمة التي لا تشبع للاستكبار العالمي لا تقلع عن طمعها في بلادهم؛ بلد كبير و ثري و يقع على تقاطع طرق عالمية حساسة هو بلد مهم جداً بالنسبة لجبابرة العالم المخادعين. إنهم لم يقلعوا عن أطماعهم و جشعهم، و لا يتراجعون إلا إذا توصلتم أنتم الشعب الإيراني إلى درجة من القوة و الاقتدار و التقدم تقطع عليهم آمالهم. من هنا تنبع أهمية خطر تحريف الإمام الخميني، فإذا جرى تحريف شخصية الإمام الخميني و أسيئ تعريفها و تم تعريفها بشكل خاطئ فإن كل هذه الأخطار الكبرى ستحدق بالشعب الإيراني، و هنا ينبغي أن يكون خطر تحريف شخصية الإمام الخميني إنذاراً في أسماع و أعين مسؤولي البلاد و مفكري الثورة و تلامذة الإمام الخميني القدماء و المحبين لهذا الدرب و عموم الشباب و الواعين و الجامعيين و الحوزويين. طيب، كانت هذه مقدمة ما أروم قوله.
لقد كانت هناك أعمال لتحريف شخصية الإمام الخميني حتى في زمن حياته، فمن ناحية كان هناك الأعداء الذين حاولوا منذ مطلع الثورة تصوير الإمام الخميني في إعلامهم العالمي باعتباره ثورياً متصلباً عنيفاً - من قبيل من نعرفهم في تاريخ الثورات الكبرى و المعروفة في العالم مثل الثورة الفرنسية و الثورة الماركسية السوفيتية و بعض الثورات الأخرى - و إنساناً متشدداً خشناً عبوساً دائم العبوس و لا ينظر إلا لمواجهة العدو، و ليس فيه أية عواطف أو مرونة؛ كانوا يصورون الإمام الخميني بهذا الشكل، و هذا خطأ. نعم، لقد كان الإمام الخميني قاطعاً لا يتزلزل و كان راسخاً في قراراته - كما سوف أذكر - لكنه كان إلى ذلك تجسيداً للعواطف و اللطف و المحبة و المواساة و المحبة مقابل الله و عباد الله، و خصوصاً حيال الشرائح المظلومة و المستضعفة من المجتمع. كان هذا عملاً قام به العدو في الإعلام العالمي تجاه ثورتنا منذ بدايتها في ما يتعلق بشخصية الإمام الخميني.
و في الداخل أيضاً حرّف البعض عن جهل و البعض الآخر عن علم شخصية الإمام الخميني، حتى في زمن حياته. كانوا ينسبون للإمام الخميني كل ما يرونه مقبولاً و يرتاحون له، في حين لم يكن لذلك الشيء صلة بالإمام الخميني. و تواصل هذا السياق بعد رحيل الإمام الخميني أيضاً إلى درجة أن الإمام الخميني طرح في بعض الآراء و التصريحات على أنه إنسان ليبرالي لا توجد أية قيود أو شروط في سلوكه على المستويات السياسية و حتى في المجالات الفكرية و الثقافية، و هذا بدوره خطأ كبير و بخلاف الواقع. إذا أردنا العثور على شخصية الإمام الخميني بالمعنى الحقيقي للكلمة فلهذه العملية طريقها، و إذا سرنا في هذا الطريق - الذي سوف أذكره - فإن القضية ستكون محلولة، و إلّا يأتي اليوم أناس يطرحون الإمام الخميني طبقاً لميولهم و أذواقهم، و قد يأتي غداً أناس آخرون يطرحونه طبقاً لأذواق أخرى و وفقاً لأحداث أخرى تقع في العالم، و يرون من المصلحة أن يطرحوا الإمام الخميني بطريقة أخرى؛ هذا غير ممكن. شعبية الإمام الخميني بين الناس شيء باق دائم، و هذا ما لم يستطع العدو القضاء عليه، لذلك يعد تحريف شخصية الإمام الخميني الساكن في قلوب الكثير من الناس داخل إيران و خارجها خطراً كبيراً.
الطريق الذي يمكنه أن يحول دون هذا التحريف هو إعادة قراءة مبادئ الإمام الخميني. للإمام الخميني مبادئه و مرتكزاته، و هي مبادئ مبثوثة في كلماته المتنوعة طوال عشرة أعوام من سيادة الإسلام و على مدى خمسة عشر عاماً من النهضة التي سبقت انتصار الثورة. يمكن العثور على مبادئ الإمام الخميني في هذه الكلمات و الأقوال، و حين نضع هذه المبادئ و الخطوط إلى جانب بعضها ستتكون ملامح للإمام الخميني الجليل تمثل شخصيته. لا أقول تنبهوا لأيّ شيء فرعي و تفصيلي، فحياة الإمام الخميني مثل باقي الناس لها منعطفات و أحداث، و لكل حدث مقتضياته، إنما أقصد الأفكار المبدئية الرئيسة التي لا تقبل الإنكار و التي تعدّ من بينات شخصية الإمام الخميني على مدى سنين طويلة، سواء قبل تأسيس الحكومة الإسلامية أو خلال فترة تشكيل الحكومة الإسلامية، أو في غضون مدة الحرب المفروضة على مدى ثمانية أعوام، أو قبل ذلك أو بعد ذلك، هذه المبادئ كرّرها الإمام الخميني في كلماته، كما ينبغي أن لا يتم اختيار هذه المبادئ بشكل انتقائي. سأذكر اليوم طبعاً خمسة أو ستة نقاط منها، لكنني أقول هنا بأن مبادئ الإمام الخميني قد لا تكون هذه فقط، و ليعمل الخبراء و القادرون على الأمر و لينظروا في كلمات الإمام الخميني - و هي مدوّنة و الحمد لله و موجودة و تحت تصرف الجميع - و ليستخرجوا هذه المبادئ. لا أستطيع اليوم عرض كل هذه المبادئ الممكنة الاستخراج من كلمات الإمام الخميني، إنما أذكر خمسة أو ستة مبادئ منها و لا أروم أن تكون انتقائية، لذلك أقول لينظر الأفراد و ليعثروا على نقاط أخرى، لكن ما سأذكره الآن من مسلمات منطق الإمام الخميني و مدرسته و دربه و خطه.
النقطة الأولى في مدرسة الإمام الخميني هي إثبات الإسلام المحمدى الأصيل و دحض الإسلام الأمريكي. لقد وضع الإمام الخميني الإسلام الأصيل مقابل الإسلام الأمريكي. ما هو الإسلام الأمريكي؟ الإسلام الأمريكي في زماننا و في زمان الإمام الخميني و في كل الأزمنة - في حدود ما نعلم، و قد يكون الأمر على نفس الشاكلة في المستقبل أيضاً - ليس له أكثر من فرعين: أحدهما الإسلام العلماني، و الثاني الإسلام المتحجر. لذا كان الإمام الخميني يضع دوماً أصحاب الفكر العلماني - أي الذين يريدون المجتمع و السلوك الاجتماعي للبشر منفصلاً عن الدين و الإسلام - إلى جانب الذين يحملون نظرة متحجرة للدين، أي النظرة المتخلفة و غير المفهومة من قبل الأفراد المتجددين، و النظرة المتعصبة لأسس خاطئة، أي التحجر. هاتان النظرتان كان الإمام الخميني يضعهما دائماً إلى جانب بعضهما. و حين تنظرون اليوم ترون أن كلا هذين النموذجين من الإسلام موجود في العالم الإسلامي، و كلاهما مدعوم من قبل القوى المتجبرة في العالم و من قبل أمريكا. تيار داعش و القاعدة و أمثالهما مدعوم اليوم من قبل أمريكا و إسرائيل، و كذلك بعض التيارات التي تحمل اسم الإسلام لکنها غريبة على العمل الإسلامي و الفقه الإسلامي و الشريعة الإسلامية، و مدعومة حالياً من قبل أمريكا. الإسلام الأصيل من وجهة نظر الإمام الخميني هو ذلك الإسلام المعتمد على الكتاب و السنة، و الذي يمكن بفضل الفكر النير و معرفة الزمان و المكان و بالأساليب و المناهج العلمية الراسخة و المتكاملة في الحوزات العلمية، استنباطه و التوصل إليه. ليس الأمر بحيث لا تكون ثمة أهمية لمنهج الاستنباط و يكون بوسع كل من فتح القرآن أن يستنبط أصول الحركة الاجتماعية، لا، لهذه العملية منهجها و أسلوبها، و هو منهج علمي عريق، و هناك أفراد يمكنهم السير على هذا المنهج. هذا هو الإسلام الأصيل من وجهة نظر الإمام الخميني. طبعاً ليس الأمر ممكناً لكل من يجيد ذلك المنهج، إنما لا بدّ له أيضاً من فكر مستنير و معرفة بالزمان و المكان و معرفة بالاحتياجات الراهنة للمجتمعات البشرية و المجتمعات الإسلامية، كما لا بدّ له من معرفة العدو و معرفة أساليبه في العداء، و عندها سيستطيع تشخيص الإسلام الأصيل و تعريفه. إسلام وعاظ السلاطين و رجال دين البلاط - و قد كان الإمام الخميني يسمّيهم بهذه التسمية دوماً - و إسلام داعش، و بالمقابل إسلام عدم الاكتراث لجرائم الصهيونية و جرائم أمريكا، و الإسلام المسمّر الأعين على أمريكا و القوى الكبرى و على إشارات أمريكا، هذه كلها تبنع من منبع واحد و تصل كلها إلى محطة واحدة، و هي كلها مرفوضة في رأي الإمام الخميني. الإسلام الذي يطرحه الإمام الخميني يقف على الضدّ من هذه كلها. التابع للإمام الخميني و السائر على نهجه يجب أن تكون له حدوده الفاصلة عن الإسلام المتحجر و كذلك عن الإسلام العلماني، و أن يشخص الإسلام الأصيل و يتبعه. هذا أحد مبادئ الإمام الخميني. و هذا ليس بالشيء الذي ذكره الإمام الخميني لمرة واحدة، إنما هو مبثوث منتشر في كل كلماته.
ثانياً من مبادئ الإمام الخميني التوكل على العون الإلهي و الثقة بصدق الوعود الإلهية، و في المقابل عدم الثقة بالقوى المستكبرة و المتجبرة في العالم. هذا من جوانب و أجزاء مدرسة الإمام الخميني. التوكل على القدرة الإلهية؛ لقد وعد الله تعالى المؤمنين و لعن في كلامه الذين لا يؤمنون بهذا الوعد: «وَ لَعنَهُمُ الله» (8) و «غَضِبَ اللهُ عَلَيهِم» (9)؛ إنهم «اَلظّآنّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوءِ عَلَيهِم دائِرَةُ السَّوءِ وَ غَضِبَ اللهُ عَلَيهِم وَ لَعَنَهُم وَ اَعَدَّ لَهُم جَهَنَّمَ وَ سآءَت مَصيرًا» (۱۰). الإيمان بالوعد الإلهي و بصدق الوعد الإلهي إذ يقول: «اِن تَنصُرُوا اللهَ ينصُركم» (۱۱) أحد أركان فكر إمامنا الخميني الجليل، فيجب الاعتماد على هذا الوعد و التوكل عليه. و في المقابل ينبغي عدم التفاؤل بالأعداء و المستكبرين و القوى العالمية على الإطلاق، و هذا أيضاً مشهود تماماً في أعمال الإمام و سلوكه و كلماته. هذا التوكل على قدرة الخالق و الثقة به جعل الإمام الخميني الكبير صريحاً في مواقفه الثورية. كان الإمام الخميني تحدث بصراحة و يقول ما يؤمن به بصراحة لأنه مستند و معتمد على الله، لا أنه لم يكن يعلم أن القوى الكبرى ستنزعج، و لا أنه لم يكن يعلم أن هذه القوى ستغضب، بل كان يعلم ذلك، لكنه كان مؤمناً بالقدرة الإلهية و العون الإلهي و النصرة الإلهية. لم يكن يتردد مقابل الأحداث. أجاب عن إحدى الرسائل - ربما كان الإمام الخميني قد أجاب مرتين على رسائل الساسة المستكبرين في العالم أو التابعين للمستكبرين - التي كتبوها له، أجاب عليها بكل صراحة، و أذيعت في حينها من مؤسسة الإذاعة و التلفزيون. طبعاً كان الإمام الخمیني يتحدث بأدب، لكنه كان يذكر مواقفه الحاسمة و الواضحة في تلك الرسائل، و قد أجرى الإمام الخميني هذا التوكل كالدم في شرايين الشعب، فصار الشعب أيضاً من أهل التوكل على الله تعالى و الإيمان بالنصرة الإلهية و سار في هذا الطريق. حين لا يثق الإمام الخميني بالمستكبرين أبداً فإن هذا يستدعي أن لا يأبه مطلقاً لوعودهم. كتب رئيس جمهورية أمريكا - ريغان الذي كان رئيس جمهورية قوياً - للإمام الخميني رسالة و بعث نداء و أشخاصاً فلم يكترث له الإمام و لم يجبه و لم يبال له و لم يلتفت للوعود التي قطعها له.
و في حالة أخرى أعطت إحدى الحكومات التابعة لأمريكا وعداً بخصوص نهاية الحرب المفروضة، و كان الكلام عن مئات المليارات أو ألف مليار، فلم يكترث الإمام لهم و لم يثق بهم. و نحن الآن في قضايانا المتنوعة الجارية نلمس نفس هذا المعنى و نرى كيف أنه لا يمكن الوثوق بوعود المستكبرين، و لا يمكن الاعتماد على الكلام الذي يقولونه في الاجتماعات الخاصة، إننا نلمس هذا الشيء. و قد جعل الإمام الخميني هذا الشيء ضمن الخطوط الرئيسية لعمله؛ الثقة بالله و عدم الثقة بالمستكبرين. و طبعاً لم يكن هذا بمعنى قطع العلاقات مع العالم، فقد كان رؤساء البلدان يبعثون للإمام الخميني رسائل تبريك بمناسبات مختلفة و كان الإمام الخميني يجيب عن رسائل تبريكهم. هكذا كانت العلاقة في حدودها العادية و المؤدبة و المحترمة، و لكن لم تكن هناك أية ثقة بالمستكبرين و الجبابرة و أتباعهم و أذنابهم.
ثالثاً الإيمان بإرادة الشعب و قدراته و معارضة المركزية في الحكومة؛ هذه أيضاً من الخطوط الأصلية لمسيرة الإمام الخميني. في تلك الأيام كانت هناك محاولات بسبب تصورات غير صحيحة، لإيكال كل أعمال و أمور البلد الاقتصادية للحكومة، و قد حذر الإمام الخميني مراراً و تكراراً - و هذه التحذيرات منعكسة في كلماته بوضوح - بأن توكل هذه الأمور للناس و الشعب، فقد كان يثق بالشعب في القضايا الاقتصادية و في الشؤون العسكرية. ليتنبهوا لهذا الشيء: لقد كان الإمام الخميني منذ البداية سنداً للجيش، و الذي حال دون حلّ الجيش في البلاد هو شخص الإمام الخميني، و مع ذلك أوجد قوات الحرس ثم أوجد مؤسسة التعبئة، و جعل التحرك العسكري حالة شعبية. الاعتماد على الشعب في القضايا الاقتصادية و في الأمور العسكرية و في شؤون الإعمار و البناء حيث أطلق جهاد البناء، و كذلك في المسائل الإعلامية، و فوق كل ذلك قضية الانتخابات في البلاد و أصوات الناس في إدارة البلد و تكوين المؤسسات السياسية للنظام. طوال هذه المدة - مدة حكم الإمام الخميني كانت عشرة أعوام انقضت ثمانية منها في الحرب و كانت المدن تقصف و القتال دائر في الجبهات - أقيمت ربما عشرة انتخابات تقريباً في البلاد و لم تتأخر أيّ انتخابات عن موعدها المقرر حتى ليوم واحد، فقد كان الإمام الخميني مصراً في كل الأحوال و الظروف و المراحل على إجراء الانتخابات في موعدها المقرر. هذا الشيء الدارج في بعض البلدان بأن يعلنوا حالة طوارئ، لم يعلن الإمام الخميني حالة طوارئ حتى ليوم واحد، و كان يهتم للانتخابات. و في يوم الانتخابات كان من أوائل الذين يحضرون عند صندوق الاقتراع، فقد كان يؤمن بالشعب و يحترم أصواته و أفكاره و تشخيصه بالمعنى الحقيقي للكلمة. و قد لا يكون الشيء الذي ينتخبه الشعب نفس الشيء الذي يريده الإمام الخميني في حالة معينة، لكنه مع ذلك كان يحترم أصوات الشعب و يراها معتبرة. و لم يكتف الإمام الخميني بخصوص الشعب بهذه الحدود بل اعتبر الشعب ولي نعمة المسؤولين، و كان يقول مراراً إن هذا الشعب هو ولي نعمتنا. و في بعض الحالات كان يسمّي نفسه خادماً للشعب و يقول: لو يقولون عني أنني خادم للشعب أفضل من أن يقولوا قائد الشعب؛ و هذه كلمة كبيرة تدل على المكانة الممتازة للشعب و أفكار الشعب و أصواته و مشاركته من وجهة نظر الإمام الخميني. و قد استجاب الشعب استجابة مناسبة و تواجد في الساحة و شارك بروحه و نفسه أين ما أشار له الإمام الخميني بالمشاركة و الحضور. لقد كانت هذه الحالة متقابلة فقد كان الإمام الخميني يثق بالشعب و الشعب كان يثق بالإمام الخميني، و كان الإمام الخميني يحبّ الشعب و الشعب يحبه أيضاً. كانت هذه العلاقة متقابلة و حالة طبيعية.
النقطة الرابعة تتعلق بالقضايا الداخلية للبلاد؛ لقد كان الإمام الخميني مناصراً حقيقياً للمحرومين و المستضعفين، و كان يرفض الفوارق الاقتصادية بشدة و حدة، و يرفض النزعة الارستقراطية و البهرجة بمرارة. لقد كان متحيزاً للعدالة الاجتماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة. مناصرة المستضعفين ربما كانت من أكثر الأمور تكراراً في كلمات الإمام الخميني. هذه من الخطوط الواضحة للإمام الخميني و من مبادئه القاطعة، على الجميع أن يسعوا لاستئصال الفقر و إخراج المحرومين من حالة الحرمان و مساعدتهم في حدود طاقات البلاد و إمكانياتها. و من جهة أخرى كان يحذّر مسؤولي البلاد من طباع القصور و سكن القصور - و هذه نقطة وردت في القرآن الكريم أيضاً: «وَ سَكنتُم في مساكنِ الَّذينَ ظَلَموا» (12) - بل كان يحذر الجميع من طباع القصور، و يؤكد تأكيداً متكرراً على الاعتماد على وفاء الطبقات الضعيفة. لقد كان يكرر دائماً أن سكان الأكواخ و الفقراء و المحرومين هم الذين يملأون الساحات على الرغم من حرمانهم و فقرهم، و لا يعترضون، و يتواجدون في ميادين الخطر، لكن الذين يملكون أكثر، إذا حصلت مشكلة في مواطن مختلفة، فإنهم يبدون التبرم و عدم الرضا أكثر. وفاء الطبقات المتوسطة و المحرومة من الشعب كان قضية مهمة في نظر الإمام الخميني و كثيراً ما كان يؤكد عليها. كان يؤكد على إنفاق بيت المال بصورة صحيحة و اجتناب الإسراف. هذا بدوره من الخطوط الأساسية؛ قضية العدالة الاجتماعية و مناصرة المحرومين و الابتعاد عن الارستقراطية و نزعة البهرجة و البذخ و العمل بهذا الاتجاه.
النقطة الخامسة تتعلق بالبعد الخارجي؛ لقد كان الإمام الخميني يقف بكل صراحة في الجبهة المعارضة للعتاة الدوليين و المستكبرين، و لا تأخذه في ذلك لومة لائم. لذلك كان يقف في جبهة المظلومين عند الصدام بين الجبابرة و المستكبرين و القوى العاتية في العالم من جهة و بين المظلومين من جهة أخرى، و كان يعبر عن ذلك بصراحة و من دون ملاحظات و بلا تقية. كان مناصراً حقيقياً للمظلومين في العالم. لم يكن الإمام الخميني ممن يتصالح مع المستكبرين، و لقد كان تعبير «الشيطان الأكبر» في وصف أمريكا إبداعاً كبيراً قام به الإمام الخميني. و الامتدادات المعرفية و العملية لتعبير «الشيطان الأكبر» هذا كثيرة و كبيرة جداً. عندما تعتبرون شخصاً أو جهازاً معيناً شيطاناً فمن الواضح كيف يجب أن يكون سلوككم تجاهه، و كيف يجب أن تكون مشاعركم تجاهه، و قد كانت مشاعر الإمام الخميني تجاه أمريكا على هذا النحو إلى اليوم الأخير، و كان يستخدم تعبير الشيطان الأكبر و يؤمن بهذا التعبير من الأعماق. و في المقابل كان هناك أشخاص منذ بداية الثورة لا يتفطنون إلى أن أمريكا هي السند الذي يغذي النظام الطاغوتي الذي أسقطه الشعب الإيراني. لقد أسقط الشعب الإيراني النظام الطاغوتي البهلوي، و لكن كان ثمة أفراد يوافقون تواجد الأمريكان و نشاطهم - و نشاطات حتى بعض المؤسسات و الأجهزة الأمريكية - داخل البلاد! و الاختلاف الرئيسي بين الحكومة المؤقتة و الإمام الخميني الجليل كان حول هذا الشأن، و كنا نرى ذلك عن قرب. لم يكونوا يتنبهون إلى أن أمريكا هي السند و الدعامة المموّنة للنظام الطاغوتي، و قد سقط هذا النظام الآن لكن تلك الأجهزة المموّنة لا تزال باقية و ناشطة، و إذا فسح لها المجال فإنها ستنشط ثانية و توجّه الضربات و تبحث عن نقاط الضعف و تتغلغل من خلالها، لم يكونوا يتفطنون إلى هذا الشيء. لكن الإمام الخميني كان يرى هذا، لذلك كان موقف الإمام الخميني بشأن قضية وكر التجسس الأمريكي نابعاً من هذه النظرة و الرؤية. و ثمة في العالم أشخاص لم يلتفتوا إلى هذه النقطة و تلقوا الضربات و الخسائر نتيجة ذلك، و لا نروم الآن التشمّت بأحد أو ملامته، لكنها ضربات تلقاها البعض لأنهم أسقطوا الأنظمة الرجعية و المستكبرة لكنهم تجاهلوا الجهات التي تدعمها و تسندها. و قد شاهد الإمام الخميني هذه الجهات الداعمة منذ اليوم الأول و واجهها، لذلك كانت له مواقفه ضد أمريكا و الأجهزة السياسية و الأمنية الأمريكية إلى النهاية.
و في المقابل دعم الإمام الخميني الجليل على مدى هذه الأعوام الطويلة فلسطين و دافع عنها. دافع عن فلسطين و عن أفغانستان. يوم دخل السوفيت إلى أفغانستان مع أننا كنا نكابد معاداة أمريكا لنا - و الحكومات في مثل هذه الظروف عندما تكون سيئة العلاقة مع طرف تتصالح و تنسجم مع الطرف المقابل - لكن الإمام الخميني الجليل اتخذ موقفاً حاسماً ضد السوفيت، و هو موقف لم تتخذه حتى بعض الحكومات ذات الميول الغربية، لكن الإمام الخميني الجليل دعم شعب أفغانستان دون أية ملاحظات أو اعتبارات، و دعم شعب لبنان و دعم الفلسطينيين بكل صميمية. هذا هو منطق الإمام الخميني في خصوص مواجهة الاستكبار. بهذا المنطق يمكن اليوم تشخيص قضايا العالم و إصابة الموقف الصحيح. إننا اليوم بمقدار ما نعارض السلوك الوحشي الظالم لتيار داعش في العراق و سورية نعارض كذلك السلوك الظالم للشرطة الفيدرالية الأمريكية داخل بلادهم - هذان أحدهما مثل الآخر - و بنفس الدرجة التي نعارض بها الحصار الظالم ضد أهالي غزة المظلومين نعارض قصف الشعب اليمني المظلوم الذي لا مأوى له، و بنفس القدر الذي نعارض به التشدد ضد الشعب البحريني نعارض هجمات الطائرات الأمريكية من دون طيار ضد الناس في أفغانستان و باكستان. هذا هو منطق الإمام الخميني. أين ما كان هناك ظلم كان هناك طرفان: ظالم و مظلوم، و نحن ننحاز للمظلوم و نعارض الظالم؛ هذا موقف كان الإمام الخميني يتخذه بكل صراحة، و يعتبر من خطوطه الرئيسية. و اليوم أيضاً و لنفس السبب تعتبر قضية فلسطين بالنسبة لنا قضية أساسية، ليعلم الجميع هذا. قضية فلسطين لن تخرج من جدول أعمال نظام الجمهورية الإسلامية. قضية فلسطين ساحة جهاد إسلامي واجب و ضروري، و ما من حدث يمكنه فصلنا عن قضية فلسطين. قد يكون البعض ممن یتواجد في الساحة الفلسطينية و لا يعمل بواجباته، هؤلاء وضعهم على حدة، لكن شعب فلسطين و المجاهدين الفلسطينيين موضع تأييدنا و دعمنا.
من النقاط و الخطوط الأصلية لفكر الإمام الخميني قضية استقلال البلاد و رفض الخضوع للهيمنة؛ هذا بدوره من العناوين البارزة المهمة. لقد قلتُ للمستمعين في العام الماضي و في نفس هذا التجمع (13) بأن الاستقلال يعني الحرية بمقياس شعب بأكمله، هذا هو معنى الاستقلال. أن ينادي البعض في شعاراتهم بالحريات الفردية لكنهم يتحاملون على استقلال البلاد فهذا تناقض. كيف يمكن أن تكون الحرية الفردية للأشخاص محترمة لكن حرية شعب بأكمله و الحرية بمقياس بلد كامل مقابل حظر المعارضين و الأجانب، غير متحرمة؟! هذا شيء غير مفهوم و غير مقبول. للأسف هناك أفراد ينظّرون لدحض استقلال البلاد، و يفسرون الاستقلال أحياناً بأنه عزلة و أحياناً بأن استقلال البلدان اليوم لا يعتبر قيمة و يكتبون و يتحدثون و ينتشر هذا الكلام في أوساط المجتمع. البعض يتحركون بهذا الاتجاه. هذا خطأ كبير و خطأ مهم و خطير جداً. كان الإمام الخميني يؤمن باستقلال البلاد و یرفض هيمنة الآخرين على البلاد. الكثير من أعمال العدو ضد بلد إيران و شعب إيران خلال هذه السنين كانت من أجل المساس باستقلال البلاد، سواء عن طريق الحظر أو عن طريق التهديد؛ هم يستهدفون استقلال البلاد. على الجميع التحلي بالوعي و معرفة أهداف العدو. كان هذا بدوره أحد الخطوط الرئيسية.
من الخطوط الأصلية الأخرى لفكر الإمام الخميني و دربه و خطه - و هذه هي النقطة الأخيرة التي أذكرها اليوم - قضية الوحدة الوطنية و التنبه لمؤامرات التفرقة، سواء التفرقة من منطلق مذهبي طائفي بين الشيعة و السنة، أو التفرقة على أساس القوميات بين الفرس و العرب و الترك و الكرد و اللر و البلوش و غيرهم. بث الفرقة من السياسات الأكيدة للعدو، و قد أكد إمامنا الخميني الكبير منذ البداية تأكيداً نادر النظير على الوحدة الوطنية و الاتحاد بين أبناء الشعب، و هذا بحد ذاته أحد الخطوط و المبادئ. و يجب علينا اليوم أيضاً مواصلة هذا الخط و متابعته. تلاحظون في الوقت الراهن أن قضية التفرقة و بث الخلافات بين العالم الإسلامي من السياسات الرئيسية للاستكبار. لقد وصل الأمر بالأمريكان إلى درجة يذكرون معها اسم الشيعة و السنة؛ الإسلام الشيعي و الإسلام السني؛ و يدعمون أحد الأطراف و يهاجمون الآخر. و الحال أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية حملت منذ اليوم الأول نظرة واحدة متساوية تماماً حيال الفوارق المذهبية و الطائفية. لقد تعاملنا مع أخوتنا الفلسطينيين السنة بنفس الشكل الذي تعاملنا به مع الإخوة في حزب الله لبنان و هم شيعة. تعاملنا بشكل واحد في كل مكان. لقد كانت هذه نظرة إمامنا الخميني الجليل داخل البلاد، و نظرة الجمهورية الإسلامية في العالم الإسلامي نظرة بناء أمة، فالمقصود هو الأمة الإسلامية. أن يأتي خدم أمريكا من ذوي الدرجة الثانية من الأهمية و يتحدثوا عن الهلال الشيعي فهذا دليل سياسات تفرقة. و أن يعمل الأمريكان، على الرغم من إعلامهم الواسع، بالمماشاة تجاه هذه الجماعات التكفيرية العاملة على التفرقة في العراق و سورية - و يقدمون لهم المساعدات في بعض الأحيان خفية و سراً، و عملاؤهم يدعمونهم بشكل علني و صريح - فهذا يدل على أن دور بث التفرقة من منظار أعداء الإسلام و المسلمين و أعداء الجمهورية الإسلامية دور جد بارز و مهم. ليلتفت الجميع، ليلتفت الشيعة و ليلتفت السنة إلى هذا الشيء، و لا ينخدعوا بلعبة العدو. ذلك التسنن الذي تدعمه أمريكا و ذلك التشيع الذي يصدر عن مركز لندن مثل بعضهما، و كلاهما أخوة للشيطان، و كلاهما من عملاء أمريكا و الغرب و الاستكبار.
التعاطف و وحدة الكلمة التي أكدنا عليهما هذه السنة في بدايتها و كررناهما بعد ذلك قائمان على هذا الأساس. ليكون الإخوة و الأخوات من القوميات و المذاهب المتعددة في داخل البلاد يداً واحدة - كما كان الحال لحد الآن و الحمد لله - و لا يسمحوا للعدو بالتغلغل إلى العالم الإسلامي. و على مستوى واسع ليعلم الإخوة السنة و الشيعة إلى جوار بعضهم أن هناك عدواً يهدد أساس وجود الإسلام. هذا أيضاً من الخطوط الأساسية.
لقد ذكرتُ سبعة من مبادئ الإمام الخميني و لا شك أن مبادئه لا تنحصر بهذه، فليبحث الآخرون أيضاً، و لكن لا ينسب كل شخص الكلام الذي يستسيغه للإمام الخميني. ما ننسبه للإمام الخميني يجب أن يكون موجوداً في المصادر الخاصة بالإمام الخميني، و بشكل متكرر و مستمر نظير هذه النقاط السبعة التي ذكرناها، فهي أفكار يمكن للمرء أن يجدها من أول كلمات الإمام الخميني إلى آخرها على مدى سنين طويلة، و بهذا فهي مبادئه. و ليبحث الآخرون و يجدوا المبادئ الأخرى بنفس هذه الطريقة. لقد كانت جاذبية الإمام الخميني و تنفیره على أساس هذه المبادئ. نحن نريد أن تكون لنا جاذبيتنا و تنفیرنا فلتكن الجاذبية على أساس هذه الأصول و المبادئ و التنفير أيضاً ينبغي أن يكون طبقاً لهذه المبادئ.
و ليعلم الجميع أن هدف أعدائنا بمواقفهم و ملامحهم المختلفة التي يبدونها - يعبسون أحياناً و يبتسمون أحياناً و يقدمون الوعود في بعض الأحيان و يطلقون التهديدات في أحايين أخرى - هو السيطرة و الهيمنة على البلاد. العدو يروم العودة إلى فترة هيمنته غير المقيدة و غير المشروطة على هذا البلد، و لأن الإسلام يعارض بشدة هذه العودة و هو الطاقة المقاومة بوجه مؤامرة العدو هذه، لذا نراهم يعارضون الإسلام و يحاربونه. معارضة العدو للإسلام سببها أنهم يعلمون أن المعارف و الأحكام الإسلامية تشكل سداً رصيناً بوجههم. يعارضون شعبنا لأن شعبنا يقف أمامهم كالجبل. كل من يقف بوجه العدو أكثر من بين الشعب يعارضونه أكثر. يعارضون العناصر المؤمنة المتدينة أكثر و يعارضون المؤسسات الثورية أكثر و يعارضون العناصر الحزب اللهية أكثر لأنهم يعلمون أن هؤلاء سدود قوية و متينة مقابل تغلغل العدو. العدو ينشد التسلط و الهيمنة و كل سعي العدو منصب على صدّ الحركة الإسلامية التي ينتهجها نظام الجمهورية الإسلامية و التي من شأنها تحقيق التقدم و الرقي لهذا الشعب. قال أحد الساسة الأمريكان القدماء إن الجماعات الإرهابية التفكيرية غير مهمة بالنسبة لنا نحن الغربيين، فليكونوا، فلا ضير فيهم، إنما المهم بالنسبة لنا هو إيران الإسلامية، لأن إيران الإسلامية ترنو إلى تكوین حضارة عظيمة - طبعاً هو عبّر بكلمة «امبراطورية» و هذه حماقة منه - لذلك علينا أن نعتبر إيران عدونا المهم الذي يقف بوجهنا. و هذا الكلام يشي لنا بأهمية بناء الأمة.
كانت هذه هي النقاط التي أردنا ذكرها اليوم لكم أيها الإخوة الأعزاء، و نرحب بالذين جاءوا من أماكن بعيدة و من مدن مختلفة و نقول لهم ساعدكم الله وقوّاكم و حفظكم جميعاً. ربنا، نقسم عليك بمحمد و آل محمد، أنزل رحمتك و بركاتك على هذا الشعب الكبير البار. اللهم أفرغ رحمتك و بركتك على روح هذا الرجل الكبير و الإمام الجليل الذي فتح أمامنا هذا الدرب النير. اللهم اجعلنا من السائرين الصادقين على هذا الطريق و اجعل موتنا استشهاداً في هذا السبيل. ربنا أرض عنا القلب المقدس لسيدنا الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه).
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - ألقيت هذه الكلمة في المرقد الطاهر للإمام الخميني جنوب طهران. و ألقى قبلها حجة الإسلام و المسلمين السيد حسن الخميني كلمة بالمناسبة.
2 - سورة العنكبوت، شطر من الآية 14 .
3 - شرح أصول الكافي، ج 1 ، ص 4 .
4 - سورة الحج، شطر من الآية 78 .
5 - بحار الأنوار، ج 33 ، ص 18 .
6 - سورة الحج، شطر من الآية 78 .
7 - إقبال الأعمال، ج 2 ، ص 687 .
8 - سورة التوبة، شطر من الآية 68 .
9 - من ذلك سورة المجادلة، شطر من الآية 14 .
10 - سورة الفتح، شطر من الآية 6 .
11 - سورة محمد، شطر من الآية 7 .
12 - سورة إبراهيم، شطر من الآية 45 .
13 - بتاريخ 04/06/2014 م .