منذ عقدين وإلى يومنا هذا -أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تقريباً- بُذلت جهود ومحاولات كثيرة لتقديم هذا الدين العظيم بصورة عدوٍ مخيف. وللأسف إنَّ عملية إثارة مشاعر الرعب والكراهية واستغلالها لها ماضٍ طويل في التاريخ السياسي للغرب. لا أريد هنا أن أتطرق إلى ما يثيرون من أنواع الرهاب [الفوبيا] في أوساط الشعوب الغربية حتى الآن، بإطلالة سريعة وموجزة على الدراسات التاريخية والنقدية المعاصرة ستجدون كيف تذم وتستنكر [الدراسات التاريخية] التعامل غير الصادق والمزيِّف للحكومات الغربية تجاه سائر الشعوب والثقافات. إنَّ تاريخ أوروبا وأمريكا يُطأطئ رأسه خجلاً أمام سلوكه في استرقاق العبيد وسلوكه الاستعماري وظلمه الذي ألحقه بذوي البشرة الملونة وغير المسيحيين. إنّ المؤرخين والباحثين عندكم عندما يمرّون على عمليّات سفك الدماء باسم الدين بين البروتستانت والكاثوليك أو باسم القومية والوطنية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية يشعرون بالخجل والخزي.
وهذا بحد ذاته يدعو الى التقدير؛ ولست أهدف من خلال استذكار قسمٍ من هذه اللائحة الطويلة معاتبة التاريخ ولكني أريد منكم أن تسألوا كل مثقفيكم ونخبكم لماذا لا يستيقظ الوجدان العام في الغرب دائماً إلّا متأخراً عشرات السنين وأحياناً مئات سنين؟ ولماذا تتّجه إعادة النظر في الوجدان العام نحو الماضي البعيد وتُهمل الأحداث المعاصرة؟ ولماذا يُمنع تشكّل وعيٍ عام في موضوعٍ مهم كأسلوب التعامل مع الثقافة والفكر الإسلامي؟
أنتم تعلمون جيداً أنَّ الاحتقار و إيجاد الكراهية والرّهاب والخوف الوهمي من الآخر قد شكّلت أرضية مشتركة لكل حالات الاستغلال الظالمة تلك. الآن أطلب منكم أن تسألوا أنفسكم لماذا استهدفت سياسة نشر الكراهية والرّهاب القديمة، هذه المرة، الإسلام والمسلمين بقوة وبشكلٍ لا مثيل له في الماضي؟ لماذا يتّجه نظام القوة والسلطة في عالمنا اليوم نحو تهميش الفكر الإسلامي وجرّه إلى حالة الإنفعال وردات الفعل ؟
ما هي تلك المفاهيم والقيم الموجودة في الإسلام والتي تُزعج وتُعيق برامج ومشاريع القوى الكبرى وما هي المنافع التي تجنيها هذه القوى عبر تقديم صورة مشوّهة وخاطئة عن الإسلام؟ لهذا فإنّي أتمنى عليكم أولاً أن تتساءلوا وتبحثوا عن عوامل هذا التشويه الواسع للإسلام.
الأمر الثاني الذي أرغب منكم أن تقوموا به، في مواجهة سيل الاتهامات والتصورات المسبقة والإعلام السلبي، أن تسعوا لتكوين معرفة مباشرة ودون واسطة عن هذا الدين. إنَّ المنطق السليم يقتضي وبالحد الأدنى أن تدركوا حقيقة الأمور التي يسعون لإبعادكم عنها وتخويفكم منها فما هي وما حقيقتها؟
أنا لا أصرّ عليكم أن تقبلوا رؤيتي أو أية رؤية أخرى عن الإسلام، لكني أدعوكم ألّا تسمحوا أن يُقدموا لكم -وبشكل مُراءٍ- الإرهابيين العملاء لهم على أنهم يمثلون الإسلام. تعرّفوا على الإسلام من مصادره الأصيلة ومنابعه الأساسية. تعرّفوا على الإسلام من القرآن الكريم ومن حياةِ رسوله العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وأودّ هنا أن أتساءل: هل سبق أن رجعتم إلى قرآن المسلمين مباشرة؟ هل طالعتم تعاليم رسول الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصاياه الإنسانية والأخلاقية؟ هل اطلعتم على رسالة الإسلام من مصدر آخر غير وسائل الإعلام؟ هل سألتم أنفسكم ولو لمرة، كيف استطاع الإسلام ووفق أية قيم طوال قرون متمادية أن يبني أكبر حضارةٍ علمية وفكرية في العالم وأن يربي أفضل العلماء والمفكرين؟
أطالبكم ألّا تسمحوا لهم بوضع سدّ وحاجز عاطفي بينكم وبين الحقيقة والواقع، عبر رسم صورة سخيفة مُهينة عن الإسلام ليسلبوا منكم إمكانية الحُكم الموضوعي. اليوم ونحن نرى أن وسائل التواصل اخترقت الحدود الجغرافية، لا تسمحوا لهم أن يحاصروكم في الحدود الذهنية المصطنعة، وإن كان من غير الممكن لأحدٍ أن يملأ الفراغات التي تم إيجادها، بشكلٍ فردي؛ ولكن كل واحد منكم يستطيع، وبهدف توعية نفسه ومحيطه، أن يبني جسراً من الفكر والإنصاف فوق هذه الفراغات.
رغم أنَّ هذه الأزمة المفتعلة بين الإسلام وبينكم، أنتم الشباب، أمرٌ مؤلم؛ إلّا أنّ بإمكانها أن تثير تساؤلاتٍ جديدة في أذهانكم المتقدة والباحثة عن الحقيقة.
إنَّ سعيكم لمعرفة الأجوبة عن هذه التساؤلات يُشكّل فرصةً يجب اغتنامها لكشف الحقائق الجديدة أمامكم، وعليه يجب أن لا تفوّتوا هذه الفرصة للوصول إلى الفهم الصحيح وإدراك الواقع دون حكم مسبق؛ ولعلّه ونتيجة لتحمّلّكم هذه المسؤولية تجاه الحقيقة، سترسم الأجيال الآتية صورة هذه المرحلة من تاريخ التعامل الغربي مع الإسلام، بألمٍ أقل ووجدانٍ أكثر اطمئناناً.
~من رسالة الإمام الخامنئي إلى الشباب في أوروبا وأمريكا الشمالية ٢٠١٥/١/٢١