أرحب بحضور السادة الكرام والعلماء الأعلام والأساتذة والمدرسين المحترمين في الحوزة العلمية بمشهد، التي كان لها دور عظيم في النهضة الإسلامية للشعب الذي كان صادقًا وثابت القدم في الواقع وصاحب الماضي المشرق؛ وسوف يحفظ أبناء الشعب في المستقبل هذه الخصوصيات البارزة بإذن الله، كما وأتقدّم إلى الجميع بالخصوص إلى العلماء الأعلام والأساتذة بأحرّ التعازي بهذا المصاب الأليم ألا وهو رحيل إمامنا العظيم والذي يعدّ خسارة كبرى للعالم الإسلامي. 
وأرى في هذه المناسبة ولتزامنها مع ذكرى استشهاد الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) من المناسب أن أشير إلى القضايا الخاصة بعلماء الدين والحوزات العلمية. إنّ علماء الدين اليوم يتحمّلون مسؤولية كبيرة على عاتقهم إزاء النظام الإسلامي، وهي مسؤوليات استثنائية لم يكن للعلماء والفقهاء طوال التاريخ الشيعي أبدًا مثل هذه الوظيفة الصعبة كما هو عليه اليوم؛ وكذلك فإن هذه الوظيفة استثنائية مقارنة بوظيفة سائر علماء الدين في العالم كله، ذلك أنّ بلادنا تشهد إرساء دعائم نظام إسلامي في مجتمعنا ينهض ويدار على أساس الفكر والشريعة الإسلامية، وهدف هذا النظام  هو المضيّ قدمًا باتجاه تحقيق الشريعة والأهداف الإسلامية كاملة، فالعلماء في العالم الإسلامي وإزاء هذه الحالة يتحمّلون مسؤولية كبيرة جدًا. 

يعتبر الدفاع عن الدين واجبًا عامًا، كما أنّ صمت العلماء إزاء ما يفعله السلاطين والرؤساء الظالمون وأعداء الدين ومداهنتهم في سياستهم الاستكبارية ــ شرقية كانت أو غربية ــ هو أمر مرفوض، وإنّ الله سبحانه جعل واجب الدفاع عن الدين من مسؤولية العلماء ومرشدي الأمة ومعلّميها، وإنّ هذا لا ينحصر بزمان أو مكان معيّن، بل يشمل جميع الأقطار الإسلامية، فالدفاع عن الإسلام والقرآن والشريعة واجب العلماء في الدرجة الأولى، وهم ملزمون به ولا يُعفون عنه في كل الظروف، غاية الأمر أنّ مسؤولية العلماء اليوم في البلدان الأخرى أيسر وأبسط بكثير من مسؤولية علمائنا وأقل تعقيدًا ممّا هو الحال في نظامنا الإسلامي. 
فالعلماء هناك لا يتحملون مثلًا الدفاع عن كرامة الإسلام عالميًا وتنظيم الهيكلية وإرساء الدعائم لنظام ينهض على أساس الإسلام؛ ذلك أنّ واجبهم في ضوء ظروفهم الحالية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحدود المعيّنة في الفقه وفي إطار إمكان التأثير أو القدرة، أمّا إدارة النظام وقيادة العباد والسعي إلى خلق حياة اجتماعية متناسبة مع قيم الإسلام فإنّ هذا العمل ينطوي على مشاق وتعقيدات والتي يتحمّلها في هذا الزمان نحن وعلماؤنا في مجتمعنا الإسلامي.
 نعم، ربّما يعاني أولئك بعض الصعوبات من خلال صراعهم السياسي، ولكن هذه الصعوبات تبقى أيسر بكثير وأخف من مسؤولية الدفاع عن كرامة الإسلام عالميًا كما في نظامنا. إنّ علينا أن ندرك أنّ أي أداء سيّء أو ضعف قد يصيب الجمهورية الإسلامية فهو لا يوجّه ضربة للنظام الإسلامي فحسب بل يوجّه ضربة إلى كرامة الإسلام بأسرها. 

في الحقيقة إنّ المراقبين الدوليين يرون أنّ قبّة الإسلام ومظهره وعلمه ورمزه ونموذجه الاجتماعي وواجهته الخارجية هي هنا في إيران، ولذا فإنّنا إذا ما أسأنا العمل أو كان أداؤنا ضعيفًا، وكنّا عاجزين عن إقرار العدالة الاجتماعية وأحكام الإسلام في الحياة، ولم نحفّز القابليات ولم نستفد منها ولم نتمكّن من إشاعة الأخلاق الإسلامية في المجتمع وتنظيم علاقات إنسانية بالشكل المرغوب، فإنّ التقييم العالمي لذلك سيكون مفاده أنّ الإسلام لم يستطع تحقيق وعوده. وأنتم تلاحظون أنّ هذه المسؤولية هي مسؤوليتنا نحن فقط، وأما علماء البلدان الإسلامية الأخرى فإنّهم يعيشون في ظل أنظمة أخرى ولا يوجد لديهم شعور بهذه المسؤولية. إنّني عندما أتذكر الحكاية المروية عن مولوي وهي حكاية رمزية فإني أشعر بالخوف من الله فأستعيذ به، والحكاية تقول إنّ المسلمين والنصارى كانوا يعيشون في مدينة واحدة، فجاء مؤذّن منكر الصوت فأذّن في محلّة المسلمين لبعض الصلوات، وذات يوم جاء رجل نصراني إلى محلّة المسلمين وراح يسأل عن المؤذّن، فأرشدوه إلى مكانه إلى أن وصل إليه، فلما رآه بالغ النصراني في شكره، فتعجّب المؤذّن وسأله عن السبب الذي يدعوه لشكره، فقال النصراني: وكيف لا أشكرك ولك دَيْن كبير في عنقي ليس لأحد عليّ دَين مثلك؛ ذلك أنّ لي فتاة شابّة أصبح لها هوى في الإسلام ووقع حب هذا الدين في قلبها وأرادت أن تعتنق هذا الدين، فلم أترك وسيلة إلاّ وتوسّلت بها لأن تترك ذلك، فلم تفعل، وتَرَكتْ الذهاب إلى الكنيسة ولم تعد تهتم بعقائدنا، حتى عجزتُ ولم أدرِ ماذا أفعل فجئت أنت وأذّنت للصلاة بصوتك وسمعتْ هي ذلك، سألت وقالت: لمن هذا الصوت المنكر (الكريه)، فقلت لها: هذا أذان المسلمين، ومنذ ذلك الوقت ارتحنا وذهب حب الإسلام من قلب ابنتي وهي اليوم مشغولة بشؤونها كالأزمنة السابقة وهي تحضر في الكنيسة وتقيم المراسم، وعلى هذا فأنت الذي أعدتها إلى دينها! وطالما كنت أقول لرفاقي علينا أن لا نكون مثل ذلك المؤذّن فنطفئ ذلك الحب المتوهج في النفوس للإسلام ونكون من الذين يجيبون جوابًا سيئًا ومنكرًا عن الأسئلة الكبرى المطروحة في العالم اليوم من أجل معرفة الإسلام. 

لقد بدأنا الصراع في سبيل الله ومن أجل الإسلام، ولم يكن من أهدافنا النفوذ والاستحواذ على السلطة، لقد سألت الإمام (أعلى الله كلمته) مرارًا عن الوقت الذي بدأ يفكر فيه بتشكيل حكومة إسلامية ــ ولقد سألته هذا السؤال لأنّ الإمام بدأ سنة 1347هــ ش [1968] دروسه حول «ولاية الفقيه» في النجف الأشرف، ووصلت تسجيلات تلك الدروس بعد سنة إلى إيران ــ فقال الإمام: إنّني لا أتذكر تاريخ مسألة الحكومة بالضبط، ولكني كنت أفكر منذ البداية أنه ما هو تكليفنا لكي نعمل به، فالصراع مع الشاه كان تكليفنا والاعتراض على العمل الكذائي كان تكليفنا والوقوف أمام ضغوطاته كان تكليفنا وإن فضح تسلط الصهاينة والإسرائيليين كان تكليفنا، وهلمّ جرّا،  وكل ما قد وقع كان بمشيئة الله تعالى. 
لقد وضع الإمام العزيز بإيمانه وجهاده وإخلاصه وعمله الصالح الحجر الأساس في بناء صرح الحكومة الإسلامية في إيران، فأنزل الله تعالى النصر عليه؛ والله أصدق القائلين حيث يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا}، و«من كان للّه كان الله له»، {ولينصرنّ الله من ينصره}، وهذه الآيات والروايات بيان للحقيقة وكشف عن الواقع. 
وهذه بلادنا تعيش اليوم الجهاد والصراع والسعي والإخلاص فأنزل الله تعالى بركاته على الشعب وأيده بالنصر، وأصبحت الحاكمية للإسلام والقرآن العزيز، وشعر المسلمون بأن الإسلام ليس عارًا بل هو مفخرة، ففي السابق كان الكثير من المسلمين يخجلون من أن يقولوا نحن مسلمون في كثير من نقاط العالم بل حتى في داخل بلدنا. إن المسلمين اليوم يفخرون بأنهم مسلمون في أقاصي آسيا إلى قلب أوروبا وصولًا إلى المناطق الأخرى في العالم، لقد أصبح الإسلام عزيزًا وصار المجتمع مجتمعًا إسلاميًا مستقرًا وتجذّر الإسلام فيه، وتحدّى الشعب المشكلات عشر سنين، وهذا كله من نِعم الله وبركاته، وعلينا أن نشكر الله على نعمه وأن نعرف قدر هذه النعم. 
أما تكليفنا الحساس والدقيق فهو كما هو عليه، فإننا إذا كنا عاجزين عن تطبيق القضاء الإسلامي بمعناه الواقعي في الحياة الاجتماعية وتطبيق العدالة في أجهزة القضاء وفي الحكم، ولم نقضِ على تداول الثروة بين الأغنياء - والتي منع الإسلام منه – عبر نظام اقتصادي سليم، وإذا كنا عاجزين عن إشاعة الأخلاق والقيم الإسلامية وتجسيدها في واقع الحياة، فستكون النتيجة نظامًا إسلاميًا بالاسم والعنوان فقط؛ أمّا المحتوى الحقيقي فسيكون لدينا نظام غير إسلامي وربما جاهلي؛ إذ كل ما هو غير إسلامي فهو جاهلي، {فماذا بعد الحق إلاّ الضلال}، وإذا أصبح الأمر  كذلك ــ لا قدّر الله ــ فسنكون مثل ذلك المؤذّن المنكَر الصوت فلا نجلب للإسلام العزّة والمجد بل نكون من الذين يجلبون له الانكسار والهزيمة. 
وفي هذا المضمار يكون الدور الأول للمؤسسة الدينية والحوزات العلمية، فأفرادها هم المسؤولون عن تبليغ الإسلام بصورته الصحيحة وملء الفراغ في كل مكان يُحتاج فيه إلى المتصدين اللائقين والمؤمنين والعارفين والمطّلعين على العلوم الإسلامية من أجل إرشاد الشعب ونصح الحكومة، وبالتالي اجتياز العقبات ومواجهة التحديات بإرشاداتهم المعنوية. 

إنّ على الحوزة العلمية أن تنطلق من ثلاثة مبان في زيادة تحركها وتطوير وتنظيم ذاتها. المبنى الأوّل هو الفقه التقليدي الجواهري على حدّ تعبير إمامنا العظيم، فلقد كان صاحب الجواهر تجسيدًا للفقيه الملتزم الذي يتحرّك ضمن مقررات الفقاهة والقواعد الأصولية والفقهية، لقد كان صاحب الجواهر أصوليًا دقيقًا ومنظمًا، ولم يتخطّ أبدًا الموازين الفقهية الشائعة لدى الأصوليين؛ وفي تدقيقه للمسألة كان يبحثها في ضوء الشهرة والإجماع وظواهر الأدلة والأصول وسائر أدوات المستعملة في عمل الفقاهة، ويستخدمها بنفس دقة كونه فقيهًا أصوليًا، وعلى هذا فالفقه الجواهري يمثّل الفقه التقليدي السائد في خط الفقاهة، وهذا هو أسلوب وكيفية معالجة المسألة فقهيًا. 
فالأسلوب الشائع لدى الفقهاء يأتي وفق ما يلي: أولًا، الاستفادة من الظواهر وعلاج مشكلات الظواهر والأمارات، فإذا قصرت يد الفقيه عن الوصول إلى الأمارات يرجع إلى الأصول للعثور على الأصل الذي يجري في تلك المسألة، فإذا حصل تعارض بين الأصول يكون العلاج في باب التعارض والمشكلات الأخرى في باب إجراء الأصول، وأخيرًا يتم إيجاد المخرج للمسألة الفقهية، هذا هو الفقه الجواهري. 
ليس لدينا فقهان واحد تقليدي وآخر متحرك (ديناميكي)؛ فالفقه المتحرك هو نفسه الفقه التقليدي، وحركته تعني علاجه لما يستجدّ من مشكلات الإنسان وإجابته للحوادث الواقعة، والفقه التقليدي يعني أنه لديه أسلوبه وقواعده التي ننجز الاجتهاد وفق معاييرها، وهذه الطرق هي ما سار عليها العلماء خلال القرون الماضية. إنّ علينا تعزيز الفقاهة وأن نهتم بدروس الفقه ومجالاته، ففي الواقع لا يمكن أن تكون هناك فائدة واقعية بدون خميرة فقهية وبدون درس وجهد وتعب. 

المبنى الثاني، التزكية الأخلاقيّة؛ فإذا لم تتوفّر التزكية لدى أفراد الحوزة فستكون كقضية اللّص الذي يصطحب المصباح، فيعقّد عمله، وهذا المبنى الثاني لا يحتاج إلى بيان. الثالث، الوعي السياسي؛ فحتّى لو أصبحتم أعلم العلماء، وكنتم جاهلين بزمانكم فمن المحال أن تصبحوا مفيدين فائدة واقعية لمجتمعكم الإسلامي. فإذا لم ندرك ما الذي يخطط له الاستكبار، ولم نتعرّف على طبيعة أعدائنا وأساليبهم في النفوذ، وإذا كنا جاهلين بما يجري في مجتمعنا وبماهية المشكلات الموجودة وأساليب معالجتها، وإن كنا جاهلين لموقعنا من الصراع الموجود اليوم في العالم، فإنّنا سنكون عاجزين عن القيام بدورنا الحقيقي. 
فالصفعات دائمًا تكون من نصيب الفريق الذي يجهل ماذا سيحدث والذي لا يدرك أصول اللعبة والعوامل التي توجّه الأمور لمصلحته. إنّ البصيرة والعلم بالزمان والاستفادة من المناسبات ــ سواء كان أعلم العلماء أم كان إنسانًا ما في محلّة يعلّم الأحكام الشرعية لبعض الناس ــ هي أمر ضروري بالنسبة لكل عالم، غاية الأمر أنه كلما كان مقامه أعلى كلما احتاج إلى وعي أكثر واطلاع أوسع. 

طوال التاريخ الشيعي ونحن نتلقى الصفعات الكثيرة لعدم اطلاع العلماء على حقائق ما يجري في الدنيا، خاصة في المئتي سنة الأخيرة حيث أخذ العالم شكله الحديث وبرز الاستعمار وتبدلت السياسات ودخلت الدول الأوربية ميدان السياسة العالمية وهاجمت البلدان الإسلامية. 
فكلّما كان لدينا عالم دين تقي وفطن ودقيق مثل الميرزا الشيرازي والشيخ الأنصاري، كنّا في أمان من شرّ الأعداء وكان الفوز من نصيبنا، ولكن كلّما كان لدينا مقدار من الغفلة وعدم الاطلاع كنا نتضرر. وبالطبع لم يكن ينحصر ذلك الضرر في فرد أو مجال أو مدينة أو مجموعة ولا يحد بمدّة عام أو بضعة أعوام، بل في بعض الموارد كان الضرر يعمّ ويمتدّ ربّما إلى خمسين سنة حيث يضع المجتمع الإسلامي تحت أقسى الضغوط. وهذا علينا ألاّ نستسلم للغفلة، علينا أن نعزز الوعي والبصيرة في نفوسنا، علينا أن نشيّد صرح الحوزات ونقويها ونوسعها على أساس تلك المباني الثلاثة. ومن الإنصاف أن نذكر أنّ حوزة مشهد هي حوزة قوية وتتمتع بالاستعداد العالي ولديها من الناحية العلمية والعملية والأخلاقية والسياسية أساتذة جيدون وطلاب مميزون وعلماء كبار وشخصيات بارزة يعملون بهمة ونشاط، وإن شاء الله ستتمكّن حوزة مشهد من أن تلعب دورًا مهمًا في هذا المضمار. 
واليوم فإنّ العدو ينتظر الوقت المناسب لتوجيه ضربته إلينا، فعلينا أن نكون متيقظين، ومن حسن الحظ فإنّ المؤامرات الاستكبارية قد غدت مكشوفة لدى الشعوب، وهذه المقولة المنسوبة للإمام السجاد تصدق في العديد من الموارد إذ يقول فيها: «الحمد للّه الذي جعل أعداءنا من الحمقى»، فهذه المؤامرة الأخيرة التي نفذها حكّام آل سعود في اتهام الشعب الإيراني الكبير ومسؤوليه هي من قبيل تلك المؤامرات التي قد غدت مفضوحة للجميع، وبات الجميع يعرفون بواعث هذا البغض والحقد ومصدرهما. 

أرحب مرّة أخرى بالسادة الكرام وأكرر الإعراب عن تعازيّ الحارّة لهم، وأشكرهم على حضورهم من أماكن بعيدة، آمل أن يشملكم الله بلطفه وفضله وأن يكون وضعكم أفضل يومًا بعد يوم إن شاء الله، وأن تحظوا برضا القلب المقدس لحضرة ولي العصر (أرواحنا فداه وعجل الله تعالى فرجه) وأن يشملنا بدعائه. 
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته