الكاتب: عبد الرحمن نصار

لم تكن فلسطين طوال تاريخها في أزمة مثل التي هي فيها الآن. صحيح أنه سبق الاحتلال الصهيوني احتلالات كثيرة لكنها كانت تبلع البلد بكامله تحت سلطة القوة... قبل أن تخرج مدحورة، غالباً على يد أبناء الأمة لا أبناء البلد نفسها، مع حفظ ما يقدمه أبناؤها من مساهمات كثيرة قبل التحرير وخلاله، ولهذا حديث آخر مهم. أما الصهاينة، فمخططهم التدريجي، الذي صار عمره فعلياً 72 سنة ونظرياً أكثر من 140 سنة، يأكل الأرض ويهدد الهوية ويسعى إلى تغيير التاريخ. فشتان شتان بين سلطة «انتداب» أو «استعمار» أو «احتلال» يقضي مصالحه أياً كانت، وبين كيان يريد صنع تاريخ وهوية وقومية على غير أرضه! لهذا، ما يحدث منذ 2017 تحديداً، والآن، من أخطر ما يمكن أن يواجه فلسطين وشعبها… لكن.

لكن هناك أحداثاً كثيرة في التاريخ تقول العكس. أبسط النظريات الاجتماعية تؤكد أن كثرة الضغط تولد الانفجار. ولعل استحضار الإمام الراحل، روح الله الخميني، وهو يكرر مقولة «الحمد لله الذي جعل أعداءنا من الحمقى»، أمر مهم جداً في هذا السياق. لا أحد ينكر أن المشروع الصهيوني، بآبائه ونتائجه الحالية المسمى «إسرائيل»، كانوا على مستوى من الذكاء والصبر والتخطيط كي يصلوا إلى ما وصلوا إليه، إضافة إلى حظوظ عربية سيئة ساعدت في ذلك. مع هذا، ربما تكون مقتلة العدو في مكره، بل في أضعف نقطة يتخيل أنه قادر عليها.

اليوم، بعد أن أتم العدو احتلال أكثر من 82% من فلسطين بحدودها المعروفة، يريد أن يستولي على ثلث الضفة المحتلة عملياً، ليصل في النهاية إلى أكثر من 92% من السيطرة تحت مسمى «دولة إسرائيل». هذا بمعنى آخر إنهاء لبقايا حلم فلسطيني عبّرت عنه المؤسسة الرسمية (السلطة الوطنية الفلسطينية) في إقامة دويلة تحت الاحتلال. حتى مسمى الدويلة، أو إدارات الحكم الذاتي، صارت تعجز عن وصف الواقع المستجد، وفق الخريطة التي عرضتها الولايات المتحدة الأميركية، والتي يصعب حتى على المحترفين إتقان رسمها. أياً يكن، هذا ليس وقت البكائيات مع أنها أيضاً صارت مفقودة في الوسط العربي المطبّع الذي يعمل حالياً على مواساة الفلسطينيين في ما تبقى لهم، وإيجاد حسنات هنا أو هناك للمال الذي ستغدقه الأنظمة المتعاونة تحت عنوان الاستثمار! لكنه أيضاً ليس وقت الحديث الفخري والصراخ عن مقاومة، وسط غياب صوت فلسطيني موحّد أو قيادة شبه موحدة تضع بدورها خطة بمعالم معروفة، وآليات عمل. هل يعني ذلك اليأس والاستسلام؟ لا، لماذا؟ لأن العدو نفسه لا يعرف ماذا سيحدث بعد أن يبدأ تنفيذ خطته. هنا نعود إلى نظرية الضغط الذي سيولد الانفجار. بمراقبة سريعة للسلوك الصهيوني منذ احتلال فلسطين، لا يخفى أبداً التدرج والعمل بصمت أحياناً، والضربات الخاطفة والسريعة أحياناً أخرى. هذه الإستراتيجيات والتكتيكات أدركها الفلسطينيون، على الأقل بحكم الواقع والتجربة اليومية. لذلك، لا يحتاجون إلى تحليلات كثيرة وكتب وإعلام - كما في حالات سابقة - لمعرفة ما يريده الصهاينة. لكن اتخاذ موقف جمعي لا يكون نتاج لحظة أو مجرد قرار يتخذه فصيل معين، خاصة أن المواجهة هذه المرة مختلفة عن سابقاتها: لا هي انتفاضة ولا معركة عسكرية.

اليوم يدرك الفلسطينيون جيداً أنهم خسروا الضفة يوم خسرت المقاومة قاعدتها الصلبة فيها. أي في 2002، وليس في 2020. بعبارة أخرى: كل ما يمكن أن نخسره يمكن أن يعود، لكن المهم ألا نستسلم. صحيح أن عوامل الفرقة التي بثها العدو في الصف الفلسطيني، والجهد العربي - المأسوف منه وعليه - لكسر الإرادة الفلسطينية ومحاصرة المقاومة، فعلت فعلها، لكن هذا لم يؤدّ إلى إنكار الفلسطينيين حقيقة واضحة أمامهم: «إسرائيل» لا تفهم إلا لغة القوة. ولذلك، يبدو أنه لا بد من سقوط الخيار المقابل كاملاً: التسوية... والتخلي عن فلسطين. لا أحد قادر على أن ينجح في إسقاط هذه الكذبة (التسوية) سوى الكيان الصهيوني نفسه. هذا ما سيحدث. عندما تنتهي الكذبة، وتأتي لحظة الصدق الأخيرة، عندئذ، لننتظر المعجزات. بجانب ما سبق، ثمة ستة ملايين ونصف مليون فلسطيني لا يزالون داخل الحدود التي تريدها «إسرائيل». هؤلاء وقود صالح للانفجار بغض النظر عن التوقيت والآلية. العدو يدرك جيداً هذا الخطر، ولديه خططه اللاحقة والسريعة، لأنه يخاف من أن قتل الإرادة لا يعني موتها الأبدي. يكفيه مثالاً العمليات الفدائية الفردية المستمرة منذ خمس سنوات. فكيف إذا تحولت إلى نموذج لم نشاهده من قبل: انتفاضة عمليات؟

أما غزة، التي تقف على بعد كيلومترات قليلة من الخليل (جنوبي الضفة)، فهي اليوم مختلفة عن غزة قبل عشر سنوات. قد لا يكون بيدها الآن القدرة على تغيير المعادلات لكنها صارت جزءاً من حلقة وصل تمتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت. محور لم ينكسر حتى لو كابر كل كتّاب الإعلام والصحف المطبعة أو المستسلمة. الذي لم يجرب الانتصار يوماً لا يعرف أبداً طعمه، ولن يفهمه ولن يفهمنا.

غزة، ومن خلفها تلك العواصم ورجالها، ينتظرون منذ سنوات مواجهة كبيرة وشاملة، ربما تحدث وربما لا، قريباً أو بعد سنوات. هم صبروا كل هذا الصبر من أجل لحظة معينة يقال فيها: السيف أصدق إنباء من الكتب... مع ذلك، الرهان الحقيقي هو على الناس. في الحالة الفلسطينية، لطالما قاد الناس الفصائل أكثر مما قادتهم. على أن ذلك لا يعفيها (المقاومة) من واجبها ومسؤوليتها التي نذرت نفسها لها بغض النظر عن أي خلافات أو تفاصيل أخرى. لم يبع الفلسطينيون أرضهم، لا بالترغيب ولا بالترهيب. وعندما يقرر الكيان سلبها منهم هو يعرف أنه لم يستطع السيطرة عليها إلا بهذه الطريقة. لعله يُقْدم بكل حيوية ونشوة واستعجال على قطف هذه الثمرة كما يراها، لكنها الثمرة المحرمة التي ستخرجه كلياً من فلسطين. هذا ليس وعد السماء فحسب، بل مسار التاريخ وخلاصة الروح الفلسطينية.