‏الكاتب: الشيخ رضا مختاري

تعدّ سنّة «الإجازة» (1) من السنن القديمة المتجذرة في الإسلام ولا سيّما بين الشيعة، فعلى سبيل المثال نرى أنّ «الإجازة» واحدة من الطرق الثماني التي ذكرها المحدّثون الأفاضل والعلماء الكرام لتحمّل الحديث (2) (3)، وبين أيدينا اليوم نصوص بعض إجازات نقل الحديث والرواية تعود إلى القرن الرابع الهجري. وبطبيعة الحال كثير من الإجازات قد ضاعت عبر التاريخ، ويوجد عند الشيعة إجازات روايات تعود إلى القرن الثاني الهجري في الحد الأدنى، ويشير هذا الأمر إلى أهمية مسألة الإجازة في الثقافة الإسلامية.

وقد تمّ تصنيف كتب مستقلة في فوائد الإجازات وكمّها وكيفها وأنواعها، ومنها كتاب «الإجازات العلمية عند المسلمين» بقلم فياض عبد الله، الذي قدّم فيه شرحاً مفصلاً لهذا الموضوع.

وقد اهتمّ علماؤنا منذ القدم بجمع الإجازات، وصنّفوا كتباً في هذا الشأن، وربما أقدم كتاب في هذا المجال هو كتاب «الإجازات» للسيد حسين بن حسن الكركي، (المتوفى في القرن الحادي عشر للهجرة)، كما خصص المرحوم العلامة المجلسي (أعلى الله مقامه) أحد أجزاء «بحار الأنوار» للإجازات، حيث جمع منها في هذا الكتاب أكثر من مئة إجازة.

وللإجازات في الثقافة الدينية أنواع مختلفة، وكانت أكثر الإجازات عند الشيعة والسنة تعود إلى ما قبل قرنين من الزمن وتختص بنقل الحديث والرواية، وفي القرنين الأخيرين راجت في الحوزات العلمية أنواع أخرى من الإجازات، منها «إجازة التصرف في الأمور الحسبية»، وهو أمر راج اليوم بين مراجع الشيعة الأفاضل، حيث يصدرون لممثليهم مثل هذه الإجازة مرفقة بشروط معينة. ومن الإجازات الجديدة «إجازة الاجتهاد» (4).

ويمكن أن نذكر من الإجازات المهمة والجديرة بالدراسة؛ إجازة الفقيه والأصولي الشيعي الكبير المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين الغروي النائيني (رحمة الله عليه) (المتوفى سنة 1355 هـ) لآية الله الحاج السيد جواد الخامنئي (رحمه الله عليه) (المتوفى سنة 1406 ه).

ويعدّ المرحوم آية الله النائيني (رحمة الله عليه) مع مؤسس حوزة قم العلمية آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري المتوفى سنة 1355 هـ أيضاً، من أهم الشخصيات العلمية، ومن جملة علماء الطراز الأول عند الشيعة في عصرهما، وقد كان لآية الله النائيني مكانة خاصة بين علماء الشيعة، وقد تتلمذ على يديه الكثير من التلامذة الذين غَدَوا من العلماء الأفذاذ، ونذكر منهم آية الله السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره)، والسيد محمد هادي الميلاني، والحاج الشيخ موسى الخوانساري، والحاج الشيخ محمد تقي الآملي، والميرزا مهدي الأصفهاني، والغا جمال الكلبايكاني، وقد حصل بعض هؤلاء الأفاضل على إجازة في الاجتهاد من آية الله النائيني، وكثير منهم دوّنوا تقريرات دروسه، فتقريرات المرحوم النائيني كانت منذ القديم محل بحث ودراسة ومراجعة ونقد عند علماء الحوزة العلمية ومراجع الشيعة.

وقد كان المرحوم آية الله السيد جواد الخامنئي من تلامذة هذا العالم الكبير، وانتقل آية الله الخامنئي إلى النجف الأشرف عام 1345 هـ، بعد تسع سنوات قضاها في حوزة مشهد العلمية، وحضر في حوزتها دروس الفقه والأصول عند الميرزا محمد الخراساني (ابن صاحب الكفاية)، وآية الله الحاج السيد حسين القمي، وفي النجف حضر دروس كبار علماء الحوزة العلمية، ومنهم آية الله النائيني، وبعد خمس سنوات فقط من هذا الحضور وفي العام 1350 هـ منح آية الله النائيني في وقت واحد إجازتي الاجتهاد والرواية لآية الله الخامنئي (رحمة الله عليه).

نص إجازة المرحومان آيات الله النائيني والحائري (قدس سرهما) للمرحوم آية الله السيد جواد الخامنئي:

بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته وأزكى تحياته على من اصطفاه من الأولين والآخرين محمد وآله الأئمة الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين أبد الآبدين وبعد،

فإن جناب العالم العامل والفاضل الکامل عماد العلماء الأتقياء وسناد الأفاضل الأذکياء، مروج الأحکام، ثقة الإسلام، السيد جواد الخامنه التبريزي دامت تأييداته، ممن صرف في طلب العلم والعمل به معظم عمره وأشغل به شطراً من دهره معتکفاً بجوار أمير المؤمنين صلى الله‌ عليه وآله ‌الطاهرين ومستمداً من الجهابذة الأساطين حتى بلغ رتبة سامية من الاجتهاد مقرونة بالصلاح والرشاد، فله العمل بما يستنبطه من الأحکام علی النهج المتعارف بين المجتهدين العظام وأجزت له أن يروي عني جميع ما صحت لي روايته من مصنفات أصحابنا الإمامية بأسرها وما رووه عن غيرنا بطرقي المنتهية إلى أرباب الجوامع العظام والکتب و الأصول و منهم إلى أهل بيت النبوة و مهبط الوحي ومعدن العصمة صلوات‌ الله ‌عليهم‌ أجمعين وأرجوه أن لا ينساني من صالح دعائه إن شاء الله تعالى، والسلام عليه ورحمة الله وبرکاته.

حرر في غرة رببع ‌الثاني 1350 هـ

الأحقر محمد حسين الغروي النائيني

 

صح ما رقمه دامت برکاته وهو صدر من أهله ووقع في محله وأسأل الله تعالى أن يجعله من أعلام الدين ويشيد به شريعة سيد المرسلين ويشد به أزر المسلمين والملتمس من جنابه السامي أن لا ينساني من صالح الدعوات في مظان الإجابات کما أني لا أنساه إن شاء الله.

حرره الأحقر عبد الکريم الحائري

 

 

 

ويستخدم عادة في إجازة الاجتهاد تعبير: «فله العمل بما يستنبطه من الأحكام «لبيان أنّ العالم الحاصل على هذه الإجازة قد بلغ مرتبة الاجتهاد، وفي الإجازة المذكورة جاءت العبارة السابقة في البداية، وبعدها صدرت إجازة الرواية.

وتعدّ تلك التعابير التي يستخدمها العالم المانح للإجازة في نص إجازته من الأمور التي تبيّن المقام العلمي للشخص الحائز عليها. ففي الإجازة الممنوحة لآية الله السيد جواد الخامنئي نلاحظ وجود تعابير وسمات بليغة تصف المُجاز وتُنبِئُ عن مكانته العلمية الرفيعة، ومنها: «العالم العامل»، و«الفاضل الكامل»، و«عماد العلماء الأتقياء»، و«سناد الأفاضل الأذكياء»، و«مروّج الأحكام»، و«ثقة الإسلام».

ومن الجدير ذكره أنّه في عصر المرحوم النائيني وبعده لفترة طويلة كانت الألقاب الحوزوية تُستعمل بدقة متناهية، ولم يكن حال تلك الألقاب كحالها اليوم؛ حيث باتت تُستخدم بلا حساب، ومن دون توفر الدقة اللازمة، وعليه فإنّ صفات «مروّج الأحكام» أو «ثقة الإسلام» الواردة في إجازة المرحوم النائيني تعتبر نظراً للظروف الحاكمة في ذلك الزمان توصيفات وتعابير سامية ومهمّة للغاية، وهي تختلف تماماً عمّا هو رائج بيننا اليوم، حيث يمكن أن يُوصَف طالب العلوم الدينية المبتدئ بثقة الإسلام، ولم يكن الأمر كذلك على الإطلاق في ذلك العصر وإلى زمان ليس ببعيد.

فمثلاً في السابق كان لقب «آية الله» يُطلق فقط على المراجع من الطراز الأول، ولم يكن المراجع من الدرجة الثانية والثالثة يحظون بمثل هذا اللقب، وكان المرحوم آية الله الحاج آقا حسين البروجردي أعلى الله مقامه يُطلق لقب «حجة الإسلام» على ثلاثة من مراجع قم الذين يأتون بعده في المرتبة (5) وكان لهم مُقلِّدُون، ولم نلاحظ في حديثه عن هؤلاء الأفاضل - مع أنّهم كانوا مراجع تقليد - أنّه وصفهم بلقب «آية الله»، ففي ذلك الزمان كان لقب «آية الله« مختصاً بمراجع الطراز الأول، وبناء عليه فإنّ تعابير «مروّج الأحكام» و«ثقة الإسلام» وغيرها الواردة في إجازة المرحوم النائيني لآية الله السيد جواد الخامنئي هي تعابير سامية ومهمّة، وتختلف عما توحيه هذه التعابير في عصرنا الحاضر، ويجب أن نفهمها ونفسّرها وفق معنى واصطلاحات زمان صدور الإجازة؛ أي العام 1350 هـ، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار كذلك سنّ الحاصل على الإجازة حينها؛ وهو سبعة وثلاثون عاماً.

والنقطة الأخرى المهمة حول هذه الإجازة أنّ ذيلها احتوى مضافاً إلى أصل الإجازة من المرحوم آية الله النائيني إمضاءً وتقريظاً من المرحوم آية الله الحائري، ويعدّ هذا الأمر من التقاليد والسنن الرائجة في الحوزات العلمية.

فهناك الكثير من الحالات التي نرى فيها عالماً كبيراً يصدر إجازة لشخص ما، ثم يقوم عالم آخر بإمضاء وتأييد تلك الإجازة (6). ومن العبارات الرائجة لهذا الإمضاء عبارة «صدر من أهله ووقع في محله»، وهذا وصف للمجيز والمجاز يخبر بأهليتهما للأمر؛ الأول في المنح والإصدار والثاني في استحقاق حيازة الإجازة والاجتهاد.

وعلى كلّ حال فإنّ آية الله الحائري وهو المرجع الكبير في ذلك الزمان وأحد علماء الطراز الأول في عصره قد وشّح الإجازة بعبارة «صدر من أهله ووقع في محلّه» وذلك يعني موافقته على الإجازة وإمضاؤه لها، وهذا دليل مهم آخر على المقام العلمي والأخلاقي للمرحوم آية الله الحاج السيد جواد الخامنئي وعلى ما اتصف به من الزهد والتقوى.

مضافاً إلى ما ورد في هذه الوثيقة فقد تحدث المرجع الديني آية الله السيد موسى شبيري الزنجاني (حفظه الله وأبقاه) في الجزء الثالث من كتابه المطبوع «جرعه‌اى از دريا» (رشفة من البحر) بالتفصيل عن شخصية المرحوم آية الله السيد جواد الخامنئي، ومما قاله: «كان المرحوم السيد جواد الخامنئي من الأوتاد والأتقياء والعلماء الأجلّاء». لقد كان المرحوم ملتزماً بأداء نوافل الصلاة؛ ولا سيّما نافلة صلاة العصر، وتبرز أهمية هذا الأمر في أنّ أئمة صلاة الجماعة لم يكونوا يؤدون نافلة صلاة العصر في الأغلب، حتى لا يتأخر المصلون بين صلاتي الظهر والعصر، وكان آية الله الشبيري الزنجاني يقول: «لقد كنّا ملتزمين بأداء نافلة صلاة العصر تأسياً بآية الله السيد جواد الخامنئي، وكنا نصلي نافلة العصر في المدرسة الفيضية بعد الاستئذان من المأمومين، وفي كلمات آية الله الشبيري نلاحظ وصف آية الله الخامنئي بالتقوى، وأنّه كان من أهل العبادة ومن أهل المراقبة في القول والعمل، وكان يتبع البساطة والزهد في حياته ويعيش في منزل بسيط للغاية. يقول آية الله السيد موسى الشبيري: «كان آية الله السيد جواد الخامنئي موصوفاً بصفة «الملّا» (أي أنّه كان عالماً حاذقاً)، ولكنّ تقواه كانت أعلى من علمه«.

وقال أيضاً: «للمرحوم آية الله السيد جواد الخامنئي حاشية تفصيلية على كتاب الكفاية للمرحوم الآخوند الخراساني، وهي في الواقع تقريرات درس الحاج ميرزا محمد آقازاده ابن الآخوند الخراساني (رحمة الله عليه)، والذي لم يكن له نظير في فهم كتاب الكفاية للآخوند».

 

الهوامش:

1- الإجازة طريقة معتادة في الحوزات العلمية تنصّ على الجدارة العِلمية والكفاءة العملية للطالب أو الباحث، والتي تصدر عن العلماء الأجلاء.

2- تحمّل الحديث يعني تلقي الراوي للحديث من الراوي الآخر الذي ألقاه إليه، ثم الحفظ له من قبل الراوي المتلقي، سواء كان ذلك الحفظ استظهاراً وعن ظهر قلب، أو كتابة وتدويناً. فالتحمل إذن يعني الحمل، ولكن علماء الحديث اختاروا لفظ التحمّل مصطلحاً، ولم يختاروا لفظ الحمل، لأن التحمّل لغة حمل في مشقة، ومن غير شك أن حمل الحديث فيه شيء من المشقة لما فيه من وجوب الاحتياط له من أن يدخله أو يشوبه شيء ليس منه. دائرة المعارف الاسلامية الشيعية، ج 11، عبد الهادي الفضلي.

3- طرق تحمّل الحديث: السماع، القراءة، الإجازة، المناوَلة، الكتابة أو المكاتبة، الإعلام، الوصية، الوِجادة.

4- لقد دأب طلبة الحوزات العلمية في القرون الأخيرة بعد اجتيازهم لمراحل الاكتمال، على إفادتهم لمصادَقة شفهية أو خطيّة من قِبَل أساتذة الفقه، تنصّ على جدارتهم العِلمية وبلوغهم مرحلة الاجتهاد. وهذه الشهادة يُطلق عليها إجازة الاجتهاد اصطلاحاً. دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج 6، مدخل الاجتهاد.

5- آيات الله العظام حجت كوهكمره أي، السيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخوانساري (قدس الله سرهم).

6- بالطبع، من الجدير بالذكر أن أحياناً تكون الإجازة تصدر عن مجتهد لا يوافق عليه آخر. فعلى سبيل المثال، يُنقل أن أحداً كان له إجازة من أحد العلماء وأخذها للشيخ أنصاري ليكتب له الشيخ كالمعتاد عبارة «صدر من أهله ووقع في محله»، لكن المرحوم الشيخ الأنصاري الذي شكك أيضاً في اجتهاد ذلك العالم المجيز، كتب في ذيلها: «الکلام في المجيز!».