الكاتب: هادي قبيسي

‏"إن ذلك العنصر المفصلي القادر على قلب المعادلات وترجيح كفة الربح في طرف واحد وتحديد من سينتصر من الطرفين، هو الحقيقة، وتحقيق الفائدة للبشرية، وقلوب المؤمنين وأقدامهم الثابتة، وهذه كلها في جهتنا ولدينا". الإمام الخامنئي دام ظله

التفوق الذي يتحدث عنه الإمام الخامنئي دام ظله يستحق التوقف لسعة العناوين وعمقها وجامعيتها واختصارها، فهي تشكل منظومة شاملة متكاملة في المواجهة السياسية. سنحاول الإضاءة بشكل مختصر وعاجل على هذه العبارات الوجيزة، وذلك لتكوين صورة عن مباني القوة الرئيسية في الصراع السياسي من وجهة نظر الإمام القائد. 
يتشاكل ويتشابه طرفي المواجهة في القضايا المادية والظاهرية، لكن الميزات الثلاث التي يتحدث عنها لا تكون إلا في جبهة أهل الحق، الذين لا يخرجون إلى المواجهة إلى حين تعرضهم للظلم المعنوي او المادي، في مقابل الإستكبار والظلم والنهب والإضطهاد والتجهيل والإستهانة بالوجود الإنساني في مراتبه المختلفة. 
الميزة الأولى، هي الحقيقة، وهي تتضمن مجالاً هائلاً من القضايا، لكن هنا تجدر الإشارة إلى ما يتعلق بموضوع الصراع حصراً، بشكل مباشر، فيمكن أن يقع تحتها ما يتعلق بالمعرفة بالحقيقة الكلية والواقع الكوني والإنساني، والعمل لأجل الأهداف الحقيقية التي تنسجم وفطرة الإنسان وحقيقته وهو مرتبط بالعنوان الثالث أي المنفعة، وكذلك النطق بالحقيقة والصدق وإثبات المصداقية بفعل التجربة، سواءً تجاه الجمهور أو الحلفاء أو الأصدقاء أو حتى في مقابل العدو، والإستناد إلى الحق تعالى وإلى حقائق العترة والوحي في الفكر والعمل وقواعدهما، والسعي لنشر الحقيقة والرسالة كهدف أصلي للعمل. مقابل العدو الذي يعمد إلى تزيين مطامعه ونزواته وغرائزه من خلال الأوهام والأكاذيب، التي تذوب كالثلج عندما تسطع عليه شمس أهل الحق، ولو بعد حين. 
الميزة الثانية، تحقيق الفائدة للبشرية، وهي ليست أي فائدة يقررها العرف الاجتماعي أو تبعاً لتجارب الحضارات، بل هي فائدة عادلة ومتوازنة تراعي أبعاد وجوانب الوجود الإنساني، الفردي والإجتماعي، وهي تختلف كلياً عن الفائدة التي يبشر بها المستكبر الشعوب المستضعفة، فهو يقدم لهم الفتات والتزيين والبقايا، ليأخذ الثروات والأسواق والمواقع الجغرافية، ويقدم لهم المنافع التي تنطوي على الأذى والضرر، من البيئة إلى نمط الحياة إلى الغذاء المصنّع والطبابة التجارية والعلم المحدود والثقافة المختزلة والسطحية إلى العمران المديني المفكك والحياة النفسية الإجتماعية المضطربة والتوتر المستدام مع وسائل التواصل، أما تحقيق الفائدة في منظور أهل الحق فهي فائدة معتدلة وصافية وغير مشوبة بالغرائز والمطامع والمصالح التجارية وتسخير العقل العلمي للمال والسيطرة والتراكم، وهي غير محصورة قومياً أو عرقياً أو جغرافياً بل فائدة عامة للبشرية، سواءً في تبليغ الرسالة عبر النموذج الواقعي المتحقق في التاريخ أو في العمل كرأس حربة في مواجهة الإستكبار أو في الإبداع للحلول المناسبة للزمان والعصر والظروف المعاصرة. 
الميزة الثالثة، قلوب المؤمنين وأقدامهم الثابتة، وهي المعتمد الرئيسي في المواجهة مع العدو المتفوق مادياً وظاهرياً، فلا يمكن الوقوف في هذا المعسكر إلا بقلب مؤمن وموقن بالقدرة الإلهية والمدد الغيبي، ولا يمكن الإستمرار في المواجهة الطويلة المدى إلا بأقدام ثابتة وراسخة ومليئة بالأمل والثقة. 
العناصر الثلاثة لها قيمة ذاتية لمن يقف في معسكر الحق، ولها آثار واقعية وفعلية في التاريخ الجاري. فللحقيقة أثر الثبات والثقة والتماسك في معسكر الحق، وكذلك هي تصنع مصداقية أهل الحق وتأثيرهم في الجمهور، في مقابل المستكبر الذي يمسك عادةً بالقدرة الإعلامية ويشوه صورة المعسكر الذي يدافع عن المستضعفين. الميزة الثانية وهي تحقيق الفائدة للبشرية وهي ارتباط الشرائح المختلفة بأهل الحق لأنهم أهل السعي الحقيقي لخدمة البشرية، وأغلبية البشرية هم من المستضعفين، الذين لا أمل أهم إلا بأهل الحق وهم يرزحون تحت وطأة ظلم الاستكبار العالمي، وهذا ما يتيح المجال لمعسكر الحقيقة لتحصيل الدعم الضروري من الناس، وهو أمر محفوف بالمخاطر في ظل السطوة الإعلامية للعدو المتفوق مالياً وتكنولوجياً، والتي يمكن أن تمنع الناس من معرفة مكمن الفائدة الفعلية، في مقابل السلوكيات السلبية للناهبين والتي لا يمكن تغطيتها إلى الأبد، ولا بد أن يظهروا على حقيقتهم في لحظات متعددة من التاريخ، كما لا بد من أن تظهر خدمات أهل الحق للبشرية في الصراع المحموم مع الناهب والظالم بشكل مشع وواضح في الظروف المناسبة. أما ثبات أقدام المؤمنين فهي القيمة الضرورية المباشرة التي لا يمكن للمعسكر أن يقوم ويواجه ويستمر ويصل إلى لحظة النصر من دونها.

أوجز الإمام الخامنئي بهذه العناوين الثلاث المقومات المائزة لمعسكر الحق، وذلك لا يجمل كل مقومات المعسكر، بل حصراً ما يتميز به في مقابل معسكر الإستكبار والحضارة المادية الظالمة، وهذه العناوين الثلاثة تشكل منظومة متكاملة، يدعم بعضها بعضاً ويسند بعضها بعضاً، فالحقيقة تؤيد تحقيق المنفعة للناس، ولا يمكن تحقيق تلك المنفعة إلا من قبل أهل الحقيقة، وتحقيق المنفعة للناس مؤيد لوقوف أصحاب القلوب المؤمنة ودافع لهم للخدمة والدفاع والإستبسال والتضحية، والحقيقة هي لب ومرتكز تلك القلوب، وهي بنفسها كذلك إحدى المنافع التي يقدمها أهل الحق للبشرية وهي خدمة بحد ذاتها. فهنا نتحدث عن تكامل وتشابك عميق بين عناصر التميز، بما يجعل منها مكوناً مندمجاً وبنية أفقية تشكل تمايزاً متصلاً ومتفاعلاً بما يعطي للمعسكر هويته الخاصة المتلائمة داخلياً والمنسجمة في عناصرها المشكلة، وهذا التشابك بحد ذاته، هو قيمة خاصة لهذا المعسكر، الذي يقوم على التوحيد والحقانية، فلا تجد الإنحراف في عناصره أو التشتت أو العبثية أو التنافر والتناقض، فلا كذب ولا فسوق ولا تغيير، بل انسجام واندكاك بين العناصر المختلفة. 
تحقيق خلفيات هذه العناصر الثلاث، يعود في الحقيقة إلى هذا المنشأ التوحيدي، فالشريعة الإسلامية قائمة على أساس الحقيقة وإمكانية الوصول إليها ومعرفتها ومجاورتها والسير في ظلها ووفق هدايتها، كما تقوم على أساس تقديم المنافع الحقيقية للإنسان، وهي لا غاية لها إلا الإرتقاء به في كل ميادين حياته بالإستناد إلى علم العليم الموجد الذي حدد في الشريعة مسارات ذلك الإرتقاء المتناسب مع حقيقة وجود الإنسان وفطرته الدفينة، والقلوب الثابتة متوفرة في الفئة التي سارت على طريق ذلك الإرتقاء والإكتمال وتحولت إلى خدمة الآخرين والأخذ بالأيدي والعقول والقلوب. 
غاية الأمر أن العناصر الثلاثة مختلفة في طبيعتها لكنها مشتركة في وحدة المنشأ، متصلة في عمقها مختلفة في مظاهرها، فالحقيقة مجردة والمنافع منتظَرة ومتوقَّعة والأقدام الثابتة حاضرة في الميدان المباشر. فالمجرد سارٍ في المظاهر ومتجلٍ فيها وواصل فيما بينها، وهو مستند وغاية في الآن عينه، يظهر في كل المراتب، والهدف الواقعي الخارجي الغائب نسبياً في الزمن المستقبلي وهو تحقيق المنفعة يحتاج إلى السير الطويل والمستمر والمواكب للأجيال وحاجاتها، وهذا السير جارٍ بشكل مباشر في ميدان التاريخ من قبل أصحاب القلوب والأقدام الثابتة. 
هذه المنظومة تقدم لنا مساحة التميز الضروري في القيمة وفي القدرة، فالتمايز أصل والتخلي عنه هو قبول بثقافة الباطل، كما أن التساهل في تلك العناصر والتسامح مع ثقافة الباطل، يؤدي إلى الضعف والعجز عن المواجهة وبالتالي الوصول إلى الخضوع والعبودية للمستكبر الذي لا يرضى إلا بالعبيد. ذلك أن القيم الثلاث لا يمكن أن تتوفر في معسكر الباطل، بل هو يشكل النقيض لها.  
بما هي نقيض لخصائص معسكر الاستكبار، هذه العناصر الثلاث هي سبب المواجهة معه، وهي لب وحقيقة وخاصية معسكر المستضعفين الراضي بالحق، والعامل لأجله، على تفاوت بين المستضعفين في كل اتجاه، إلا أن الجامع بينهم هو عدم الاستناد إلى المستكبر وعدم الاستفادة منه وعدم مساعدته. فالحقيقة والمنفعة والشخصية الثابتة، هي العناصر التي يعمل الباطل المستكبر إلى محوها وتغييرها أو تشويهها أو خلطها بالباطل. ففي هذه العناوين قد لا نجد أن معسكر الباطل يناقضها بتماميتها، بل هو يخلط شيئاً من الحق وشيئاً من الباطل. 
الحقيقة التي يقدمها معسكر الباطل مشوبة بالأوهام والشكوك والأكاذيب، في المجالات الفكرية والعلمية والإعلامية والثقافية، فهي ليست باطلاً محضاً، بل خلط إما نابع من طبيعة التخبط الذي يعيشه المستكبر المادي، أو من سعيه القاصد للتزيين والتضليل، الذي يهدم الإنسانية في لبها. أما المنفعة التي تقدمها الحضارة المادية فهي مشوبة بالأزمات النفسية والاجتماعية الأخلاقية وكذلك متوازية مع الخراب البيئي والاقتصادي والحروب والنزاعات المدمرة. أما الشخصية الثابتة، فإن العدو يبني الكوادر والشخصيات القادرة على إدارة العالم الشديد التعقيد، لكنه يستخدم تلك الذوات المتضخمة بأرواحها الميتة لارتكاب أعظم الجرائم في التاريخ البشري، سواءً تلك الجرائم المعنوية أو الاجتماعية أو الدموية. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك الكادر يستند في قوته إلى الهيمنة والقدرات المادية الهائلة، وهو لا يقارن من حيث القدرة والشخصية بالكادر الآخر الذي يحارب في معسكر المستضعفين، رغم كل التفاوت والنقص والافتقار من الناحية المادية. هذا الالتباس الدقيق يؤكد على أن جهاد التبيين الذي طرحه الإمام الخامنئي، هو إحدى الفعاليات الجوهرية في المواجهة مع الانحدار المادي للإنسان وما يتمثله من معسكرات وقدرات ومنظومات فكرية وثقافية وسياسية. إلى جانب كونها مفصلاً مميزاً للمعسكرين، فإن الثلاثية هي عنصر توازن داخل معسكر الحق، فهي تتشكل من بعد جذري، وبعد انفعالي وبعد فاعلي، وهذا الطواف بين الأصل الكلي وبين المسعى والساعي، هو توازن تكاملي، بحيث أن الحقيقة لا تظهر ولا تتجلى ولا تتحول إلى حالة الحياة والفائدة للبشرية إلا بفعل الشخصيات المضحية الثابتة والمؤمنة، ولا تكون الشخصيات المؤمنة في طريقها للتكامل إلا عند قيامها بتلك الخدمة، ولا تتحقق منفعة البشرية إلا حين تتلقى الحقيقة والمنافع التي تحتكم بظل الحقيقة من قبل الشخصيات المؤمنة الملتزمة بهذا الهدف.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir