الباحة أمام المدخل الرئيسي لحسينية الامام الخميني مزدحمة. تجلس الأمهات في صفوف ويقدمن طعام الفطور لأطفالهن. يقدّم المضيف الكعكات والحليب، فيشعر الأبناء وأمّهاتهم بمذاقٍ هو أحلى من العسل. يضع للأطفال وضع الكعكة بهدوء في أفواههم ويتناولوها شيئاً فشيئاً، وبينما يركضون في تلك الباحة، يبتلعون جزءاً من الكعكة ويسكبون فتاتها عن طريق الخطأ على الأرض. لا أحد منهم يشعر بالغربة. وكأنهم حلّوا ضيوفاً على منزل جدهم وأنِسوا المكان منذ فترة طويلة.

تحاول بعض الأمهات جمع فتات كعكات أطفالهن عن طريق لمس البسط المفروشة على الأرض. نفس البسط، نفس البساطة ونفس الأجواء الدافئة التي تتدفق في الأجواء جعلت اليوم، اليوم الأكثر فرادة في حياة معظم الحاضرات اللواتي ترعرعن تحت الظل الأبوي للقائد طيلة حياتهنّ. هذا المكان محفورٌ في قلب كل فردٍ من أفراد الشعب الإيراني، وكل من جاء قبلي ومن سيأتي بعدي من الجمهور سيعتبره أيضاً بمثابة منزل أبيه. كما أن شعور الأطفال بالراحة وواجب الأمهات في إبقاء المنزل نظيفاً ينبع أيضاً من هذا الاعتقاد.

إحدى الأمهات تفرش بطانية صغيرة تبدو فارغة على الأرض لترتيبها. وفقاً للمشهد الذي التقطه عيني، من الأصح القول إنّها كانت تحاول لف طفلها الذي كان نائماً في هذه البطانية، لكن الطفل صغير جداً لدرجة أن البطانية تبدو فارغة. سألتها إحداهنّ: "كم مضى من عمره؟"

-        فأجابتها: «خمسة أيام!»   

فردّت أخرى وقالت: "ما شاء الله خمسة أيام؟ ليس بائناً عليه". أنهت الوالدة عملها ثمّ أجابتها: "لا يمكنني أن أترك طفلاً له من العمر خمسة أيام بعيداً عني، إضافة إلى أنّني أرغب بأن يتنفس هواء هذه الحسينية. سيكون جندي قائده إن شاء الله." تشاركهنّ سيّدة أخرى الحوار وتقول: "حسناً ما صنعتِ بجلبكِ إيّاه معكِ." هكذا قمنا بتربية أطفالنا. تحت ثلوج المسيرات وأمطارها وقنابل وصواريخ الحرب (مرحلة الدفاع المفدس) من أجل أن يتعرفوا على الثورة الإسلاميّة والقائد ونهجه. ثمّ تشير بيدها الى داخل حسينية الإمام الخميني (قده) وتتابع: "الأطفال يُصنعون تماماً في هذه الحسينية ومنها".

مررت بجانب الأمهات وهنّ  اللواتي كنّ ما زلن يطعمن أطفالهن، ثمّ دخلت الحسينية. للوهلة الأولى، لفت نظري ما كُتب على الجدار "أكثر الخير في النساء"، وكما هو الحال دائماً، فإنّ ما يكتب على هذه الجدارية يشير الى المنحى الرئيسي للقاء. وقد وضع حديث الإمام الصادق (ع) على الحائط خصيصاً ليزين وينقل رسالة هذه الجلسة. أجلس على إحدى الكراسي وأنظر إلى بقية الحاضرات، من دخلنَ الحسينيّة بمفردهنّ في وقت سابق. من استيقظن قبل الروتين المعتاد ووقفن في طوابير التفتيش. كلهنّ ينتظرنَ وصول مستضيفهم العزيز بنظرات يشعّ منها بريق الشّوق والحماس. لم يطُل الانتظار، وبعد أن امتلئت صفوف المقاعد، وقفت سائر الحاضرات على امتداد جدار الحسينيّة، هؤلاء الحاضرات اللواتي لم يُحزنهنّ عدم توفّر ما يكفي من المقاعد للجلوس، وهنّ مصمّمات على الجلوس على الأرض أو الوقوف الى جانب الحائط حتى نهاية اللقاء، وهذا الجيل الذي ينتمين إليه يعتبره أباً عزيزاً. وفي هذه الاثناء يدخل سماحته من الباب الى الحسينية. بالتزامن مع رفع القبضات المشدودة واعتلاء الأصوات الصادحة بشعار: "نحن جنودك يا خامنئي، طوع أمرك يا خامنئي"؛ تنهار مجموعة أخرى وتتدفق الدموع على وجناتهنّ. ليست هذه التي تشهد فيها هذه الحسينيّة لقاءً خاصّاً بالنساء من أجل أن يتحدّثن بما يخالجهنّ ودون أيّ عائق مع قائدهنّ، ويعبّرن عن آلامهن ومشاعرهن ، ومطالبهن ويطرحن أسئلتهن. ومع ذلك، فإن تنظيم مثل هذا الاجتماع يترك حلاوة خاصّة في قلوب الحاضرات. لأن بعضهن كتبن العام الماضي رسائل بشأن تخصيص الاحتفال بعيد ميلاد السيدة الزهراء عليها السلام بالرواديد والمدّاحين، وقد طلبن في رسائلهنّ من قائد الثورة أن يتم عقد لقاء خاص بالنساء، وها قد أطلّ سماحته نزولاً عند رغبتهنّ.

يشمل ترتيب المتحدثين طيفاً متنوعاً، من حيث المعرفة والنشاط والاهتمامات التي تلوح في كلماتهنّ، ومن حيث الازياء والمظاهر. تشتكي إحداهنّ وهي ترتدي عباءة، من أن النساء أقل توظيفاً في صنع القرارات الكبرى في البلاد بلسان بليغ، وأخرى ترتدي وشاحاً وردياً تثير مطالب ربات البيوت. من المهم أن يكون هناك شخصيّة مثل "مريم نقاشان" ، وهي محامية من الطّراز الأوّل في القضاء وحاصلة على شهادة دكتوراه في القانون من ألمانيا، وشخصيّة مثل "مهدية سادات محور"، المنتجة والمخرجة والناشطة الثقافية حيث تقول إنها دخلت مجال الأنشطة الثقافية لتاثّرها بواحدة من خطابات قائد الثورة مطلع التسعينيات العقد الثاني من القرن الحالي، و أنها تعتبر نفسها ثمرة هذه الحركة ومن ثمار هذا الوطن، ثمّ تقوم بمقارنة دور المرأة وحقوقها في الحضارتين الإسلامية والغربية وانعكاس ذلك على المكانة الشاغرة للمرأة في مختلف المجالات الثقافية التي تسبّب المشاكل أكثر من أي شيء آخر، الكلام الذي يلقى إشادة سماحة قائد الثورة وتأييده. وبضل تشجيع الثورة والثقة بالنفس الذي منحته لهنّ والطريق الصحيح أرشدتهم إليه، تشارك المتحدّثات قائدهنّ آرائهنّ وأفكارهنّ بحرية تامّة، ويشجعهنّ اهتمام سماحته ودقّته واحترامه لكلّ سيّدة منهنّ.

يجري التعبير عن كلمات ونقاط مهمة تستحق التأمل، ومع ذلك، لا يشبه الاجتماع أبداً الاجتماعات الرسمية التقليدية. الأمر تماماً كما لو أنّ بنات الأسرة تحلّقن حول والدهن للتحدث معه والانتهال منه. لدرجة أن إحدى الحاضرات الناطقة بالعربية تنتهز الفرصة في الحفل أيضاً، وعلى الرغم من أن اسمها ليس على قائمة المتحدثين ، فإنها تقرأ أبياتاً من الشّعر باللغة العربية في مدح الحاج قاسم وتبعث بتحيّات أهل خوزستان باللغة التي يعتبرها قائد الثورة أجمل اللغات وأعذبها. ومن محاسن الاجتماع وجود مجموعات من مختلف الأعراق والأطياف الإيرانيّة: الفرس والأتراك والأكراد واللور والعرب والبلوش والبختياريين والتركمان إلى اللك والجيلاك والمازنيين والسيستانيين، وبعضهنّ يرتدين أزياء تذكرنا بثقافتهنّ الأصلية. كما إنّ بعضهن كتبن بخط أيديهنّ عبارات تعبر عن تحيات قومياتهنّ ومحافظاتهنّ، وهنّ يجتمعن تحت سقف واحد يغمرهنّ الشوق للغرف من معين ماء كلام القائد. قدّم ارتياح الحاضرات ومستوى معرفة المتحدّثات ومدى تواضع قائد الثورة صورة بهيّة. حيث عبّر الإمام الخامنئي في بداية كلمته مرّات متعدّدة عن ارتياحه لعقد مثل هذا الاجتماع، وعبر سماحته كذلك عن رضاه الذي ينمّ عن تواضعه واستفادته من كلام الممثّلات عن النساء. بعد ذلك، بدأ سماحة القائد حديثه بشرح وتلخيص الوضع الحالي للمرأة في العالم والمبادئ الإسلامية ذات الصّلة بها، وذلك من خلال الرجوع إلى بعض النقاط والاستشهاد بما عبّرت عنه المتحدثات، مما يدل في نفس الوقت على دقة متابعة سماحته للمواضيع وحنكته المثالية.

وعلى الرّغم من كون خطاب قائد الثورة عميقاً ودقيقاً  كما جرت العادة، إلا أنه كان مليئاً بالسلاسة وعبارات العطف والحنان التي استخدمها هذه المرة عند مخاطبته لبناته. فأسلوب تعبيره كان دافئاً لدرجة أن الحاضرات لم يشعرنَ بالتعب. وتحدّث سماحته لساعة من الزّمان تفيد الحاضرات عمراً كاملاً. وهنا يحطّ قطار الكلمات في محطة الأسرة وأهميتها التي لا مثيل لها، ويظهر قائد الثورة كالأب لكل بناته، سواء الحاضرات في الاجتماع أو اللواتي سيقرأن الخطاب أو يستمعن إليهلاحقاً. تشدّ أسماعهنّ هذه الكلمات المهمة، التي تم فيها الحديث عن الخصائص الفريدة للمرأة كزوجة وأم في الأسرة، وبالتالي فهي كالهواء في الأسرة الذي لا يمكن التنفس بدونه. في الوقت نفسه، يذكر سماحته أن إدارة المنزل لا تعني الانعزال فيه والتعاطي بانفعال، بل يجب فهمها بمعناها الصحيح، أي عدم إهمال المنزل والأسرة واحتياجات الأطفال الأساسية من التعليم والإيمان والأخلاق. وبالتزامن مع النشاط في المجتمع، يجب بذل الجهود لرفع مستوى الوعي العام وحتى العالمي لشرح حقيقة المرأة والاهتمام بكل ما يشعرن به من واجبات أو رغبات.

يمر الوقت بسرعة، وها قد حان وقت الوداع وإلقاء التحية وانتهاء الكلمة. يترافق ختام اللقاء مع ذكر الإمام الخامنئي طرفة لطيفة حول قلة من النساء اللواتي قد ينتهكن حقوق أزواجهن، ممّا جعل الحاضرات يضحكن. تأتي هذه الطرفة بعد ملاحظته الدقيقة حول اضطهاد بعض النساء في مقابل أصوات الرجال الأجشة وقاماتهم الفارعة وقواهم الجسدية، وضرورة تطبيق القواعد والتشريعات الإسلامية بحزم لحماية المرأة. بعد ذلك، نهض سماحة القائد من على الكرسي ووقفت السيدات لاحترامه، لكن لا يرغب أحد بالمغادرة. واحتراماً لبناته، وقف سماحته لفترة أطول من الروتين المعتاد مع انتهاء اجتماعاته. بعض النساء يهتفن بالشعارات، وبعضهن يلوحن بأيديهن، وأخريات يحملن أطفالهن بين أذرعهن حتى يمتّعوا أنظارهم بالنظر إلى محيّا قائدهم في اللحظات الأخيرة من اللقاء، ووقف بعضهنّ أيضاً على مقاعدهن كي يرين قائدهنّ للمرّة الأخيرة، وانهمرت دموع بعضهنّ على الوجنات كما انهمرت لحظة إطلالة سماحته، مع فارق أن الدموع في نهاية اللقاء، تمتلئ إضافة إلى الفرح، بالشوق العميق الذي أصاب قلوبهنّ منذ تلك اللحظة.