عندما كنا صغاراً، كانت مراسم العيد تبدأ قبل حلوله. كنّا نعيش حالة الترقّب والانتظار قبل أيّام منه، فنشتري الثياب الجديدة ونجهّز لوازم اللعب والاحتفال، ثمّ نمضي بقيّة الوقت لا يشغلنا سوى التفكير في برنامج العيد وما سيجري فيه. فإذا جاءت ليلته، عجزنا عن النوم وأقلقنا شوق الغد. كبرنا وصار العيد أقلّ وهجاً وإثارة لنا، وصارت مراسمه روتينيّة بأجزائها العباديّة والاجتماعيّة. حتّى فرحه صار عاديّاً، وقلّ ما أعدنا اختبار تلك المشاعر الطفوليّة الجميلة.
هذا الأسبوع جاء العيد مرّة جديدة ومعه حالة الانتظار والترقّب والفرح بالشيء قبل أن يأتي. ما إن علمت أنّ اسمي سُجّل مع أولئك الذين سوف يتشرّفون بلقاء الإمام القائد الخامنئي - دام ظلّه - حتّى انقلب برنامجي وصار وقتي موزّعاً بين التحضير للقاء والتفكير فيه. هذه هي المرّة الأولى التي سوف أشاهد القائد فيها وجهاً لوجه، ذلك الأب الحنون الحكيم الذي اعتدنا استماع خطاباته من وراء الشاشة أو قراءتها ورقيّاً، والذي لمسنا دوماً لطف عنايته ورعايته من بعد. سوف تقع عيناي على وجهه الشريف ويصغي سمعي إلى صوته العذب بلا واسطة أو فاصلة.
انطلقنا من مدينة قم قبل الفجر باتّجاه طهران. يجب أن نكون هناك في الصباح الباكر. لم تغفُ عيناي على الطريق لحظة وأنا أعدّ الكيلومترات التي قطعتها السيّارة وأحسب المسافة الباقية. وصلنا قرب بيت القائد وحسينيّة الإمام الخمينيّ قبل السابعة والنصف، موعد فتح الأبواب واستقبال الحضور. تمشّيتُ قليلاً في الأزقّة المحيطة تمضية للوقت وكنت أتأمّل الشوارع والأشجار وجدران البيوت: من هنا يمرّ القائد عندما يغادر بيته إلى مقصد ما، وهؤلاء القاطنون هنا جيرانه. يا لسعدهم! عند السابعة والنصف فُتحت البوّابة ودخلنا. عبرنا نقاط التثبّت من الأسماء والتفتيش واحدة تلو أخرى. كان الحرس والموظّفون في غاية اللطف والاحترام، وكنّا في عالم آخر. تمرّ إلى جانب مساحة خضراء فيها عشبٌ وشجيراتٌ فتسأل نفسك: هل هنا التُقطت الصورة الشهيرة للقائد محتضناً الحاج قاسم ومستقبلاً الحاج أبا مهدي المهندس؟ هل هذا الطريق يؤدّي إلى بيت القائد مباشرة أو هو في الجانب الآخر؟ تحاول تطبيق كلّ ما في ذاكرتك من صور ومشاهد ترتبط بهذا المكان على التفاصيل التي تراها.
وصلنا إلى باب الحسينيّة ودخلنا. أوّل ما تقع عليه عيناك في الداخل هو السجّادة الزرقاء بنقشها المعروف الذي ارتبط في أذهان المحبّين بالإمام الخامنئي ولقاءاته بمختلف الفئات. إنّها نفسها! على المدخل، يجلس شابٌّ يوزّع على الداخلين الأوراق الصغيرة التي كُتب عليها النشيد الذي سوف نلقيه عند حضور الإمام. تأخذ الورقة بحبّ ولهفة، فهي التذكار الأوّل من هذا اللقاء الذي لم يبدأ بعد. تجول بأنظارك على تفاصيل الحسينيّة من الأعمدة والجدران التي عُلق عليها اسم السيّدة الزهراء (ع) إلى المقاعد التي وُزّعت على الجانبين والأوراق التي أُلصقت على الأرضيّة لتنظيم جلوس الحاضرين، وكذلك إلى أن تقع عينك على المنصّة والكرسيّ المخصّص للإمام الخامنئي. لن تستطيع أن ترفع عينيك عنه دقائق معدودة إلّا لتغمضهما وتتخيّل القائد جالساً عليه! خلف المنصّة تقع الجداريّة التي تُختار آية أو حديث في كلّ لقاء لتوضع عليها. هذه المرّة وقع الاختيار على الآية المئتين من سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. تعيدك الآية الكريمة إلى محاضرات الإمام الخامنئي القرآنيّة وما قدّمه من معاني الصبر والرباط والجهاد والتقوى والفلاح فيها، التي تعلّمنا منها أنّ القرآن يطرح هذه المفاهيم في بعدها العمليّ الفرديّ والاجتماعيّ لتتحوّل إلى نمط سلوكٍ يحكم أبعاد حياة الفرد المسلم كافة، لا لتبقى مجرّد مفاهيم ذهنيّة لها مصاديقها المحدودة الضيّقة في الخارج.
كنّا من أوائل الداخلين إلى الحسينيّة فأتيح لنا الجلوس في الصف الأوّل من المنطقة المخصّصة لعامّة الناس. شيئاً فشيئاً بدأت الحشور التوافد: الكبار والصغار، الرجال والنساء، أفراداً وجماعاتٍ. هذا يرتدي الكوفيّة وذلك لفّ عصبة حول رأسه وآخر يحمل صورة القائد أو الحاج قاسم أو أحد الشهداء. الجميع لبسوا «ثياب العيد» وأقبلوا إلى هذا المحفل النورانيّ باستعداد كامل. الحسينيّة تشارف على الامتلاء ولا يزال الوقت مبكراً على اللقاء. يحاول الجميع قتل الوقت بطرائق مختلفة: هذا يتمرّن على أداء النشيد متمتماً، وذلك يتعرّف إلى الجالسين بقربه ويحادثهم، وآخر يدير السبحة بين يديه ذاكراً الله، والقاسم المشترك بين الجميع أنّهم يرفعون رؤوسهم في الدقيقة الواحدة مرّة أو اثنتين لينظروا إلى الساعة ثمّ إلى الكرسيّ والمنصّة والستارة خلفها، قبل أن يعودوا إلى محاولاتهم غير الناجحة في قتل الوقت الذي يمرّ ببطء شديد. عند التاسعة تقريباً اعتلى المنبر أحد الإخوة ليذكّر الحضور ببعض الضوابط، ثمّ بدأ التمرين الجماعيّ على أداء النشيد. ردّدناه معاً مرّتين بحماسة وانسجام. هذه رسالتنا إلى القائد ولا بدّ أن تكون خالصة من الشوائب والأخطاء ومعبّرة عن حبّنا الخالص له.
عند العاشرة تقريباً، وبلا سابق إنذار، فُتحت الستارة وأطلّ الإمام الخامنئي. ماجت الحسينيّة بأهلها وهبّ الحضور بأجمعهم لتحيّة قائدهم العزيز. لا أظنّ أنّ أحداً من الحاضرين فكّر تلك اللحظة في ما كان يفعله. كانت القلوب هي التي تقود الأجساد، واختلطت الابتسامات بالدموع، وهدرت هتافات التحيّة والبيعة وإعلان الولاء في أرجاء القاعة. هذه المرّة الأولى التي أرى الإمام الخامنئي فيها وجهاً لوجه. لم أستطع رفع عينيّ عن وجهه الشريف. إنّه هو، المحبوب الذي كنّا نترقّب صوره التي تُنشر بعد كلّ خطاب ولقاء. ها هو أمامي الآن ولا تفصلني عنه إلّا أمتارٌ قليلة. كان القائد يلوّح بيده اليسرى للجموع، وكلّ واحد منّا يشعر أنّ التحيّة له بالخصوص.
جلس القائد وجلسنا، وقبل بدء المراسم نهض رجلٌ كبيرٌ وخاطب قائده بأبيات من الشعر، ولم تنجح محاولات الموظّف في إقناعه بالاختصار. لا بدّ أنّه أمضى الأيّام الماضية يجهّز نفسه لهذه اللحظة التي قد لا تتكرّر. عندما انتهى، أومأ القائد إليه شاكراً. تلا شيخٌ آيات من القرآن الكريم ثمّ رددنا النشيد في محضر القائد. كانت الأبيات الأخيرة منه تخاطب صاحب العصر والزمان (عج)، وكنت أفكّر تلك اللحظات في أنّ الإمام الخامنئي سيكون سعيداً بهذا وهو الذي أوصى مراراً بأن نوجّه هتافاتنا ونداءاتنا إلى إمام زماننا لا إلى شخص نائبه، وليّ الأمر.
بدأ الإمام الخامنئي خطابه، وبعد التحيّة تحدّث عن انتفاضة أهل قم في 19 دي 1356 ه. ش. وعن ظروف هذه الانتفاضة وأسبابها والأحداث في ذلك اليوم، والعوامل التي جعلت تلك الحادثة مِفصلاً تاريخيّاً عظيماً، والدروس والعبر التي لا بد من الوقوف عندها وتثبيتها. عجيبٌ هذا الإنسان! كيف يمكن لمن يلتقي بأهل قم كلّ سنة في ذكرى هذه النهضة ويتحدّث عنها أن يأتي بكلام جديد كلّ مرّة؟ كيف يمكن أن يلتفت إلى نقاط جديدة فيها ويستخرج منها دروساً لم يجرِ الحديث عنها من قبل؟ هذه النظرة الثاقبة والتحليل العميق بعض ميّزات الإمام الخامنئي التي لا يضاهيه فيها أحدٌ. أكّد سماحته في هذا المقطع ثلاث نقاط لا بدّ من التوجّه إليها واستفادتها من انتفاضة أهل قم: سرعة العمل، وقبول المخاطرة وتحمّل مسؤوليّة العمل، وتنفيذ العمل في وقته.
من انتفاضة أهل قم، انطلق القائد إلى مبدأ كلّيّ هو أنّ العدوّ يعمد مقابل هذه الحوادث التي تمثّل «أيّام الله» إلى التقليل من شأنها أو إنكارها وإخفائها ومنعها من الانتشار، والشواهد كثيرةٌ. أمّا المؤمنون، فتكليفهم في المقابل هو العمل بمنهج القرآن: التذكير والتبيين. وللقائد مع القرآن قصّةٌ طويلةٌ، إذ لا يخلو خطابٌ له من الإتيان بمجموعة من الآيات واستنباط مبدأ فكريّ أو عمليّ منها وتطبيقه على زماننا وتحديد تكليف الأمّة على أساسه. ليس هذا غريباً على من «اختلط القرآن بلحمه ودمه»، كما تعبير الرواية عن الإمام الصادق (ع)، وعلى من بنى رؤيته وإطاره الفكريّ المرجعيّ على أساس بيانات القرآن ومحكم آياته كما يظهر بجلاء في محاضرات سنة 1974 القرآنيّة في مشهد، التي طُبعت في كتاب مشروع الفكر الإسلاميّ في القرآن.
من انتفاضة أهل قم أيضاً، عرّج القائد على مسألة العداء بين الثورة الإسلاميّة وأمريكا. لقد ثار الناس ضدّ نظام الشاه البائد لكنّ ثورتهم في عمقها كانت ضدّ الولايات المتحّدة الأمريكيّة التي كان نظام الشاه يتّكئ عليها. استطاع الشعب في تلك الأيّام أن ينقذ إيران من مخالب أمريكا والغرب، وهذا ما دفع الولايات المتّحدة إلى معاداة الثورة من الأيّام الأولى لانتصارها والتخطيط للقضاء عليها. ليس الشعب الإيرانيّ هو الذي بدأ معاداة أمريكا بل هي التي كانت متعطّشة لدمه والتي أوغلت في ظلمه ومعاداته.
كيف خطّطت أمريكا للقضاء على الثورة وإسقاط النظام الإسلاميّ؟ هنا وصل الحديث إلى أسلوب الأعداء الدائم في مواجهة الإسلام والشعوب: الدعاية والبروباغندا. هذه هي الخطّة القديمة الجديدة التي يعتمدونها لتحريف الوقائع وغسل الأدمغة وتحريك الناس في الاتّجاهات غير الصحيحة، وهذا يلقي التكليف الواضح على عاتق الجميع: جهاد التبيين، الذي أعاد الإمام الخامنئي التأكيد والتذكير بكونه فريضة فوريّة وحتميّة على عاتق الجميع أين ما كانوا؛ كلّ واحد منّا عليه أن يخوض هذا الميدان بمقدار استطاعته، وأن يعمل على توضيح الحقائق لمن هم في دائرة تأثيره.
أمّا عن الأحداث الأخيرة في الجمهوريّة وأعمال الشغب التي نفذها بعضهم، فلفت القائد إلى أمرين: حضور الخارج والأعداء في صلب هذه الأحداث بالدعاية والتحريض، وأنّ هذه الحركة لم تكن تستهدف نقاط الضعف في الجمهوريّة الإسلاميّة من أجل معالجتها والتخلّص منها بل تستهدف نقاط القوّة من أجل إضعافها: الأمن والتقدّم العلميّ والإنتاج الوطنيّ والسياحة وغير ذلك. في الختام، أشار سماحته إلى أنّ الأهداف الكبيرة التي تحملها هذه المسيرة تحتاج إلى إنجاز أعمال كبيرة وتحوّليّة، فلا بدّ من شحذ الهمم واستنفار الطاقات لذلك، و«نحن قادرون».
لم نشعر بالدقائق وهي تمرّ في محضر وليّ أمرنا. كان القائد يمضي في كلامه والعقول تسبح في أبعاد النقاط التي يستعرضها أمامنا وأعماقها، والعيون تتفحّص تقاسيم وجهه وحركات يده، والقلوب تتراقص على أنغام نبرة صوته الأبويّ العذب. لكن وسط البهجة باللقاء والنظر إلى القائد كانت الغصّة كلّما وقعت العين على يده اليمنى الجريحة التي تظهر آثار الجراح عليها في الواقع أكثر من الصور والفيديوات، هذه اليد التي قدّمها الإمام الخامنئي إلى الله والإسلام وفي سبيل نصرة الحقّ، فبقيت شاهدة على جهاده ومقارعته الظلم والاستكبار واستعداده للفداء والتضحية بروحه في سبيل الله.
اختتم الإمام الخامنئي خطابه، ووقف يحيّي الحضور ويلوّح بيده. تدافع الجالسون في الصفوف الخلفيّة إلى الأمام ليلقوا نظرة قريبة على محبوبهم، واقترب الجالسون في المنطقة المخصّصة للشخصيّات من الإمام. يا لسعدهم! ويا لسعد ذلك الذي ناوله مساعد القائد الكوفيّة التي على كتفه! على وقع هدير الهتافات، خرج القائد من الحسينيّة وبقي المحبّون في أماكنهم يتأمّلون المنصّة والكرسيّ والمنبر والستارة ولا يريدون الاستيقاظ من هذا الحلم الجميل الذي كانوا فيه والرجوع إلى واقع ما بعد اللقاء.
خرجنا من القاعة وتناولنا الضيافة التي تكرّم المسؤولون في الحسينيّة علينا بها، وأخذنا صورة الإمام الخامنئي مع الحاج قاسم سليماني التي وُزّعت على الباب، ومشينا باتّجاه بوّابة الخروج ونحن ندعو الله أن يرزقنا الحضور في لقاء آخر قريب، فالعاشق لا يرتوي من كأس معشوقه مهما شرب.