الكاتب: محسن فائضي
في بدايات خروج رضا خان من إيران، الذي كان بأمر من البريطانيين، وفي الأيام التي لم تكن فيها مآلات الملكية في إيران واضحة بعد، قال السفير البريطاني في طهران لشخص من طرف محمد رضا بهلوي جاءه ليعرف ماذا سيحدث للبهلوي الثاني: «وفقاً لمعلوماتنا محمد رضا يستمع لراديو برلين ويتتبع تقدم ألمانيا على الخريطة. لذلك إنه ليس موضع ثقة لدينا». أبلغَ ذلك الشخصُ محمد رضا بالخبر فتوقف عن الاستماع لإذاعة برلين وتركها جانباً. بعد ذلك، قال السفير البريطاني: «الآن لا مشكلة. يمكن اختياره لتولي الحكم». هذه هي الطريقة التي كان يختار بها سفير بريطانيا ملك إيران![1] الملك الذي غادر البلاد بعد تأميم صناعة النفط في إيران وعاد إليها بانقلاب مشترك بين بريطانيا وأمريكا.
لم يقتصر تدخل الأجانب في العصر البهلوي على أمريكا وبريطانيا فحسب، فوفق التقارير كان البلاط مفتوحاً أمام الكيان الصهيوني أيضاً. بدأ التعاون والتغلغل الصهيوني في إيران عبر إنشاء «الوكالة اليهودية». لقد أصدرت الحكومة البهلوية ترخيصاً لإنشاء مكتب للوكالة في طهران من أجل تحسين العلاقات مع "إسرائيل"، وهي منظمة صهيونية مهمتها تسريع جلب اليهود إلى فلسطين. يقول مئير عزري عن هذه الخدمة التي قدمها الشاه: «بما أن شاه إيران كان يحب اليهود كثيراً، لم يتوانَ الجيش وأجهزة الدولة عن تقديم أي مساعدة إلى اللاجئين من أجل الوصول إلى أرض "إسرائيل". والأجهزة الإدارية ودوائر جوازات السفر والشرطة والجمارك كانت كريمة في إعطاء الشهادات والتأشيرات والتراخيص».
يمكن للمرء أن يفهم من شخصية عزري عمق تغلغل الكيان الصهيوني في أركان الحكومة البهلوية. كان سفيراً غير رسمي للصهاينة في إيران. عام 1953، بعد الإطاحة بحكومة الدكتور مصدق الوطنية بانقلاب أمريكي-بريطاني في عهد محمد رضا شاه، استؤنفت العلاقات بين إيران و"إسرائيل"، وجاء عزري إلى إيران بصفته أول سفير سياسي من "إسرائيل".[2]
كان عزري في إيران 15 عاماً، وبعدما أنهى عمله في السفارة، كان لسنوات وكيلاً لبنك عائلة روتشيلد وعدد من شركات النفط والتجارة في إيران. في تلك المرحلة، صارت إيران مستورِداً بكل ما للكلمة من معنى. ففي عهد النظام البهلوي، كان يجري استيراد المواشي والدواجن والمنتجات الزراعية والأسلحة من الكيان الصهيوني.[3]
كانت شبكة المافيا الصهيونية في إيران قوية لدرجة أن كبار المسؤولين في البلاد احتاجوا إلى اهتمامها ودعمها. في حفل زفاف ابنة الفريق أول أزهاري عام 1971، وأثناء الحفل عندما دخل عزري، أجلسه أزهاري في صدر المجلس بجانب عائلته. في ذلك الوقت، كان أزهاري رئيس الأركان العامة للجيش. فاجأ هذا التصرف الجميع. يصف عزري هذا المشهد: «بقيت عيون قادة الجيش الإيراني والملحقين العسكريين لدول العالم الكبرى خاصة الأمريكيين متسعة من المفاجأة» [4].
تسبب نشاط عزري المكثف في حصوله على كثير من الجوائز من الشاه والحكومة الإيرانية طوال مهمته في إيران، فقد منحه محمد رضا بهلوي وسام «تاج» (تاج الملك) الذي كان أعلى وسام في البلاد.
ضخّم النظام البهلوي مساهمات عزري القليلة والرمزية في بعض الكوارث الطبيعية من أجل تطبيع أنشطة الكيان الصهيوني أمام أنظار الشعب. على سبيل المثال، قدم وزير الزراعة الإيراني إلى عزري وسام «الأسد والشمس» بعد مساعدته ضحايا زلزالي قزوين وشيراز.
يقول الإمام الخامنئي، الذي كان من المناضلين ضد النظام البهلوي وأحد معارضي تبعيته للأجانب وتدخلهم في أموره، عن وجود الصهاينة في تلك المرحلة: «كانت إيران مقراً لـ "إسرائيل" ومنتجعاً لقادة الكيان الصهيوني الذين كانوا يأتون ويأخذون ويأكلون ويستفيدون سياسياً ومالياً. في اليوم الذي قررت بعض الدول العربية استخدام النفط ضد "إسرائيل"، طمأن شاه إيران الصهاينة وقال: أنا سأعطيكم النفط. كان الوضع في إيران في ذلك اليوم على هذا النحو، ولم يكن لدى أحد أي أمل»[5]، «[لكن] عندما جاءت الجماهير إلى الميدان، تزلزلت قوة نظام الشاه الطاغوتي والتبعي، ورُفعَ رأس النظام الإسلامي في هذا البلد»[6].
يكشف سفير الكيان الصهيوني في إيران، في جزء آخر من مذكراته، أن رئيس وزراء العهد البهلوي، هويدا، سأله ذات مرة فجأة: «هل تتبع الطريقة نفسها في تفسير القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإيران و"إسرائيل" أو أي مكان آخر خلال التعليق على أشخاص بالطريقة عينها التي اتبعتها مع السيد علم؟ هل تعامل كلينا على قدم المساواة نوعاً وكماً في عملك؟»[7].
هويدا، الذي يمكن وصفه بأنه أقوى رئيس وزراء في العهد البهلوي وقد استطاع البقاء في هذا المنصب 13 عاماً، يقول عن لقائه مع عزري واهتمام الشاه به خلال حديث معه: «تشرفت برؤية الشاه خلال الأسبوع الفائت، وقد ذكر رحيلك وتأسف لذلك وسأل: لماذا تركت المؤسسات الحكومية؟ مع كل العمل الشاق على كاهل الملك، أتساءل كيف أنه يفكر في مستقبلك ونجاحك، ولا أتذكر سفيراً أجنبياً تلقى الميداليات وأوسمة الشرف من شاه إيران بقدر ما تلقيته»[8].
لدى الشاه تصريح خاص حول عزري يظهر فيه أنه مثل غيره من المسؤولين في حكومته كان متعلقاً بسفير "إسرائيل" ويرى أن سلطته تعتمد عليه. بعد وفاة الشاه، نقل هذا التصريح الجنرال أمير فضلي: «لو كان عزري لا يزال في إيران، فربما ما وقعت هذه الأحداث»[9]!
الناسُ يطردون مناصري الكيان الصهيوني من إيران
أحدثت الثورة الإسلامية في إيران تغييرات داخلية وإقليمية أساسية كثيرة منها خروج سيادة إيران من سيطرة الغرب ونفوذه وتدخله.
استغلت أمريكا والغرب تبعية إيران خلال عهد البهلوي إلى أقصى حد لتمكن الصهاينة من التغلغل في هيكل صنع القرار الإيراني. كان انسحاب دولة إستراتيجية ومؤثرة تملك كثيراً من القدرات العسكرية والسياسية والاجتماعية من تحالف الدفاع عن النظام المحتل للقدس من أهم النتائج لانتصار الثورة الإسلامية عام 1979. حدثٌ فهمته الشخصيات الشهيرة في ذلك الوقت والثوار والمقاومة الفلسطينية فهماً كاملاً. خاطب ياسر عرفات بصفته قائد «منظمة التحرير الفلسطينية»، الإمام الخميني والشعب الإيراني عندما جاء إلى طهران الأحد 18/2/1979 بصفته أول ضيف أجنبي للثورة الإسلامية بالقول: «هل يمكن لأحد أن يصدق أننا الآن في إيران؟ هل يصدق أحد أن الثورة الفلسطينية الآن في إيران؟ لكن الآن يمكن أن نصدق أن حقبة جديدة قد بدأت». وقال عرفات في جزء آخر من خطابه: «هم (القادة الصهاينة) يقولون إن زلزالاً ضرب المنطقة، ونحن نقول إنه كان انفجاراً للنور. نحن نقول إن عصر حرية واستقلال أمتنا ومنطقتنا قد حلّ. هناك مشكلات كثيرة أمامنا ولكننا في الوقت نفسه متفائلون بالمستقبل»[10].
قائد حركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين» ومؤسسها، الشهيد فتحي الشقاقي، هو قائد فلسطيني آخر أدرك تأثير الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني حتى قبل انتصار الثورة، وكتب الخميني: الحل الاسلامي والبديل ليؤكد للعالم الاسلامي أهمية الثورة.
في الساعات الأولى من انتصار الثورة الإسلامية، أغلق الشعب الثائر وقادة الثورة سفارة الكيان الصهيوني وحوّلوها إلى سفارة فلسطين، الأمر الذي أشار إلى تغير موقف إيران، بعد انتصار الثورة، من الصهيونية وتغلغلها في البلاد. إن جمهورية إيران الإسلامية وضعت تدريجياً ومع استقرار الأوضاع الداخلية قوتها وإمكاناتها كلها في طريق دعم المقاومة الفلسطينية والوقوف بجانبها. حتى الآن وبعد عقود تمكن رؤية التأثير المباشر للمقاومة في القضية الفلسطينية أوضح مما في الماضي.
تغلغل الصهيونية في الدول الإسلامية خطر جدي ومهم
تشير تجربة إيران في العهد البهلوي إلى أن الأمر الأخطر على العالم الإسلامي والعربي من توقيع الاتفاقات أو التجارة أو تنقل الشخصيات السياسية الصهيونية والأمريكية هو تقربُهم وتغلغلهم في درجات السلطة واتخاذ القرار، وهذه هي سياسة مئير عزري ومَهمته الأولى خلال السنوات التي قضاها في إيران في العهد البهلوي. الآن الخطر الكامن الذي ينتظر بعض الدول الإسلامية في مسار تطبيعها أكبر مما في الماضي.
يؤكد الإمام الخامنئي في هذا الصدد: «كم عدد الناس في الدول العربية الذين ضاقت صدورهم بقضايا تتعلق بالتطبيع مع العدو الصهيوني لكنهم لا يستطيعون قول أي شيء، تماماً مثلما كانت الحال في النظام السابق هنا؟ لم يكن في وسعنا قول أي شيء ضد الصهاينة. كانت تضيق صدورنا في تلك الأيام لكننا لم نستطع قول شيء. في تلك السنوات، قلت بعض الأمور بين مجموعة من الطلاب خلال تفسير الآيات المتعلقة ببني إسرائيل في بداية سورة البقرة. ثم، في أحد الاعتقالات، وضعوني أمام كم هائل من الأسئلة والاستجوابات: لقد ذكرت اسم إسرائيل! كنت قد ذكرت الآيات المتعلقة ببني إسرائيل. قالوا: لماذا ذكرت كلمة إسرائيل؟ أيْ لا يحق لمن يفسر القرآن أيضاً أن يذكر كلمة واحدة عن بني إسرائيل حتى لا يسيء إلى حليف ذلك النظام الخبيث والخائن الذي كانت له علاقات وطيدة مع "إسرائيل" في ذلك الوقت! اليوم الوضع هو نفسه في بلدان إسلامية كثيرة»[11].
إذا اعتمد حكام الدول العربية والإسلامية على شعوبهم مثل جمهورية إيران الإسلامية وسلكوا طريق المطالبة بالحقوق والدفاع عن المظلومين، فسيتمكنون بالتأكيد من التخلص من هيمنة الغرب والصهيونية، في طريق السعادة والازدهار، إن شاء الله.
[1] من ذكريات الإمام الخامنئي في العهد البهلوي: https://farsi.khamenei.ir/speech-content?id=2755
[2] لم يُعلَن مئير عزري رسمياً سفيراً في إيران، لكن في الوثائق التي جرى الحصول عليها من العهد البهلوي تظهر الإشارة إليه ضمن المراسلات الرسمية على أنه سفير "إسرائيل". خوفاً من الرأي العام الإيراني كان تقديمه ممثلاً اقتصادياً للكيان الصهيوني.
[3] عزري، مئير، مذكرات مئير عزري أول سفير لـ "إسرائيل" في إيران، جمع غلام رضا امامي، نشر علم، طهران، 1393 هـ. ش.، ص. 518.
[4] المصدر السابق، ص. 155.
[7] عزري، مئير، مصدر سابق، ص. 764. نُشرت النسخة الأساسية للكتاب تحت عنوان «أناس بينكم»، بالفارسية: مردمان در ميان شما، وبالعبرية: «מי בכם מכל עמו»، عام 2009.
[8] المصدر السابق، ص. 289.
[9] المصدر السابق، ص. 251.
[10] http://www.imam-khomeini.ir/fa/n25380/%D8%B3%D8%B1%D9%88%DB%8C%D8%B3_%D9%87%D8%A7%DB%8C_%D8%A7%D8%B7%D9%84%D8%A7%D8%B9_%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%86%DB%8C/%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%85_%D8%AE%D9%85%DB%8C%D9%86%DB%8C_%D9%88_%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%DB%8C/%D9%85%D8%A7%D8%AC%D8%B1%D8%A7%DB%8C_%DB%8C%DA%A9_%D8%AF%DB%8C%D8%AF%D8%A7%D8%B1_%D8%AA%D8%A7%D8%B1%DB%8C%D8%AE%DB%8C
[11] https://farsi.khamenei.ir/newspart-index-old?tid=4080#38856
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir