بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً أشكر السادة المحترمين أركان البلاد لجهودكم التي بذلتموها من أجل المشاركة في هذا الاجتماع المهم، و ذكر هذه الأمور، و تفضلكم بالمجئ إلى هنا. وفقكم الله و وفقنا جميعاً للعمل بواجباتنا.
و نقدم التعازي بمناسبة رحيل المرحوم الشيخ فاكر لكم جميعاً أيها الأخوة الأعزاء و لزملائه، و نبدي أسفنا لفقدان شخصية خدومة و غيورة و قديرة و دؤوبة. منذ عام 1342 شهدتُ نشاطه و تحمله للسجن. كنا في السجن سوية مع المرحوم الشيخ فاكر في مشهد سنة 42، فأعلى الله من درجاته.
مسألة الخبراء - كما قيل مراراً - مسألة مهمة جداً و استثنائية، و هي من مميزات نظام الجمهورية الإسلامية. جماعة الخبراء هم جماعة العلماء الأعلام و أصحاب المكانة و المنـزلة بين الناس و الموثوقين من قبل الجماهير في كل القضايا، و خصوصاً في قضية على جانب كبير من الأهمية هي قضية القيادة و انتخاب القائد، و ما يتعلق بها من أمور. و هذه المشاركة المؤثرة و الحساسة بين الناس لها في السابق و الحاضر آثارها و خيراتها الجمّة. مشاركة الجماهير في الأحداث الكبرى و المهمة و إعلانهم عن مواقفهم - كما حصل في التظاهرات المهمة في الثاني و العشرين من بهمن، و التي كانت بحق ظاهرة عظيمة في تاريخ الثورة و في هذه الظروف و الأحوال و الأوضاع، و قبل ذلك مشاركة الجماهير في الشوارع في كل أنحاء البلاد في التاسع من دي - ما كانت لتتحقق لولا توعية العلماء و هداة الجماهير المعنويين و الموثوقين من قبل الجماهير، و تنويرهم قلوب الناس بحقائق الثورة. دور علماء الدين في هداية الناس لا يقتصر على الهداية في الشؤون الفرعية و المسائل الشخصية و ما إلى ذلك. الأهم من كل ذلك هداية الجماهير فيما يتصل بقضية اجتماعية كبرى هي قضية الدولة و النظام الإسلامي، و الواجبات التي تترتب على هذه القضية في مواجهة الأحداث العالمية. لو ألغي دور علماء الدين و الموجّهين الروحانيين و المعنويين، لما كانت هذه الثورة يقيناً، و لما تأسس هذا النظام و لما بقي و صمد أمام كل هذه المشكلات الجمّة التي واجهت الثورة. و على ذلك، فإن لعلماء الدين - و جماعة الخبراء من خيرتهم - تأثير مستمر في أحداث المجتمع و مصيره، و نحن نرى آثار ذلك و الحمد لله.
يقوم النظام الإسلامي في أساسه على إطاعة الله.. هذه هي الميزة الرئيسة.. »... أَطِيعُواْ اللّهَ وَ أَطِيعُواْ الرَّسُولَ...«،(1) »إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ...«.(2) إذن، أساس النظام الإسلامي هو إطاعة الله تعالى.
و لطاعة الله تعالى مراتب عدة: الأولى الطاعة المصداقية. في أحوال و مصاديق معينة يقول الله تعالى: افعلوا هذا - حتى لو كان هذا الفعل فعلاً شخصياً - يقول مثلاً: أقيموا الصلاة، أو صوموا، أو زكوا، أو سائر الأمور. هذا نمط من الطاعة أن يطيع الإنسان الأمر الإلهي و ينتهي بالنهي الإلهي. و الأهم من هذه الطاعة هي الطاعة المنهجية و معناها أن يطيع الناس المنهج و الطريق و الخطة التي يرسمها الله تعالى للحياة. لكي تتحقق هذه الخطّة. هذه الخطّة لا تحصل بالأعمال الفردية، إنما هي حالة أخرى و قضية أخرى.. إنها قضية أعلى و أسمى و تحتاج إلى عمل جماعي حتى تتحقق الخطة الإلهية و الهندسة الإلهية بخصوص وضع المجتمع الإسلامي. من باب الفرض، كان المسلمون في مكة يؤدّون أعمالهم، لكن المجتمع الإسلامي في مكة يختلف عنه في المدينة حيث تأسست هناك حكومة إسلامية. لقد ظهرت هناك أعمال جديدة و حركة أعلى من الحركات الفردية و هي حركة ضرورية لو تحققت »... لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَ مِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...«،(3) أي لكانت الحياة حياة طيبة سعيدة، و لترتبت الآثار و البركات و النتائج الإيجابية النابعة من إطاعة الأوامر الإلهية، على الحياة الإنسانية.
النظام الإسلامي يمنح البشر السعادة. و النظام الإسلامي هو النظام المبتني على الهندسة الإلهية للمجتمع و على الخطة التي رسمها الخالق للمجتمع. إذا تحققت هذه الخطة لأمكن غض الطرف عن كثير من المخالفات و حالات الزيغ و الزلل الفردية و الشخصية و الجزئية. ثمة رواية تروي حديثاً قدسياً يقول: »لأعذّبنّ كل رعية أطاعت إماماً جائراً ليس من الله و لو كانت الرعية في أعمالها برّة تقية«. و في المقابل: »لأعفونّ عن كلّ رعية أطاعت إماماً عادلاً من الله و إن كانت الرعية في أعمالها ظالمة مسيئة«. بمعنى أن العمل الفردي و الإساءة أو المخالفة الفردية في النظام الاجتماعي الكبير السائر عموماً بالاتجاه الصحيح، يمكن التجاوز عنها و غض النظر عنها، أو هي بتعبير أدق ممكنة الإصلاح و التصحيح، أي إن المجتمع سيستطيع على كل حال الأخذ بأيدي هؤلاء الأفراد إلى الغاية المطلوبة. و ذلك خلافاً لما لو كانت الأعمال الفردية صحيحة لكن العلاقات و النظم الاجتماعية نظماً خاطئة جائرة غير مرخصة من قبل الله تعالى، بل مملاة من قبل الشيطان و النفس و أهوائها، عندئذ لن تستطيع الأعمال الفردية الأخذ بيد ذلك المجتمع إلى الغاية المنشودة و ما تريده الشرائع الإلهية من سعادة للبشرية. إذن، قضية الطاعة العامة و أن ينشد الإنسان المنهج الإلهي فيجده و يسير عليه، قضية على جانب كبير من الأهمية.
يقوم النظام الإسلامي على أساس التوحيد. التوحيد هو القاعدة الأصلية. و الركيزة المهمة الأخرى هي العدل. و الركن المهم الآخر هو تكريم الإنسان و كرامته و رأيه. لو نظرنا لمجتمعنا الإسلامي من هذه الزاوية لوجدنا أن النظام الإسلامي استطاع إطلاق حركة هائلة في العالم الإسلامي حيال هذه المنظومة الخاصة، لم تكن متاحة بأية حركة فردية. أي إننا حينما ننظر اليوم إلى العالم الإسلامي نجد أن المجتمع الذي تأسس وفقاً للشكل و الهندسة الإلهية هو نظام الجمهورية الإسلامية.
الأساس أساس إلهي. طبعاً ثمة نواقص و نقاط ضعف و ينبغي تلافي نقاط الضعف هذه و تصحيحها و العمل على إصلاحها. الأمر كما لو أن قطاراً كان على السكة الحديدية و هو يسير نحو هدف معين. من الطبيعي أن يكون في هذا القطار أشخاص يعملون بواجباتهم و آخرون لا يؤدّون واجباتهم. البعض يوسّخون أرضية القطار و البعض ينظفونها، البعض دقيقون في أداء واجباتهم و البعض الآخر ليس كذلك، لكن القطار سائر نحو هدفه و سيصل هدفه بلا شك.
القضايا الجزئية داخل المجتمع يمكن إصلاحها. و حين أقول جزئية لا أعني أنها غير مهمة، فهي مهمة، لكنها قضايا فردية و شخصية و جزئية تتعلق بالأفراد و الشخوص، و يمكن بالتالي تصحيحها و إصلاحها. الأساس هو أن يستطيع الإنسان الحفاظ على النظام. هذا هو التحدي الأصلي الكبير الذي واجه النظام الإسلامي منذ بداياته و إلى اليوم.. أعني به الحفاظ على النظام الإسلامي و صيانة هذا الأساس و حفظ تلك الحدود و المؤشرات و العلامات التي تميّز هذا النظام عن سائر الأنظمة في العالم.
تجمعنا مع الآخرين مساحات مشتركة و نقاط اشتراك، بيد أن الأمور التي تشكل الهوية الأصلية لهذا النظام - و هي إطاعة الله تعالى و السير على الصراط الإلهي - يجب أن تحفظ و تصان. كان هذا هو التحدي الحقيقي و الرئيس لنظامنا منذ مطلعه. بمعنى أن المعارضين لم يكونوا يطيقون هذا النظام و هذه المسيرة على أساس الأحكام الإلهية و الدين الإلهي. لماذا لا يطيقونه؟ البعض يدركون بنظراتهم العميقة النافذة أن هذا تحدّ للأنظمة المادية، لذلك يجابهونه إنطلاقاً من هذا المنطلق. و البعض ينظرون للآثار المترتبة على هذا النظام في العالم، و كما قال إمامنا الراحل يجب تشكيل خلايا حزب الله في كل العالم الإسلامي. و هم يرون أنها تشكلت فعلاً. و يرون أن القلوب مالت إلى الإسلام. و يشاهدون أن الشعور بالهوية الإسلامية استفاق لدى كل واحد من المسلمين في الكثير من أنحاء العالم الإسلامي. و هذا ما يهدد مصالحهم المادية. إنهم بالتالي يدركون أن مصدر هذه التغيرات هنا. لذلك يواجهون هذا المصدر و يعارضونه. الحق أننا لا نعرف نظاماً واجه كل هذه المعارضات و بهذه الدرجة من الشدة و اتحدت ضده جبهة الاستكبار. كان هذا هو الحال منذ بداية الثورة و لحد الآن.
حسناً، علينا الاهتمام بتعزيز النظام و حفظه. أسس النظام معروفة و معلومة، و ينبغي للجميع السير وفقاً لها و العمل على تكريسها و تقويتها، و الجد و الاجتهاد و الإبداع من أجل ذلك.
من القضايا المهمة دور الشعب و مشاركته، و من أبرز مظاهر ذلك الانتخابات. من هنا كانت الانتخابات في نظام الجمهورية الإسلامية أمراً حقيقياً و ليس شكلياً أو صورياً. إننا لا نقصد من الانتخابات تقليد الآخرين، و لأن لدى الآخرين انتخابات باسم الديمقراطية لذلك يجب أن تكون لنا أيضاً انتخابات، لا، الانتخابات حالة حقيقية لإشراك أصوات الناس و آرائهم و إحراز رضاهم، و هو ما نلاحظه في العهد المعروف الذي كتبه الإمام علي (عليه الصلاة و السلام) لمالك الأشتر حيث أوصاه بترجيح رضا العامة على رضا الخاصة، و بعدم خشية سخط الخاصة في ظل رضا العامة.
يجب أن ننظر و نرى ماذا يقول الناس و ماذا يريدون. لمشاركة الجماهير خيراتها و بركاتها. من بركاتها أن الأعداء حين ينظرون و يرون الجماهير تقف سنداً للنظام سيشعرون أن من المتعذر معارضة هذا النظام، إذ لا يمكن معارضة شعب بأكمله. يمكن الضغط على نظام حكم معين بشتى أنواع التضييقات و الضغوط الاقتصادية و الإعلامية و الحرب النفسية أو إسقاطه حتى، و لكن حين تكون لهذا النظام جذور شعبية و يكون هو و المسؤولون فيه على صلة وثيقة بالجماهير ستعود مهمة العدو صعبة، و هي الآن كما تلاحظون صعبة.
لقد اتسع العداء و تعمق و ازداد تعقيداً منذ بداية الثورة. لكن آمال العدو في دحر الثورة و هزيمتها انحسرت في الوقت ذاته. بمعنى أن الأمل الذي راود أعداء نظام الجمهورية الإسلامية قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة بأن يستطيعوا إسقاط هذا النظام و محوه و إزالته أو تضعيفه على الأقل حتى لا يستطيع مواصلة تحركه، أقول إن هذا الأمل لم يعد اليوم موجوداً. يفهم الإنسان هذا من كلامهم و من مبادراتهم و من أعمالهم. إذن، ظاهرة تواجد الجماهير و مشاركتهم في الساحة مهمة، و الانتخابات من أبرز مؤشرات المشاركة الشعبية.
أساس القضية في الفتن التي أعقبت الانتخابات هو أن البعض رفض أصوات الناس و مشاركتهم و نال منها و كذّب النظام و وجّه له التهم. هذا هو الذنب الكبير الذي ارتكبوه. كان عليهم التسليم للشعب. بالتالي، حينما تقام الانتخابات بالمعايير التي يرسمها الإسلام - و سوف أذكر بعض المعايير و المؤشرات التي يرسمها الإسلام للانتخابات و المعتبرة و المحترمة من وجهة نظرنا - يجب عليهم التسليم أمام القانون و أمام ما يحكم به القانون، كما يجب عليهم التسليم و القبول أمام الحكم الذي يحدده القانون. إذا حدد القانون في قضية مهمة مثل قضية الانتخابات حكماً أو رسم أسلوباً معيناً للتحكيم فعليهم التسليم لهذه الأدوات القانونية حتى لو كانت خلافاً لميولنا.. هذه هي الانتخابات السليمة.
إذا كانت الانتخابات بهذا الشكل و بالنحو المقرر و المعتبر في النظام الإسلامي، ستكون لها هذه الخصائص: أولاً هناك في الانتخابات احترام لأصوات الناس و تشخيصهم و رضاهم. أقولها لكم: ما لا يوجد اليوم في العالم الديمقراطي الذي يقيم الانتخابات و يرفع راية الانتخابات هو »رضا العامة«. القضية هناك صورية و هي كذلك في أغلب الأحيان. هكذا هي في بلد أمريكا و في البلدان الديمقراطية المعروفة في العالم. ثمة وراء هؤلاء الأشخاص الذين يتقدمون إلى ساحة الانتخابات و يخوضون التنافس الانتخابي، جماعات من جبهات خاصة، أي الرأسماليين و الشركات و أصحاب النفوذ المالي، و العصابات المالية الكبرى.. هؤلاء هم الذين يمررون الأمور و الأعمال بإعلامهم المضلل و بأساليب مختلفة و يجرّون أصوات الشعب ذات اليمين و ذات الشمال، و الواقع أن المسألة صراع بين الشركات، و ليس صراعاً بين أصوات الشعب. إنه شيء خيالي غير حقيقي. الواقع أن الحكومة الديمقراطية هناك هي حكومة الأقلية و حكومة الخواص، و صفة الخواص هذه إنما تتحقق لهم بسبب إمكاناتهم المالية الواسعة.. هؤلاء هم الذين يرسمون السياسات.
و الحال ليس كذلك في الانتخابات في نظام الجمهورية الإسلامية. الشعب هو الذي يتخذ القرار هنا، و هو الذي يشخص الأمور، و قد يكون هذا التشخيص صحيحاً في موطن من المواطن و خاطئاً في موطن آخر - ليس هذا هو مدار النقاش - بيد أن القرار بيد الشعب. ليس هنالك عصابات قوة و ثروة و ما إلى ذلك وراء أصوات الشعب. في هذه الانتخابات ثمة حقاً احترام لأصوات الشعب، و لرأيه و تشخيصه. و ينبغي التسليم لهذا التشخيص.. هذه مسألة.
المسألة الأخرى في الانتخابات و أهمية الانتخابات هي التنافس و السباق السليم الموجود، و الحيوية والاغتباط الشعبي المتوفر في الانتخابات. الانتخابات شيء من شأنه أن يشعر الناس بالمسؤولية و عليهم النـزول إلى الساحة و التشخيص. حيوية الجماهير دم جديد يحقن في شرايين النظام و يمنحه روحاً جديدة. ثمة تحول في الإدارة. من أهم حسنات هذه الانتخابات حؤولها دون الركود و الخمول. أفضل أشكال استمرار النظام الاجتماعي هو أن يتحول و يتغير رغم ثباته. الركود سيئ لكن الثبات حسن. الثبات يعني الاستقرار و أن يبقى هذا الإطار و هذه الهندسة محفوظة مستقرة متجذرة، و يوجد في الوقت ذاته تحولات و سباقات و تنافس داخل هذا الإطار. هذا هو أفضل الأشكال التي تستطيع بها سفينة النظام السير وسط البحار الصاخبة دون أضرار و أخطار. »و هي تجري بهم في الموج كالجبال«.(4) هذا بخصوص سفينة نوح.. سفينة تجري وسط الأمواج العاتية لكن هذه الأمواج لا تستطيع زعزعة استقرار هذه السفينة و متانتها. لا بد من توفر هذا الاستقرار. طبعاً يوجد في داخل هذا الاستقرار و في داخل هذا الإطار تحوّل و تغيير.
إذن، يتعين أن تكون كافة التحولات داخل الإطار. إذا دخل شخص ساحة التنافس الانتخابي و أراد تحطيم الإطار يكون قد خرج عن قواعد النظام و قواعد العملية الانتخابية، و هذا خطأ و غير صحيح. ينبغي أن يكون كل شيء داخل إطار النظام. هذا الإطار لا يقبل التغيير.
من الضروري التشديد على الحدود بين النظام و معارضيه و أعدائه في الانتخابات. قد يكون هناك رأيان متباينان لاثنين من المرشحين حول قضية اجتماعية أو اقتصادية، لا مانع من هذا أبداً. فليطرحوا آراءهم و لكن ليشخصوا حدودهم الفاصلة عن الآراء المعارضة للنظام. ليشخصوا حدودهم، فهذا التشخيص أمر ضروري. لقد أكدنا مراراً على هذا التمييز للحدود، و السبب هو أن الحدود إذا بهتت ستؤدي إلى وقوع الناس في الخطأ. إنها كالحدود بين البلدان إذا ضعفت و بهتت سيستطيع البعض دخول الحدود لغرض الخيانة من دون أن يعرفوا، و سيستطيع البعض الخروج من هذه الحدود عن غفلة و هم لا يشعرون أنهم يخرجون من الحدود. لذلك، يتوجب التأكيد على الحدود. الخطأ الفاحش الذي يقع فيه الذين لا يراعون هذه الحدود في الانتخابات هو أنهم يسببون المتاعب و الحيرة للناس. ينبغي تشخيص الحدود بين النظام و أعدائه و معارضيه بنحو تام، و الاعتماد على هذا التشخيص و إعلام البراءة من أعداء النظام و معارضيه.
طبعاً، ينبغي في الانتخابات ترجيح مصالح النظام و البلاد على المصالح الحزبية والفئوية و الشخصية و ما إلى ذلك، و أن تكون الآراء آراء شفافة و واضحة و يكون واضحاً ما الذي يريدونه. إذا أقيمت مثل هذه الانتخابات لكان ذلك يقيناً لصالح النظام و لصالح تقدم البلاد و لصالح جماهير الشعب، و سيحافظ على النظام حياً متوثباً و يتقدم به إلى الأمام.
و أريد أن أقول إن الواقع العام لنظامنا و لحسن الحظ ليس أسوء مما كان في الماضي بحال من الأحوال، بل هو أفضل بكثير على كثير من المستويات. يتوجب التنبه لهذه الحقيقة.. هذا ليس خيالاً مجنحاً و لا هو تعبير عن طموحات، إنما هو كلام في ضوء الحقيقة و الواقع.
تلاحظون اليوم أننا محرومون من الأنفاس الدافئة لإمامنا الجليل، و لا تعيش البلاد ظروف الحرب - حيث كان الناس يعيشون حالة الهياج و التوثب و الفوران بسبب وجود الحرب - و ابتعدنا زمنياً عن الثورة مدة واحد و ثلاثين عاماً، و لكن تلاحظون في الوقت ذاته أن عدداً كبيراً من شباب هذا الشعب - و غير الشباب في محلهم، إنما حتى الشباب الذين هم عرضة للتهديدات الأخلاقية و الفكرية و شتى الانحرافات - يشاركون في الميادين المختلفة بمنتهى الطهر و التهذيب. و كذا الحال بالنسبة للجامعات، و خارج الجامعات، و في مختلف المجالات الاجتماعية.
الشباب يشاركون غالباً في التجمعات العظيمة التي تقام، و قد شاهدتم نموذجاً نادراً لذلك في الثاني و العشرين من بهمن، سواء في طهران أو في باقي المدن - كما يلاحظ المرء عبر كاميرات التلفزة و ما يسمعه ممن شاركوا و شاهدوا عن كثب - حيث كان معظم المشاركين من الشباب. غالبية تلك الحشود كانت من الشباب. فعلى ماذا يدل هذا؟ الناس يشعرون بالمسؤولية فينـزلوا إلى الساحة. شعور الناس و الشباب خاصة بالمسؤولية بعد مضي واحد و ثلاثين عاماً على الثورة حدث عظيم جداً.. حدث كبير جداً.
لماذا ساهمت الجماهير في الثاني و العشرين من بهمن لهذه السنة بحرارة و احتشاد أكبر من السنة الماضية؟ لأنهم شعروا بالخطر و رأوا أن هناك من يتذرع بقضية الانتخابات و ما بعد الانتخابات للنيل من أساس النظام، و ممارسة المعارضة و التهجم على النظام. و كان سلوكهم الخطير هو أنهم كانوا يذكرون أحياناً اسم الإمام و الثورة لكن أقوالهم و أفعالهم و مبادراتهم و تحريضاتهم في النقطة المعاكسة تماماً لمنهج الثورة و مسارها و أهدافها. شعرت الجماهير بذلك. أن يدرك الشعب هذا الأمر و يشعر به فهذا ينمُّ عن بصيرة عالية، و هو ظاهرة على جانب كبير من الأهمية. و أن ينـزل الناس بعد شعورهم ذاك إلى الساحة بهذه الكثافة و الحماس فهذا دليل همة و عزيمة عالية تمثل حالة مهمة جداً. يجب أن نرى كل هذا و نعرف قدره و نشخّص عوامله. من العوامل المؤدية إلى ذلك تدين الناس و الملاك الأساسي في النظام الإسلامي، أي طاعة خالق العالم. هذه برأيي النقطة الأساسية أكثر من سواها.
إننا نواجه اليوم جبهة عداء كبيرة تمتد على أنحاء عالم الأقوياء. إنها جبهة تشكلت في مراكز القوى الدولية، و القوى المالية و الاقتصادية التي غالباً ما تكون في أيدي الصهاينة و الرأسماليين الكبار. تستخدم هذه الجبهة في مواجهتها للنظام الإسلامي كافة الوسائل، و يوجد في الداخل للأسف من يتجاوبون معها، و يتحولون إلى أطراف تثق بهم تلك الجبهة فيكررون أقوالها و يتعاونون معها لتستطيع توجيه ضربة لنظام الجمهورية الإسلامية! ثمة مثل هذه الحالة للأسف. و لكن ثمة مقابل ذلك وعي الجماهير و صحوتهم و محفزاتهم و مشاركتهم و تدينهم و حبهم لمباني النظام و ركائزه. هذه حقائق مشهودة في الجمهورية الإسلامية، و قد تقدمنا إلى الأمام طوال كل هذه الأعوام المتمادية و نشكر الله تعالى على ذلك.
واجبنا اليوم هو الحفاظ على هذه الهندسة العظيمة.. يجب الحفاظ عليها. و ينبغي في الحفاظ على هذه الهندسة تشخيص الحدود. هنا يكمن التشخيص للحدود الذي أتحدث عنه، و إلا فيما دون ذلك من الأمور و المسائل - سواء المسائل التي تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية أو ما دون ذلك - قد تظهر بعض الاختلافات في وجهات النظر. هذه الاختلافات في الرؤى و الأفكار لا تضرّ بالمجتمع، بل إن اختلاف وجهات النظر يؤدي إلى التقدم. ليست هذه التباينات في الآراء بالشيء المهم. و قد تؤثر في التنافس الانتخابي و لا إشكال في ذلك. المهم هو أساس النظام و الهندسة الكلية للنظام و الخارطة الجامعة للنظام. ينبغي أخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار و إبداء الحساسية تجاهه. يتعين النظر ما هي العلاقة بين الكلام الذي يطلق و الأفعال التي تؤتى و بين الخارطة العامة.
ينبغي معرفة العداوات. هذه هي مشكلتنا، و لهذا السبب أكرر مسألة البصيرة للخواص. أحياناً يُغفل عن العداوات الموجهة للأسس و الركائز، و تحمل على القضايا الجزئية. و قد كان لنا نفس هذه المشكلة للأسف في بداية الثورة الدستورية. في تلك الفترة أيضاً كان ثمة علماء كبار - و لا أريد ذكر الأسماء فهم مشاهير و الكل يعرفونهم - لم يروا المؤامرة التي ينسجها التغريبيون و ما يسمى بالمثقفين المهزومين أمام الأفكار الغربية و المتأثرين بالغرب. لم يلتفتوا إلى أن الكلام الذي يتحدث به هؤلاء في مجلس الشورى الوطني يومذاك أو يكتبونه في صحفهم إنما هو محاربة للإسلام، لم يتفطنوا لهذا الشيء و انتهجوا منهج المماشاة. و كانت النتيجة أن شُنق الشخص الذي علم بذلك الوضع و أدركه - كالمرحوم الشيخ فضل الله نوري - أمام أعينهم و لم يبدوا حساسية و ردود فعل تجاه ذلك. ثم إن نفس أولئك الذين لم يبدوا الحساسية و الاهتمام اللازم لما أصاب الشيخ فضل الله تعرضوا للعدوان و التطاول و الهتك و امتدت إليهم النيران، فأزهقت أرواح بعضهم وهتكت سمعة بعضهم. كان ذلك خطأ وقع يومذاك و علينا اليوم أن لا نقع فيه.
الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) كان جامعاً للأطراف، و من أطراف شخصيته هو هذه الحساسية. فمثلاً بمجرد أن ظهر تحرك ضد قانون القصاص، أدرك الإمام كنه القضية بحساسيته، و فهم ما معنى معارضة قانون القصاص الإسلامي، فصدر عنه رد الفعل العجيب و الحاسم الذي تتذكرونه. يجب أن نكون حساسين متفطنين هكذا.
يتوجب علينا أن لا نبدي أي إهمال لأساس النظام و خارطته الأصلية. هناك قضايا من الدرجة الثانية يمكن بالطبع معالجتها. شاهدت مثلاً اهتماماً بالمشروع المطروح هذه الأيام في مجمع تشخيص مصلحة النظام. و من الواضح أن هذا المشروع حينما يطرح في مجمع تشخيص المصلحة فإن رأي المجمع رأي استشاري على كل حال، و سوف يأتي الأمر إلينا و سوف نعمل ما نعتقد به و نطرحه باعتباره سياسة عامة. لا مراء أن لمجلس صيانة الدستور وظائفه و ينبغي عدم النيل من هذه الوظائف المصرح بها في الدستور و هي الإشراف على الانتخابات و البتّ في أهلية المرشحين و أمثال ذلك. يمكن إصلاح هذه الأمور، أي ينبغي عدم جعل هذه القضية مداراً للجدل و الصراع و النـزاع. هذه أشياء ممكن المعالجة و الإصلاح. و قد يقع شخص في خطأ في هذه الغمرة. الخطأ هنا ممكن التصحيح. و هذه ليست قضايا رئيسية، إنما القضايا الرئيسية هي تلك التي كانت طوال هذه الأشهر الثمانية أو التسعة التي أعقبت الانتخابات محل خلاف بين النظام الإسلامي و منظومة الكفر و الاستكبار، و هنا كرر البعض كلام أولئك.
إنهم يريدون زوال النظام الإسلامي الديني المبتني على طاعة الله و رسوله. كل ما يضمن الطاعة العامة لهذا النظام يعد بالنسبة لهم عدواً، فيعملون و ينشطون ضده و يبذلون كل مساعيهم لضربه. و ينبغي لهذا الجانب من القضية أن يبذل بدوره قصارى سعيه و جهده للحفاظ على هذه الأركان الأصلية و المباني و المبادئ الرئيسية. يتوجب عدم الغفلة عن المسألة الرئيسية.
و يجب تشخيص الخطوط بنحو واضح و صريح. بمعنى أن الملتزمين بالنظام الإسلامي و بمشاركة الشعب - بهذه الحوافز و الإيمان الذي يحمله الشعب - يجب أن تتشخص الحدود الفاصلة بينهم و بين الذين لا يريدون لهذه الحركة أن تستمر بشكلها الإسلامي هذا. الذين يعارضون القانون و يخالفونه. و ينبغي أن تكون هذه الحدود حدوداً واضحة جلية حتى لا يقع الناس في الخطأ و الشبهة. الناس ينظرون إلينا، و ينبغي علينا نحن أن نعلم ما هي الخطوط الفاصلة. هذا هو أساس القضية، و كل ما دونه ممكن صرف النظر عنه و معالجته. حتى لو كان ثمة تباين في وجهات النظر يتحتم أن لا يؤدي هذا التباين إلى معارضة و جدال و خصومة، فالعدو هو الذي يربح من هذه الخصومات. هذا هو ما نقوله.
الذين يؤمنون بهذه الخارطة العامة المتبلورة في الدستور و سيادة القانون و تحكيمه هم داخل النظام الإسلامي. و الذين يرفضون هذه الأمور إنما يخسرون بأيديهم صلاحية تواجدهم داخل النظام الإسلامي، فهم لا صلاحية لهم لذلك. الذين لا يبدون استعداداً لتحمل القانون و لا هم مستعدون لقبول الأكثرية، و الذين يشككون في تلك الانتخابات العظيمة التي شارك فيها أربعون مليوناً فكانت مبعث فخر، و يريدون تبديل نقطة من نقاط قوة النظام إلى نقطة ضعف هؤلاء في الواقع يخرجون أنفسهم بأنفسهم من سفينة النجاة هذه المتمثلة بالنظام الإسلامي. و إلا لا يروم أحد إخراج أحدٍ من سفينة النجاة.
نبي الله نوح (على نبينا و عليه السلام) قال لابنه: »يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَ لاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ«.(5) و النظام الإسلامي يتأسى بالنبي نوح و يقول للجميع: تعالوا و كونوا معنا و اركبوا سفينة النجاة هذه، »وَ لاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ«. هذا هو الهدف و المبنى. إننا لا نطرد أي إنسان من النظام، و لكن ثمة أشخاص يطردون أنفسهم بأنفسهم من النظام. يخرجون أنفسهم من النظام.
نتمنى أن يوفقنا الله تعالى لنستطيع الحفاظ على النظام الإسلامي بكليته هذه، و باتجاهه الصحيح الذي سرنا عليه إلى الآن و الحمد لله، و أن نستطيع تقديم الخدمة لهذا النظام و الشعب.
حينما ينظر المرء يجد أن وعي الناس و بصيرتهم و شعورهم بالمسؤولية قبال النظام الإسلامي نادر حقاً. بمثل هذا الشعور بالمسؤولية و بمثل هذه الجاهزية، لا شك أنه لو وقعت في البلاد حالياً حادثة مثل حادثة الدفاع المقدس لكان الذين يخوضون غمار الساحة أكثر من الشباب الذين خاضوا يومها غمار الدفاع المقدس، و لن يكونوا بأقل. المرء ليشعر بهذا من هذه الحركات الشعبية الهائلة.
نأمل أن يوفقنا الله تعالى نحن و الشعب و كافة المسؤولين ليستطيعوا النهوض بواجباتهم. و واجبات المسؤولين على وجه الخصوص جسيمة. المسؤولون في السلطات الثلاث مسؤولياتهم ثقيلة جداً، و عليهم النهوض بها بمزيد من الدقة و الجد و الاهتمام، لينـزل الله تعالى أيضاً رحمته علينا بمشيئته و لا يقطع عنا فضله. كل ما حصل لحد الآن إنما هو بفضل من الله، و بعد الآن أيضاً إذا شملتنا الهداية و الرحمة الإلهية فسوف لن يقطع الله تعالى عنا عونه و مدده.
إنني أتقدم بالشكر الجزيل للسادة المحترمين في مجلس الخبراء، أشكر رئاسة مجلس الخبراء المحترمة و السادة المسؤولين على جهودهم التي يتحملونها و الأعمال الجيدة التي يقومون بها و الكلمات القيمة التي يطرحونها. أرجو أن تقع كل هذه الجهود و المساعي إن شاء الله موقع الرضا لدى سيدنا الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه و عجل الله تعالى فرجه الشريف) و أعاننا الله تعالى على أن نستطيع إسعاد قلبه المقدس و نكون من المشمولين بأدعيته، و تكون الروح الطاهرة لإمامنا الجليل و أرواح الشهداء الطاهرة مسرورة راضية عنا.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
الهوامش:
1 - سورة النساء، الآية 59.
2 - سورة آل عمران، الآية 31.
3 - سورة المائدة، الآية 66.
4 - سورة هود، الآية 42.
5 - سورة هود، الآية 42.