بسم الله الرحمان الرحيم

"ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا" (سورة الإسراء: 6)

"إلى فلسطين والقدس وصلاتي هناك قريبا..

وإلى الذي نعمل من أجل أن نلقاه بعد طول انتظار"

تتنقّل رواية "تل أبيب سقطت" في أحداثها بين أحد عشر بابا، كل باب منها يحمل إسماً من أسماء مدينة القدس القديمة، باب الخليل والنبي داوود والحديد والساهرة والعامود والأسباط والمغاربة والرحمة والواحد والمثلث والمزدوج. تنادينا القدس من بين طيات السطور، وعند مكامن كل باب من أبواب فصولها: "أن أقدموا إليّ، وادخلوا المدينة من أبوابها.."

تبدأ أحداث الرواية في بيروت، في مقهى يشبه بروحه فلسطين يحمل سحرها وأسماءها وعطرها، حيث كانت خارطة فلسطين قبل 1948 تتربع "جدار التاريخ" في المقهى، وصور لمنازل قد تركها أهلها بألم وغصة بعد أيام النكبة والنكسة، وصور أخرى هناك لأجدادنا الأعزاء الذين كانوا يذهبون إلى حيفا ويافا دون قيد الحدود بين البلدان، يتاجرون ويعودون الى جبل عاملة في مغيب يوم أو يومين.. كان الحي أنيساً، يتشارك فيه "العم جورج" و"العم رضا" و"السيد أيوب" وآخرون حب فلسطين، حيث كان "العم رضا" صاحب المقهى، شديد الحرص أن لا تذبل روح فلسطين فيه أبدا.. وأمام واجهة "مقهى القدس" ذاك كان "حنظلة" يشيح بناظريه عنّي وعنك، يدير ظهره إلينا متجها الى هدفه الواضح المحدد الدقيق، حيث فلسطين..

في باب داوود، الفصل الثاني للرواية، تربى "ياسر" في بلدة "رامية" الطيبة التي تشرف بصمود من جنوب لبنان على مستمعرة "حائيم" في شمال فلسطين المحتلة (حائيم اسم وهميّ لمستعمرة وهميّة غير موجودة في الواقع، كصورة وحقيقة الكيان الصهيونيّ). يستذكر ياسر طفولته بأحداثها التي شاركته فيها "سارة" -ابنة خالته- كل جميلها، لجريه وراء الفراشات والقطط والعدو خلف الطائرات الورقية، كانا يجلسان عند التلة التي تظهر لهم منها مستعمرة حائيم.

"..وكلّما مرّ مستعمر صهيوني في المستعمرة أمامهما، كان ياسر يشير إليه بإصبع يده، ثم يغمض عينه ليركّز ويحدد الهدف بعين واحدة كالقناص. يقول لسارة: "أراه أصغر من إصبعي هذا!" يبتسمان، يقهقهان عاليا، وكأن يقين الفوز باد، وكأنه القناص حتماً.."

في العاشرة من عمره، اتسع ألم ياسر، بعد أن فقد فلسطين، فقد أبيه، ثم فقد ساره التي عادت مع والديها في لمّ شمل إلى موطنها غزة. كبر ياسر على عهد تلة الانتظار في رامية، وبرغم نزوحه للعمل في بيروت، إلا أنه لم ينس شيئا من الحقيقة.. وفي ذلك المقهى المقدسي، حيث كان المطر غزيرا، جمع شاي "العم رضا" بين ياسر وهادي والسيد أيوب في جلسة حيث:

"بحلق ياسر في وجه السيد "ولماذا أنا؟" تمتم في سريرته.. نظر في ملامح هادي الذي أشغل نفسه بالمطر الهاطل خارجا، يعكس بنظارته الطبية كل المشهد اللطيف، تأمله ياسر موافقا على تلك المهمة التي بالكاد أوضح السيد شيئا منها. لقد كان القمر في كتف السماء يشرف على مجلس رجال ثلاثة قد عاهدوا الله على امرهم."

ولباب الرحمة، فصل الرواية الثالث: "ربيع القدس عينيك الباكيتين وصالا، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب.."

حيث الأحداث في "غزة"، تسكن ساره وأهلها في "شارع بيروت" ..

"يا لجمال طائر الخيال، هناك في فلسطين، يحلّق دون اعتراف منه بالحدود والقيود. يغادر الأرض للسماء بلا تذكرة سفر. يحلق، يتأمل الوجوه ويبحلق في مارة الطرقات ليلا ونهارا، يبيع ويشتري بغير "الشيكل"، يذهب إلى "رام الله" و"بيت لحم" دون ألف سؤال، ودون حظر أو حاجة الى بطاقة زرقاء او حمراء او برتقالية..! يصلّي في القدس كل يوم.. طائر ساره كان يغادر في كل يوم ليصفع العدو الواقف عند المعابر، وينتقم لكل الأطفال والثوار وقبضات الانتفاضة وثورات السكاكين والطعن والدهس، يمزّق كلّ الهويات الزرقاء، ويمزق شتات الفلسطينيين يحتضن طفولة ياسر، ويعود إليها بوردة.."

في ليلة ماطرة، كليلة اللقاء الأول في مقهى القدس، دخل هادي وياسر غزة، هناك حيث دارت أحداث المهمّة الموكلة إليهما من قبل "السيد أيوب" بين غزة وأراضي فلسطين، حيثُ كل الحكاية..

ثم بعد حين أداء المهمة وقبل مغادرته، خطب ياسر سارة وتعاهدا على الزواج.. عاد كل من هادي وياسر الى لبنان، حيث التقيا بالسيد أيوب وأكملا مهمتهما لتكتمل مشهدية خاصة بحرب سيبيرية لوحدة 1001، خاضها المقاومون مع العدو الإسرائيلي حيثُ تهاوى الكيان في مشهد وأحداث تسارعت، وأخبرتنا في تسارعها عن وهن وضعف هذا الكيان الذي هو أوهن من بيت العنكبوت..

تتوالى الفصول حتى فصل الرواية الأخير، لنجد بعضا مما كتب ياسر في مذكراته حول تلك الأيام، بعدما مضى وقت على التحرير في عمليات "فتح قريب"..

"وفي المكان ذاك، سمعتُها مجدداً تتعالى أصوات الحناجر على المآذن في إبداعٍ صوتي وخشية ربانية، برزخٌ حمراويٌ يحدّث حال التقاء النهار بليلٍ أسدل ستائره كألف سابقة له، وغدا مذ ذاك صبح الغد أقرب عن ألف يوم خلا. حيث جاء في الخبر: تعدّى الكيان الغاصب، بضربة لشارع حيّ في بيروت أدّى الى شهادة جماعة وجرح آخرين..

وهو ذا أخاله أمام ناظريّ الآن، سورٌ مرتفعٌ يقرئك السلام، لم تظهر لي قبّة الصخرة فيه بعدُ ولكنّ قلبي كان يخفق، قلبُ هادي الشهيد أظنّه كان مضطربا أيضاً في تلك اللحظات، سندخلها. تحسستُ بيديّ مداميكَ الحجارة عند باب الخليل، "باركها الله" لقربها من المسجد الأقصى، هناك عند باب المدينة حيثُ سأقف مستأذناً الدخول. وأسفل يدي عشب يطاردُ الموت بشقائق النعمان النابتة في تحدٍ بيّن. عقدٌ حجريٌ مدببٌ يعلو الباب، يذكرني بمسجد حيّنا حيثُ كبرنا في الزقاق الضيق، حيثُ الخادم عيسى سرد لنا قصة العروج بين العوالم، "وهل عرجنا الآن..؟" "أيُّ عوالم الوجود تلك!".. تأملتها، هي القدسُ، وأنا أشهد بروحي ووجداني المرتقب حال الشهود..

بكيتُ عشرات الرفاق ومئات الشهداء الذين قضوا في عملية التحرير "فتحٌ قريب". تأملتُ قصة "كتيبة القدس" و "وحدة 1001". من باب الخليل هناك انعطفت يساراً عبر ممر يؤدي بي إلى المدينة القديمة، حيثُ النور يلفح عينيك، ستبصرُ للمرة الأولى مصدر النور في العالم حيثُ تتألّق قبّة مثمّنة الأضلاع. لم تظهر من تلك الممرات لكنّها تعبقُ في كلّ كياني، أترقبُ دخول المسجد، أحارُ في أيّ أبوابها المفتوحة سأدخل للمرة الأولى..

حماماتُ القدس، أسبلةُ الماء، شقشقاتُ العشب في أرض سماويّة، عينا يحيى الناظرتان إلى السماء، صورة هادي الساجد في ساحة المسجد الأقصى، بكاءُ يعقوب وصالاً، همسُ ساره ويداها المرفوعتان للسماء، سلاحنا المستريح على الأرض خارجاً، أروقةٌ وقبابٌ ومصاطب، ومآذن هناك على تلّة من تلال أربع في مدينة القدس القديمة. كلّها أذهلتني.

أديت صلاة الظهرين هناك بركعاتها الثمان، ودعوتُ لوصول الأحبّة قريباً، ووصولي من "تل أبيب" التي سقطت مؤخراً..

هناك تحتَ سماء "المسجد الأقصى"، "مسجد إيليا"، حيثُ وجدنا الله. "