بسم الله الرحمن الرحيم (1)

المؤسسات التي ظهرت في الجمهورية الإسلامية و الغرسات التي نمت على الأرضيات الاجتماعية و الثقافية و الدينية، ليست بواحدة أو اثنتين، و الحمد لله على أن نظام الجمهورية الإسلامية و الثورة الإسلامية قد أثبتت أنها قادرة على الإنتاج و البناء في مجالات متنوعة. صناعة المؤسسات هذه بحد ذاتها من مظاهر القدرة على الإنتاج، و من هذه المؤسسات و المظاهر يمكن الإشارة إلى ظاهرة الاعتكاف التي تتصدون أنتم أيها السادة و الحمد لله لإقامتها.
الاعتكاف هو في الواقع حبس النفس في مكان معين و تقرير قيود و حدود لها. العكوف معناه الانغلاق. حصر النفس في مكان معين من أجل حصول خلوة في القلب ليستطيع الإنسان أن يجد فرصة الارتباط الصميمي و الخالص مع إله العالم. هذا هو الاعتكاف. إنه عبادة فيها طابع الرياضة. و الكثير من العبادات هي على هذا النحو، أي فيها طابع الرياضة. رياضات يفرضها المرء على نفسه عن طوع و رغبة من أجل أن يرفع من مستوى نفسه و معنوياته و قلبه. و هذه العبادة من جملة هذا النوع من العبادات. الدارج عادة هو الاعتكاف لثلاثة أيام - و قد ناقش الفقهاء هذا الموضوع - و لكن يمكن الاستمرار إلى تسعة أيام أو عشرة أيام. أشرتم حضرتكم (2) إلى أن الرسول الأكرم (ص) كان يعتكف في العشرة الأخيرة من شهر رمضان، حيث كان يقصد المسجد و لا يخرج منه، و يقوم بأعماله هناك. إنها فرصة جيدة، و لحسن الحظ فإن إقبال الناس على هذه السنة كبير جداً، و تشوّق الشباب و حبّهم لها محيّر. أتذكر عندما كنا في مشهد لم نكن قد رأينا كيف هو الاعتكاف، كنا قد سمعنا به، و حينما انتقلت إلى قم كان الاعتكاف يقام في الأيام البيض (3) في مسجد الإمام (4). ربما ذهبت ذات مرة و شاهدت، كان طلبة العلوم الدينية يأتون، شخصان أو ثلاثة يختارون زاوية من رواق المرحوم الحاج أبي الفضل - ذلك الرواق الأعلى - و يمدّون قماشاً، و ربما كان مجموع الأشخاص الذين يعتكفون في ذلك الرواق لا يتجاوز الثلاثين أو الأربعين شخصاً.
طبعاً بعد ذلك عندما تم تشييد مسجد السيد البروجردي، كان البعض حسب الظاهر يذهبون إلى هناك و يعتكفون، و لم أشاهد ذلك بنفسي، لكنني شاهدت مسجد الإمام. كان هذا كل مظاهر هذه السنة العميقة ذات المعاني الغزيرة في ذلك العهد، و كان الأمر مختصاً بمدينة قم و بعدد قليل من الأفراد. و اليوم لكم أن تذهبوا و تنظروا جامعات البلاد - ما عدا مسجد گوهر شاد و مسجد جمكران و المساجد المهمة الأخرى و الأماكن الأخرى التي يهجم عليها الناس.. في مساجد الجامعات و مسجد جامعة طهران و الأماكن الأخرى - طلاب الجامعات و الشباب يقفون في طوابير منذ مدة و يسجلون أدوارهم و لا يصل الدور لهم، بمعنى أنه لا يوجد مكان لهم، و لا توجد وسائل لإدارتهم و استقبالهم.. إلى هذه الدرجة وصل الشوق و الإقبال العام على هذه العبادة.. هذه من البركات الإلهية. الحمد لله تعالى على أن مهّد هذه الأرضية، و منّ بهذا التوفيق، و اجتذب مغناطيس المحبّة الإلهية و ذكر الله قلوب الشباب. هذا شيء مغتنم و فرصة ينبغي معرفة قدرها.
كل فرصنا توجد في داخلها تهديدات و مخاطر. لقد أشرتم إلى أنه من الموضوعات التي من المقرر أن تناقش في مهرجانكم هذا هو تشخيص الآفات (5).. انظروا لتشخيص الآفات هذا بعين الجد. الاعتكاف مكان للعبادة، و طبعاً ليست العبادة مجرد الصلاة، فالتواصل الجيد مع المعتكفين، وعلاقات الصداقة و الأخوة، و التعلم منهم، و تعليمهم، و تجربة المعاشرة الإسلامية و تعلمها، كل هذه فرص قد تتوفر في الاعتكاف. يجب البرمجة لهذه الأمور. العمل الأهم هو البرمجة. إذا لم تكن هناك برمجة و لم تجر مساعدة هذه الجماعات الشبابية المتشوقة و المتحمسة التي تقصد المساجد للاعتكاف، فإن هذه الطاقات سوف تهدر، و قد تتحول إلى طاقات مضرّة. و ينبغي أن تكون البرمجة ذكية و واعية و في ضوء معنى الاعتكاف. لنفترض مثلاً أن أحدهم يأتي و يبرمج لعرض أفلام في مراسم الاعتكاف! الأفلام ممكن مشاهدتها في كل مكان.. مشاهدة الأفلام لا تحتاج إلى أيام بيض، و في المسجد، و ما إلى ذلك. الغاية من الاعتكاف هي الاقتراب من الله. انظروا ما الذي تستطيعون فعله لتقريب قلب المعتكف من الله و تقريب عقله و ذهنه أيضاً من الله، و بالطبع فإن الإنسان حينما يستأنس في باطنه و قلبه بالله تعالى سيترك ذلك تأثيراته على ظاهر الإنسان و تظهر عليه علامات ذلك.
حينما تعتري الإنسان حالة الخشوع فإن الخضوع أيضاً يتحقق تبعاً للخشوع، و عندئذ سيؤثر ذلك في حياته. الشاب الذي يخرج من الاعتكاف بعد ثلاثة أيام سيكون طاهراً مغتسلاً و سيتحلى بطهارة معنوية، و يكون ذلك ذخراً له. هذا شيء على جانب كبير من الأهمية و العظمة.. ثلاثة أيام من الصيام و الانقطاع عن ذيول الحياة الدارجة و التوجه لله تعالى و للمعنويات و للمعارف و التوحيد.. هذه أشياء لها قيمة كبيرة. دققوا في تطبيق هذه الأشياء بصورة صحيحة و هدايتها و توجيهها بصورة صحيحة. ليكن الخطباء جيدين و ليتحدثوا و ليعلموا المعتكفين المعارف الدينية. و ليجر تجنب الضجيج على أنواعه مما يدور عادة في المجتمع كهوامش و أمور جانبية، و لنقض هذه الأيام الثلاثة بالاتجاهات المعنوية. و إذا خرجوا بعد ذلك، فهناك الكثير من الميادين و الساحات و المجالات الحياتية يمكن للمرء أن يخوضها في المجتمع، و لكن ليكن الأصل في هذه الأيام الثلاثة هو الاتصال بالله، و لتجر البرمجة لذلك. هذا هو الأصل و الأساس و سوف يتطور و يتنامى إن شاء الله.
طبعاً الدعم و الضيافة و ما إلى ذلك أمور جيدة. و سمعت أن بعض هذه المساجد كأنها تستفيد من شوق الناس و أقبالهم هذا و تتقاضى أموالاً كبيرة من الذين يقصدون الاعتكاف فيها.. يجب أن لا يكون الأمر على هذه الشاكلة. لا عيب في تقاضي الأموال من المعتكفين، و هذا هو الأفضل - الأمر الذي يقدم الناس فيه المساعدة المالية و يشتركون فيه مالياً سيكون مباركاً، فمن خصوصيات أموال الناس و مساعداتهم أنها مباركة - و لكن يجب التدقيق لكي لا تتحول هذه المراسم إلى أجهزة لصناعة المال و كسبه و ما إلى ذلك.
نتمنى أن يزيد الله تعالى من توفيقات المعتكفين يوماً بعد يوم، و أن تهطل شآبيب رحمة الله على قلوبهم بالدرجة الأولى و على قلوبنا السوداء ببركة هؤلاء الشباب، لنستطيع نحن بدورنا أيضاً الاغتراف و الانتهال من أنوارهم و معنوياتهم. و أعانكم الله أنتم أيضاً أيها الأصدقاء الأعزاء الناشطون في أمر الاعتكاف، لتستطيعوا إن شاء الله القيام بهذا الأمر و بهذه الصدقة الجارية على أحسن وجه.
و السّلام عليكم و رحمة الله.‌‌

الهوامش:
1 - أقيم هذا المهرجان بمنحى علمي - ثقافي في يوم الثامن من رجب 1435 هـ ق الموافق للثامن من مايو أيار 2014 م.
2 - مدير الحوزات العلمية في كل أنحاء البلاد.
3 - أيام الثالث عشر و الرابع عشر و الخامس عشر من كل شهر قمري ( و خصوصاً شهر رجب) التي يستحب فيها الاعتكاف.
4 - مسجد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
5 - إشارة إلى ما قاله مدير الحوزات العلمية في كل أنحاء البلاد بأن المهرجان الثالث للاعتكاف كان بالموضوعات التالية: الاعتكاف في مرآة الآيات القرآنية و الرويات، و أحكام الاعتكاف و آدابه، و تشخيص آفات الاعتكاف، و الآثار و البركات الفردية و الاجتماعية للاعتكاف في المذاهب الإسلامية و الأديان، و سبل نشر الروح المعنوية عن طريق الاعتكاف.