بسم الله الرحمن الرحيم
أنا سعيد و مسرور جداً لأنـّي وفّقت أن ألتقيكم هنا أنتم الشباب المؤمن و طلاب العلم و الناشطين فـي مضمار تحصيل العلم و المعرفة فـي المجال الدينـي . كنتُ راغباً جداً منذ سنوات أن أحضر يوماً إلى مدرستكم و هذه الحوزة الدافئة التـي أقيمت و الحمدلله فـي طهران خلافاً للدراج و بهمَّة عالية ، و أن أزور هذا المكان عن كثب . لكننـي ولله الحمد وفّقت اليوم أن تتفضلوا أنتم إلى هذا المكان فألتقيكم عن قرب . قبل مدة طويلة من لقائي بحضرة السيد مجتهدي و زيارتـي له عن كثب ، كنتُ أعرف مدرسته قبل الثورة و سمعتُ اسم هذه المدرسة وصيتها . لقد أبدى همّة عالية و أسس فـي طهران حوزة علمية حقيقية جادة . و كان هذا شيئاً نادراً قل نظيره . حبه و اندفاعه لهذا العمل و الجهد المخلص الذي بذله استجلب العون الإلهي فاستطاع النهوض بهذه المهمة . و قد كان لهذه المدرسة و الحمدلله بركاتها . فقد تخرج منذ سنوات طوال فضلاءُ مميزون و علماء محترمون من هذا المركز المشيد على أساس الحب و الهمة و السعي و الإخلاص ، و راحوا يمارسون واجباتهم فـي مناطق مختلفة . يجب أن نعرف قدر هذا . و اليوم أيضاً إنما تقوم هذه المدرسة بكم ، أنتم الطلاب الأعزاء و حضرات المدرسين و العلماء الأعلام الذين تتولون التدريس فـي هذه المدرسة . المهم فـي المجتمع السائر نحو التطور و صاحب المُثُل السامية العلمية و الاجتماعية و الدنيوية ، أنه إذا كان ثمة تيار ثقافـي متنفذ يقود جهود هذا المجتمع وحركته ، فسيبلغ هذا المجتمع الخير و الصلاح و الفلاح . أما إذا لم يكن فـي المجتمع الآخذ فـي التقدم و النمو العلمي مثل هذه الحركة الثقافية الدينية الإلهية و المعنوية ، فستكون النتيجة ما تشاهدونه اليوم فـي المجتمعات الغربية المتقدمة . كلما ازداد تقدمهم ازداد ابتعادهم عن الصلاح و الإنسانية و العدالة . إنكم تلاحظون اليوم ذروة التحضر المادي من الناحية العلمية و المالية و القدرة العسكرية و المساعي السياسية و الدبلوماسية فـي أمريكا . أمريكا بلد له ثروة و قدرة عسكرية أسطورية و أنشطة سياسية جد مميزة ، لكنكم تشاهدون أيضاً ذروة الابتعاد عن الإنسانية و المعنوية و الأخلاق و الفضيلة فـي نفس هذا المجتمع الأمريكي ، و الذي لم يُشاهَد قبل ذلك فـي أي مجتمع آخر . أنكر الممارسات البشرية و الأخلاقية و الجنسية و الاجتماعية تحولت اليوم فـي ذلك المجتمع المتقدم و المجتمعات المماثلة إلى قوانين و أعراف مقبولة . الخطيئة موجودة فـي كافة المجتمعات البشرية ، أما الخطيئة التـي تغدو عرفاً و قانوناً و ترصد لها الأموال و يدافع عنها ، فهي انحراف لا نظير له . يُشاهد هذا الانحراف اليوم فـي المجتمع الأمريكي بوصفه أكثر المجتمعات تقدماً على الصعد العلمية و الصناعية و المالية و الاقتصادية و السياسية بكل وضوح و جلاء . تلاحظون أن رجلاً أو امرأة بظاهرٍ أنيق و شكل مناسب تماماً ، بحيث لو شاهد شخص هذا الرجل فـي الشارع أو هذه المرأة فـي أحد المحلات التجارية لما اعترته أية مشاعر أو ظنون سلبية تجاه المنحى الأخلاقي لهؤلاء ، لكن هذا الرجل نفسه و هذه المرأة نفسها فـي سجن أبـي غريب ببغداد يتحولان إلى ذئاب مفترسة . تحت هذا الظاهر الإنسانـي النظيف المنسق المعطّر المحلّي بالپاپيون و ربطة العنق ينامُ كلبٌ مسعور . الصور التـي نشرت لسجن أبـي غريب هزت و أيقظت حتى أعمق طبقات المجتمعات الغربية نوماً . الجلاد امرأة ـ بالمشاعر الرقيقة التـي يفترض أن تتحلى بها المرأة ـ و المعذَّبون عدة رجال عراقيين ، و الجريمة أنهم مشتبه بهم . هذا ليس إلاّ ! و التعذيب فـي أسوء درجات الشناعة ، و المجتمع الذي اقترف هذه الجريمة مجتمع متقدم علمياً و صناعياً و مدنياً ، مجتمع كثير التشدق و يزعم قيادة البشرية ! حين تغيب ملامح الهداية المعنوية و التيار الثقافـي السليم المتنفذ فـي مجتمع ما ، فلن تكون النتيجة سوى هذه ، هذه هي الخطيئة الكبرى للحضارة الغربية . حين يقال إن الإسلاميين المستنيرين و المثقفين يعارضون الحضارة الغربية فهذا من تزييف المعاندين الغربيين أنفسهم إذ يشيعون أن هؤلاء يعارضون العلم و التقدم ، والحال أن معارضة المؤمن بالإسلام للحضارة الغربية ليست بسبب تقدمها العلمي أو مكافحة الخرافات و إضفاء الطابع العلمي على كافة العلاقات الاجتماعية ، إنما هو بفعل الفراغ المعنوي و غياب الفضيلة عن هذه المنظومة الدنيوية . هذا طبعاً مصير الغرب أنْ يسقط فـي هذه الورطة . كان هذا هو رد الفعل حيال رجال الدين الذين ابتلي بهم الغرب قبل عصر النهضة فـي أورپا ، بما لهم من اعوجاجات فكرية ، و نزعة رجعية ، و عصبيات عنيدة بعيدة كل البعد عن العقل و المنطق . حين كانوا يعارضون العلم و التقدم و يحرقون البشر فـي النار أحياءً لجرائم وهمية ـ يعود هذا إلى ما قبل قرنين أو ثلاثة فـي أورپا ، و ليس بالأمر القديم جداً ـ و حين سادت الخرافات البشعة كافة الشؤون الفكرية و المعنوية فـي أورپا و الكنيسة يومذاك ، ستكون الثمرة طبعاً ما حصل فـي أورپا و أسقطها إلى هذا المنحدر . أنتم الشباب سترون ذلك اليوم الذي يحل فيه الهلاك و الموت بالعالم الغربـي المتحضر بسبب غياب المعنوية . سيسقطون من ذروة الاقتدار الذي يتمتعون به اليوم إلى حضيض الذل و العجز . نتائج التفاعلات التاريخية ليست سريعة و آنية . ستُشاهَد هذه النتائج يوم لاتكون ممكنة العلاج . هذا يوم سيحل بالحضارة الغربية ، و التحذيرات منه يطلقها اليوم الواعون الغربيون أنفسهم . ليس هذا كلام أجلس أنا المعمم هنا و أقوله عن بعد ، كلا ، إنه كلام و فهم الغربيين أنفسهم . و نحن أيضاً نفهم هذا بالطبع . ما هو السبب فـي ذلك ؟ لم تكن لديهم مشكلة فـي العلوم ، و قد اكتشفوا و أصابوا ثروات لا حد لها عن طريق هذا العلم . إستثمروا الثروات الجوفية و المصادر الإلهية الطبيعية إلى أقصى الحدود ، وصعدوا إلى الفضاء ، و اكتشفوا أعماق الأجسام . كانت لهم إنجازات كبيرة فـي تقدم العلوم ، وقد استخدموا هذه العلوم إلى أقصى الحدود بنحو مشروع و غير مشروع لاكتساب الثروة و الاقتدار و السياسة و كل شىء . مارسوا الاستعمار بهذا العلم ، و اقترفوا مذابح عالمية شتى . قتل الغربيون ملايين البشر فـي القرن الأخير و فـي حروب و احداث شتى . إذن ، لم تكن لديهم مشكلة فـي العلم ، بيد أن العلم من دون الهداية و الفضيلة و المعنوية و الإنسانية ، والعلم المتكالب على الدنيا فقط و بغض النظر عن الآخرة ، هذه هي نتيجته . بدايةً يسبغ الألق على الحياة و يمنح السلطة و الثروة و الجمال ، «للباطل جولة» ، أما نهاية القضية فهذه ، و هذا ما سوف يستمر . إعلموا أن التوحش الأخلاقي للمجتمعات الراقية و المتحضرة التـي لم تعرف المعنوية قط ، سيتفاقم يوماً بعد يوم ، و هذه الوحشية هي المنزلق الكبير أمام الحضارة الغربية اليوم و هو ما سوف يسقطهم . من الذي ينبغي لهُ توفير هذه المعنوية للمجتمع و إيقاد سراج الفضيلة وسط الدوافع الدنيوية المتراكمة ؟ من الذي يجب أن يلجم خيول الأهواء النفسية الجموحة التـي تقذف بالبشر فـي هذه الميادين الخطيرة و يروّضها ؟ رجال الدين الأطهار الواعون العقلاء العلماء الناشطون ، و هذا ما افتقده الغرب . إذا توفر رجال الدين و علماء الدين فـي مجتمع ما على هذه السجايا و أتقنوا علوم الدين ، و تحلوا بالتقوى و الورع بالقدر اللازم ، و كانت لهم الشجاعة اللازمة ، و نزلوا إلى الساحة تقرباً إلى الله ، و عملوا بعقلانية و تدبير ، فكلما ازداد التقدم الدنيوي فـي ذلك المجتمع ، ستتقدم فيه المعنوية بنفس النسبة، ولن يحدث اللاتعادل و اللاتوازن الذي يعانـي منه العالم الغربـي اليوم و الذي سيفضي أخيراً إلى هلاكه . أنتم الشباب و اليافعين من تشكلون هذه المنظومة التـي بوسعها إنقاذ بلادكم و مجتمعكم ، بل المجتمع الإسلامي الكبير ، و من ورائه المجتمع الإنسانـي برمته . أطلّوا على ساحة العمل التـي يراد منكم العمل فيها من هذا المنظار . هذه هي النظرة الصائبة . لا إننا كرجال دين ليس فينا أي نواقص أو عيوب ، بلى ، لدينا الكثير من النواقص ، بيد أن رجال الدين الأسلاف حافظوا على هذه السلامة ، و بذلوا كل جهدهم فـي سبيل العلم و التقوى ، و استطاعوا الحفاظ على السلسلة المعنوية إلى اليوم . إن بلادنا ومجتمعنا الإسلامي اليوم يختلف عما كان عليه فـي كل عصور التاريخ الماضية. وبنفس الدرجة يتميز دور رجال الدين اليوم أكثر بكثير مما كان عليه فـي الماضي . قديماً ، كان رجال الدين عندنا مجموعة منفصلة دوماً عن إدارة حركة المجتمع و تدبير شؤونه . كانت مغلوبة من قبل جماعة هي نفسها مغلوبة . حتى فـي الحقبة التـي ادعى فيها ملوك الصفوية التشيع و كانوا يحترمون العلماء ، و كان فتح علي شاه يزور الميرزا القمي إلى بيته فـي قم ، و يمسكه من تحت أبطه ، كان رجال الدين جماعةً هامشية تماماً . و كأنما هناك تيار يتحرك كالسيل و ثمة إلى جانبه خليج صغير ؛ له صلته بهذا التيار ، إلاّ أنه يعدم أي تأثير أساسي فـي هذا التيار . و ليس رجال الدين فحسب ، بل لقد كان الدين أيضاً كذلك . لقد أضحى الدين فـي بلادنا اليوم و لأول مرة فـي تاريخ هذه البلاد ـ بل فـي تاريخ البلدان الإسلامية ـ بعد صدر الإسلام ، مصدر و منبع السلطة و تدبير الأمور و إدارة المجتمع . ليس المؤشر وجود أو عدم وجود رجال الدين . المؤشر هو وجود أو عدم وجود الدين . مجلسنا التشريعي هو مجلس شورى إسلامي ، أي أن معيار قبول أو عدم قبول القوانين عندنا هو تطابقها أو عدم تطابقها مع الدين ـ مجلس صيانة الدستور ـ بمعنى أن السلطة التنفيذية فـي البلاد و كافة الأذرع و الأيدي و الأصابع المساهمة فـي إدارة البلاد ترتبط بمصدر دينـي . هذه هي الخصائص الرئيسة لمجتمعنا اليوم . و هذا ما لم يكن فـي الماضي . إنْ كنتم ترون جبهة الكفر و الاستكبار الهائلة بكل أشكالها المختلفة تعأرض هذه النقاط بشدة ، فهذا هو السبب . يعارضون مجلس صيانة الدستور بشدة ، يعارضون المجلس بشدة إذا كان مجلس شورى إسلامي ، يعارضون بشدة رئيس الجمهورية الذي ينادي بالإسلام . و من باب أولى يعارضون القيادة و ولاية الفقيه مائة بالمائة ، لأن هذه هي النقاط الأساسية التـي تؤمِّن التحرك و الاتجاه الإسلامي للنظام . إذا رجعنا أدراجنا فـي التاريخ سنجد أن لا سابقة لهذه الحال حتى صدر الإسلام . إنْ كان هذا البلد قد استطاع تحقيق نجاحات فـي ميادين التحرك و التقدم المادي ، و إذا استطاع التوفر على العلوم و التقنية و الصناعة ، و إذا استطاع أن تكون له سياسة دولية و دبلوماسية قوية، و إن كان قد تمكن من إدارة اقتصاد المجتمع ، و إنْ كان قد تمكن من استثمار مصادر الثروة الهائلة تحت الأرض و فوقها ، من مناجم و زراعة و ما شاكل ، وإذا كان قد استطاع الاستفادة من أراضيه الإيرانية الواسعة و المتنوعة و موقعه العسكري المهم ، و باختصار إذا كان قد استطاع مواكبة معايير التقدم العالمي و المدنـي ، فسيكون البلد و الحكومة الأولى التـي استطاعت اكتساب التقدم المادي تحت أنوار مصابيح الفضيلة و المعنوية الوضاءة . و ستكون هذه حضارة جديدة . هذا نادر جداً فـي التاريخ ، و هو ظاهرة تحمل الكثير من النذر و تحذيرات للحضارة الغربية . إذا برّزتم دور رجال الدين فـي هذه المنظومة فسوف تقدمون خدمة عظيمة للمدنية و الحضارة . العلوم الحديثة جيدة جداً . إننا نشجع الشباب الدارسين فـي الجامعات على العلم و البحث و التحقيق . تسمعون و ترون ذلك . أنا أذهب إلى الجامعات و أتحدث للشباب الجامعي و الأساتذة ، و أشجعهم على تحطيم حدود العلم و اجتياز هذه الحدود و اكتساب علوم جديدة و إنتاج العلم . هذه هي الأمور التـي يجب القيام بها . نشجع و نرغّب المدراء و الأذرع الناشطة فـي البلاد فـي العمل التقنـي و الصناعي و الزراعي و إنتاج الثروة و زيادتها ، و نبذل مساعينا و نرصد الأموال فـي هذه المجالات . هذا كله ضروري ، شريطة أن يتم على أحسن وجه . أما إذا غبتم أنتم المشمرين عن سواعدكم للحفاظ على أنوار المعنوية و الفضيلة و الدين الوهّاجة النيرة ، فستفقد كل هذه التطورات قيمتها ، بل تتحول إلى قيم سلبية مضادة . هاهنا تتجلى أهمية الحوزات العلمية . من هذا المنظار مهمتكم أهم من كافة الأعمال التـي يصار إلى إنجازها . إن وجود مجموعة من رجال الدين ، العلماء ، الواعين ، المثقفين ، الشجعان ، الورعين ، النزيهين ، المتحلين بالوعي الواسع و خشية الإله ، يبشِّر فـي المجتمع النامي بأن هذه التطورات لن تستخدم لمزيد من التيه و الضلال ، أو باتجاه السقوط و الانحطاط فـي المسيرة التاريخية . هذا هو دوركم أيها الشباب من طلاب العلم و دارسي العلوم الدينية . إعرفوا قدر هذا فإنه مهم جداً . طبعاً ثمة مشكلات فـي طريقكم . يواجه طلبتنا و رجالُ الدين عندنا اليوم صعوبات عديدة . لديهم مشكلاتهم المادية ، و مشكلاتهم من حيث السمعة و الاعتبار ، لديهم صعوبات شتى و أنواع من الحرمان ، بيد أنها صفر فـي طريق هذا الهدف الكبير . ما من منظومة استطاعت ممارسة و إيجاد دور مؤثر و خالد من دون مكابدة المشكلات . طبيعة الإنسان لا تسمح بوصوله إلى مراتب راقية عن طريق الركون للدعة و التمتع بالراحة المطلقة . ينبغي تحمل الصعوبات . هذا هو التوجه نحو رضا الله و ممارسة الدور اللازم فـي سعادة المجتمع . بمستطاع الحوزات العلمية اليوم بناء نفسها بحيث تكون ذات دور بالمعنى الحقيقي للكلمة . الحوزة العلمية فـي قم تأسست عام 1340 ق ـ أي قبل نحو خمس و ثمانين سنة ـ على يد المرحوم الحاج الشيخ عبدالكريم الحائري ، و فـي سنة 1355ق ـ أي بعد خمسة عشر عاماً ـ لاح أنها قد تلاشت بوفاة مؤسسها ، أي فـي ذروة اقتدار رضاخان و ممارساته القمعية . حينما توفـي المرحوم الشيخ عبدالكريم الحائري تفرق حتى أولئك المئات من الطلبة الذين كانوا فـي قم . كانوا يعانون الجوع ، و الإفلاس ، و الخوف ، و الافتقار لأي مصدر معيشي ، يذهبون نهاراً إلى خارج مدينة قم يتباحثون فـي البساتين المحيطة بقم ، و يعودون مساءً إلى المدرسة الفيضية أو إلى بيوتهم . ولكن خرج من بين نفس هؤلاء الطلبة المشردين المتفرقين الخائفين المرعوبين من اقتدار النظام الحاكم و المسحوقين تحت الضغوط الاقتصادية و الاعتبارية و السياسية الشديدة ، خرج شخص كالإمام الخمينـي . بعد أربعين عاماً من تشكيل حوزة قم ـ أي فـي سنة 1381 ق ـ انطلقت نهضة رجال الدين . إن لهذا معانـي كثيرة .
وقد انقضت عدة سنين من هذه الأربعين سنة بتلك الشدائد . فـي فروردين من سنة 1342 شمسية حين وقعت أحداث المدرسة الفيضية و ضُرِبِ الطلبة و قذفوهم من فوق السطوح ، ذهبنا فـي نفس اليوم لبيت الإمام . كنت ُحينها طالباً شاباً فـي أعماركم الآن . كانت الأجهزة القمعية لمحمدرضا قد شمرت عن سواعدها علناً ضد الحوزة العلمية . فـي شارع إرم بقم لم يكن الطلبة يجرأون ـ و قد شاهدت هذا بعينـي ـ على العبور من إحدى جهتـي الشارع إلى جهته الثانية ! كوماندوز أجهزة الشاه كانوا ينهالون على الطالب كأنهم الشمر فيضربونه و يقذفون عمامته أرضاً و يمزقون ثيابه . فـي مثل هذا الظرف المرعب ، عاد الإمام (رضوان الله عليه) ذلك اليوم بعد صلاتي المغرب و العشاء إلى بيته ـ البيت نفسه الموجود حالياً فـي قم ـ و جاء الطلبة أيضاً ، و كنت موجوداً معهم . ذكّرنا الإمام بأيام القمع فـي عهد رضاخان وخروج الطلبة إلى خارج قم . وقال كنّا يومها نعيش بهذه الطريقة ، فذهب أولئك و بقينا ، و الآن أيضاً سيذهب هؤلاء و ستبقون أنتم . كانت هذه نبوءة الإمام ، نبوءة ترتكز إلى الوعد الإلهي . لقد وعد الله تعالى أي جماعة تجاهد و تصبر فـي سبيله و تكون مؤمنة بأنها ستبلغ هدفها يقيناً . ليس الوعد الإلهي كذباً . يدل الله تعالى الإنسان على الطريق و يأخذ بيده خطوة خطوة . إذا كان الله هو الهدف فستتوفر الهداية الإلهية ﴿و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ . المهم هو وجود هذا الحافز و هذا الإيمان ، و النزول إلى الساحة و بذل الجهود و المساعي . أينما توفر هذا سيتحقق النجاح بلا مراء .
لقد استطعنا اليوم أن نشاهد بأعيننا ثمار الجهاد المتظافر و الهائل الذي قرر الله تعالى له أجراً : تشكيل حكومة على أساس الإسلام و معارف أهل البيت (عليهم السلام) ، هل هذا مجرد هزل ؟ هل كان يخطر ببال أحد أصلاً و فـي عصر الهيمنة المطلقة للقوى المادية على العالم و مختلف الأساليب و الآليات الدعائية و السياسية و الاقتصادية و المالية الاستعمارية و الاستعمارية المُحدثة ـ و فـي هذه المنطقة الحساسة من العالم ـ أن تنبثق فجأةً غرسةٌ صالحة بهذه الجذور الراسخة ، و لا تقدر الأعاصير طوالَ خمس و عشرين سنةً أن تلحق بها أي ضرر ؟ لقد كان هذا محالاً . إلاّ أن هذا الأمر نفسه ـ المستحيل بالنظرة العادية و العرفية الدارجة ـ كان حتمياً فـي الميزان و المعيار الإلهي ، و قد تحقق . لقد قلنا اليوم فـي ( أفق العشرين عاماً ) أن بلادنا يجب ان تبلغ بعد عشرين سنة هذه المرحلة من التطور المادي و التقدم السياسي و من الناحية المعنوية و الثقافية . إن الوصول إلى هذه المطامح أمر أكيد إذا كانت هناك مساع ٍ و جهاد من ورائها . ما من شك فـي هذا . ولكن ـ كما أوضحت ـ يمكن لهذا التحرك أن ترافقه الهداية الإلهية و الدينية و إرشاد رجال الدين ، و يمكن أن لا ترافقه . إذا لم ترافقه سنقف فـي أسفل قائمة البلدان المتقدمة فـي العالم . قبلنا بمائة عام و قبلنا بمائتـي عام حقق الآخرون أيضاً مثل هذا التقدم ، و هذه هي النهاية ! سجن أبـىغريب و السجون الأخرى و حربان عالميتان و الوجه الاستعماري البغيض فـي العالم هو نهاية كل ذلك التطور . أما إذا رافقت الهدايةُ الدينيةُ تلك التطورات ، عندئذ سيحدث ما لم يحدث فـي العالم و ما لا سابقة له فـي التاريخ .
التحضر ، و العلم ، و التقدم المادي بمعية المعنوية و التقوى و الفضيلة و الهداية الدينية شىء لم يجربه العالم . سنكون على رأس قائمة التقدم فـي العالم . هل ترون كم هو حساس دور رجال الدين و دوركم أنتم الشباب ؟ من بين هذه الجماعة الجالسة هنا و آلاف الطلبة الشباب فـي قم و الحوزات الأخرى المماثلة ، ثمة بالقوة علماءٌ كبار سيشهدهم التاريخ فـي المستقبل إن شاء الله .
بينكم أشخاص فـي مصاف الإمام ، فـي مصاف المراجع الكبار ، فـي مصاف كبار مجاهدي طريق الدين والمشاهير العظام فـي تاريخ الدين و المعنوية . و إذا بذلتم مساعيكم ستتحول كل هذه المواهب التـي هي بالقوة إلى واقع موجود بالفعل . إذا توفر فـي مجتمعنا و بلدنا مائة شخص ، أو خمسمائة شخص ، أو ألف شخص كالإمام ، فلكم أن تتصوروا أي تحرك عظيم سيشهده هذا المجتمع . حينما يكون فـي مجتمعنا مئات الشخصيات المتحلية بعلوم الدين و المتمكنة تماماً من المنطق و الاستدلالات الدينية فـي الفلسفة و الكلام و الفلسفة الحديثة و محاججة أصحاب الشبهات ، انظروا أي حدث عظيم سيقع فـي المجتمع . حينما تنشر من قبل هذه الجماعة آلاف الكتب و المجلات و البحوث العلمية على مستوى العالم بلغات مختلفة ، فتصوروا أية شمس مشعة ستشرق من هذه النقطة من العالم على كل المناخ الفكري للإنسانية . هذا كله ممكن و ليس بأخيلة . لا تظنوا أن هذه مطامح عبثية و فارغة ، كلا ، هذا واقع يمكن الوصول إليه . ولكن يجب أن نمد أيدينا لنصل إلى هذا الواقع و نمسك به . هذه المهمة تحتاج إلى همة . ينبغي أن تدرسوا بشكل جاد ـ و هذه هي الوصية التـي اُوصي بها الشباب الطلبة دائماً ـ أتقنوا العلوم الموجودة حالياً فـي الحوزات العلمية و أوصلوا أنفسكم بكل قوة إلى مستوى البحث و التحقيق . لا يمكن للإنسان أن يغدو محققاً بالترميق و الأعمال السهلة . لا يصبح الإنسان فقيهاً و فيلسوفاً بتجميع الثلوج على بعضها . ينبغي أن تبنوا هذه الأسس بقوة لبنةً لبنةً و تواصلوا ذلك حتى تبلغوا الذروة .
أنتم نورانيون فـي مجال العلم و التقوى . قلوبكم طاهرة و أرواحكم نقية . أنتم شفافون فحافظوا على هذه الشفافية . ابتعدوا عن المعاصي و اهتموا للذكر و التعبد . هذه الآية التـي قرأوها الآن ﴿ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴾ ؛ يستطيع كل من يريد ، أن يسير إلى الله و أن يعرِّف نفسَهُ اللهَ و يقترب إليه . فـي الصلاة ، يجب أن يشعر الإنسان بالمعنى الحقيقي للكلمة أنه يخاطب أحداً و يتحدث اليه ، و يطلب العون منه ، و يلجأ إليه ، و يستضئ بنوره ، ويستنزل رحمته و فضله و معونته . إجتناب الذنوب يأتي فـي المرتبة الأولى ، ثم الواجبات و النوافل و التوجه إلى الله . لديكم أنتم الشباب رصيد جيد جداً . قليل من الهمة و السعي بوسعه أن يتقدم بكم إلى الأمام . إذن العلم و التقوى ركنان أساسيان . الطهارة ، و الورع ، و النزاهة ، و الوعي ، و الاستنارة و الثقافة و التعرف على قضايا المجتمع و العالم هي الركائز الأصلية . قد يكون الإنسان عالماً متقياً ، لكنه لا يعرف العالم ، لذلك ينكِّس رأسه ويسير و إذا به بعد مدة يلاحظ انه ابتعد مسافة كبيرة عن الطريق. لقد كان لدينا مثل هؤلاء الأشخاص . أفراد صالحون جداً ، و مؤمنون ، و علماء ، لكنهم أضاعوا خط الجبهة . حينما لا يكون للإنسان بوصلة ، فسرعان ما سيضل الطريق . معظمكم أيها الشباب لم تدركوا زمان الحرب . فـي الجبهة سريعاً ما يضل الإنسان الطريق . أحياناً يتوهم أنه يطلق النار على العدو ، ولكن ، لأنه لم يحدد الاتجاه بدقة ، إذا به يطلق النار على القوات الصديقة ! لقد شاهدنا أشخاصاً بدل أن يوجهوا إطلاق نيرانهم المعنوية ضد الأعداء ، يوجهون مدفعيتهم إلى جبهة الأصدقاء و يقصفونها بكل ما أوتوا من قوة ! لقد شهدنا هذا فـي فترات الكفاح و النضال ، و السبب هو عدم الوعي . عليكم أن تتحلوا بالوعي . حافظوا على استنارتكم و ثقافتكم ، و احفظوا و عززوا الإرادة و الهمة و المقاومة فـي أنفسكم .
زاد الله دوماً من فضله عليكم إن شاء الله ، و نظر إليكم سيدنا بقية الله (أرواحنا فداه) نظرةً حانيةً خاصة أنتم الشباب المؤمن ، و جُعلتم إن شاء الله من المشمولين بألطاف ذلك العظيم ، و عسى أن تمارسوا أدواراً فـي مستقبل الإسلام و المسلمين و مستقبل البلاد .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

1 إذار و نيسان 1963م .