بسم الله الرحمن الرحيم
جلستكم هذه أيها الأصدقاء الأعزاء، و الآراء و الكلمات التي قدمتموها مغتنمة جداً بالنسبة لي.. و بعضكم تحفظتم بعض الشيء و طرحتم ما كنتم تريدون قوله باختصار و ببعض الرتوش و التعديلات. لكنني أستطيع تخمين حتى تلك الأبعاد التي لم تذكر و بقيت في الظل. كما لم تذكروا الكثير من الكلام الذي كان في أذهانكم: » اسمع فأنا أتكلم بشفاه مطبقة «. الواقع أنكم أفهمتم بشفاهكم المطبقة ما يجب أن تفهمونه. و كل طروحاتكم تقريباً كانت صحيحة و نحن نوافقها. و قد طرحتم أسئلة قد لا استطيع الإجابة عنها جميعاً لأني لم أسجلها. أضف إلى ذلك أن هناك قضايا أعم و أشمل قد يكون طرحها مهماً، و من ذلك السؤال الذي طرحه السيد » نوري زاد « حول الشاهنامة. نعم، أوافق تكريم الفردوسي و تحليل الشاهنامة، و استخراج حكمة الفردوسي لكي يعلم الجميع هل هي حكمة إسلامية أم غير إسلامية. و مراسم التكريم التي أقيمت كانت أساساً بأمرٍ وإرادة مني. و لكن لأن الفترة كانت أواخر رئاستي للجمهورية أوعزت للمهندس السيد » حجت « أنْ تابعوا القضية و كرموا الفردوسي.. ينبغي تعظيم الفردوسي فهو في القمة. أتمنى أن لا نبتلى بالتقاعس و الخمول - الذي أشار له الأصدقاء - كي نستطيع التعبير عن حكمة الفردوسي. نحن الذين أطلقنا عليه لقب » الحكيم أبو القاسم الفردوسي «. ليس أعداء الدين هم من أطلقوا عليه هذا اللقب. حسناً، من هو هذا الحكيم و ما هي حكمته؟ هل هي حكمة زرادشتية، هل هي حكمة لا دينية، هل هي حكمة ملكية، أم حكمة إسلامية؟ يمكن استخراج هذا. لو نظر المرء في الشاهنامة سيلاحظ أن تياراً من روح التوحيد، و التوكل، و الثقة بالله، و الاعتماد على الحق و الجهاد في سبيله يجري في كل الشاهنامة باهتاً رقيقاً أحياناً، و واسعاً عريضاً في أحيان أخرى.
يمكن استخراج هذا و رؤيته و فهمه. خصوصاً أن بعض شخصيات الشاهنامة بارزة جداً و يجب معرفتها و استخراجها. قلت ذات مرة إن » اسفنديار « يشبه شبابنا الحزب اللهي. ثمة في ثقافة الشاهنامة شاب حزب اللهي غيور مجاهد حريص على الدين. نعم.. أفعلوا هذا لكي لا يفعله الآخرون. و إذا لم تفعلوه فعله الآخرون.
لا أدري ما المراد من السؤال: هل ينبغي الخوض في القضايا السياسية أم لا؟ كل ما يخرج هذه الجماعة المثقفة الناضجة العالمة العارفة العميقة الوقرة الرزنة بطبيعتها عن هذه الأحوال و يجرها إلى تلاطمات انفعالية فهو سيئ. هناك الكثير من القضايا المطروحة: قضايا دولية من قبيل قضية حرب العراق، و البلقان، و غيرها، و هناك القضايا الداخلية المختلفة. بعض هذه القضايا كمشاعل القش، و مشعل القش هو في الحقيقة لا شيء، فما الفائدة من خوضكم في هذا المشعل؟! ليس معنى هذا الكلام أنكم بعيدون عن السياسة أو أن الدين و الثقافة بمعزل عن السياسة. إن ماهية عملكم اليوم سياسية في أساسها شئتم ذلك أم أبيتم. كل من يدعم الإسلام، و استقلال البلاد، و الحرية بمعناها الصحيح إنما يقوم بعمل سياسي محض. لأن الذين يعارضون قيمنا، و مرتكزاتنا، و مبادئنا إنما يعارضونها لأغراض سياسية، و الأغراض السياسية معروفة تماماً.. فالأساليب معقدة ملتوية.. لكن الأغراض ليست معقدة.. ما الذي يريده التاجر، و صاحب الشركة، و المستغل في العالم؟ ما هو الهدف الأول في العراق غير النفط؟! هذه قضية واضحة. الأساليب التي يستخدمونها كي يحصلوا على ما يريدون بتكاليف قليلة أساليب معقدة، بيد أن الهدف واضح و أكيد. و أعمالهم السياسية الرامية لهذه الغاية و الهدف معلومة. و طبيعة عملكم أنتم الذين تقفون أمامهم كالجبل الأشم الشامخ هي طبيعة سياسية. هذا مما لا مفر منه، و لا داعي لأن ترتبكوا إذا قيل عنكم إنكم لستم سياسيين أو إنكم طلاب عافية أو كذا و كذا، و تندفعوا لاتخاذ مواقف معينة حول القضية الداخلية الفلانية، و الحزب الفلاني، و الانتخاب الفلاني، و الحدث الفلاني. إنني لا أرى ذلك ضرورياً. كل إنسان قد يتخذ موقفاً بمقتضى موقعه و مكانته، و لكن ليس من الضروري أن يتخذ » اتحاد أصحاب الأقلام « موقفاً.
أما إلى أي حد هو مهم هذا الاتحاد فاعتقد أن عملكم في أرقى درجات الأهمية. أقول لكم - لا لأن اسمكم اتحاد القلم و لكم هذا الشكل المعين - إن كل ما يؤلف بين جماعة ملتزمة مفكرة فنانة حول بعضها و يمكنه أن يجمعهم كما يجمع الخيط حبّات المسبحة فسوف يعد من أعظم الرحمات و النعم الإلهية. لقد قمتم بهذا العمل و لعملكم هذا أسبابه التي تعرفونها و سوف أشير لها باختصار.
الشيء الذي يجب أن تفعلوه أولاً هو أن تحافظوا على الاتحاد بقوة، أي تحولوا دون تضعضع لبناته و أركانه. و الشيء الثاني هو أنكم تحتاجون بلا شك و لأجل الحفاظ عليه إلى تزويده بأنفاس و دماء جديدة، لأن المنظومة المغلقة التي لا تبدل دماءها و هواءها الطلق الذي تتنفس فيه سوف تتهرأ تلقائياً بعد مدة و تخلق. عليكم حقنها بدماء جديدة. طبعاً احقنوها بدماء سليمة و احذروا من حقنها بدماء ملوثة بالهباتيت أو الأيدز. لا أريد رفض أو موافقة المعايير التي ذكرتموها - لا بد أنكم درستم الموضوع و اتخذتم القرار و لا أبدي رأيي في المسألة - و لكن لتكن لكم غرابيلكم على كل حال و اعلموا أن هناك دماءً ملوثة بالهباتيت و الأيدز يمكن أن تتسرب! قد تخلق هذه الدماء بعض النشاط و الحيوية لكنها تصيب المرء على المدى البعيد بأمراض مهلكة عضال. من أجل هذه العملية الثانية - حقن دماء جديدة نظيفة - يلزمكم تربية و إعداد بعض الطاقات. إذن، تنبثق مهمة ثالثة هي البحث عن المواهب الجيدة المتألقة، و اختيارها بصورة سليمة و عادلة، و إضافتها إلى المنظومة. لا تترددوا في هذا على الإطلاق. انطلقت حالياً في البلاد كلها حركة عامة مذهلة.. ابتداءً من هذه التجمعات الطلابية الصغيرة و حتى تجمعات الطلبة الجامعيين و ما بعد الطلبة الجامعيين. ظهرت الآن آلاف المراكز و التجمعات في البلاد. هناك العديد منها في طهران و المدن المختلفة. ربما كان هناك واحد منها في كنكاور نفسها التي أغضبت السيد نوري زاد و جعلته يتأثر لهذه الدرجة. كل هؤلاء يكافحون لمجرد شعورهم بالواجب و المسؤولية. لافتة الغزو الثقافي التي رفعناها قبل سنوات و رجمها البعض بالحجارة، وافقها هؤلاء و رفعوها لحسن الحظ. ثمة الآن في جميع هذه التجمعات الصغيرة غير المعروفة و غير المحصاة توجّه واحد هو مكافحة الغزو الثقافي. تسألون الشباب ما الذي تريدون فعله؟ لماذا كتبتم هذا الكتاب، أو المسرحية، أو الملزمة، أو البروشور، أو الشعر، و لماذا شكلتم هذه الجمعية؟ و يقولون لكم نريد مواجهة الغزو الثقافي. هذه عملية جد مباركة فلا ستتهينوا بها. ستجدون معادن الألماس و الذهب بين هؤلاء: » الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة «.(1) اذهبوا و اعرفوا هؤلاء و انتقوهم و ادخلوهم إلى منظومتكم بنحو مدروس. طبعاً تستطيعون اصطناع دهاليز و ممرات و غرف متنوعة في منظومتكم لتضيفوا إليها هؤلاء بسهولة و بدون مشاكل. أي تمررونهم بقرنطينة غير مرئية لتلحقوهم بعد ذلك بالمنظومة الرئيسية.. يجب أن تقوموا بمثل هذه الأعمال.
طيّب.. لنتناول الكلام الحق الذي قاله السيد زرشناس. إنني كثيراً ما أطرح ما يشبه هذا الكلام مع الأحبة المثقفين. تعوزنا القدرة على الإنتاج، و جرأة الإنتاج، و القدرة على البيع و التوزيع و الإعلام.. و هذه من نواقصنا. كيف يصار لمعالجة هذه النواقص؟ اقترحتَ حضرتكَ عليَّ جملة طرق و أساليب. مثلاً أن أقول كذا و كذا لمركز الأبحاث الفلاني، و لمكتب الإعلام في قم، و لمنظمة الإعلام، و للتعبئة و... . قول هذه الأشياء عملية سهلة إذ بالإمكان قولها عبر كتابة سطرين. و هم بدورهم يريدون فعل شيء دون شك، و لكن كيف يفعلون؟ الحاجة الأولى هي تجميع كوكبة مثقفة ناضجة لهذه المهمة و تفهيمهم الفكرة، و بعد أن يتقبلوا الفكرة و يؤمنوا بها يبدون استعدادهم للإنتاج مقابل أجور أو بدون مقابل كي يستطيعوا هم العمل. لاحظوا أن أهمية و تأثير هذه الأعمال التمهيدية أكبر من توصيتي و أطول زماناً. أقول ليقوم اتحاد القلم بهذه الأعمال، أي قوموا أنتم بجميع الأعمال. انظروا لهذه المجاميع التي ذكرتم أسماءها و التي تعمل لخدمتكم. أي شيء استطيع أن أضعه منها في خدمتكم اعلموا أنه سيوضع في خدمتكم. اعملوا ما من شأنه أن يكونوا كالمطبعة، بمعنى أن تنتجوا أنتم الأفكار، و تنضدوها و تخرجوها و تعطوها لهم كي يطبعوها و يوزعوها. حاولوا أن تخرج الأعمال بهذه الطريقة كي لا يضطروا من أجل طباعة كتاب ديني اللجوء للعوام و النـزعة التسطيحية، و يوزعوا مثلاً كتاباً ضئيل المحتوى واسع الانتشار و المبيعات. عدنا إلى النقطة الأولى و هي ضرورة الحفاظ على اتحاد القلم. إنني انظر لهذه الجماعة بهذه العين.. نعم، انظر بهذه العين لهذا الاتحاد و أمثاله و لكم أيها الأصدقاء. أعرف بعضكم عن قرب و بذكريات جد طيبة. و البعض سمعت أسماءهم أو قرأت أعمالهم و شاهدتها. أعرف معظمكم وأؤمن حقاً بجماعتكم و اعتقد بقدرتكم و صلاحيتكم للنهوض بهذا العمل: تتمتعون بالصلاحية الروحية و الفكرية، و بالصلاحية العملية أيضاً.. ادخلوا الميدان و انجزوا هذه الأعمال و طوّروا المنظومة على هذا الأساس. كلما كان عمل المنظومة أسرع و أغزر معانٍ كلما كانت أخلد و أبقى. بل إن المنظمات الإنسانية تحيى بالعمل. الوحدات العسكرية مثلاً إذا لم تعطوها الحركة و البرامج و الأوامر فسوف تضمحل و تنحل تلقائياً إذا بقيت في مكان واحد لمدة شهر، و ليس من الضروري أن يحلها شخص معين.. سوف تنحل تلقائياً لوحدها! قوة القيادة و نفوذها موجود في كل أجزاء هذه المنظومة و هو الذي يحركها و يبث فيها الحيوية و يحافظ على حياتها الجماعية. أفعلوا هذا. أي بثوا العمل في هذه المنظومة بحيث تبقى حركتها دائمية ولا يخطر على بال أحد يوماً أن تنشق هذه المنظومة أو تتلاشى. طبعاً مشكلاتكم المالية حقيقية و جادة و هذه السبعة ملايين تومان التي ذكرها تعد معجزة حقاً. أي إننا نوافق القول بأنها معجزة.. و لا يمكن النهوض بالأعمال بالمعاجز، كما ليس من المصلحة أن يعيش الإنسان بالمعاجز دوماً. نوافق أنه لا بد من مساعدتكم بأي شكل و عن أي طريق. طبعاً هذا بحاجة لأن يفكر الأصدقاء و يقترحوا سبلاً معقولة. سوف أتعاون في هذا المجال بكل ما استطيعه، و لكن خذوا المنظومة صوب العمل الثقافي.
أيها الأعزاء، الثقافة أساس عملنا. و الواقع أن الثقافة بكل شعبها.. العلم، و الآداب و غير ذلك، بمثابة الروح من جسد أي مجتمع. لا شك أن الثقافة مثلها مثل الروح. لا مراء أن الثقافة هي التي تحضّ المجتمع على مبدأ العمل أو اللاعمل، و على العمل السريع أو البطئ، و على التوجه باتجاه خاص أو باتجاه معاكس. إذن، دور الثقافة كدور الروح من جسد المجتمع.. الجسد الإنساني الكبير. احتلال الشعوب عن طريق حقن و فرض ثقافة أجنبية ليس بالعملية الحديثة الاكتشاف، إنما كانت من القديم، و لكن في غضون القرن أو القرنين الأخيرين و نتيجة العلم الذي اكتسبه الغربيون و راحوا يقومون بجميع أعمالهم بصورة منظمة و مرتبة و حسب معادلات و برامج محددة، فقد أخذوا يمارسون هذه العملية أيضاً بطريقة منظمة و مبرمجة. إنهم يعلمون كيف يجب أن يقوموا بهذه العملية و أي المواضع يستهدفونها أكثر. لقد اكتسبوا تجارب و الحق أنهم بارعون في عمليات الإعلام و صناعة الثقافة و ضخّها للبلدان و الشعوب. لاحظوا الآن، لو قالوا لمعظم البلدان الإسلامية إنه من المقرر أن تصلوا من الناحية الاقتصادية للذروة الفلانية فسوف يصدقون، لكن لو قيل لهم إنه من المقرر أن تنتصروا على أمريكا في منافستكم لها، فلن يصدق ذلك أحد منهم! هذه ثقافة و فهم منح لهم، و ينبغي عدم اعتباره علامة واقعيتهم لأنه ليس واقع الأمر. شعب مثل الشعب الماليزي إذا كان على رأسه شخص غيور سيستطيع ذلك عن طريق كسب الحلفاء على الأقل.
قلت لكم في تلك الجلسة أيضاً إن أمريكا حالياً متورطة في قضية العراق. ينبغي عدم النظر لهذه العربدات. هذه ممارسات سياسية لا يمكن إشراكها عند حساب القضايا و تحليلها. يتضح أن القنبلة الذرية أيضاً ليست مجدية في مثل هذه المواقف. و الإمكانات الإعلامية و الأجهزة السياسية المحترفة التي تعمل ليل نهار في أمريكا و البلدان الحليفة لها ليست مجدية هي الأخرى. لقد تورطوا في قضية العراق. لو كان ثمة مجال لشرحت لكم و لصدّقتم كيف أنهم تورطوا. قد يهجمون، لكن هجومهم سيكون قسرياً لا إرادياً. الوضع المثالي للأمريكيين الآن هو أن يسيطروا على العراق من دون حرب. لو لم يكونوا قد طبّلوا للحرب كل هذا التطبيل و لو لم يثبتوا بألف دليل و دليل أن » صداماً « يجب أن يسقط و العراق يجب أن يُحتل لجرجروا أذيالهم و عادوا أدراجهم دون شك! و لكن مع كل هذا الإعلام لم يعد لهم طريق عودة.. هذه هي القضية.
طيب، هذا واقع قائم. عليه فإن قوة عظمى بحجم أمريكا و قدراتها و إمكاناتها لا تستطيع أن تفعل ما تريد في قضية مثل قضية العراق - الذي يحكمه نظام مفروض على الشعب مائة بالمائة - من دون تكاليف باهضة. تستطيع طبعاً، و لكن بتكاليف ضخمة ستكون أثقل عليها بكثير من العراق. أهدافهم في العراق هشة جداً. قضية فلسطين، و قضية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و قضية الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي، و قضية العراق، و شبه قضية أفغانستان - نعتبر هذه شبه قضية - خلقت لأمريكا مشكلات عديدة. على حد تعبير المرحوم الحاج الشيخ حسين لنكراني فإن أمريكا كشخص جلس فوق قبة و معه صرّة جوز و انفتح جانب من هذه الصرة فتدحرجت الجوزات على القبة و هو يريد لملمتها من فوق القبة! تتساقط الجوزات واحدة من هنا و واحدة من هناك، و إذا أراد التخبط و الجري وراءها فسيسقط هو أيضاً! الواقع أن وضع أمريكا الآن على هذا الغرار.
إذن، لاحظوا أن الثقافة في بلد و في شعب من الشعوب يترك مثل هذا التأثير بحيث يشعر الإنسان و يفهم و يعتقد أنه لا يستطيع فعل شيء. للثقافة مثل هذا الإعجاز.
حينما ننظر اليوم لماضينا و مستقبلنا نرى أن مهماتنا الكبرى لا تزال أمامنا. لم تكن قضيتنا أن تسقط حكومة فاسدة تتولى السلطة و نأتي نحن غير الفاسدين لتولي زمام الأمور. هذه قضية تمهيدية. القضية الأساسية هي الثورة، أي التغيير الحقيقي في الأركان، و الأسس و البنى التحتية للمجتمع باتجاه توفير العدالة، و الحرية، والرقي الفكري و العلمي، و باختصار تنضيج و تثمير الشخصية الإنسانية و إخراجها من حالة العقم العلمي و الثقافي و الاقتصادي. لم نبلغ هذه المرتبة بعد. نريد السير من أجل الوصول. هذا ما يتعلق بالجانب التمهيدي من العملية.
في الجزء النهائي من القضية فإن هدف الثورة هو نشر هذه الحالة في كل العالم الإسلامي. هذا هو هدف الذين فكروا و عملوا و بحثوا للثورة، و هدف الإمام نفسه الذي كان تجسيداً للثورة. و قد يقول قائل هنا إذا خضنا في الأهداف الدولية فسنقعد عن أهدافنا قصيرة الأمد في الداخل.. حسناً جداً، اتخذوا تكتيكاً معيناً. نحن في طريق نسير فيه نحو أهدافنا و قد نصل إلى مواقع يتغير فيه الطريق بطبيعته ليأخذ اتجاهاً معاكساً تماماً، فلو كنا نسير باتجاه الجنوب سيعود الطريق ليأخذ جهة الشرق أو الشمال، لكن هذه حالة موقتة. اتخاذ تكتيك معين لا يتنافى إطلاقاً مع أن لا ينسى الإنسان أبداً استراتيجيته الأساسية. هذه الاستراتيجية و الهدف نصب أنظارنا. ليس بوسعنا تخطي هذا الهدف، و هذا ما يستلزم بنية ثقافية سليمة و متينة. جميع العناصر الثقافية بمن في ذلك أنتم أيها الإخوة في اتحاد القلم و سائر الذين يعملون في هذه المجالات عليهم أن يعتبروا هذا مسؤولية و واجباً على عواتقهم.
إذا أردنا العمل حقاً في حيّز نشر و تنمية الثقافة و الفكر و العلم نحتاج أن نستفيد من المواهب الإلهية، و التحرر الفكري بالدرجة الأولى. التحرر الفكري في مجتمعنا شعار مظلوم. ما إن يقال التحرر الفكري حتى يخال البعض أن جميع الأسس الأصيلة سوف تنسف، و يخافون لأنهم يعشقون تلك الأسس. و البعض الآخر يفهم أنه ينبغي نسف هذه الأسس بالتحرر الفكري. كلا الفريقين يظلم التحرر الفكري الذي يعد شرطاً لازماً للتنمية الثقافية و العلمية. نحن بحاجة للتحرر الفكري. الماضي الثقافي للبلاد ضيّق الخناق جداً على التحرر الفكري للأسف. الفكرة التي قيلت عن الترجمة صائبة. ليس القصد من الترجمة ترجمة الكتب و حسب، بل ترجمة الثقافة، و ترجمة الفكر، و ترجمة النظريات الأجنبية، و النظر لها كوحي منـزل و وضعها في مكانة لا تقبل التشكيك و المساس، هذه الحالة كانت بلاءً أصيب به مجتمعنا. كررنا نفس تلك الترجمات، كررنا كل ما قاله الآخرون و أصبنا بالجمود. إذا أردنا النمو و التطور يجب أن نستطيع الطيران في فضاءات الفكر اللامتناهية.. يجب أن نتحرك. إذا أردنا في ميادين الاقتصاد، و الثقافة، و العلوم الإنسانية، و الفلسفة، و في كل المجالات العلمية و الثقافية، التحرك ضمن إطار الرأي الذي أطلقه فلان و فلان في مكان ما و استقطب له أنصاراً، و جاء مترجم و ترجمه، أو تعلمناه نحن، أي في إطار ذلك الرأي بوصفه شيئاً مقدساً لا يقبل المساس فلن يكون هذا تحرراً فكرياً، إنما هو حركة كحركة أذيال الطائرات الورقية. قد تخال أذيال الطائرة الورقية أنها تطير في الجو، لكنها تبع للطائرة الورقية التي تنتهي خيوطها بدورها ليد شخص آخر. هذا ليس تحرراً فكرياً. فضاء التحرر الفكري فضاء خاص ينبغي إيجاده، و هذه هي مهمتكم. طبعاً أرى أن الحوار الحر ينبغي أن ينطلق من الحوزة و الجامعة.
الجمهورية الإسلامية وفرت الحرية في المجتمع بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن لاستخدام الحرية آداباً. علينا تعلم و تعليم آداب استخدام الحرية. هذه أيضاً من واجبات الجمهورية الإسلامية. البعض انتهكوا حدود الفضيلة و الحقيقة باسم التحرر الفكري، و تجاهلوا كل المبادئ المقدسة الحقيقية باسم التحرر الفكري و التجديد، أو أهانوها أو استهزأوا بها. و البعض تشبثوا كردة فعل أو بسبب أمور أخرى تعتمل في أذهانهم، تشبثوا بقواعد كان يجب التجديد فيها. ينبغي عدم التحجر و الاكتفاء بما قيل. أي التحجر مقابل نسف الحدود، و الإفراط مقابل التفريط. كما أن البعض في المناخ السياسي يرفض تماماً المساحات الفاصلة بين الفوضى و الدكتاتورية و يعتقد أنه إما أن تسود المجتمع الفوضى أو تسوده الدكتاتورية! و كأنه لا توجد حالة غير هاتين الحالتين. و كذا الحال بالنسبة للميدان الثقافي: إما أن تكون هناك فوضى و كفر و إهانة للمقدسات و القيم المسلّم بها و المبرهن عليها، أو أن تُغلق الأذهان، و ما إن يُطلق أحد كلاماً جديداً حتى يلغي فيه الآخرون و يضجون عليه و يخلقون له ضجّة! و كأنه لا يوجد أي حد وسط بين هاتين الحالتين. علينا أن نجد ذلك الحد الوسط أو » الأمر بين أمرين « و التوازن. و هذا ما يتأتى بدوره عن طريق الحوار المؤدب، و العقلاني، و المنصف، والبرهنة، و يجب أن يحصل في الحوزة و فيما يتعلق بقضاياها من فقه، و فلسفة، و كلام، و علوم أخرى تدرس في الحوزة، و كذلك في الجامعة.
يجب أن يستطيع أصحاب الفكر طرح أفكارهم في بيئة تخصصية بدون لغو و ضجيج و بلا خداع للعوام و صخب مفروض مفرط، ليمكن نقدها و تمحيصها. أحياناً قد ترفض رفضاً تاماً. و أحياناً تقبل قبولاً كاملاً. و في أحيان أخرى قد تعدّل أثناء النقد و تأخذ شكلها الصحيح. هذا شيء يجب أن يحدث، و لا نتوفر عليه في الوقت الحاضر. طبعاً لأقول لكم إن بيئة الحوزة أفضل من البيئة الجامعية من هذه الناحية، و السبب هو أن النقد في الحوزة من المحاور الرئيسية. جميع عظماء الحوزة الذين تعرفونهم - سواء الموجودون منهم الآن أو الذين ينتمون للأجيال السابقة - نشأوا في هذه البيئة الناقدة. ما من عالم كلام، أو فيلسوف، أو فقيه يتحرج من أن يدحض دحضاً تاماً رأياً فقهياً أو أصولياً أو كلامياً ساد قبله و لقي تأييداً و رواجاً، و لا يخاف من أن يقول له قائل لماذا دحضت هذا الرأي. لأن مثل هذا الشيء لا يقال أساساً في الحوزة. هذا تقليد في الحوزة أن تطرح آراء السلف. لاحظوا أن الإمام الخميني رضوان الله عليه يوم كان في قم كان يطرح في درسه الأصولي الآراء العصرية يومذاك و هي آراء المرحوم آية الله النائيني، ثم فيه أولاً، و ثانياً، و ثالثاً، و رابعاً، و خامساً إلى أن ينسف أساس الرأي.. و لا يقول قائل لماذا. إذا كان هناك مؤيد لذلك الرأي كان بوسعه طرحه في درسه أو كتابته في حاشيته على تقريرات الأستاذ فيقول إنني لا أوافق كلام الأستاذ هذا. طبعت تقريرات الإمام في بعض الأقسام. لاحظوا أن الإمام نسف في كثير من الحالات مباني العظماء الذين سبقوه و طرح مكانها مبنى جديداً. ثم يأتي المحشّي و هو تلميذ الإمام و كاتب تقريراته فيسجل حواشيه و يشكل على الإمام و يقول إن رأيه ليس صحيحاً و الصحيح هو رأي صاحب المبنى السابق. لا صاحب المبنى السابق يصغر في عين أحد، و لا يعترض أحد على الإمام، و لا على المحشّي الذي هو تلميذ الإمام. هذه هي طبيعة الحوزة.
طبعاً هذه الممارسات يجب أن تنظّم. علينا جعل هذه التجارب الناتجة عن الحوار و النقاش السليم المؤدب الشجاع تجاربَ متراكمةً كي نستطيع الاستفادة منها و تثمير العلم و تنضيجه. و نظير هذه الحالة توجد في الجامعات. قلت مراراً إن هذا هو معنى النهضة البرمجية التي شددت عليها كثيراً في لقاءاتي الجامعية. علينا إنتاج العلم و الثقافة والقيام بأعمال تأسيسية. على الدولة دعم تضارب الأفكار بصورته السليمة دعماً جلياً واضحاً.
أحد واجبات نظام الجمهورية الإسلامية الدعم الصريح لتضارب الأفكار بالنحو السليم. هذه العملية بحاجة إلى بيئة و ظروف، و الأعزاء في الجامعات و الحوزات هم المسؤولون عن توفير هذه الظروف. هم الذين يجب أن يوجدوا الظروف و الإمكانيات اللازمة لذلك.
الأجواء اليوم للأسف و لأننا لم ننهض بهذه الواجبات بحيث لو جاء شخص و لم يقدم نظرية جديدة بالضرورة، بل جاء ببدعة أو نسف سُنّة أو نادى بسحق حد من الحدود و أثار ضجة لاستطاع بأسلوب تضليل العوام استقطاب عدد من الناس إليه. و يبادر معارضه لمعارضته بنفس الأسلوب فيدينه بأدوات اللعن و الإقصاء. ربما كان مبدأ الإدانة صحيحاً، بيد أن أسلوبها في كثير من الأحيان غير صحيح. و نلاحظ أحياناً أن مشاريع جيدة تتبلور في هذا الحيّز. طبعاً كلا الممارستين خاطئة. لأن تلك النظرية لو كانت نظرية جديدة لوجب أن تطرح أولاً في وسط تخصصي و تؤيد » هيئة المحلفين « صلاحيتها العلمية و قيامها على أسس علمية و خلوها من التحريف و الحذلقة و خداع العوام و افتعال الضجيج. ينبغي تحديد هذا أولاً. و بعد أن يتبيّن أن لها قيمة علمية تخضع للنقد و يبدأ الكلام في حقيّتها أو عدم حقيّتها و تسجيل المؤاخذات عليها، و تكريسها أو رفض مرتكزاتها. هذا معنى يأخذ مجراه في الجامعات في كل المجالات العلمية بما في ذلك العلوم المحضة، و العلوم الأساسية، و العلوم الطبيعية، و العلوم الإنسانية، و هو دارج أيضاً في المجالات الثقافية، و العقيدية، و العلوم الحوزوية. ينبغي القيام بهذه الأعمال. على الحوزة و الجامعة النهوض بهذه المهمات. و أنتم منظومة بوسعكم ممارسة دور في هذه المشاريع، و نحن بحاجة لدوركم فعلاً.
للأسف يخلط البعض بين الأصولية و التحجر و يتوهم أن الأصولية تعني التحجر! و الحال أن الأصولية لا تعني التحجر. معنى الأصولية هو قبول الأصول المنطقية المبرهن عليها و الالتزام بها و تنسيق السلوك بمقتضاها. كالعلامات التي توجّه الإنسان في الطريق .. » إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا «.(2) هذه الاستقامة هي الأصولية. و معنى التحجر هو الدفاع من منطلق التعصب و اللادليل عن كل ما يدخل ذهن الإنسان على شكل قناعة و معتقد من دون أن تكون له ركائز استدلالية و توثيقية رصينة. » إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية «.(3) » حمية الجاهلية « تطال البعض فيدافعون عن شيء معين من منطلق الجهل. ينبغي عدم الخلط بين الأصولية و هذا الدفاع الجاهلي الناجم عن الحمية العصبية المتحجرة. و ما إن يقال تحجر حتى ينصرف ذهن البعض إلى تحجر التيارات الدينية، و الحال أن التيارات التي تسمى مستنيرة و حداثية لا تقل تحجراً عن المتحجرين الدينيين، بل قد تفوقهم بدرجات أحياناً. لا أنسى أيام ما قبل الثورة و الجلسات التي كانت تعقد مع الطلبة الجامعيين و بعض الناشطين السياسيين اليساريين حيث لو قال أحد شيئاً يمسّ أسس الماركسية أبسط المساس لما كانت هناك حاجة للاستدلال و البرهنة في مقابله، إنما يقولون: هذا كلام باطل خاطئ! و هو ما يقول عنه القرآن: » إنا وجدنا آباءنا على أمة «.(4) لأنهم سمعوا الشيء فهم يصرون عليه و يعتبرون كل ما خلاه باطلاً مهما كان منطقياً. التحجر هناك أكثر.
إذن، الأصولية شيء و التحجر شيء آخر. كما أن التحرر الفكري غير اللاأبالية و التحلل. التحرر الفكري شيء و التحلل شيء آخر. التحرر الفكري هو أن تتركوا أنفسكم أحراراً في المسيرة نحو المساحات المعرفية المجهولة، فتقتحموها و توظفوا طاقاتكم و تتحركوا. أما معنى التحلل فهو أن لا تبالوا أبداً للطريق الذي تسلكونه في مسيرتكم نحو قمة الجبل. و ستكون النتيجة أن تسلكوا طريقاً يأخذكم لموقف لا يكون لكم فيه طريق عودة و لا طريق تقدم للأمام، بل طريق سقوط فقط! الذين يمارسون رياضة تسلق الجبال يعرفون هذا جيداً و قد جربوه.
من أجل أن يصل الإنسان للقمة هناك طريق ينبغي معرفته. لا مانع أبداً من أن تكون لدينا خارطة دالة نقول في ضوئها إن هذه هي الطرق المؤدية إلى القمة ثم نضع الخارطة في جيوبنا و نحافظ عليها. هذا ليس معناه أننا متحجرون بل معناه أننا عقلاء نعلم أن السير من دون تفكير و من دون هذه الخارطة الدالة سينتهي بنا إلى السقوط. إذن، هذه ممارسات واجبة. نحن اليوم بأمس الحاجة لتنمية التحرر الفكري - الذي يفرز الثقافة و إنتاج العلم و تتطور بموجبه العلوم و الثقافة تطوراً حقيقياً - في المجتمع و استقطاب مواهب الأفراد. نتمنى أن تعرف العناصر الموهوبة الهميمة المتوكلة - سواء في الحوزة أو في الجامعة، أو في المنظومات المماثلة لمنظومتكم هذه - قدر هذه الأعمال و المشاريع. لا ينتابكم الشك أبداً في منظومتكم أن نفس هذه التجمّع حول بعضكم يعد نعمة كبيرة و عملاً حقيقياً قد أنجز. حذار من أن تسمحوا لهذا المشروع بالضياع و التلاشي، بل استثمروه و سوف ترتّبون الأعمال اللاحقة على أساسه إن شاء الله.
طيب، طال بنا الكلام كثيراً، و لديَّ الليلة مطالعاتي لأن لي صباح الغد درساً و لا وقت للمطالعة قبل الدرس. إذا لم يخرج درس غد غنيَّ المضمون فجزء من السبب يعود لهذا التجمع من الأصدقاء الذين حضرنا بينهم الليلة! لكنني لست نادماً لأني قضيت وقت مطالعتي الدراسية في اللقاء بكم أيها الأصدقاء من أخوات و إخوة. نتمنى أن تكون خدماتكم مرضيّةً في القلب المبارك لسيدنا بقية الله أرواحنا فداه، و أن يعينكم دعاؤه، و أن يأخذكم و يوصلكم الهديُ الإلهي للاتجاه الصحيح إن شاء الله.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 -
2 - سورة الأحقاف، الآية 13 - سورة فصلت، الآية 30.
3 - سورة الفتح، الآية 26.
4 - سورة الزخرف، الآية 22 و 23.