تُقرّ وسائل الإعلام الدولية بقوة الصواريخ الإيرانية وقدرتها على اختراق طبقات الدفاع الجوي المتعددة الطبقات للكيان الصهيوني، وقد أشارت صحيفة «إندبندنت» البريطانية صراحةً إلى هذه الحقيقة، رغم سنواتٍ من الترويج الواسع لفكرة أن تلك المنظومات محصّنة وغير قابلة للاختراق. فكيف حدث هذا التحوّل؟
على الرغم من إقرار الصحف الغربية ومراكز الأبحاث بأن "إسرائيل" – أي الكيان الصهيوني – تمتلك أعقد شبكة دفاع جوي مضاد للصواريخ في العالم، مكوّنة من البوارج الأمريكية المتمركزة في البحر المتوسط، التي حاولت التصدي باستخدام صواريخ SM-6 وSM-3، بالإضافة إلى المنظومات الإسرائيلية. لا توجد نقطة على وجه الأرض فيها دفاع جوي مضاد للصواريخ مثل الكيان الصهيوني ولكن هناك مزيج من التكتيكات التي استخدمتها الجمهورية الإسلامية، على الرغم من الصدمة الأولى، والتي تمكنت من خلالها من اختراق هذه المنظومات وإضعافها بشكل كبير.
أولًا، هناك الكثير من الصواريخ المناورة، التي تجبر الإسرائيليين على إطلاق أكثر من صاروخ اعتراضي، بل وتفشل أحيانًا في اعتراضها أثناء مرحلة الهبوط، كما هو الحال مع صواريخ «الحاج قاسم» ذات الوقود الصلب، أو «خيبر شيكن 1» و«خيبر شيكن 2»، فضلًا عن صاروخ «فاتح-1» الذي ظهر في أحد الفيديوهات، والذي أُطلق عليه أكثر من ثمانية عشر صاروخًا اعتراضيًا من منظومة «مقلاع داوود»، دون أن يُفلحوا في اعتراضه، لينفجر في مرحلة الهبوط محدثًا أثرًا كبيرًا.
بالإضافة إلى ذلك، جرت محاولات لاستهداف بطاريات الدفاع الجوي الإسرائيلي وراداراتها، وقد وثّقت أحد الفيديوهات في الأيام الأولى ضربة صاروخية لم يُعرف على وجه الدقة ما إذا كانت قد أصابت القاعدة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن الدفاع الجوي في منطقة تل أبيب، أو أنها انفجرت قرب أحد أجهزة الإطلاق، حيث ظهر في أحد المقاطع البعيدة صاروخ ينفجر في تلك المنطقة.
من جهة أخرى، تمكّنت القوة الصاروخية التابعة لحرس الثورة من إطلاق الصواريخ بزوايا واتجاهات مختلفة وفي أوقات متباينة، كما استخدمت صواريخ إشغالية وأخرى تحمل ذخائر انشطارية، بهدف تشتيت الدفاعات الجوية، وإرهاق الرادارات وتعطيلها. أضف إلى ذلك انحراف بعض الصواريخ عن مساراتها في منحنيات حادّة، ما يمنح الإسرائيليين وقتًا قصيرًا جدًا للتعامل معها.
خلال اثني عشر يومًا من الحرب مع الجمهورية الإسلامية، استخدم الكيان الصهيوني منظوماته الدفاعية متعددة الطبقات، مثل «مقلاع داوود»، و«أرو-3»، و«القبة الحديدية»، ومنظومة «ثاد» الأمريكية، إلا أنه فشل في صدّ الضربات الإيرانية. ويعزو الخبراء هذا الفشل إلى اتساع رقعة الهجمات، والتكنولوجيا المتطورة المستخدمة في الصواريخ. فما رأيكم في هذا التقييم؟
المسألة لا تتعلّق فقط بالأساليب التي استخدمتها القوات المسلحة الإيرانية في مواجهة الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بل تعود أيضًا إلى حقيقة أن عملية التصدي للصواريخ تُعدّ مكلفة جدًا. يعني أتحدث عن تكلفة تصل إلى عشرات المليارات، بالعشرة ملايين دولار للصاروخ الواحد. فمثلًا، تصل كلفة صاروخ «إس إم-3»، الذي تطلقه البوارج الأمريكية من البحر المتوسط، إلى نحو 20 مليون دولار، فيما تتراوح كلفة صواريخ الاعتراض الإسرائيلية، مثل «حيتس» (السهم)، بين أربعة إلى خمسة ملايين دولار للصاروخ الواحد. بالتالي، فإن التصدي للصواريخ عملية باهظة الكلفة، وقد كانت التقديرات تشير إلى أن مخزون الصواريخ الدفاعية سينفد بحسب وتيرة الإطلاق اليومية، أي خلال فترة تتراوح بين اثني عشر إلى ثمانية عشر يومًا. لذلك، يقدّر بعض المحللين أن الكيان الإسرائيلي سارع إلى إنهاء الحرب بعد فشلها في إضعاف الجمهورية الإسلامية، لأنه كان سيتعرض لأضرار جسيمة في المرحلة التالية. المشكلة تكمن أيضًا في أن هذه المنظومات الدفاعية مُصمّمة للعمل لفترات زمنية محدودة، تتيح تنفيذ عمليات عسكرية أو استخباراتية، كما حصل في إيران، لكنها لا تستطيع الاستمرار في مواجهة استراتيجية طويلة الأمد، خصوصًا أمام التكتيكات التي استخدمتها قوات حرس الثورة الإيرانية. ومن ضمن هذه التكتيكات، كان إطلاق الصواريخ الأقدم مثل «شهاب» و«قدر» في الموجات الأولى، وهي صواريخ تعود إلى التسعينيات وبداية الألفية، ما يدفع العدو إلى استخدام صواريخ دفاعية باهظة الثمن لاعتراضها، في محاولة لإغراق المنظومات الدفاعية وإرهاقها، قبل الانتقال إلى استخدام الصواريخ المتطورة والدقيقة القادرة على استهداف منشآت عسكرية أو مبانٍ محددة بدقة عالية. وبالتالي، فقد استطاعت قوات حرس الثورة الإيرانية استيعاب الصدمة الأولية بسرعة، وبدأت بتطبيق استراتيجية مدروسة لحرب استنزاف طويلة الأمد، في حال قرّر العدو مواصلة المواجهة.
إذا المسألة هنا ليس فقط صعوبة التصدي للصواريخ الإيرانية، بل الكلفة العالية جدًا لذلك، سواء من الناحية المادية أو من ناحية محدودية القدرة التصنيعية. على سبيل المثال، لا يُصنّع من صواريخ «إس إم-6» سوى 37 صاروخًا سنويًا، وتُشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة استخدمت نحو 20% من مخزونها العالمي من هذا النوع فقط خلال هذه المواجهة التي استمرّت 12 يومًا. وبهذا، يمكن القول إن عامل الوقت لم يكن في صالح الإسرائيليين.
استخدمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في عمليتها الصاروخية ضد الأراضي المحتلة، صواريخ ذات مديات وقدرات مختلفة، الأمر الذي أربك المنظومات الدفاعية المتعددة للكيان الصهيوني، وجعل عملية التصدي مكلفة ومعقدة للغاية، إذ إنّ الصواريخ غالبًا ما كانت تصل إلى أهدافها خلال دقائق معدودة. إلى أي مدى أسهمت هذه الاستراتيجية في زيادة الضغط اللوجستي على منظومات الدفاع متعددة الطبقات للكيان الإسرائيلي؟
كانت الضربات الصاروخية تُنفَّذ من زوايا متعددة وتستهدف مناطق متفرقة، بحيث لا يتمكن الإسرائيليون من تركيز جهودهم على منطقة بعينها، ويُضطرون إلى التعامل مع «مكعبات اشتباك» في الجو، موزعة على مساحات واسعة. هذا التوزيع الجغرافي للضربات ساهم في إرهاق منظومات الرصد والرادارات، حيث لم تكن هناك جبهة واحدة يمكن الدفاع عنها، بل جبهات متعددة ومتزامنة. كذلك، تم إطلاق الكثير من الصواريخ بزوايا منحنية جدًا، ما مكّنها من الاستفادة من استدارة الأرض لتقليص وقت الرصد، بحيث يُتاح للعدو بضع دقائق فقط للتعامل معها. وهناك أيضًا احتمال بأن تكون هناك وحدات مختصة في الحرب السيبرانية ضمن الجمهورية الإسلامية، قد تمكنت من اختراق أنظمة الإنذار المبكر الإسرائيلية، ما ساهم في إرباك الدفاعات بشكل إضافي. إلى جانب ذلك، يجب الإشارة إلى أن الأمريكيين يملكون منظومات رادارية متقدمة متمركزة في دول الخليج الفارسي، مثل البحرين وقطر والإمارات، وهي قادرة على رصد إطلاق الصواريخ من إيران. وهذه الرادارات تُشكّل جزءًا من شبكة الاتصال والإنذار الأمريكية المتصلة مباشرة بأنظمة الدفاع الجوي الأمريكية والإسرائيلية في منطقة غرب آسيا، من دون المرور عبر وسطاء. ولولا هذه الرادارات، لكان زمن الإنذار لدى الإسرائيليين أقصر بكثير، وقد ينخفض من عشر دقائق إلى نحو خمس دقائق فقط، مما يقلّص القدرة على الاحتماء.
كل هذه العوامل مجتمعة ساهمت في ضغط هائل على منظومات الدفاع الإسرائيلية. وكان من المتوقع أن يزداد هذا التأثير بشكل كبير لو استمرت الحرب لفترة أطول.
وصفت وسائل الإعلام العملية الصاروخية الإيرانية بأنها من أوسع وأدقّ العمليات العسكرية في عمق الأراضي المحتلة، حيث استهدفت خلالها مواقع حساسة وحيوية مثل مركز استخبارات «أمان»، مبنى «الموساد»، «معهد وايزمان»، قاعدة "نڤاتيم"، قاعدة "حتسريم"، مصفاة حيفا، وغيرها. فهل يمكن القول إن هذه العملية، التي استمرت اثني عشر يومًا، قد قوّضت نظرية الأمن التي يتبناها الكيان الصهيوني؟
من حيث دقة الضربات، هناك تقارير إسرائيلية – لا سيّما تقرير بثّته القناة 13 العبرية – تشير إلى أن معظم الضربات التي نفّذتها الجمهورية الإسلامية داخل القواعد العسكرية يصعب التحقق منها بشكل مستقل. كما أن صور الأقمار الصناعية المتاحة، والتي تملكها شركات غربية، لا توفّر دقة كافية لمراقبة نتائج الضربات داخل الأراضي المحتلة، بخلاف ما هو معتاد في تغطية الهجمات الإسرائيلية داخل إيران. ورغم صعوبة التأكد من حجم الأضرار بشكل دقيق، فإن استهداف منشآت استراتيجية مثل مصفاة حيفا – التي تكرّر نحو 80% من النفط المستخدم في فلسطين المحتلة – يشير إلى أن الجمهورية الإسلامية باتت تملك القدرة على توجيه ضربات دقيقة إلى مواقع تُعدّ مفصلية في بنية الكيان الاقتصادية والعسكرية. هذه الضربات أكّدت أن إيران لا تستهدف فقط الرد، بل قادرة على إيذاء العدو في «مواطن ألمه» بدقة عالية.
أما فيما يتعلق بإمكانية تغيّر الاستراتيجية الصهيونية، فيمكن القول إن ما حدث فرض عليهم مراجعة جديّة. فهم الآن يهرعون إلى إعادة النظر في منظومات الاعتراض، وهم يحتاجون لسنوات. ومع ذلك، لا يُستبعد أن يلجأوا مستقبلًا - لا سمح الله - إلى تنفيذ هجوم مفاجئ ضد إيران.
لذلك، قد تكون قد أيقظتهم أيضًا لمحدودية قواتهم في التعامل مع تهديد الصواريخ الباليستية الإيرانية، الذي عبّر عنه نتنياهو وعدّه تهديدًا وجوديًا يعادل تهديد نقل المشروع النووي الإيراني إلى الكيان الصهيوني. لذلك، أتصوّر أنها صعدت في سلّم التهديد لدى الإسرائيليين، إذ تحوّل التهديد الصاروخي إلى عامل ردع حقيقي للكيان الصهيوني، طالما أنه فشل في أحد أهداف هذه الحرب المعلنة ضد الجمهورية الإسلامية، وهو تدمير القوة الصاروخية للجمهورية.
ولكن أعتقد أن هذا العدو غدّار ولن يستسلم، وسوف يستمر في المرحلة المقبلة في البحث عن وسائل للتعامل مع هذا الخطر الوجودي، الذي أجبره أساسًا على وقف الحرب، بسبب الخوف من مرحلة ما بعد نفاد المعترضات، وبعد تحييد عملاء «الموساد» مثلًا داخل إيران، الذين كانوا يزوّدونه بالمعلومات. هذه المرحلة كانت ستكون كارثية من ناحية أنها ستسمح للقوات المسلحة في إيران وحرس الثورة بإيذاء العدو بنحو أكبر، لذلك كانت هي العنصر الحاسم في مسارعته إلى طلب إنهاء الحرب، وحتى التهديد الأمريكي بالدخول في الحرب في حال لم تنتهِ.
في اليوم الحادي عشر من المعركة، وردًا على التدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة ضد طهران، استهدفت جمهورية إيران الإسلامية أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، وهي قاعدة «العديد» الجوية في قطر؛ فما مدى تأثير هذه العملية الصاروخية في تغيير معادلات الاشتباك والردع؟ وهل كانت سببًا مباشرًا في دفع العدو إلى طلب وقف إطلاق النار؟
بالنسبة إلى الرد الإيراني على الهجوم الأمريكي، نعم، أعتقد أنه كان له دور أساسي في إنهاء الحرب، لأن الأمريكي كان يريد عملية قصيرة، وربما عملية شبه شكلية؛ فالرئيس الأمريكي ترامب شخص يسعى للحصول على أكبر المكاسب بأقل كلفة ممكنة، ومن ناحية، كان خائفًا جدًا من توسع الصراع، ومن إغلاق مضيق هرمز، ومن ارتفاع أسعار النفط العالمية. لذلك، مثل هذه الضربة تعني أساسًا أن القوات المسلحة الإيرانية وحرس الثورة كانا جاهزين للرد والذهاب إلى الحد الأقصى، حتى في مواجهة أقوى قوة في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
أما في حال قررت الجمهورية الإسلامية أن لا تردّ، فلا شك أن ذلك كان سيدفع الأمريكيين والإسرائيليين إلى التجرؤ أكثر على المشاركة في الضربات والاستمرار في الحرب، أو أن تدخل الولايات المتحدة الحرب بنحو أوسع بكثير، نظرًا لأنها ترى أنه لم يكن هناك رد أو أن الموقف الإيراني كان ضعيفًا. لكن المسارعة للرد في اليوم الثاني كانت حاسمة في إظهار جدية الجانب الإيراني ورفض التسامح مع أي ضربات، حتى وإن كان تأثيرها ضعيفًا على المنشآت النووية الإيرانية، فهذا يعني اعتداءً بدخول أمريكي مباشر في الحرب بطريقة غير مبررة تجاه منشآت نووية سلمية.
لذلك، نعم، كان لهذا تأثير كبير في التمسك بالموقف، والذي يشبه تمسّك الشعب الإيراني بقيادته وبدولته الآن. الأمريكي، كونه كان يبحث باستمرار عن شقوق في المجتمع الإيراني وفي الجمهورية الإسلامية للتسلل عبرها، لو تراجع [الإيراني] عن الرد أو حاول - لا سمح الله - إظهار ضعف في الموقف، أتصور أن رد الفعل الأمريكي كان سيكون معاكسًا، وكان سيكون تدخلًا أكبر بدلًا من إيقاف الحرب مباشرة.