بسم الله الرحمن الرحيم
قبل كل شيء أود أن أرحب بالأخوة و الأخوات الكرام الذين تجشموا عناء السفر من محافظة قم لينيروا محفلنا بأنوار الشهداء الذين قدمتهم مدينة قم المقدسة و يملؤوه بأريج عطرهم الفواح.
كما تعلمون! يصادف اليوم ذكرى التاسع عشر من دي ـ الحدث الذي شكّل أوّل انطلاقة لأحداث الثورة الإسلامية ـ كما يصادف اليوم ذكرى الحادثة الأليمة التي لا تكاد تغادر أذهاننا و هي حادثة المدرسة الفيضية التي وقعت في الخامس و العشرين من شهر شوال عام 1342.
إنّ هاتين الحادثتين تعكسان أهمية هذه المدينة و دورها في صياغة تأريخ البلد. لقد كان للجمهور القمّي ـ بحوزته العلمية و بعامة مجتمعه ـ بحمد الله تعالى حضور بالغ الأهميّة في بلورة أحداث هذا البلد، قبل الثورة و بعدها.
و نحن إذ نقف هنا نستذكر شهداءنا الأبرار الذين سطروا صفحات التضحية و الجهاد بأرواحهم و فكرهم و وعيهم، سائلين المولى عزّ اسمه أنْ لا يحرمنا توفيق أداء الشكر لهم، و أنْ يلهمنا السير على خطاهم و الاستمرار بأهدافهم.
إنّ طريق التاسع عشر من دي الذي بدأته الجماهير و الشباب في قم كان طريقاً وعراً محفوفاً بشتّى المخاطر، إلاّ أنّ الأهداف التي كانت من ورائه كانت أهدافاً سامية تتضمّن إرساء دعائم النظام الإسلامي الذي يرتكز على الشريعة الإلهية، و سيادة العدالة و التقوى. و هذا بالضبط ما كان ينشده كافة الأنبياء، عندما استهدفت حركتهم إيجاد مثل هذا الواقع الذي تسود فيه العدالة و التقوى.
لكن السؤال هو متى و كيف يتسنّى للعدالة و التقوى أن تسودان العالم و تعمّان الدنيا؟ لا شك إنّ ذلك لا يتحقق إلاّ بعد أن تستشري التقوى في نفوس كل من يمتلك زمام الأحداث في العالم ـ أي قادة الدول و زعمائها ـ لكن في غير هذه الصورة حينما تهيمن على البلاد أنظمة تفصلها عن التقوى آلاف الأميال ـ كما كان عليه الحال أيام النظام الطاغوتي ـ فإنّ مثل تلك البلاد لن تعرف معنى العدالة و لا معنى التقوى على الاطلاق.
بناءً على ذلك لا بدّ أنْ يكون الأساس صحيحاً. و مرادنا من كون الأساس صحيحاً، أن يكون النظام الحاكم مستنداً إلى أحكام الشريعة الإلهية و تكون عناصره و رجالاته على درجة كبيرة من التقوى. و هذا ما كان يطمح له شعبنا على الدوام، و هو اليوم كما كان. كما لا يخفى أنّ إصلاح أمر آخرتنا و دنيانا و تجاوز العقبات التي تقف في طريقنا لا يكون إلاّ من خلال التركيز على هذا الأمر.
أمّا من هي الأطراف المتضررة من هذا التغيير الإجتماعي الكبير؟ إنّ أوّل من يشعر بالضرر هم أولئك الذين اغتصبوا السلطة و هيمنوا على البلاد و حكموا الناس بالظلم و الجور و سرقوا قوتهم و استباحوا مصادر ثرواتهم المادية و المعنوية. إنّ هؤلاء هم أبرز أعداء النهضة، و هم الذين نعبّر عنهم في مفهومنا الثوري بالاستكبار العالمي.
و بما أن المصالح و العلاقات العالمية أصبحت اليوم أكثر تقارباً و بدأت الفواصل بين دول العالم بالانحسار، لم يجد الغاصبون مطامحهم تقف عن حدود مصادر الثروات العالمية بل أصبحوا يبتغون الاستحواذ على العالم بأسره.
إنكم تشاهدون اليوم ما يقوم به هؤلاء بغية الهيمنة على مقدرات العالم و الشعوب و الدول. و إذا ما وجدوا أن شعباً تصدّى لهذه السلطة الجهنمية الشيطانية و استطاع إقصاءها و عمد لإقامة الحق و العدل، فإنّ أوّل من سيعاديه هي هذه الأقطاب العالمية، و سوف لن تكف عنه إلاّ بعد أن تجهض كل مساعيه لإقامة الحق و درء الظلم و الجور. و هذا بالضبط ما حصل مع الثورة الإسلامية، فإنّ البعض منكم يتذكر جيداً كيف تحالفت القوى العالمية ضد الشعب الإيراني و سخرت كل إمكانياتها من أسلحة و مدافع و دبابات و هجمات إعلامية و أكاذيب و حيل و افتراءات لصده عن مبتغاه و تقويض نهضته التي بدأها حينذاك.
لقد كان هذا دأب الأعداء على الدوام، فإن تمكنوا من إجهاض النهضات الشعبية و جعل الجماهير تعزف عن مبتغاها، فقد حققوا ما يطمحون له و بذلك تستمر هيمنتهم على تلك البلاد، لكن إن أخفقوا في تحقيق مآربهم و تمكنت الجماهير من اجتثاث عناصر الظلم و الطاغوت و تطهير البلاد منها عندئذٍ سيتخذ العدوان أشكالاً أخرى مختلفة، و سيكون الهدف الأساسي هو الحؤول دون وصول الجماهير إلى غايتها ـ التي هي إرساء العدل و التقوى في البلاد ـ حينئذٍ سيلجأ العدو إلى التحريض و الفتنة و إيقاد نار الحروب، و هذا ما لاحظناه بوضوح في السنوات الثلاث و العشرين الماضية، فقد فرضوا الحرب و أمطروا البلد بالصواريخ، و شنوا الهجمات الاعلامية المضادة، و فرضوا الحصار الاقتصادي، و شوهوا سمعة الثورة على الصعيد العالمي بأسره، كل ذلك من أجل غاية واحدة، هي منع النظام الإسلامي من تحقيق أهدافه و مبادئه بواسطة الجماهير ـ التي تمثل السند الأقوى و الداعم الأبرز لهذا النظام ـ من هنا كان عليهم أن ينهكوا الشعب أولاً، ثم المسؤولين و المتصدّين ثانياً، فإذا هيمن اليأس تسنّت عودة السلطة الغاصبة التي تمّ طردها سابقاً، لتعود إلى ممارسة أساليبها الجهنمية السابقة، و يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل التغيير الذي قام به الشعب.
و قد نجحت خططهم في العديد من بلدان العالم. فقد كان القرن العشرون، قرن الثورات و التحولات الاجتماعية و السياسية الكبيرة. فالعديد من نقاط العالم ـ كآسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية ـ شهدت تحولاً اجتماعياً جذرياً، لكن الاستكبار و القوى العالمية الغاصبة، تمكنت من إعادة الوضع إلى ما كان عليه عبر ممارسة الضغوط المختلفة. لكن الأمر بدى مختلفاً في إيران، إذ لم تتمكن تلك القوى من فعل شيء في هذا البلد، و السبب في ذلك يعود إلى وجود عناصر حالت دون نجاح العدو. أول هذه العناصر، الإيمان العميق الذي كان يهيمن على قلوب أبناء هذا البلد. ثمّ إلى جانب هذا الإيمان كانت هناك القيادة الصلبة الحكيمة الواعية للإمام الراحل، فكان رحمه الله يقف كالجبل الأشم في مقابل هجمات الأعداء، كما كان لحضوره بين الجماهير دور حاسم في إشعارها بالاستقرار و الطمأنينة. و قد تعرّض البلد إبان عهد الإمام الراحل لأشد الضربات لكنّ الشعب لم يُهزَم.
أمّا العنصر الآخر الذي حال دون نجاح العدو فهو الأسس المتينة و البنى القويّة للنظام الإسلامي ـ المتمثلة بالدستور ـ فقد حرص المشرّع على بلورة دستور يوفق بين الإرادة و الأصوات و المطالب الشعبية من جهة و الرؤية الإسلامية من جهة أخرى، و الحفاظ على ذلك في كل مفصل من مفاصل النظام.
فالنظام الإسلامي الرصين المتكئ على الشعب صوتاً و برلماناً و حكومةً، كان بمثابة السد الحصين أمام كل هجمة أو مخطط أراد العدو تمريره. طبعاً لا يخفى أن العدو لم يترك يوماً ممارساته العدوانية و لن يتركها أبداً. فكل المبادئ التي ساهمت في صمود هذه الثورة و بقائها كانت و لا تزال هدفاً لمخططات العدو. فإيمان الناس و تمسكهم بالنظام، أحد أبرز العناصر التي استهدفها العدو الطامع بالعودة إلى البلد و بسط نفوذه و زرع عملائه و إفشاء الظلم و الفساد في كل أرجاء البلد.
إنّ هؤلاء لم يغفلوا عن الثورة الإسلامية و لو للحظة واحدة، لكنّهم كلّما حاولوا اصطدموا بعناصر القوّة و المنعة و الصمود التي يتمتّع بها البلد و ارتدوا على أعقابهم خاسئين دون أن يحققوا هدفاً أو مطمحاً.
على شعبنا أن يعي ثمن هذه الجوهرة الثمينة ـ أي الإيمان ـ و يحرص عليها كلّ الحرص، لا بدّ له من صيانة هذه المبادئ و هذه الأسس الرصينة و الحفاظ عليها، ليكون قادراً على التصدي لشتى مؤامرات العدو و مخططاته.
إنّ لشعبنا دوراً حاسماً في تحديد مصير البلد، كما أنّ لمسؤولينا الدور ذاته. و أؤكد لكم بأنّ لكل واحد من أفراد الشعب دوراً حاسماً و خطيراً، فكل نظام و كل بلد يضم جماهير واعية، مؤمنة، دائمة الحضور و المشاركة في القرار، و مستعدة دوماً للذود و الدفاع عن مصالحها، لن يكون من السهل السيطرة عليه أو تهديده بأي قوّة، لا القوة النوَوية بإمكانها ذلك و لا القوة الصاروخية و لا سواها من سائر القوى العسكرية. من هنا تتضح أهميّة دور الشعوب في تحديد مصير البلاد.
كما أنّ على المسؤولين و أركان النظام أن يكونوا قادرين على مواكبة الشعب في حركته و تطلعاته، ليس هذا فقط و إنّما عليهم أنْ يتقدّموا على الجماهير و يمسكوا بزمام المبادرة.
إن هناك ثلاث خصال لا بدّ أن يتحلّى بها كافة مسؤولي النظام و أركانه، و إذا ما توفّرت هذه الخصال سوف لن يكون بمقدور أي قوّة مهما بلغ حجمها، مواجهة الشعب. و هذه الخصال هي التقوى و الشجاعة و الوعي. إنّ على كافة المسؤولين أن يتحلّوا بهذه الخصال، و لا فرق في ذلك بين أن يكون المسؤول مديراً عامّاً في أحد الأجهزة الحكومية، أو قاضياً، أو عضواً في مجلس النواب، أو في مجلس صيانة الدستور، أو في مجلس خبراء القيادة، أو في القوات المسلحة، على الجميع أنْ يتحلّى بهذه الخصال ليبقى البلد مصاناً من الأخطار الحافة به.
إنّ غياب التقوى يؤدّي إلى فساد الأعمال و المنجزات. لكن وجودها يصحّح كل عزيمة و كل إرادة و كل كلام ينطق به المرء، بحيث يكون خالصاً لوجه الله تبارك و تعالى و مستهدفاً للصالح العام، و في هذه الحالة يصبح المرء على الصراط المستقيم. لكن عندما تغيب التقوى يحل محلّها الغضب و الحسد و الضغينة و بالتالي فإنّ كل كلام أو سلوك أو حُكم أو أمر أو نهي سيكون إفرازاً عن تلك الخصال و مشوباً بها.
و لا يخفى أنّ وجود التقوى وحدها دون الشجاعة لن يكون كافياً. فلطالما كان هناك من يتحلّى بالتقوى لكنّ افتقاده للشجاعة حال دون قدرته على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، و حال دون قدرته على الكلام المناسب في الوقت المناسب و في المكان المناسب. و هنا نشير إلى أنّ الإمام الراحل عندما بدأ نهضته كان هناك عنصر مهم و حاسم في نجاح تلك النهضة و هو الشجاعة التي كان رحمه الله يتحلّى بها، و إلاّ فهناك العديد من الشخصيات المتسمة بالإيمان و التقوى لم تكن قادرة على التغيير، و ذلك لغياب عنصر الشجاعة لديها، و كما هو معلوم فغياب الشجاعة يجعل المرء عرضةً للخوف و الرهبة، و من هذه النقطة تحديداً ينفذ العدو.
فعندما يجد العدو مسؤولاً ما، أيّاً كان منصبه ـ في المجلس أو الحكومة أو القوة القضائية أو مجمع تشخيص مصلحة النظام، أو مجلس صيانة الدستور أو غير ذلك من المرافق الحيوية ـ يفتقد للشجاعة سيحاول التأثير عليه و إخافته. إنّ كل هذا التهديد و الوعيد الذي يطلق من هنا و من هناك و عبر وسائل الاعلام، الغاية منه ترهيب القادة و إخافتهم. فالعديد من الشعوب أصيبت بالبؤس و الحرمان بسبب فقدان الشجاعة لدى قياداتها. و الملفت أنّك تجد الجماهير قويّة متماسكة تتحلّى بالشجاعة و على أهبة الاستعداد للمشاركة و الحضور لكنّ القيادة، التي عليها التقدّم و الإمساك بزمام المبادرة، لا تتحلّى بالشجاعة الكافية.
فلو رصدتم تاريخ البلدان لوجدتم أنّ كل بلد افتقر إلى قادة أو مسؤولين أو كوادر تتحلّى بالشجاعة فإنّ المعاناة كانت قرينة الشعب في ذلك البلد. و في حال كان الجميع مفتقراً للشجاعة فإنّ الشعب سيغرق في البؤس و الحرمان. إنّ كثيراً من التحليلات و التقارير الخبرية التي تمارسها القنوات الأجنبية تستهدف في الغالب إرعاب النخب و الكوادر في البلدان المستهدفة، و ذلك من أجل خلق أجواء يسود فيها الشعور بالضعف و القصور و الانحطاط. شعور يسيطر على ذهن المسؤول و عقله فيجعله غافلاً عمّا يمتلكه من رصيد شعبي، و طاقات علمية و ثقافية و حضارية و أهمية جغرافية، و منشدّاً إلى ما لدى العدو من قدرات و إمكانيات فكرية و عسكرية و غيرها. إنّ هذه الظاهرة تعتبر من أخطر الظواهر التي قد تستشري في بلد ما.
الخصلة الثالثة، هي الوعي، فعلى المسؤولين أن يكونوا واعين للمرحلة مدركين لما يدور حولهم. و إلاّ فما الفائدة في أن يكون المسؤولون أو أركان النظام أو ممثلو الشعب أو المؤثرون في الجهاز القضائي أو غيره من أجهزة الدولة، على درجة من التقوى و الإلتزام و الشجاعة أيضاً، لكنهم غافلين عن مخططات العدو و تحرّكاته و كمائنه و المنافذ التي قد يهاجم منها. إنّ الشباب الذين شهدوا جبهات القتال إبان الحرب المفروضة يدركون جيداً ماذا أقصد من كلامي، فالمقاتل عندما كان يسمع صوت القذيفة، و يكون بإمكانه تحديد مصدرها و ما إذا كانت من جهة العدو أو من الجهة الصديقة فإنّه سيتمكّن من اتخاذ الموقف المناسب، لكن إنْ لم يستطع تحديد مصدر القذيفة فسيبقى تائهاً دون معرفة ما عليه فعله. لذلك عندما تواصل مدفعية العدو قصفها دون أنْ تكونوا قادرين على معرفة أنّها نيران العدو فمن الطبيعي أنّ موقفكم لن يكون موقفاً صائباً. و في المقابل إنْ كانت هناك نيران صديقة و كنتم غير قادرين على تمييزها أيضاً فتتسائلون عن سبب هذه النيران و تعترضون!
إنّ إبرز ما يحتاجه المسؤولون اليوم هو الوعي، فعليهم أن يعوا المواضع التي يستهدفها العدو و التي يسدد منها ضرباته.
قبل سنوات، تحدثت عن الهجمة الثقافية و قلت إن العدو يستهدفنا من خلال المنافذ الثقافية، غير إنّ البعض لم يع كلامي آنذاك، و استغرب هذا الطرح و قال ـ سراً أو في العلن ـ : عن أي هجمة يتحدث فلان؟!
لكن اليوم و بعد مرور سنوات عديدة، بدأ بعض السذج يدركون شيئاً فشيئاً ما معنى الهجمة الثقافية! و بدأت المخاوف تسري إليهم من الهجمة التي بدأت تطال إيمان الشباب و عقيدتهم! فهو يشاهد بأمّ عينيه كيف يحاول العدو التدخّل و التأثير في كل ما له صلة بالشباب، و كيف يقوم بتغيير عقيدتهم إزاء الدين و الإمام الخميني، و تجريدهم من هويتهم، حتى أصبح البعض يشكك في طموح الشعب و تطلّعه لنيل الاستقلال! و هذا هو بالضبط ما يهدف إليه العدو، و هذا هو المقصود بالهجمة الثقافية.
إنّ مسؤولي البلد بحاجة ماسة إلى مثل هذا الوعي، ليكونوا قادرين على تشخيص المنافذ التي يدخل منها العدو و يسدد ضربته. فإذا أدركوا ذلك أصبحوا يقظين. عندئذٍ ستؤتي الشجاعة و التقوى و الورع ثمارها و تنعكس آثارها على الشعب.
إنّ من أبرز القضايا التي تطفو على السطح اليوم، قضية مكافحة الفساد. و على المسؤولين أن يدركوا ذلك جيداً. و المراد من الفساد، أن يقوم البعض مستعيناً بشتى الحيل و مستفيداً من الثغرات القانونية و الكلام المهذب المعسول و التظاهر بالصدق و الأمانة، أن يقوم بالإنقضاض على ممتلكات بيت المال و النهب منها بجشع. و لا يخفى أنّ التبعات و الأضرار التي ستنجم عن ذلك كثيرة و طائلة، من جملتها: أنّ الأموال التي كان من المفروض أن تُنفق على الشعب ـ على تشييد و إعمار البنى التحتية من طرق و جسور و سدود و موارد مائية و تطوير القرى و الأحياء و الترفيه عن الشعب ـ ستذهب إلى ريع شخص واحد أو مجموعة محددة من الأشخاص.
فعندما تشاهدون أحدهم قد استحوذ من بيت المال على عشرات المليارات في غضون مدّة قصيرة لا تتجاوز الثلاث أو أربع سنوات، فماذا يعني لكم ذلك؟ معنى ذلك أنّ الأموال التي كان من المفروض أن تذهب إلى بناء و تشييد و إعمار آلاف القرى و الأحياء الفقيرة و إنعاش أهلها و إنقاذهم من حياة البؤس و الحرمان، قد استحوذ عليها شخص واحد باستخدام الحيلة و المكر و الخديعة، و استغفال بعض الناس. إنّ أوّل الأضرار إذن، هي تجفيف بيت المال و ذهاب الأموال إلى جيب شخص طمّاع حريص أناني جشع.
الضرر الآخر يتمثل في تكريس نموذج سيء، فعندما يجد المستثمر الذي ينوي القيام بنشاط إقتصادي ما ـ صناعي أو زراعي أو غيره ـ عندما يجد أنّ هناك طرقاً غير مشروعة تدرّ أرباحاً طائلة في فترات وجيزة، سيكون ذلك بالنسبة له حافزاً للتوجّه نحوها. هناك من يقول أنّ مكافحة الفساد تقضي على الاستثمار لكنّي أجد أنّ القضية معكوسة، فعدم مكافحة الفساد الاقتصادي تزيد من احتمال توجّه المستثمرين نحو الطرق اللامشروعة في تراكم الثروة، لأنّهم يجدونها أسهل بكثير من الولوج في معمعة الاستثمار و الانتاج المشروع.
إنّ الشخص الفاسد يجرّ معه الآخرين نحو الفساد، و يشجعهم على ذلك.
إذن يتضح أنّ الضرر الثاني الناجم عن الفساد المالي يتمثل في القضاء على النشاط الاقتصادي للبلد.
الضرر الثالث هو أنّ الشخص الفاسد عندما يريد الاستحواذ على ممتلكات بيت المال سوف لن يجد الأمر سائغاً و إنّما سيتم منعه بطبيعة الحال، لذلك سيكون مجبراً على دفع الرشوة إلى المدراء و المسؤولين و إلى كل من يقف في طريقه. و لا يخفى أن الجميع غير قادر على الصمود أمام الرشى. فهناك من يصمد و هناك من لا يقاوم أمام المال، سواء عن عمد أو عن غير قصد. لكن على العموم فالفاسد عندما يريد تحقيق غايته عليه أن يؤسس لبيئة فاسدة من خلال رشوة الكثيرين، فهو يفسد المدراء و العناصر الأمنية و موظفي البنوك و موظفي هذه الوزارة و تلك الوزارة.
الضرر الرابع ينجم عندما يستشري المال الحرام بين عامة الناس و خاصتهم، و لا يخفى أنّ استشراء المال الحرام يؤدّي إلى انتشار المعصية؛ «أمرنا مترفيها ففسقوا فيها(1)»، و بالتالي فالولوج إلى الفساد المالي بمثابة المقدّمة للولوج إلى الفساد الأخلاقي و الجنسي و الشهواني و سائر أنماط الفساد الأخرى.
الضرر الخامس، يتضح إذا ما علمنا أنّ الجهاز الإداري و كذلك القاعدة الشعبية عندما تفسد فإنّها تتحوّل إلى موضع من مواضع العدو الخارجي. فالأخير يجد في العناصر الفاسدة الأدوات المثلى التي تحقق له غايته السياسية في بلد من البلدان.
لذلك كانت مكافحة الفساد بمثابة الجهاد الشامل. و رجائي من مسؤولي البلد أن لا يلوثوا هذا الجهاد بالمصالح السياسية الرخيصة. و لو تحلّى المسؤول بالوعي الكافي، لعلم أنّ مكافحة الفساد في الوقت الحاضر هي أمر واجب و حيوي و هي الجهاد بعينه. أمّا الجهل بالواقع أو الخطر المحدق، فمعناه الابتلاء بالغفلة التي تعد أمراً خطيراً للغاية.
إنّني على يقين بأنّ شعبنا اليوم يتمتع بالوعي، لكن بعض النخب لا تمتلك مثل هذا الوعي! لذلك كان الوعي من أبرز المتطلّبات التي يحتاجها المسؤولون و النخب السياسية و الكوادر التي تدير دفة الأمور في البلد في السلطات الثلاث و سائر مفاصل الدولة الأخرى. عليهم أن يكونوا قادرين على التمييز بين مواضعهم و مواضع العدو، و أنْ يدركوا أهدافه و غايته و سبل مواجهته. و لا يخفى أنّ شعبنا لازال يقف بكل شجاعة و صمود و يمتلك العزيمة و الإصرار على مواصلة المسير. لكن الملفت أنّه بالرغم من عدم تحقق الكثير من مطالبه بسبب الحملات العدوانية الجائرة إلاّ أن شعبنا لم يتزعزع و إنّما بقي متمتعاً بالمنعة و الصمود، فما سبب ذلك؟ إنّ سبب ذلك هو أنّ الشعب يعلم جيداً بأنّ مواصلة هذا المسير ـ أي إسناد النظام الإسلامي ـ سيضمن له سعادة الدنيا و الآخرة. و هذا الأمر قد وعاه الشعب و أدركه جيداً، غير إنّ العدو لا يريد لذلك أن يتحقق. إنّ هدف المخططات الاستكبارية اليوم و على رأسها الشيطان الأكبر أمريكا هو منع النظام الإسلامي ـ المستند إلى إرادة الشعب و اختياره ـ من تحقيق أهدافه.
فمن ناحية يقفون بوجه نجاح النظام الإسلامي و من ناحية أخرى يوحون إلى الشعب بأنّ منشأ كلّ المشاكل و الأزمات التي تتعرضون لها هو عزوفكم عن توطيد العلاقة بالولايات المتحدة، و لو نجحتم بإعادة العلاقات فإنّ مشاكلكم ستجد سبيلها للحل! إنّهم بهذه الإيحاءات يريدون التمهيد للعودة إلى بسط نفوذهم و هيمنتهم على البلد.
لكن بحمد الله فإنّ كبار المسؤولين و القادة في بلدنا على درجة كبيرة من الوعي و الإدراك للحظة الراهنة، كما أنّ الشعب لا زال يتمتع بصموده المعهود، إذ ها هو يقف داعماً للنظام كالجبل الأشم. كما لا يخفى أنّ ارتكاز المسيرة على هذا النمط من الإيمان الشعبي و العزم و الإرادة التي لدى المسؤولين، سينتهي بها إلى النهوض بالبلد و تشييده و إعماره، و لن تتمكن الولايات المتحدة و من لف لفها من استعادة نفوذها و بسط هيمنتها على مقدّرات البلد ـ و هو الحلم الذي طالما راودها ـ
و نحن إذ نمضي ضمن هذه المسيرة نعقد أملنا و اعتمادنا أولاً و قبل كل شيء على الله سبحانه و تعالى الذي نرجو منه العون و التوفيق، الذي لو لا فضله و رحمته ما أمكن التقدّم خطوة واحدة إلى الأمام.
فنحن نتوسّل إلى الله و نتوجّه إليه و نرجو أن يشملنا برحمته و جوده، و أنْ يمنّ علينا بدعاء المولى بقية الله في أرضه أرواحنا فداه.
و بالدرجة الثانية فإنّ اعتمادنا على إيمان الشعب ـ الذي هو أيضاً من لطف الله و رحمته ـ و نخص بالذكر الإيمان و العزيمة التي يتمتع بها شبابنا الأعزاء في كافة أرجاء البلد، فنحن نحمد الله على ما حبانا به من جيل شاب مؤمن غيور واع على أهبة الحضور و المشاركة في كل الأحوال و الأوقات.
كما أود الإشارة إلى أنّ شعبنا المؤمن يتطلّع نحو قادته و مسؤوليه و ينتظر منهم تحقيق مطاليبه. و أنا أعد الشعب بأنّ مسؤولي البلد و بضمنهم العبد الفقير الذي يقف بين أيديكم ـ خادمكم الصغير ـ سوف لن نتراجع قيد أنملة عن هذه المسيرة الخالدة المجيدة.
أسأل الله سبحانه و تعالى أن يتقبّل بجوده و منّه مساعي و جهود الذين كرّسوا أنفسهم للخدمة في هذا السبيل، و أنْ يفض على هذا الشعب من بركاته و ينزل عليهم من رحمته و يوفقنا يوماً بعد يوم لتحقيق مزيد من الأهداف الإسلامية.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1) سورة الإسراء، الآية 16