بسم الله الرحمن الرحيم
أقيمت هذه الليلة و الحمد لله جلسة جيدة جداً، و قد استفدت حقاً سواء من الكلمات و الآراء التي طرحت، و أكثر من ذلك من مشاهدة الإمكانية العالية المتوفرة لدى هذه الجماعة من المفكرين و المثقفين الإيرانيين لطرح القضايا و تمديد و مواصلة أجزاء قضية معقدة و مركبة. هذا ما شاهدته الليلة على العموم، و أتقدم بالشكر الجزيل لكم أيها الحضور المحترمون الذين تفضلتم بالمجئ و قضيتم وقتاً طويلاً في هذه الجلسة، و للعاملين على إعداد هذه الجلسة السيد واعظ زاده و باقي الزملاء الذين سعوا و عملوا و نظموا هذه الجلسة. و لأن الوقت قد مضى فسوف لن أطيل في الكلام، و سوف اختصر... (1)، و سيبقى وقت للكلام التفصيلي إن شاء الله.
هذا هو الاجتماع الأول من نوعه في الجمهورية الإسلامية. كانت لنا اجتماعات كثيرة سواء اللقاءات التي كانت لي مع المجاميع المختلفة أو التي أنا على اطلاع بأنها أقيمت. لذلك أقول إننا لم يكن لنا هذا النوع من الاجتماعات. مرادنا من أقامة هذا الاجتماع - أو بكلمة أدق: سلسلة الاجتماعات التي ستستمر في المستقبل أيضاً إن شاء الله - هو بالدرجة الأولى أن يندك مفكرو البلاد بقضايا البلاد الكبرى. لبلادنا قضايا أساسية كبرى. ثمة أعمال كبرى يجب أن تنجز. و ثمة الكثير من القدرات و الإمكانيات يمكن أن تستخدم لصالح هذه الحركة العظيمة. و لن يتحقق هذا المراد إلا إذا ارتبط الزبدة و النخبة و المفكرون بهذه القضايا الكبرى و انهمكوا فيها. هذا ما يجب أن يحصل و سوف يحصل إن شاء الله. قضية تدوين النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم من هذه القضايا الكبرى، و هي قضية تنطوي في داخلها على العشرات من القضايا و سوف أشير إلى ذلك فيما بعد. سوف تستمر هذه السلسلة من الاجتماعات بخصوص هذه القضية، و ثمة‌ إلى جانبها قضايا كبيرة أخرى يجب أن تطرح.
الهدف الثاني الذي نتوخاه من هذه الجلسة هو إيجاد ثقافة و خطاب بين النخبة‌ أولاً، و بين عموم المجتمع تبعاً لذلك. هذه الآراء التي طرحتموها الليلة حينما تنتشر على مستوى المجتمع سوف تسوق أذهان النخبة و من ثم أذهان عموم الناس إلى اتجاه معين أساسي: التفكير في نموذج للتنمية و نموذج للحركة نحو الأمام، و الشعور بأننا يجب أن نكون مستقلين في هذا المجال و نقف على أرجلنا حالة سوف تكشف أكثر فأكثر عن معايب التبعية و الاعتماد على النماذج الأجنبية. هذا ما نحتاج إليه راهناً. للأسف مجتمع نخبتنا لم يصل إلى نتائج صحيحة في أجزاء مهمة‌ من هذه القضية، و هذا ما يجب أن يحصل و سيحصل بحول الله و قوته.
و هدفنا الثالث هو إننا نحتاج بالتالي إلى تمهيد السبل و مدّ السكك لإدارة البلاد على مدى عشرات الأعوام القادمة. هذه الجلسة و الجلسات الشبيهة بها سوف تفضي إلى مثل هذا التمهيد للسبل و مدّ السكك. هذه هي أهدافنا من إقامة هذه الجلسة و الجلسات القادمة إن شاء الله.
إذن، العملية‌ لا تتعلق بالأشخاص و المسؤولين، و هي لا تتعلق بي، إنما هي عملية‌ تتعلق بالجميع. كلنا مسؤولون بخصوص هذه العملية التي يتم إنجازها.. كل منا بقدر استطاعته و إمكانياته و سعته و مدى قدرته. كلنا مسؤولون في هذا المجال و يجب أن نتابع المسألة إن شاء الله.. هذه نقطة.
النقطة التالية هي أن حصيلة هذه العملية ليست سريعة‌ التحقق. لقد دخلنا في هذه القضية و نحن متفطنون إلى هذه النقطة. طبعاً طرح بعض السادة اقتراحات و مشاريع لنتائج سريعة، و لا إشكال في ذلك، لكن الشيء الذي نتغيّاه لن يحصل إلا على المدى البعيد، و في أحسن الظنون على المدى المتوسط. إنها عملية طويلة الأمد. إذا استطعنا بحول الله و قوته التوصل في إطار عملية معقولة إلى نموذج إسلامي - إيراني للتقدم فسوف يكون ذلك وثيقة عليا على كل الوثائق الخاصة بالبرامج في البلاد و المتعلقة بأفق البلاد و سياساتها. أي حتى وثائق الأفق المرسومة لعشرين سنة و عشر سنوات يجب أن تدوّن على أساس هذا النموذج. السياسات التي سترسم - سياسات البلاد العامة - يجب أن تتبع هذا النموذج و تندرج ضمن هذا النموذج. طبعاً ليس هذا النموذج نموذجاً غير مرن. ما سوف يحصل ليس بالكلمة‌ الأخيرة. لا شك أن ظروف الزمان المتجددة ستوجب بعض التغييرات، و لا بد من اجتراح هذه التغييرات. إذن النموذج نموذج مرن، أي إن فيه قابلية‌ للمرونة و التغيير. و الأهداف مشخصة و معلومة: الاستراتيجيات قد تتغير و تعدل بحسب الظروف. و عليه فإننا لن نتسرع في هذه القضية على الإطلاق. طبعاً لا بد من وجود السرعة‌ المعقولة لكننا لن نصاب بداء‌ التسرع و سوف نتقدم إن شاء الله بحركة صحيحة‌ و متينة إن شاء‌ الله.
حسناً، قدم الأعزاء نقاشات جيدة بخصوص مفردات هذه الجملة: «النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم». تم تقديم آراء جيدة حول معنى هذا النموذج، و ما هو المراد من الإيراني و ما هو المقصود من الإسلامي، و التقدم في أي اتجاهات. ما أريد أن أضيفه هو أولاً: كلمة التقدم اخترناها بدقة و تعمدنا عدم استخدام كلمة التنمية. و السبب هو أن كلمة‌ التنمية لها محتوى من حيث القيمة و المعنى و لها لوازمها التي قد لا نكون من المواكبين أو المتماشين أو الموافقين لها. لا نريد استخدام مصطلح عالمي دارج يفهم منه معنى خاص و إشراكه في مهمتنا و عملنا. إنما نطرح و نعرض مفهومنا الذي نقصده، و هذا المفهوم عبارة عن «التقدم». نعرف المعنى الفارسي المعادل لكلمة‌ تقدم و نعلم ما هو المراد من التقدم و سوف نعرف ما هو قصدنا من هذا التقدم ذي المعنى الواضح في الفارسية. التقدم في أي مجالات و في أية اتجاهات. و قد كانت لنا تجربة‌ عدم استعارة المفاهيم في مواطن أخرى من الثورة. لم نستخدم مثلاً كلمة إمبريالية و استخدمنا كلمة استكبار. قد تكون هناك بعض الجوانب في معنى الإمبريالية لا نوافقها و لا نقصدها، و تأكيدنا ليس على تلك الجوانب و إنما على المعنى المستحصل من كلمة‌ الاستكبار. لذلك طرحنا هذه الكلمة و تكرست في الثورة و العالم اليوم يفهم قصدنا منها، و كذا الحال بالنسبة‌ لمفاهيم أخرى.
مفهوم التقدم مفهوم واضح بالنسبة لنا. إننا نستخدم كلمة‌ التقدم و نعرفها و نقول ما هو مرادنا من التقدم. و بخصوص إيرانية‌ النموذج، فضلاً عمّا قاله الأصدقاء حيث هناك تأثير للظروف التاريخية و الجغرافية و الثقافية و الإقليمية و الجيوسياسية في تكوين هذا النموذج - و هذا شيء صائب في محله بلا شك - تطرح أيضاً قضية‌ أن مصمّميه هم المفكرون الإيرانيون، و هذا وجه مناسب جداً لعنوان «الإيراني»، بمعنى أننا لا نروم أخذ هذا النموذج من الآخرين، إنما نتوخى تكوين ما نراه لازما لنا، و ما نجد فيه مصلحة لبلادنا، و ما نرسم على‌ أساسه صورة مستقبلنا. إذن، هذا النموذج إيراني، و من ناحية‌ أخرى فهو نموذج إسلامي، ذلك أن غاياته و أهدافه و قيمه و أساليب العمل فيه مستقاة كلها من الإسلام. أي إن اعتمادنا قائم على المفاهيم و المعارف الإسلامية. نحن مجتمع إسلامي و حكومة‌ إسلامية، و فخرنا هو في أن نستطيع الاستفادة من المصادر الإسلامية، و لحسن الحظ فإن المصادر الإسلامية‌ متوفرة بين أيدينا، فهناك القرآن و هناك السنة و هناك المفاهيم الثرة و الممتازة جداً الموجودة في فلسفتنا و كلامنا و فقهنا و حقوقنا. و على ذلك فإن صفة «الإسلامي» هذه تأتي من هذا الباب و لهذه المناسبة. و إذن، فـ «الإسلامي» هو لهذه المناسبة. و النموذج هو الخارطة الشاملة. حينما نقول النموذج الإيراني - الإسلامي فمعنى هذا الخارطة الشاملة. من دون الخارطة‌ الشاملة سوف نصاب بالحيرة و الاضطراب، و قد كنا طوال هذه الأعوام الثلاثين نعاني من تحركات غير هادفة و ارتدادية فنذهب ذات اليمين و ذات الشمال و ربما قمنا أحياناً بشيء ثم قمنا بنقيضه - سواء في مجال الثقافة أو في مجال الاقتصاد أو في المجالات المتنوعة الأخرى - و السبب في ذلك عدم وجود خارطة‌ شاملة. و هذا النموذج هو الخارطة الشاملة التي تقول لنا إلى أي اتجاه يجب أن نسير و ما الهدف الذي يجب أن نتجه نحوه. و بالطبع كما قال الأعزاء ينبغي رسم صورة الوضع المنشود، كما يجب إيضاح كيف ينبغي الوصول من الوضع القائم إلى ذلك الوضع المنشود. و سوف تطرح الكثير من الأسئلة يقيناً، و لا بد من معرفة هذه الأسئلة، و قد قال أحد السادة هنا ثمة أربعة آلاف سؤال، و هذا جيد جداً. يجب معرفة‌ هذه الأسئلة و العلم بها، و لا بد من تكوين مثل هذه الحركة بين نخبنا، و طرح الأسئلة و الإجابة عنها و هي حركة‌ و عملية طويلة الأمد.
طبعاً حين نقول الإيراني أو الإسلامي لا نقصد عدم الاستفادة مطلقاً من مكتسبات الآخرين، لا، لا نضع لأنفسنا أية‌ قيود لاكتساب العلم. أينما كان العلم و المعرفة الصحيحة و التجارب الصحيحة فسوف نتوجه نحوها، و لكننا لن نأخذ الأشياء بأعين مغلقة عمياء. سوف نستفيد من كل ما موجود في عالم المعرفة و يمكن الاستفادة منه.
ثمة أسئلة‌ تطرح و قد طرحت بعض الأسئلة هنا و أجيب عنها. و لا أكررها، و طرحت آراء جيدة و لا حاجة إطلاقاً لأن أكررها. طبعاً كنت قد اطلعت سابقاً على مجموعة الأعمال التي أنجزت و استمعت لها الآن ثانية بدقة، و قد طرحت هنا آراء جيدة جداً. البعض يسأل ما هي مناسبة هذا المقطع الزمني.. بعد أن يوافقوا ضرورة المشروع و أصله يسألون لماذا لم يجر هذا الأمر في السابق؟ أو ما هي الضرورة للقيام بهذا العمل في الوقت الحاضر؟ الواقع أنه لم يقع فاصل زمني كبير. ليست فترة‌ ثلاثين عاماً بالمدة الطويلة لهذه العملية المراد منها تدوين مثل هذا النموذج. التجارب تتراكم و المعارف تتظافر و الأوضاع و الأحوال السياسية تفرض مقتضياتها ثم نصل إلى محطات كانت مجهولة و تصبح معلومة إن شاء الله. أعتقد أن إمكانية البلد في هذه المرحلة إمكانية مناسبة. قيل طبعاً إننا لا نمتلك القدرات الفكرية لتدوين مثل هذا النموذج، و هذا ما لا يمكن قبوله، إذ أن إمكانيات البلاد إمكانيات كبيرة. و في حدود علمي فإن الإمكانيات التي أنتقلت من حالة الكمون إلى الفعل و الظهور إمكانيات يمكن أن نصفها بأنها جيدة جداً، سواء على مستوى الجامعات أو على مستوى الحوزة العلمية في قم أو بعض الحوزات الأخرى. أضف إلى ذلك وجود مواهب و إمكانيات يمكن تفعيلها و عرضها عن طريق المطالبة. إذا لم نبدأ هذا المشروع اليوم و لم نتابعه فسوف نتأخر بلا شك و سوف نخسر، لذلك يجب أن تتقدم هذه الحركة التي تم تصميمها و التخطيط لها بهذا النحو.
ما أضيفه هنا هو أن مجالات هذا التقدم يجب أن يتم تشخيصها عموماً. هناك أربعة مجالات أساسية، منها المجال الحياتي الذي يشمل العدالة و الأمن و الحكومة و الرفاه و ما إلى ذلك. و المجال الأهم هو المجال الفكري. يجب أن نأخذ المجتمع نحو أن يكون مجتمعاً مفكراً و هذا درس من دروس القرآن. لاحظوا كم ترد في القرآن الكريم عبارات «لقوم يتفكرون» و «لقوم يعقلون» و «أفلا يعقلون» و «أفلا يتدبرون». علينا جعل تفجر الأفكار و التفكير في مجتمعنا حقيقة واضحة جلية. و هذا ما يبدأ طبعاً من جماعة النخبة ثم ينحدر نحو عموم الناس. و لهذا بطبيعة الحال استراتيجياته و لوازمه و أدواته و شروطه التربوية و التعليمية التي ينبغي أخذها جميعاً بنظر الاعتبار في عمليات التخطيط و البرمجة.
المجال الثاني الذي تعدّ أهميته أقل من أهمية‌ المجال الأول هو مجال العلم. يجب أن نتقدم في العلوم. و طبعاً العلم نفسه ثمرة التفكير. في هذه المرحلة الحالية و الحركة باتجاه التطور و التقدم الفكري يجب أن لا يكون هناك أي تقصير أو تقاعس أو تكاسل. لحسن الحظ فقد بدأت هذه الحركة في البلاد منذ عدة سنوات، و بدأ العمل باتجاه الإبداع العلمي و الاستقلال العلمي. العلم من طبيعته أن يفصح عن نفسه مباشرة على شكل تقنيات. و في حالات كثيرة فإن حصيلة الحركة العلمية ليست طويلة الأمد كهذه المسألة التي نناقشها الآن، إنما هي أقرب زمنياً و ثمارها أدنى. يجب القيام بالأعمال و المشاريع العلمية بنحو عميق و أساسي. هذا أيضاً مجال من مجالات التقدم.
المجال الثالث مجال الحياة الذي سبق أن أشرت إليه، و تندرج فيه جميع الأشياء المطروحة في حياة المجتمع كقضايا أساسية و خطوط أساسية من قبيل الأمن و العدالة و الرفاه و الاستقلال و العزة الوطنية و الحرية و التعاون و الدولة.. هذه كلها أرضيات للتقدم يجب متابعتها و الخوض فيها.
و المجال الرابع - و هو الأهم من كل هذه الأمور و يعدّ بمثابة الروح لكل هذه الأمور - هو التقدم في المجال المعنوي. يجب أن ننظم هذا النموذج بحيث تكون نتيجته تقدم مجتمعنا الإيراني نحو مزيد من المعنوية. و هذا طبعاً أمر واضح بالنسبة لنا في موضعه. و قد يكون واضحاً بالنسبة لكثير من الحضور المحترمين، و لكن يجب أن يتضح للجميع أن المعنوية‌ لا تتعارض إطلاقاً لا مع العلم و لا مع السياسة و لا مع الحرية و لا مع الأمور الأخرى، إنما المعنوية هي روح كل هذه الأمور. يمكن بالمعنوية الوصول إلى قمم العلم و فتحها، بمعنى أن تكون هناك معنوية و قيم روحية و يكون هناك إلى جانبها تقدم علمي. و حينئذ سيكون العالم عالماً إنسانياً، سيكون عالماً جديراً بحياة الإنسان. و العالم اليوم هو عالم الغابة. العالم الذي يترافق فيه العلم مع المعنوية و تترافق فيه الحضارة مع المعنوية و تترافق فيه الثروة مع المعنوية سوف يكون عالماً إنسانياً. طبعاً النموذج الكامل لهذا العالم سوف يتحقق في فترة‌ ظهور الإمام بقية الله (أرواحنا فداه) و من هناك سوف يبدأ العالم. إننا نتحرك الآن في مقدمات العالم الإنساني. نحن أشبه بشخص يسير في منعطفات الجبال و التلال و الطرق الصعبة حتى يصل إلى الطريق الأصلي. و حينما نصل إلى الطريق الأصلي عندئذ تبدأ الحركة نحو الأهداف السامية. و الإنسانية طوال حركتها و مسيرتها التي استمرت لعدة آلاف من السنين إنما تجتاز بهذه المنعطفات وصولاً إلى الطريق الأصلي. و حينما تصل إلى الطريق الأصلي - و هو ما سيقع في زمن ظهور الإمام بقية الله - عندئذ تبداً مسيرة الإنسان الأصلية و حركته السريعة الناجحة الخالية من العنت و المشقة، و ستكون المشقة‌ مجرد مشقة‌ السير في هذا الطريق و لن تكون هناك ثمة حيرة‌.
على كل حال، هذه هي المجالات الأربعة‌ للتقدم التي يجب أن نتقدم فيها على أساس النموذج الذي سوف تتابعونه إن شاء الله، و أسلوب المتابعة‌ بدوره واضح لدينا على نحو الإجمال و بحدود معينة و سوف نذكره.
بخصوص المحتوى الإسلامي كان للأعزاء إشارات جيدة جداً. المسألة الأولى التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار هي مسألة المبدأ أو مسألة‌ التوحيد.. «إنا لله و إنا إليه راجعون» (2). المشكلة‌ الأهم في العالم الراهن.. العالم الذي يتجلى بأكثر بهرجة ممكنة في الغرب، هي البعد عن الله و عدم الإيمان به و عدم الالتزام بهذا الإيمان. طبعاً قد يكون هناك اعتقاد ظاهري و صوري و ما إلى ذلك، و لكن ليس ثمة التزام بهذا الاعتقاد. إذا تم حل مسألة المبدأ فسوف تحل الكثير من المسائل الأخرى. «يسبّح له ما في السماوات و الأرض» (3). «و لله جنود السماوات و الأرض و كان الله عزيزاً حكيماً» (4). حينما يعتقد الإنسان بهذه الأمور فإن هذه العزة الإلهية و هذا التوحيد الذي يعرض علينا هذا المعنى سوف يوفر للإنسان طاقة‌ عظيمة لا نهاية‌ لها. «هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبّر سبحان الله عمّا يشركون» (5). حينما يؤمن الإنسان بمثل هذا التوحيد و عندما نستطيع بسط و نشر مثل هذا الاعتقاد في حياتنا فسوف يتم علاج مشكلات البشرية الأساسية.
القضية الأساسية الثانية هي قضية المعاد و الحساب و عدم انتهاء المطاف و الأمور بزوال الجسم عند الموت. إنها لقضية على جانب كبير من الأهمية أنّ ثمة حساب و كتاب «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره». الشعب الذي يعتقد بهذا و يكون هذا المعنى في برامجه العملية: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره» (6)، سوف يحدث تحول أساسي في حياته. الاعتقاد بامتداد نتائج العمل يضفي المعنى على الإيثار و الجهاد و يجعلهما أمرين منطقيين. من الأدوات المهمة للأديان - و الموجودة في الإسلام بوضوح - قضية الجهاد، و الجهاد يجب أن يكون مصحوباً بالإيثار، و إلا لم يكن جهاداً. معنى الجهاد هو التجاوز عن الذات و غضّ الطرف عنها. غضّ الطرف عن الذات شيء غير منطقي حسب منطق العقل الذرائعي. فلماذا أغض الطرف عن ذاتي؟ إنه الإيمان بالمعاد الذي يجعل هذا الأمر منطقياً و عقلانياً. حينما نؤمن أنه ما من عمل سوف يذهب سدى بل ستحفظ جميع الأعمال و سوف نراها في حياتنا الحقيقية الآخرة «و إن الدار الآخرة لهي الحيوان» (7) عندها لو خسرنا هنا شيئاً في سبيل أداء التكليف و الواجب فلن نشعر بالخسارة حتى لو كان ذلك الشيء هو أرواحنا أو أحباؤنا و أبناؤنا. يجب أن تدرج هذه الأمور ضمن نموذج التطور و تكتسب معناها في تقدم المجتمع. و إذن، فالمسألة الأصلية هي مسألة التوحيد و المعاد.
ثم هناك مسألة عدم الفصل بين الدنيا و الآخرة: «الدنيا مزرعة الآخرة» (8)، و أخال أن بعض الأعزاء قد أشاروا لذلك، و هي مسألة مهمة جداً. فالدنيا غير منفصلة عن الآخرة. و الآخرة هي الوجه الآخر لعملة الدنيا. «و إن جهنم لمحيطة بالكافرين» (9). الكافر في الجحيم منذ الآن، لكنه جحيم لا يدركه الكافر و لا يشعر به. و بعد ذلك حينما يتجسد الأمر سيفهم. الكافر الآن ذئب لكنه لا يشعر أنه ذئب، و نحن ذوي الأبصار المقفلة أيضاً لا نراه ذئباً، و لكن حين نستيقظ من نومنا سنرى أنه ذئب. إذن الترابط بين الدنيا و الآخرة بهذا المعنى. يجب أن لا نتصور أن الدنيا تشبه أوراق اليانصيب، لا، إنما الآخرة هي الوجه الآخر لهذه الدنيا، و الوجه الآخر لهذه العملة.
المسألة الأخرى هي مسألة‌ الإنسان، و نظرة الإسلام للإنسان، و محورية الإنسان. لهذا الموضوع في الإسلام معنى واسع جداً. واضح أن الإنسان في الإسلام و الإنسان في الفلسفات المادية الغربية و الوضعية في القرن التاسع عشر و ما بعد ذلك مختلفان أشد الاختلاف. فهذا إنسان و ذاك إنسان آخر، بل إن تعريف هذين الإنسانين ليس واحداً. و من هنا فإن محورية الإنسان في الإسلام تختلف تماماً عن محورية الإنسان في تلك المدارس المادية. الإنسان محور، و كل هذه القضايا التي نبحثها من قبيل قضية العدالة و قضية الأمن و قضية الرفاه و قضية العبادة هي من أجل سعادة الإنسان. مسألة السعادة و مسألة العقبى تتعلق هنا بالفرد، لا بمعنى أن يغفل الفرد عن حال الآخرين و لا يعمل لهم، لا، «من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً» (10). جاء في الرواية أنهم سألوا الإمام عن معنى هذه العبارة فقال إن تأويلها الأعظم هو أن تهدي أحد الناس، و واضح أن الهداية‌ من واجب الجميع، لكن الأمر المطروح من قبل الإسلام للإنسان و الذي يعدّ الأمر الأهم هو نجاة‌ الإنسان نفسه. علينا إنقاذ أنفسنا و تخليصها. و نجاتنا هي في أن نعمل بواجباتنا و عندئذ سيكون العمل بالواجبات الاجتماعية و تكريس العدالة و تأسيس حكومة الحق و مكافحة الظلم و الفساد من مقدمات تلك النجاة. و إذن فهذا هو الأصل و كل شيء‌ مقدمة و المجتمع الإسلامي أيضاً مقدمة و العدالة إيضاً مقدمة. حين يقول القرآن الكريم :«ليقوم الناس بالقسط» (11)، و يذكر ذلك باعتباره هدف الأنبياء - و لا شك أن العدل هدف، لكنه هدف وسيط و الهدف النهائي عبارة‌ عن فلاح الإنسان.. هذا ما ينبغي التنبه له، فالإنسان مخلوق مكلف و مختار و موضوع للهداية الإلهية - « ألم نجعل له عينين و لساناً و شفتين و هديناه النجدين» (12). بوسع الإنسان أن يختار الهداية‌ و بمقدوره أن يختار الضلالة، فالإنسان مخلوق ملتزم أمام نفسه و أمام مجتمعه و أهله. و حسب هذه النظرة ستكون الديمقراطية علاوة‌ على كونها حق من حقوق الجماهير، واجباً من واجباتهم، بمعنى أن جميع الناس مسؤولون بخصوص مسألة الحكم في المجتمع، و لا يمكن القول إن هذه المسألة لا تتعلق بي، لا، صلاح البلاد و فسادها و نظام الحكم أمور ترتبط بكل الأفراد. أي إن الإنسان ملتزم حيالها. هذا أيضاً من العناصر الأصلية التي ينبغي ملاحظتها في الرؤية الإسلامية و مراعاتها في هذا النموذج.
المسألة الأخرى هي مسألة الدولة و نظام الحكم، فللإسلام في هذا الباب أيضاً نظرياته و آراؤه الخاصة. الأهلية‌ الفردية في أمر الدولة في الإسلام قضية أساسية و على جانب كبير من الأهمية. كل من يريد تولي جزء من الإدارة يجب أن يوفر لذلك الأهلية في نفسه أو يجد الأهلية في نفسه، و من دون ذلك يكون قد ارتكب عملاً غير شرعي. عدم العلو و عدم الإسراف و عدم الاستئثار قضايا مهمة في أمر الحكم. يقول الله تعالى حول فرعون: «كان عالياً من المسرفين» (13). أي إن خطيئة فرعون هي أنه كان عالياً. و بهذا فالعلو و الاستعلاء بالنسبة للحاكم صفة سلبية و ليس من حقه أن يستعلي، و لا من حقه إذا كان من أهل العلو أن يتقبل السلطة، و لا من حق الناس أن يتقبلونه باعتباره حاكماً و إماماً للمجتمع. و الاستئثار معناه أن يريد الإنسان كل شيء لنفسه، و هو في مقابل الإيثار. الإيثار معناه تقديم كل شيء لصالح الآخرين و الاستئثار معناه أخذ كل شيء من الآخرين لصالح الذات. العلو و الاستعلاء و الاستئثار من الصفات السلبية للحاكم. يقول الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة حول بني أمية: «يأخذون مال الله دولاً و عباد الله خولاً و دين الله دخلاً بينهم». فالسبب في عدم صلاحيتهم للحكم هو هذه الصفات فيهم، «يأخذون مال الله دولاً»، أي إنهم يتداولون الأموال العامة‌ فيما بينهم. «و عباد الله خولاً»، و يعتبرون الناس كالعبيد لهم و يستخدمونهم كالخدم. «و دين الله دخلاً بينهم» و يتلاعبون بدين الله كيفما حلا لهم. و على ذلك فللإسلام رأيه في نظام الحكم، و هذا ما يجب أخذه بنظر الاعتبار في نموذج حياتنا على المدى البعيد.
و بخصوص المسألة الاقتصادية قدّم السادة بحوثاً جيدة. «كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم» (14) معيار مهم. قضية العدالة مهمة جداً. لا بد أن تكون العدالة من الأركان الأصلية في هذا النموذج. بل إن العدالة‌ هي معيار الحق و الباطل في الحكومات و الدول. بمعنى إذا لك يتوفر معيار العدالة كانت الحقيّة و الشرعية موضع نقاش و تشكيك من وجهة نظر الإسلام.
المسألة الأخرى هي النظرة غير المادية للاقتصاد. الكثير من هذه المشكلات التي ظهرت في العالم إنما هي بسبب النظرة المادية للمسألة الاقتصادية و مسألة المال و الثروة. كل هذه الأمور التي ذكرها الأعزاء حول انحرافات الغرب و المشكلات العديدة و حالات الاستثمار و الاستعمار و ما إلى ذلك بسبب النظرة المادية‌ للمال و الثروة. يمكن تصحيح هذه النظرة. الإسلام يهتم بالثروة و يقيم اعتبار لها، و إنتاج الثروة في الإسلام عملية محبذة، و لكن بنظرة إلهية و معنوية. و النظرة الإلهية و المعنوية هي أن لا تستخدم هذه الثروة للفساد و الهيمنة و الإسراف و إنما تستخذم لصالح المجتمع.. و غير ذلك من المسائل العديدة الموجودة.
المواضيع و النقاشات هنا كثيرة، و لا أريد إطالة الكلام، فقد انقضى الوقت و لا ضرورة لطرح هذه النقاشات في هذه الجلسة. و ستكون لنا أوقات كثيرة إن شاء الله لمثل هذه النقاشات إذا كتبت لنا أعمار.
قلنا إن هذه بداية طريق.. أي إن جلستنا الليلة هي بداية، و يجب أن يتواصل هذا السياق. قد يكون من الضروري عقد عشرة أو عشرات الاجتماعات و الملتقيات حول قضية النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم. و قد يكون من الضروري عقد عشرات الحلقات العلمية في مختلف الجامعات لأجل ذلك. قد يكون المئات من المثقفين و الواعين و النخبة و العلماء في إيران الذين يفضلون العمل الفردي و ليسوا من أهل العمل الجماعي، قد يكونوا مستعدين للدراسة في بيوتهم و يجب الاستفادة من هؤلاء. يجب تشكيل حلقات فكرية، و لا بد من انهماك الجامعات و الحوزات في هذه المسألة لنستطيع إن شاء الله الوصول بهذا المشروع إلى محطته المنشودة.
طبعاً التقرير الذي قدمه السيد داودي كان جيداً جداً، و لم أكن عديم الإطلاع بالمرة على الأمور التي ذكرها، لكننا لم نكن مطلعين على هذه التفاصيل. هذه حالة‌ جيدة جداً و لا تنافي بين الأمرين. هذه العملية ليست عملية جماعة خاصة و محدودة إنما هي عملية‌ يجب أن تشترك فيها جميع إمكانيات النخبة في البلاد. و كما قلنا فهي ليست من المشاريع قصيرة الأمد و التي تؤتي نتائجها بسرعة بل هي عملية طويلة الأمد يجب أن تتم، و نحن لسنا في عجل، بل سوف نتحرك و نسير إلى الأمام، و هي ليست من تلك الأمور التي تستطيع الحكومات أو المجالس المصادقة‌ عليها، و إنما هي كما ذكرنا فوق كل الوثائق المهمة‌ و الفاعلة في البلاد، و يجب أن تقطع مراحل عديدة و تصل إلى قوامها اللازم. يجب تنضيج هذه الأفكار تماماً لتصل إلى مرحلة‌ أساسية.
و لا بد من وجود مركز لهذه المهمة يتابعها و يرصدها و سوف نؤسس هذا المركز إن شاء الله. يجب أن يكون هناك مركز من دون أن يحتكر لنفسه هذه الحركة، و سوف لن نتوقع من ذلك المركز أن يقوم هو بهذه المهمة، بل نتوقع منه أن يشرف على هذه الحركة العظيمة التي يقوم بها النخبة في البلاد، و يتابعها و يرصد أخبارها، و يساعد النخبة في مهمتهم و يدعمهم بمختلف الوسائل و الأساليب، بحيث لا تتوقف هذه الحركة. طبعاً قلنا إنه لا بد من مركز أو لجنة، و سوف يصار إلى تأسيس هذا المركز إن شاء الله. و عليه، فإن عملنا معكم لن ينتهي الليلة، أي إن هذه المسألة ليست مسألة تبدأ في هذه الجلسة و تنتهي في هذه الجلسة، بل سوف تستمر إن شاء الله. و طبعاً ستكون هناك مجاميع متعددة، فهناك الكثير من الأفراد و الشخصيات. و كما أوصى السيد واعظ زاده و طلب، أطلبُ أنا أيضاً من السادة الذين لديهم آراء و كانوا يريدون طرحها أن يقدموا آراءهم هذه. و الطروحات التي ذكرت هنا بعضها مما يجب أن يفكر فيه الإنسان، أي يجب تشكيل حلقات فكرية تبحث في هذه الآراء و تناقشها و تدافع عنها أو تسجل مؤاخذاتها و إشكالاتها عليها و تأخذ و تردّ و تناقش كما عند طلبة العلوم الدينية‌ حين يقولون: إن قلتَ قلتُ، لنصل إلى نتائج جيدة إن شاء الله.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
1 - طلب السيد واعظ زاده من سماحة قائد الثورة‌ الإسلامية أن يلقي كلمة مفصلة في هذا الاجتماع.
2 - سورة البقرة، الآية 156.
3 - سورة الحشر، الآية 24.
4 - سورة الفتح، الآية 7.
5 - سورة الحشر، الآية 23.
6 - سورة الزلزال، الآيتان 7 و 8.
7 - سورة العنكبوت، الآية 64.
8 - إرشاد القلوب، ج 1، ص 89.
9 - سورة التوبة، الآية 49.
10 - سورة المائدة، الآية 32.
11 - سورة الحديد، الآية 25.
12 - سورة البلد، الآيات 8 - 10.
13 - سورة‌ الدخان، الآية 31.
14 - سورة الحشر، الآية 7.