عام 1897، وفي مدينة بال بسويسرا، اجتمعت مجموعة لوضع هيكل تأسيس دولة لـ«شعب لم يكن موجوداً بعد» (Alam, 2009. P. 3). أدت المساعي الرسمية وغير الرسمية لهذه الحركة في نهاية المطاف إلى تأسيس الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، وهو كيان يحاول جاهداً نفي حالته غير العادية وشرعيته المعدومة. حالته غير العادية ووجود كثير من التناقضات بين الماهية الحقيقية لـ«إسرائيل» وما وتُبديه عن نفسها أجبرت الأخيرة وداعميها حول العالم على تركيز ميزانيتهم ​​وطاقاتهم على مشروع التطبيع. تناقضات مثل كونها «ديموقراطية» و«يهودية»، وكونها استعمارية ومناهضة للاستعمار، وكونها شرقية أو غربية، جعلت تعريف الهوية الوطنية الواضحة وتقديم صورة مواتية عن الكيان الصهيوني للعالم يواجهان مشكلات مهمة.

أحد الجوانب غير العادية لـ«إسرائيل» هو علاقتها العجيبة مع الاستعمار والقوى الاستعمارية عبر التاريخ. كانت ظاهرة الصهيونية في الواقع رد فعل يهود أوروبا على مسألة التمييز وتحدي الهوية اليهودية، التي حاولت تقديم وصفة علاجية مشتقة من تلك المجتمعات نفسها التي أوجدت أساس المرض. بتعبير آخر: وصفَ الصهاينةُ العنصريةَ والقومية اليهودية لإنقاذ اليهود من العنصرية والقومية المتطرفة في أوروبا، وهذا ما لا يتحقق دون استخدام الأدوات الاستعمارية ودعم من القوى الإمبريالية. إن الإلمام بالإدراك والجو الذهني للغربيين بشأن الدول الإسلامية خلال حقبة الاستعمار، وهي ظاهرة وصفها نقد الاستشراق جيداً، تُظهر أرضية تشكيل الصهيونية السياسية. يرى الناشطون الصهاينة أن من الممكن والمشروع إيجاد أرض لأنفسهم بين الأراضي الإسلامية بالإنكار التام لحقوق الناس الساكنين في تلك المنطقة، وهذا مستمد من تجربة الاستعمار في تطبيع الغزو والاحتلال والسطوة على الشعوب الأخرى. لهذا إن «الدولة الاستيطانية الاستعمارية»[1] من أكثر الأوصاف دقة للكيان الصهيوني. بالطبع، كان تاريخ تنازلات الدولة العثمانية للدول الغربية أيضاً أرضية مناسبة لمثل هذا الاعتداء، فكانت القوى الأوروبية في فلسطين قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية واحتلال فلسطين بسنوات بذريعة حماية الأقلية المسيحية وتسهيل العلاقات التجارية، وحصلوا على امتيازات واسعة من هذه الإمبراطورية. أدت هذه التنازلات والاتفاقات التي كانت تعرف باسم «كابيتاليسيون» فعلاً إلى تشكيل نوع من الدولة داخل الدولة.

بدأ هرتزل في إطار جهوده المكثفة لتنفيذ المشروع الصهيونية، بالإضافة إلى الاجتماع والتفاوض مع السلطان العثماني، إجراء مشاورات مع بريطانيا للاستيلاء على العريش في صحراء سيناء، ومفاوضات مع البرتغال على منطقة في الموزمبيق، ومع بلجيكا من أجل جزء من الكونغو، ومع إيطاليا من أجل الاستيلاء على جزء من طرابلس الغرب.[2] تؤكد هذه المشاورات حقيقة أن الصهيونية مشتقة بالكامل من النهج الأوروبي الاستعماري، ولكن بالنظر إلى فقدانها حكومة وجيشاً مستقلين مثل الدول الأوروبية كان عليها أن تحصل على مساندة هذه الحكومات لينفذوا لها الاحتلال والاستعمار. وفق تعبير المفكر الباكستاني، شاهد عالم، كان هذا الموضوع أحد الجوانب المهمة لاستثنائية حالة «إسرائيل»، أيْ نجاح الصهيونية في إقناع الاستعمار البريطاني بتنفيذ مرحلة الاحتلال والاستعمار لمصلحتها. طبعاً، استطاع الصهاينة لمعرفتهم بالعالم السياسي للغرب إقناعهم بأنهم سيكونون ممثلاً جيداً للحضارة الغربية بين ما يسمونه العالم الأورينتاليستي المتخلف والوحشي في غربي آسيا. يكتب هرتزل في كتابه الدولة اليهودية: «يجب أن نشكل هناك جزءاً من الجدار الدفاعي لأوروبا في آسيا، ومركزاً حضارياً مقابل البربرية. يجب أن نظل على تواصل مع كل أوروبا بصفتنا دولة محايدة وهذا ما ينبغي أن يضمن وجودنا» (Herzl, 1946. P. 15). في مقابلةٍ، وصف ، رئيس الوزراء الصهيوني السابق، إيهود باراك، «إسرائيل» بأنها «فيلّا وسط الغابة» (Eldar, 2006). بعبارة أخرى: نجح الصهاينة في تغيير وتثبيت صورتهم ضمن التصنيف الاجتماعي التمييزي لأوروبا من كيان شرقي، أو «الآخر المختلف»، إلى غربي متحضر يمكن أن يحفظ مصالح القوى الأوروبية غربي آسيا.

لم تقتصر علاقة الاستعمار البريطاني بالصهيونية على احتلال فلسطين والاعتراف بتشكيل «وطن قومي» لليهود على هذه الأرض عبر وعد بلفور. خلال سنوات الوصاية أعدّتهم بريطانيا لتحقيق الاستقلال السياسي عبر نمط علاقتها مع الأفراد والمؤسسات الصهيونية. من الأمثلة على ذلك منح الاستقلالية في تدبير الشؤون الذاتية في مختلف الأمور مثل الرعاية الصحية والتعليم وتوفير المعدات العسكرية ((Khalidi, 2020. بعبارة أخرى: رغم غياب حاكمية رسمية، سعى الصهاينة إلى اكتساب الخبرة وتدريب الموارد البشرية الفعالة عبر إنشاء المؤسسات والتعاون مع بريطانيا عن طريق تولي الشؤون التنفيذية المتعلقة بالأقلية اليهودية الفلسطينية (Hurewitz, 2022). اكتسبت هذه الاستقلالية في تدبير الشؤون الذاتية جانباً قانونياً عبر إضفاء الطابع الرسمي على المؤسسات الصهيونية في نص وثيقة الوصاية التي وافقت عليها عصبة الأمم. جرى الحديث في المادة الرابعة من هذه الوثيقة عن إنشاء وكالة يهودية للتعاون مع الحكومة في الأمور الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بإنشاء «الوطن القومي اليهودي» على أرض فلسطين (“Question of Palestine” , 1947)، بينما لم يرد فيها أيّ مشروعية ورسمية مشابهة بشأن المؤسسات الفلسطينية (Khalidi, 2020). مع أن الجناح شبه العسكري للحكومة الصهيونية، «الهاغاناه»، كان على ما يبدو سرياً وغير قانوني، فإن التعاون العسكري القانوني بين الصهاينة وبريطانيا في إطار قوة الشرطة الفلسطينية وفر عملياً ظروف التدريب العسكري للصهاينة. خلال الثورة العربية عام 1936، شكّل الضابط البريطاني إدوارد وينجيت[3] فرقاً ليلية خاصة[4] لتدريب القوات الصهيونية وتوظيفها في قمع الفلسطينيين بعنف. كان تأثير هذا التعاون قوياً لدرجة أن وزير الحرب السابق في الكيان الصهيوني، موشيه دايان، قال عن وينجيت: «كل ما نعرفه هو مَن علّمنا إياه» (Weinthal, 2022. Para. 10). من ناحية أخرى، لم يُمنح الفلسطينيون الذين كانوا السكان الأساسيين للأرض ويشكلون الغالبية بالطبع مثل هذه الامتيازات فقط، بل إن بريطانيا عبر تدخلات مختلفة وتشديد حدة المنافسات القبلية للعائلات المشهورة وذات النفوذ، وعبر القمع العنيف للحركات الاحتجاجية، حالت دون ظهور قادة مؤثرين وتشكيل فلسطين ككيان سياسي مستقل. بعض أساليب القمع اللاإنسانية التي يستخدمها الكيان الصهيوني اليوم مثل العقاب الجماعي وهدم المنازل هي الأساليب التي استخدمها الحاكمون البريطانيون على فلسطين. وقعت أعنف هذه الممارسات وأكثرها قوة خلال الثورة العربية عام 1936، عندما قُمعت بشدة الثورة الشعبية الفلسطينية احتجاجاً على الاحتلال البريطاني وهجرة اليهود إلى فلسطين، وأُعدمَ جميع القادة المحتملين للمقاومة الفلسطينية أو جرى نفيهم وإبعادهم... لذلك، وعام 1948، عندما خرج البريطانيون من فلسطين، أعلن الكيان الصهيوني استقلاله، وكان لديه عملياً جميع مستلزمات الحكومة المستقلة والفعالة (والقمعية بالطبع).

إن النقطة المهمة في تاريخ الصهيونية وما الذي يجعلنا أن نصف علاقة «إسرائيل» مع الاستعمار بـ«العجيبة» هي نوع تعامل هذه الظاهرة الصهيونية مع القوى الاستعمارية، ما يعني أن الصهاينة يتعاونون مع القوى الغربية إلى حيث يكون التعاون متوازياً مع مصالحهم. لذلك، ومع جدية نضالات الفلسطينيين ضد احتلال أراضيهم والهجرة المفرطة لليهود الأوروبيين إلى فلسطين وتقييد الهجرة من بريطانيا، هبّ الصهاينة لمعارضة القوات البريطانية ومواجهتها. أخذت هذه المواجهة طابعاً عنيفاً إلى درجة أن القوات العسكرية الصهيونية كانت تستخدم الإرهاب عملياً لتحقيق أهدافها. في النهاية، أجبر البريطانيون على مغادرة هذه الأرض مع ارتفاع تكلفة الحضور في فلسطين. لكن في السرد الصهيوني التبريري يجري تعريف هذا الإرهاب بصفته كفاحاً ضد الاستعمار من أجل الحرية، وأنّ «إسرائيل» نتيجة لهذا الكفاح ضد الاستعمار.

مع أن في السنوات الأولى من تشكّل الصهيونية وبداية هجرة اليهود إلى فلسطين كانت تطرح بعض الأفكار الساذجة مثل إمكانية التعايش السلمي بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود مع بعضهم بعضاً أو الانتقال السلس للفلسطينيين إلى البلدان المحيطة، لكن كان في الواقع العنف والتمييز وإضفاء الشرعية المبنية على القوننة المزيفة للاستعمار البريطاني أموراً جعلت تشكيل «إسرائيل» أمراً ممكناً. وما يفرّق بين «إسرائيل» والمشاريع الاستعمارية الأوروبية الأخرى لم يكن حصراً تشكيلها عندما انتهى العمر الرسمي للاستعمار الكلاسيكي، بل نوع علاقتها بالاستعمار. كان لا بد للصهاينة أن يجبروا الدولة الاستعمارية لأول مرة في التاريخ على استعمار أرض من أجلهم (Alam, 2009).

طبعاً، اعتماد «إسرائيل» على الاستعمار وتماشيها معه لا ينتهيان بإعلان استقلال هذا الكيان عام 1948. مع ظهور أمريكا كقوة عالمية والاستعمار الحديث، انعطف تركيز الأنشطة السياسة الخارجية الصهيونية على استجلاب الدعم الأمريكي غير المحدود وتشكيل «علاقة خاصة» مع هذه الدولة عبر تقديم نفسها كقاعدة قوية لجبهة الغرب في «الشرق الأوسط» ضمن الصراع العالمي مع الشيوعية. عملية «عشب النيكل» خلال حرب 1973 وتأمين الانتقال لمئات الأطنان من المعدات العسكرية إلى «إسرائيل» عبر القوة الجوية الأمريكية، إذ كانت قد وجّهت مصر ضربات خطيرة إلى هذا الكيان، واحد من المصاديق على هذا الدعم غير المحدود.

العلاقة بين الصهيونية والاستعمار، سواء في شكلها التقليدي أو الجديد، علاقة متبادلة ومتغيرة. من دون دعم القوى الإمبريالية، لم تكن ممكنةً ولن تكون الهجرةُ الواسعة لليهود إلى فلسطين وتشكيل الكيان الصهيوني واستمرارية حياته. من ناحية أخرى، ومن دون هذا الكيان «القائم على الاستيطان الاستعماري» في المنطقة، ستواجه الدول الاستعمارية مشكلات جدية في تأمين مصالحها هنا. طبعاً الأهم من ذلك أن فكرة «إسرائيل» منبثقة من النظرة العنصرية والاستعمارية الأوروبية. إن منطق الهجرة الاحتكارية القائمة على القويمة والاستيطان وتكوين الأكثرية اليهودية والحفاظ عليها وتشكيل الدولة اليهودية منطقٌ لا يمكن فصله عن أساسات التمييز العنصري والاستعماري أبداً. بعد الحرب التي استمرت ستة أيام عام 1967 واحتلال «إسرائيل» أراضي واسعة، لم يعد هذا التشابك بين المنطق الاستعماري وماهية «إسرائيل» أمراً قابلاً للكتمان، وكذلك إحداث التحديات الخطيرة ليس على المستوى الدولي فقط بل لناحية الهوية وللمستوطنين أنفسهم. «إسرائيل» التي كانت كيان احتلال واستعمار منذ البداية لم تكن قادرة ولن تكون على إخفاء حقيقتها الاستعمارية.

 

References:

Alam, M. Shahid. Israeli Exceptionalism: The Destabilizing Logic of Zionism. Palgrave, 2009.

Eldar, A. “The Price of a Villa in the Jungle.” Haaretz, 30 Jan. 2006, https://www.haaretz.com/2006-01-30/ty-article/the-price-of-a-villa-in-the-jungle/0000017f-eda5-d0f7-a9ff-efe5356e0000

Herzl, Theodor. The Jewish State. Translated by Sylvie d'Avigdor, 1946.

Khalidi, Rashid. The Hundred Years' War on Palestine: A History of Settler Colonialism and Resistance, 1917–2017. Henry Holt and Co., 2020.

UN Secretary-General & League of Nations. “Text of Mandate [for Palestine].” United Nations Digital Library, 18 Apr. 1947, https://digitallibrary.un.org/record/829707?ln=en

Weinthal, Benjamin. “Israeli General Slams ‘Antisemitic’ German Official for Defaming Israeli Hero.” Jerusalem Post, 12 Aug. 2022, https://www.jpost.com/diaspora/antisemitism/article-714601

 


[1] Settler-colonial state.

[2] https://archive.jewishagency.org/herzl/content/25336

[3] Orde Wingate.

[4] Special Night Squads.