قلّما كان يقدر أحدٌ قبل أشهر على تصوّر أن تكون أبرز المخاوف والمشكلات الجوهريّة للحكومة الأمريكيّة قضيّة تتعلّق بالسياسة الخارجيّة، إذ إنّ القضايا الدوليّة عادةً لا تؤثّر كثيراً في الانتخابات، وليس في مقدورها أن تُحدث تغييراً كبيراً في محبوبيّة رئيس الجمهوريّة. لكن حرب غزّة تحوّلت الآن إلى استثناء كبير في أمريكا. بعد ما جرى في حرب غزّة وأنواع الدعم التي قدّمها بايدن إلى الكيان الصهيوني، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى هبوط شديد في شعبيّة بايدن بين الشباب الأمريكي للمرّة الأولى، إلى درجة أنّه صار أدنى شعبيّة من ترامب أيضاً.[1] كما أنّ دعم العرب الأمريكيّين له انخفض بنسبة 42 بالمئة مقارنة مع 2020، لتبلغ 17 بالمئة![2] إضافة إلى هذا بلغت التوتّرات السياسيّة المرتبطة بدعم الكيان الصهيوني حدّها الأقصى في واشنطن هذه الأيام، إذ يدعم أكثر من 40 نائباً من نوّاب الكونغرس والسيناتوريّين الأمريكيّين وقف النار في غزّة.[3]

لكنّ تراجع الشعبيّة والأزمات المحليّة في الولايات المتحدة جزءٌ صغير من المشكلات التي سبّبتها الحرب في غزّة للحكومة الأمريكيّة، فالأثمان التي تكبّدتها أمريكا بسبب «طوفان الأقصى» ومعركة الأيام الخمسين التي فرضها الكيان الصهيوني على غزّة لا يمكن لهذا البلد تعويضها. هي حربٌ عبّر عنها الإمام الخامنئي بأنّها استطاعت دفع السياسة والتوجّهات في المنطقة نحو «اجتثاث أمريكا» وبعثرة مشروعها وسياساتها في غربي آسيا.

  1. انهزام المشروع الأمريكي الرامي إلى تطبيع العلاقات بين الدول الإسلاميّة والكيان الصّهيوني

لقيت أولى السياسات الأمريكيّة وأكبرها في المنطقة الهزيمة مع انطلاق الحرب الأخيرة، وهي مشروع تطبيع العلاقات بين الدول العربيّة والإسلاميّة وبين الكيان الصّهيوني. الفكرة المهمّة المسمّاة «اتفاق إبراهيم»، التي انطلقت في حكومة ترامب لتستمرّ في حكومة بايدن، على نحوٍ جدّي إلى ما قبل أيام قليلة من السابع من أكتوبر. يعتقد رئيس خليّة التفكير في المجلس الأطلسي، فريد كامب، أنه لا فرصة أخرى من أجل نجاح هذا المشروع. وقد قال كامب في حوار حول عن الموضوع قبل أسابيع قليلة: «أعتقد بوجود ضحيّة كبرى للأحداث الأخيرة، وهي قضيّة تطبيع العلاقات بين السعوديّة وإسرائيل... كانت هناك رؤية للاتفاق، والناس يقولون إنّ فرصة تحققه النصف لكنها في الوقت الحالي صفر»[4]. كما تعتقد الباحثة في مؤسسة هادسون الأمريكيّة زينب ريبوآ أنّ أوّل إنجاز حقّقته «حماس» و«محور المقاومة» في المعركة الأخيرة كان إيقاف تطبيع العلاقات بين العرب والكيان الصّهيوني.[5] أيضاً يرى يعتبر كاتب العمود الشهير في صحيفة The New York Times توماس فريدمان، أنّ استمرار الهجمات البريّة لجيش الكيان الصهيوني على قطاع غزّة يعني الانهيار التامّ لـ«اتفاق إبراهيم».[6]

اللافت هنا أنّ جرائم أمريكا والكيان الصهيوني الفظيعة في غزّة أيقظت أيضاً بعض المؤيّدين تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والدول الإسلاميّة من غفلتهم. على سبيل المثال، اعتذر الدكتور أسامة الغزالي، وهو أحد أكبر المدافعين عن تطبيع العلاقات بين مصر والكيان الصهيوني، عن دعمه التطبيع، من شعب مصر وشهداء غزّة بقوله: «أعتذر على إحساني الظنّ في الإسرائيليّين الذين كشفوا في هذه الحرب عن روحيّتهم القذرة والإجراميّة والعنصريّة»[7].

إضافة إلى هذا كلّه يعارض الرأي العام في العالم العربي بحزمٍ الاعتراف رسميّاً بالكيان الصّهيوني، وقبل مدّة، نشرت مؤسسة الدوحة استطلاعاً للرأي سألت فيه شعوب 14 دولة عربيّة عن مدى موافقتهم على تطبيع العلاقات مع الكيان الصّهيوني؟ جاءت النتائج في هذا الاستطلاع: 90% من شعب تونس، 92% من شعب العراق، 87% من شعب قطر، 84% من شعب مصر، 85% من شعب الكويت، 84% من شعب لبنان، 94% من شعب الأردن المحاذي لفلسطين المحتلّة، يعارضون هذا الأمر. حتى المغرب أيضاً الذي يقيم علاقات دبلوماسيّة مع الكيان الصهيوني منذ عام 2020 يعارض أكثر من ثلثي شعبه إقامة العلاقات مع هذه الحكومة غير الشرعيّة.[8] ويثبت استطلاع رأي آخر معتدّ به أنّ اثنين بالمئة فقط من سكان المملكة العربية السعوديّة يدعمون تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.[9]

 

  1. إضعاف الكيان الصهيوني بصفته حليفاً إستراتيجياً لأمريكا

«لو لم تكن إسرائيل، لكان علينا أن نصنع إسرائيل كي تحمي مصالحنا في المنطقة»[10]. هذه هي الجملة الشهيرة التي كرّرها الرئيس الأمريكي جو بايدن. كذلك، قالت المرشّحة لانتخابات الرئاسة الأمريكيّة نيكي هايلي قبل مدّة في إحدى تصريحاته: «أمريكا بحاجة إسرائيل قبل أن تكون إسرائيل محتاجة إلى أمريكا!»[11]. تُثبت هذه التصريحات جيّداً وجود علاقة وثيقة جدّاً بين الولايات المتحدة الأمريكيّة والكيان الصهيوني، وهي تشير إلى مدى حاجة أمريكا إلى قوّة قويّة تنوب عنها في المنطقة.

إنّ الكيان الصهيوني تلقّى قبل أكثر من 50 يوماً الضربة القاضية وفق تعبير الإمام الخامنئي، وقد زعزعت الضربات القاسية شأنه وحيثيّته. تشير الإحصاءات إلى تكبّد جيش الكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم خسائر غير مسبوقة شملت مقتل 400 جنديّ من جيش الكيان الصهيوني وجرح أكثر من 1000 جنديّ 202 منهم في حالة حرجة.[12] إضافة إلى هذا كبّدت حرب غزّة حتى اليوم خسائر ماليّة لحكومة نتنياهو بلغت إلى الآن قرابة 53 مليار دولار،[13] ويُتوقّع أن تُقلّل النمو الاقتصادي للكيان الصهيوني بنسبة 1.4 بالمئة في 2023.[14] في مجال التسليح أيضاً، تلقّى جيش الكيان الصهيوني ضربات قاسية منها تدمير 335 آليّة مدرّعة خلال الهجوم البري على غزّة. كما تجدر الإشارة إلى الضربة الاستخباريّة والأمنيّة القاسية التي تلقّاها الكيان. ووفق تعبير مجلّة The Week، أدّى هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر على الأراضي المحتلّة إلى «نهاية شهرة الجهاز الاستخباري الإسرائيلي التي كانت ممدوحة»[15].

يُمكن استنتاج أن «طوفان الأقصى» ومقاومة أهالي مدينة غزّة 50 يوماً أراقت ماء وجه هذا الحليف القديم لأمريكا على المستوى الدولي، وأضعفت بصورة حقيقية هذه القوّة التي تنوب عن الولايات المتحدة الأمريكيّة في المنطقة.

 

  1. احتداد المعارضة لأمريكا في أوساط دول المنطقة

إثر الدعم الشامل الذي قدّمته حكومة بايدن لجرائم الكيان الصهيوني في غزّة، احتدّت المعارضة لأمريكا بين حكومة المنطقة والغضب العام تجاه هذا البلد في أوساط الشعوب المسلمة بصورة كبيرة، وهذا ما أشار إليه الإمام الخامنئي في كلمته قبل أيام، إذ قال سماحته: «كانت إحدى سمات التغيير لخريطة الجغرافيا السياسية للمنطقة أنَّه بدأ اجتثاث أمريكا، وقد بدأت بعض الدول التي كانت تابعة مئة بالمئة للسياسة الأمريكية الاختلاف مع أمريكا، وأنتم بطبيعة الحال ترون وتسمعون، وهذا سيستمر» .

وأعلنت CNN في تقرير في هذا الصّدد أنّ حكومة بايدن تلقّت تحذيرات حقيقيّة من الدبلوماسيّين الأمريكيّين في أرجاء العالم العربي تفيد بأنّ دعم الولايات المتحدة للهجوم العسكري القاتل الذي يشنّه الكيان الصهيوني في غزّة سيكلّفها فقدان الرأي العام لجيل كامل من الشعب العربي.[16] يؤيّد استطلاع الرأي الجديد لمؤسسة واشنطن هذا الادعاء أيضاً. وفق استطلاع آراء سكان 6 دول عربيّة من المنطقة، يعتقد 7% فقط من شعوب هذه الدول بلعب أمريكا دوراً إيجابيّاً في حرب غزّة![17] كما أنّ رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصريّة الشهيرة عنونَ بصراحةٍ مقالة قبل أيام أنّ الولايات المتحدة اليوم هي العدوّ الأوّل للعالم العربي![18] إنّ الآراء السلبيّة لدول المنطقة حيال القرارات الأخيرة لأمريكا وحلفائها في الأمم المتحدة تُعدّ شاهداً آخر يثبت هذه القضيّة.

في الختام، نقول إنّ حرب غزّة لم توجّه ضربة كُبرى إلى الوجود غير الشرعيّ للكيان الصهيوني فحسب، بل سارعت في أفول أمريكا أيضاً وبعثرت المشروع الأمريكي في غربي آسيا. والحرب لم تكن سوى خسارة كبرى تلقّتها الحكومة الأمريكيّة على المستويين المحلّي والدولي، وهي تبشّر شعوب المنطقة بالاجتثاث الكامل لأمريكا من غربي آسيا!

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir