في أحد أيّام الشتاء، وفي أجواء ذكرى ولادة أسوة النّساء والرّجال حول العالم، الصدّيقة الطّاهرة سلام الله عليها، كنت أتصفّح هاتفي النقّال، فوجدت أنّه مليءٌ بالصور التي تأتي هذه الأيّام من فلسطين. صورة أمّ تحتضن جثمان طفلها الميّت والملفوف بالكفن، ومقاطع مصوّرة للأمّهات الغزّاويّات اللواتي يرتجزن عند جثامين أبنائهم الشباب المجاهدين الشهداء ويطالبن بمن يبارزهنّ. كنت قد عدتُ من إحدى الجلسات ولا زلتُ أتابع أخبار غزّة عندما رنّ هاتفي. كان أحد المعارف الذي يعادل اسمه بالنسبة لي الإخبار بالتوفيق للقاء السيّد القائد، وكان توقّعي في محلّه. تقرّر أن يكون موعد اللقاء لتجديد الرّوح في أجواء حسينيّة الإمام الخميني (قده) واللقاء بمقتدى الأحرار حول العالم، يوم الأربعاء عند الساعة الثامنة صباحاً، آخر شارع فلسطين، منزل قائد الثورة الإسلاميّة.

أدخلتُ يدي في جيبي وكنت أتمشّى في حسينيّة الإمام الخميني (قده) بهدوء ودون أن تراودني أيّ هواجس. رحتُ أراقب النّاس وتصرّفاتهم كما جرت عادتي. جلست هناك عدّة أمّهات وكنّ يلاعبن أطفالهنّ الصّغار. لامست ضحكاتهم وابتساماتهم قلبي. وفي زاوية أخرى، جلست سيّدتان وكانتا تراجعان بمنتهى الجديّة برنامج أعمالهما خلال الشّهر الأخير. بدا لي من كلامهما أنّهما من المستشارات في بلديّة طهران. كان الحوار بينهما مؤدّباً وتخصصيّاً، ولامس قلبي أيضاً. كنت أراقبهما عندما اصطدم فجأة شيءٌ بقدمي. التفتّ إلى الأسفل فوجدت طفلة صغيرة بشعر مجعّد وأشقر، وأعتقد أنّها كانت قد دارت الحسينيّة كلّها وجعلت أمّها ترمض خلفها لاهثة. نظرت إليّ نظرة خجولة ثمّ عاودت الرّكض والهروب غير مكترثة لأيّ شيء. مرّت أمّها من أمامي وتوقّفت قليلاً لتقول لي: المعذرة يا أختي، ثمّ تعاود الرّكض. رمقتها بابتسامة كبيرة وقلت لها: فداكِ يا عزيزتي!

كنت أتأمّل الأزياء المحليّة للسيّدات الإيرانيّات والتي برزت بألوانها كقوس الرّحمن، ورغبتُ لو كانت كلّ تلك الثياب بألوانها الخضراء والحمراء والورديّة لي. الحسينيّة أشبه بالجنّة... في الواقع، إنّها الجنّة!

عثرتُ على مكان في زاوية الحسينيّة، واخترتُ أن أجلس حيث يمكنني أن أرى القائد عندما يأتي. جلستُ لنصف ساعة وكنت أحدّث الآخرين. كان حال الجميع جيّداً، وكنّ جميعهنّ مطمئنّات تغمر قلوبهنّ السكينة، تماماً كالجبال وزبر الحديد!

كان قلبي كما كلّ عام، بل كما كلّ يوم، عند الحاج قاسم، والآن بات عند رفيقه الشهيد أيضاً، الشهيد السيّد رضي.

كانت كلّ النساء الحاضرات يهتفن: يا ابن فاطمة! نحن ننتظرك... وعيون الجميع محدّقة نحو الستار الأزرق في الحسينيّة ترقب قدوم مولاها.

ذرفتُ الدّموع حقّاً لرؤيتي كلّ هذه العيون المتلهّفة! سالت دموعي فعلاً!

أطلّ القائد، وكما جرت عادتي، جلستُ في الخلف. وبدل أن أحاول رؤية القائد نفسه، رحتُ أنظر إليه في دموع الآخرين وابتساماتهم، لأزداد إيماناً مع إيمانهم. كنت أحاول أن أحصل من كلّ هذه الدّموع والعواطف الجيّاشة في داخل الحسينيّة قطرة أكتنزها لنفسي وذرّة معرفة أجعلها مساراً لروحي.

كانت زوجة الشّيخ زكزكي أولى المتحدّثات. قالت المعرّفة عند التعريف عنها ودعوتها للحضور خلف المنبر: ... ووالدة لستّ شهداء! صُدمت كلّ الحاضرات في الحسينيّة، فجميعهنّ كنّ نساء ويعلمن ما يعنيه فلذة الكبد وعصارة الوجود، ويعرفن ما يعنيه أن تقدّم المرأة ستّة من أبنائها الشباب، ثمّ تدخل السّجن وفي نهاية المطاف تُهجّر من وطنها ومكان عيشها... كان جميع من في الحسينيّة في حالة من الذّهول، وسادت أجواء الصّمت والحيرة أجواء الحسينيّة للحظات، كأنّما هذه الجملة كانت لوحدها كفيلة بأن تؤدّي مهمّة ألف خطاب وألف منبر.

لكنّ قلبي كان لا يزال عند نساء فلسطين في هذه الأيّام، النساء اللواتي أصبحن معلّمات ومربّيات لكلّ سيّدة حرّة في العالم مهما كان دينها ومذهبها. كنت أراجع المشاهد والأخبار التي كنت أراها كلّ يوم وأتألّم. كنت أرغب لو أنّي لم آتِ وجئنَ جميعهنّ بدلاً عنّي... غرقتُ في أحلامي بأن تحضر كلّ النساء الفلسطينيّات المتألّمات والمقاومات في هذه الحسينيّة حين هزّت أسماعي جملة: «من غزّة أخاطبكم»...

رفعتُ رأسي، كانت إسراء البحيصي، إحدى الرواة المعروفات هذه الأيّام في غزّة. الصّوت الذي آنسُ به منذ قرابة الثمانين يوماً. سجّلت السيّدة إسراء رسالة مصوّرة للقائد من فوق ركام مدينة غزّة المظلومة... قالت قد أُستشهد، لكن فلتعلموا أنّكم البلد الوحيد الذي يدافع عنّا، واصلوا دعمكم لنا...

كان لحن كلامها أشبه بالوصيّة ولوّع قلبي... بكيتُ من أجلها... لكنّ القائد أطلق الرّصاصة الأخيرة في قلوبنا عندما قال بلّغوا سلامي لهذه السيّدة وأخبروها أنّني أدعو لهم في كلّ ليلة...

لم أسمع أيّ صوت لعدّة دقائق واسودّ كلّ شيء في عيني بعد أن اغرورقت عيناي بالدّموع...

كم كنت أتمنّى أن أكون بجانبهنّ، وها أنا عاجزة ومحرومة من ذلك...

أفقتُ على نفسي ورأيتُ أنّ متحدّثة أخرى اعتلت المنبر. كانت سيّدة طبيبة استهلّت كلمتها بإبلاغ التحيّة والسلام لجميع الأطبّاء والممرّضين الفلسطينيّين الذين تخفق قلوب جميع زملائهم الإيرانيّين من أجلهم، وقالت أنّنا كنا سنكون بجانبكم لولا إغلاق الحدود، ولم نكن سنبقى هنا.

ارتجف صوتها وخنقتها العبرة، ولا داعي لأخبركم ما حلّ بالجميع في الحسينيّة...

تحدّثت السيّدات من الفئات كلّها، بدءاً من الطبيبة والخبيرة الحقوقيّة والأستاذة الجامعيّة والرئيسة التنفيذيّة لشركة رقميّة كُبرى، وصولاٌ إلى المدرّبة الرياضيّة ومخرجة المسرح.

قال القائد أنّ كلمات السيّدات كانت غنيّة لدرجة أن لا مشكلة لو لم ألقِ كلمة الآن بعد كلماتهنّ. رغبتُ حينها لو يعلم العالم كلّه أيّ رفعة حظيت بها المرأة في ظلّ الجمهوريّة الإسلاميّة! خطر في بالي أن أخصّص وقتاً وافياً للتركيز على التعريف بالنسخة الراقية للمرأة التي تقدّمها الثورة الإسلاميّة لسائر المجتمعات، النسخة التي تجمع بين الدّورين الأسري والاجتماعي للمرأة دون أن يتداخلا في ما بينهما. إنّها رسالةٌ في حدّ ذاتها!

ثمّ تابع السيّد القائد كلامه المحوري حول المرأة والذي ذكره سابقاً أيضاً، وذكر نقاطاً رسخت في أعماق وجودنا. فقال أنّ المرأة في ظلّ النظام الحقيقي الذي يسود فيه حكم الجدارة، يكون فيه الطريق مشرّعاً أمامها وتحقق ارتقائها بقدر ما تتقدّم في أيّ اختصاص يتناسب ويتلائم مع مواهبها وروحيّتها.

وانجلت أرواحنا عندما انتقد القائد المنطق الغربي الفارغ والواهي الذي يجعل من حقوق المرأة شمّاعة وأداة تحقّق مصالحه الخاصّة، حيث قال سماحته: خذوا على سبيل المثال عندما فَرض الأمريكيّون على إحدى الدول المجاورة لنا أنه ينبغي حتماً أن تكون نسبة النساء في المجال الإداري 25% بصورة إلزامية وبالإجبار؛ هذا خطأ. لماذا 25%؟ فلتكن 35% [أو] 20%. لا معنى لهذا التحديد للعدد والنسبة، بل المعيار هنا الجدارة، ففي مكان، قد تكون سيّدة متعلّمة ومجرّبة وكفؤة أفضل للوزارة من هذا الرجل الذي ترشّح في ذاك المجال؛ يجب [حينئذ] أن تصير هذه السيّدة وزيرة. النيابة في مجلس [الشورى الإسلامي] على هذا النحو أيضاً. خذوا على سبيل المثال أنّ المدينة الفلانيّة تحتاج إلى شخص أو اثنين ليكونا نائبين عنها في المجلس، وجرى تعيين رجل أو اثنين أو سيّدة أو اثنتين، فمن الأجدر؟ يجب أخذ الجدارة بالحسبان، ولا تفضيل هنا، كما لا محدودية، إذْ لا توجد محدودية في هذه المجالات. هذا رأي الإسلام، فالقضيّة قضيّة الجدارة.

نظرت إلى فتاة جالسة في الطرف المقابل ويبدو أنّها تبلغ من العمر ما أبلغ تقريباً، وتبادلنا النظرات دون أن نتمكّن من إلقاء التحيّة من قرب وتبادل السلام، وكنّا بين الحين والآخر نتابع معاً النقاط المهمّة في الكلمة ونؤيّدها بأعيننا وحركة رأسنا. كنّا نشعر بالفخر ونتبادل الابتسامات؛ اشتدّت عزائمنا أكثر من الماضي وقلنا من أعماق قلوبنا معلنين في أنفسنا اتخاذنا القرار ببداية قويّة وحماسيّة: «بسم الله وعلى بركته!»