الكاتب: الشيخ مجتبى قصير

مع الأحداث الأخيرة التي حصلت في منطقتنا، برزت في الأذهان تساؤلاتٌ وهواجس كثيرةٌ تحتاج إلى الإجابة عنها. من وقائع الحرب في غزّة وفي لبنان، والتضحيات العظيمة التي قدّمتها جبهة المقاومة فيها، إلى سقوط النظام في سوريا بيد الجماعات المسلّحة، إلى إقدامات العدوّ الإسرائيليّ واحتلاله لأجزاء من سوريا وخرقه لتفاهم وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، بات الجميع يشعر أنّه بحاجةٍ إلى تحديث قراءته للمشهد العامّ وإلى تثبيت الأصول العامّة التي يحملها أبناء خطّ الولاية ويفهمون الصراع على أساسها.

واحدٌ من الهواجس التي تخطر في الأذهان ويردّدها كثيرٌ من الناس على ألسنتهم، هو السؤال عن جدوى الدماء التي بُذلت في معارك السنوات الأخيرة، خصوصاً في الساحة السوريّة. حيث قدّمت جبهة المقاومة آلاف الشهداء من مختلف الجنسيّات في مواجهة المدّ التكفيريّ الذي شنّ حرباً ضروساً بدأت عام 2012م لم تقتصر على النظام في سوريا، بل كان هدفها المعلن هو ما يمتّ إلى المقاومة وأهلها بصلةٍ كلّه، تحت عناوين ومبرّراتٍ مذهبيّةٍ وطائفيّةٍ. مع سقوط النظام السوريّ هذا العام، صار السؤال المطروح عن جدوى تقديم هذه القرابين في مواجهة التكفيريّين. هل ذهبت دماء أحبّائنا وإخواننا سدىً دون أن تحقّق شيئاً من النتائج والأهداف؟

بصفتي ابناً لشهيدٍ أمضى جزءاً كبيراً من عمله في الساحة السوريّة، وكان حاضراً في صلب الأحداث السابقة كلّها، ووصل الليل بالنهار على مدى أكثر من عشرين عاماً في هذه الساحة وقدّم مع إخوانه جهوداً كبيرةً في سبيل بناء محور المقاومة وتطوير أركانه وتعزيز حضوره، وفي سبيل تحقيق النصر في المعركة مع التكفيريّين، فإنّني أفهم تماماً هذه التساؤلات وأجدها مشروعةً لا بدّ من تقديم الإجابات عنها.

في أوّل يومٍ من أيّام هذه السنة الجديدة، تشرّفنا بالحضور في لقاء الإمام القائد الخامنئيّ دام ظلّه الشريف مع جمعٍ من عائلات شهداء كرمان وبعض الشباب اللبنانيّين. كان اللقاء – كالعادة - مفعماً بأجواء المحبّة والأخوّة الولائيّة. كيفما وجّهت نظرك رأيت تلك التفاصيل التي يهتزّ القلب لها فرحاً وسروراً، من المكان وجزئيّاته المعهودة التي يذكّرك كلّ شيءٍ فيها بصاحب الدعوة الذي جئنا لرؤيته، إلى وجوه الشباب وعيونهم التي تحكي كثيراً من مشاعر اللهفة والترقّب، إلى حسن الترتيب والنظام الدقيق الذي تجري الأمور به، إلى الهتافات واللطميّات التي يحاول الحاضرون ملء الوقت بها علّ الدقائق تسرع في المضيّ فتأتي لحظة اللقاء باكراً... إلى حضور الإمام الخامنئيّ ودخوله إلى الحسينيّة، اللحظة التي تمتزج فيها مشاعر الحبّ بالهيبة والفرح بالدموع.

افتتح القائد كلامه بالفقرة المعنويّة، إذ نحن على أعتاب شهر رجب المعظّم وبداية موسم النور، فكان تأكيد ضرورة التزوّد من هذه الفرصة المعنويّة بالدعاء والعبادة وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى. ثمّ تحدّث عن صاحب الذكرى التي اجتمعنا فيها: الشهيد الحاج قاسم سليمانيّ (رضوان الله عليه). هذا القائد الذي أكّد مراراً تجنّب التوجّه إليه بوصفه شخصاً، بل بوصفه مدرسة لا بدّ أن ننهل من معالمها ليكون كلّ واحدٍ فينا «سليمانيّاً». لقد ذكر الإمام القائد في السنين الماضية كثيراً من صفات هذا الشهيد العظيم وخصوصيّاته ومعالم مدرسته (التي هي مدرسة الإسلام في الحقيقة)، ولكنّ قائدنا الذي لا ينضب معينه لا زال يقتنص الخصوصيّات المفيدة من حياة الشهيد ومسيرته الجهاديّة الحافلة ليقدّم إلى الشباب النموذج القدوة.وفي هذا اللقاء، كان الكلام عن ثلاث خصوصيّاتٍ بصورة أساسيّة: المبادرة لأداء التكليف في محلّه بكلّ شجاعةٍ وقوّةٍ، وتوظيف طاقات الشباب المستعدّين للعمل، والدفاع عن حريم مقدّسات الإسلام.

بعد هذا، وصل الكلام إلى أوضاع المنطقة وما يحدث فيها، فأعاد القائد تأكيد ما تفضّل به في الخطابين السابقين: أنّه لا مكان لليأس والتشاؤم في قاموسنا، وما يحاول العدوّ إظهاره من صورة النصر والتفوّق وما قد يتوهّمه البعض من انقلاب الموازين في المنطقة لمصلحة أميركا والكيان الصهيونيّ وأتباعهما هو مجرّد وهمٍ، فالكيان المؤقّت سائرٌ نحو السقوط والاندثار بلا شكٍّ، وجبهة المقاومة منتصرةٌ حتماً، وقوّات الاحتلال ستخرج من البلاد التي دخلت إليها على يد شباب المنطقة الغيارى، والأعداء الذين يعيشون اليوم نشوة توجيه الضربات إلى المقاومة «سوف يداسون تحت أقدام الشباب المؤمنين».

هذا الكلام الذي قد يراه البعض مجرّد أمنياتٍ جميلة وقد يفسّره البعض الآخر بأنّه مجرّد إعطاء معنويّاتٍ لأتباع خطّ الولاية والمقاومة، هو في الحقيقة تبيين لوعود الله تعالى القطعيّة في القرآن حين تعهّد بنصرة المؤمنين ورعايتهم وأخبرهم أنّهم الغالبون على عدوّهم مهما امتلك من القدرات والإمكانات والعديد. هو حصيلة الخبرة القياديّة والقراءة السياسيّة العميقة التي يتفرّد بها إمامنا القائد الخامنئيّ أيضاً، والتي رأينا دقّتها على مدى خمسةٍ وثلاثين عاماً من القيادة التي صنعت لشعوب أمّتنا الانتصارات والإنجازات، ورأينا صدقها في استشراف الوقائع المستقبليّة في كثير من خطابات سماحته.

أمّا السؤال والهاجس اللذان افتتحنا بهما الكلام، فلم يتركهما القائد من دون جوابٍ، وهو رائد جهاد التبيين. لقد تعرّض لشبهة ذهاب دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين سدىً من دون فائدةٍ التي يروّج لها البعض عن اشتباهٍ وآخرون عن خبثٍ، ونبّه إلى أنّ ما يُقدّم في سبيل الله كله لا يمكن أن يضيع وألّا تظهر ثمراته وبركاته. لقد استشهد حمزة في معركة أحدٍ التي لم يحقّق فيها المسلمون نصراً ظاهريّاً، وانتهت واقعة كربلاء باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) مع أصحابه وأهل بيته جميعهم، فهل ذهبت دماؤهم سدىً؟ هذه النظرة مخالفةٌ لصريح القرآن الكريم الذي أخبرنا الله فيه أنّه {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}. عند الله لا يضيع شيءٌ من أجر المجاهدين المقاتلين في سبيل الله سواءٌ انتهت معركتهم بالقتل أو بالنصر على عدوّهم. ما قُدّم ويقدّم في سبيل الله محفوظ عند الله، وسيصل المضحّون في هذا الخطّ إلى مقصدهم عند الله فيوفّيهم أجراً عظيماً على ما قدّموه، ولا مجال للكلام عن ضياع شيءٍ من هذه التقديمات.

كما لم يكتفِ الإمام الخامنئيّ بالرجوع إلى الأصل القرآنيّ وبيان ثمرة التضحيات التي سوف ينالها شهداؤنا في الآخرة، بل أشار إلى النتائج الدنيويّة والإنجازات المشهودة التي حقّقتها دماء شهدائنا العظماء. الذين وقفوا في وجه المدّ التكفيريّ منذ عام 2012م وبذلوا أغلى الأثمان في هذه المعركة، قد حفظوا مقدّسات المسلمين من أن يدنّسها أولئك الأجلاف الذين لا يرعون حرمةً. أولئك الذين وصلوا إلى مرقد الإمامين العسكريّين (عليهما السلام) في سامرّاء فهدموا قبّته الشريفة وعبثوا بالمرقد المطهّر، والذين نبشوا قبر حجر بن عدي (رضوان الله عليه) في سوريا، هؤلاء لو تمكّنوا من تنفيذ مخطّطاتهم في ذلك الوقت، لما بقي شيءٌ من مقدّسات المسلمين في المنطقة دون أن تُهتك حرمته. لكنّ الذي حفظ هذه المقدّسات هم المجاهدون والشهداء والجرحى، هم الحاج قاسم سليمانيّ ورفاقه العظماء. هذا فضلاً عن الإنجازات السياسيّة والعسكريّة وغيرها التي حقّقتها دماء الشهداء لجبهة المقاومة على مرّ السنين الماضية.

في المحصّلة: دماء شهدائنا وأعزّائنا لم تذهب سدىً، ولا يمكن أن يذهب شيءٌ ممّا يبذل في سبيل أداء التكليف الإلهيّ سدىً.

لقد كان هذا الخطاب وهذا اللقاء، كما في كلّ مرّةٍ، مفعمَين بجهاد التبيين والإجابة عن الإشكاليّات، وببثّ روح الأمل في قلوب الشباب ومنع اليأس من التسلّل إليها، وبالمحبّة والمودّة والشعور بالحضور الأبويّ لقائدنا العظيم.

في نهايته، ودّعنا القائد، وهتفنا له بتجديد البيعة والولاء، وخرجنا آملين أن يمنّ الله علينا بالحضور مرّةً جديدةً في محضره المبارك.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا التقرير، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir