في رأيي إنّ النقطة الأولى التي يمكن عرضها هنا هي أنّ المسؤولين في أيّ بلد يتحمّلون مسؤوليّة هي الخدمة ضمن إطار تحقيق المصالح القوميّة للبلاد. إنّ الدول التي تسودها السيادة الشعبيّة، تتحمّل مسؤوليّة مضاعفة، لأنّ الناس في ذاك البلد حمّلوا المسؤولين فيه حِملًا مضاعفًا. في الدول التي لا وجود فيها للسيادة الشعبيّة وتحضر فيها الملكيّة أو أنواع أخرى من الدكتاتوريّة، يتحمّل هؤلاء أيضًا مسؤوليّة العمل ضمن إطار المصالح القوميّة لبلادهم. لكن قد لا يشعرون بوجود ذاك الحِمل المضاعف على نحوٍ من الأنحاء، لأنّ تلك الحكومات لا تملك ركيزة شعبيّة.
في أمريكا أيضًا يحضر هذا الواقع، فالأشخاص الذين يعملون في الحكومة الأمريكيّة والمسؤولون الأمريكيّون، هؤلاء مكلّفون – شأنهم شأن سائر الدول – أن يعملوا بما يخدم المصالح القومية والوطنيّة لبلادهم. من الأعمال التي يؤديها المسؤولون الأمريكيّون أو سائر المسؤولين في الدول الأخرى الذين يجرون محادثاتٍ مع الدول وينشغلون بالعمل في الأنشطة الدبلوماسيّة، أنّهم يمعنون النظر جيّدًا ليعثروا في أيّ ملف وحالة كيف يمكنهم تعزيز قوّة بلدهم، وكيف يستطيعون تعزيز نفوذ بلدهم، وكيف يقدرون على الاستفادة من الفرص المتوافرة لدى البلد الآخر. النقطة الثالثة بشأن أمريكا هي أنّه للأسف، وطوال هذه العقود الماضية، وربّما منذ بداية تأسيس أمريكا، كانت أمريكا تملك خصوصيّة لا يملكها كثير من الدول الأخرى، وهي الجشع والطمع. أي لدينا عمل عاديّ يرتبط بحفظ المصالح القوميّة للبلاد، وهي في المناسبة مسؤوليّة المسؤولين في الدول أيضًا. أمريكا تفعل ما يجعل هذا الأمر يتحوّل إلى أداة لجني الأرباح. أي إنّ ذاك الفرد الأمريكي يخرج من الحالة العاديّة ومن الاتزان، ويلجأ إلى الاستفادة من أداة الغطرسة، ويستفيدون من مختلف أدوات السلطة التي يُطلقون عليها اسم coercive diplomacy، دبلوماسيّة الإجبار، وهناك أدوات متعدّدة تندرج ضمن دبلوماسيّة الإجبار، وهم يستفيدون من هذه الأدوات حتى تحصد أمريكا المزيد من المصالح. هذا الأمر مردّه تلك الروحيّة الاستكباريّة التي لديهم. هم أنفسهم يُطلقون عليها اسم American Exceptionalism. الاستثنائيّة الأمريكيّة تعني أنّ أمريكا أو المسؤولين الأمريكيّين، والشعب الأمريكي على سبيل المثال، لديهم ثقافة خاصّة وحضارة خاصّة ومكانة خاصّة أو سلطة أكبر، ومع وجود كون أمريكا بلدًا كبيرًا، هذا كلّه يجعل أمريكا بلدًا استثنائيًّا، ووسط هذه الاستثنائيّة الأمريكيّة، تتحوّل أمريكا إلى مدرسة وأيديولوجيّة خاصّة وفريدة. المسؤولون الأمريكيّون يمنحون أنفسهم هذا الحقّ بأن يحقّقوا أهدافهم وغاياتهم حتى وإن تعارضت مع العرف الدولي، ومع التوسّل بأدوات غير اعتياديّة وغير قانونيّة بصورة عامة.
ليس من الضروري أن تكون بلدًا يعدّه الأمريكيّون عدوًّا، فهذه الحالة مشهودة أيضًا تجاه الدول الحليفة والصديقة لهم أيضًا. الآن في هذه الأيام القليلة الماضية، تُثار قضيّة ترامب، وقد بدأ من الآن وأعلن أنّ كندا بصفتها بلدًا عضوًا في الأمم المتحدة ودولة مستقلّة ولديها نظام حكومي، يجب أن تصبح ولاية من ضمن الولايات الأمريكيّة. هو يكرّر هذا الكلام باستمرار، ويقول إنه إذا لم تُقدم على هذا الأمر، فسوف تستخدم أمريكا الأدوات الاقتصاديّة الفلانيّة لمعاقبة كندا. هناك جملة شهيرة لهنري كيسنجر يقول فيها: يمكن أن يكون خطيرًا أن تعادي أمريكا، ولكن صداقة أمريكا ستقتلك. رغم أنّ هنري كيسنجر رحل عن هذا العالم، ولكنّ هذه الجملة تصدق الآن على كندا وعدد من الأصدقاء الآخرين لأمريكا. إذًا، حالة الجشع هذه لا تقتصر على الدول المعادية مثلًا، أو الدول التي لديها مشاحنات مع الطرف الأمريكي، هذه ليست مشكلة يعاني منها هؤلاء فقط. إنّها مشكلة الدول كلّها. بسبب روحيّة الاستثنائيّة والاستكبار التي لدى الأمريكيّين، يشعرون أنّ كلّ شيءٍ ملكٌ لهم. هم يشعرون مع امتلاكهم مختلف الأدوات أن عليهم توظيف هذه الأدوات من أجل تحقيق ذاك الهدف.
ماذا سيكون مصير السيادة الشعبيّة في هذه الدول التي تتعرّض لضغوط أمريكا؟ أي لو أنّ مسؤولي الدول التي تستهدفها أمريكا قدّموا رأي أمريكا، أي بدل أن يفكّروا في العمل على تأمين مصالح بلادهم، أمّنوا مصالح أمريكا إلى حدٍّ كبير، فهذا يُعدّ خيارًا، وهو خيارٌ سيّئ. لأنّ الدول التي تستهدفها أمريكا لو كانت تملك سيادةً شعبيّة، فهذا يتعارض مع تلك الآراء التي أدلى بها هؤلاء الناس وجاءت بهم إلى الحكم. حتى لو لم تكن لديهم سيادة شعبيّة، فإنّ هذا لا يُبرّر أن يُبادر مسؤولٌ في بلدٍ معيّن إلى تأمين مصالح أمريكا. هذه مشكلة نشهدها منذ عقود، خاصّة بعد الحرب العالميّة الثانية. قبل الحرب العالميّة الثانية، أي منذ القرن التاسع عشر فما بعد، ومع النفوذ الذي اكتسبه الأمريكيّون في أمريكا اللاتينيّة، تعاني شعوب دول أمريكا اللاتينيّة أكثر بكثير من شعوب الدول الأخرى.
هذا ما يحدث على أرض الواقع، فإمّا أن يُمكّن مسؤولو هذا البلد أمريكا من تحقيق رؤيتها وهدفها فيخرجون من الحالة الطبيعيّة، وبدل أن يكونوا خدّامًا للناس يصبحون خدّامًا لأمريكا. أو قد لا يُمكّنوها، ويتعرّض أولئك المسؤولون وكذا الشعب لضغوط أمريكا وتسعى إلى التعامل معهم بأدواتها.
لدينا في تاريخنا نماذج متعدّدة. بداية في بلدنا، وقد جاء ذلك في خطاب الإمام الخامنئي. الظروف التي كانت سائدة قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، كانت تجعل أمريكا تشعر أنّ الشاه عبدٌ مطيعٌ لها. لقد كان شعور أمريكا بكون الشاه في إيران عبدًا مطيعًا لها أبرز من أيّ مكان آخر، لأنّ الأمريكيّين بعد أن أحدثوا الانقلاب ونصّبوا الشاه في إيران، تكوّنت لديهم مشاعر أكثر خصوصيّة تجاهه وأصبحت لديهم توقّعات أكبر منه، وكان الشاه أيضًا يقدّم إليهم الخدمات. كانت إيران في المرتبة الأولى عالميًّا لناحية شراء الأسلحة، طبعًا في الأعوام التي سبقت انتصار الثورة الإسلاميّة. لم يكن أيّ بلد في العالم يشتري الأسلحة من أمريكا بقدر إيران، وكانت إيران تشتري ما نسبته ثُلث مبيعات الأسلحة الأمريكيّة على المستوى الدولي، وكان هذا أمرًا وجّهه الأمريكيّون. أي بدل أن يعطوا الشاه المال، قالوا له إنّنا سنُعطيك الأسلحة، ولم يُسلّموه جزءًا منها أيضًا. كان هذا حال إيران. هذه القصّة لم تنتهِ حتى اليوم.
في هذه الأعوام الأخيرة، شعر الأمريكيّون أنّهم قادرون على استغلال فرصٍ داخل بعض الحكومات في إيران، وجاؤوا ووضعوا أيديهم على عدد من المواضيع التي تشكّل في المناسبة ركائز قوّة لإيران. هم يسعون إلى سلب إيران ركائز القوّة تلك. لهذا كانت إشارة قائد الثورة الإسلاميّة في خطابه الأخير بمنزلة التذكير للأفراد الذين بلغوا سدّة الحكم بواسطة السيادة الشعبيّة، والقول لهم إنّكم حين استلمتم هذا المنصب، كان ذلك من أجل تأمين مصالح الشعب الإيراني، لا مصالح المسؤول الأمريكيّ الفلاني الذي يتعامل معكم بواسطة أدوات الضغط التي يملكها. إذا وُجد في إيران من يُفضّل مصالح أمريكا على مصالح بلده، فإنّه سيُسبّب مشكلات لنفسه وبلده، وهذا ما نشهده في سائر الأماكن حول العالم أيضًا. أي حتى في البلد الصديق لأمريكا، يُجبر هؤلاء على بسط يدها. مثل الدول الأعضاء في حلف الناتو، وهي دولٌ تُعدّ دولًا صديقة لأمريكا، راحت حكومة ترامب وكذلك حكومة بايدن والآخرين في الولايات المتحدة الأمريكيّة يمارسون الضغوط في الأعوام الفائتة على دول الناتو، بأن عليكم مثلًا تخصيص النسبة المئويّة الفلانيّة من ميزانيتكم السنويّة للمجال العسكري، لكي تشتروا الأسلحة الموجودة في العالم التي يمكن لأعضاء الناتو الاستفادة منها، وغالبية هذه الأسلحة أسلحة أمريكية. أي بتعبيرٍ آخر، كان الأمريكيّون يقولون لأعضاء الناتو: عليكم شراء السلاح. لكن بدل أن يقولوا لهم ذلك مباشرة ويأمروهم مباشرة بشراء السلاح، قالوا لهم أنتم أعضاء في حلف الناتو، وعليكم أن تسلّمونا اثنين أو خمسة بالمئة من ميزانيّة بلادكم كلّها. هكذا هو حال الدول الصديقة أيضًا: لقد قلت إنّهم يريدون الاستحواذ على كندا كلّها والسيطرة على تلك البلاد. جزيرة غرينلند ملكٌ للدنمارك، وهي حليفة أمريكا منذ أعوام. صرّحت حكومة ترامب الآن بأنّها قد تلجأ إلى الأدوات والخيارات العسكريّة من أجل احتلال جزيرة غرينلند. أو بشأن باناما، هناك الآن أفرادٌ في باناما هم حلفاء لأمريكا، وبعضهم نُصّبوا في بعض المناصب بدعم من أمريكا، ولكن في هذا الصدد أيضًا يقول ترامب إن قناة باناما ملكٌ لنا، ويجب أن تسلّمنا باناما إياها. بغضّ النظر عن ترامب نفسه، ينبغي لنا القول إنّ هذه السياسات كانت سائدة أيضًا في سائر الحكومات الأمريكيّة.
من هذه الناحية، كان مهمًّا ما جاء في خطاب قائد الثورة الإسلاميّة، بأن لو ادّعى بلدٌ السيادة الشعبيّة، لا يمكن لمسؤوليه أن يتجاهلوا مصالح شعبهم ويهتمّوا بمصالح الشخص الفلاني في السلطة التنفيذيّة أو التشريعيّة لأمريكا. لدينا أكثر من ثلاثين بلداً في العالم فرض الكونغرس الأمريكيّ عليهم الحظر رسمياً، لماذا؟ لأنّهم لم يكترثوا للمطلب الفلاني للمسؤولين الأمريكيّين، فبادر الكونغرس إلى إصدار مشروع قرار عقوبات ضدّهم، وهذا هو الوضع الذي يشهده العالم اليوم.