كتب محمد فارس جرادات*

ليس هذا أول تشرين يزهر في فلسطين، هو تشرين متجدد، وإن ظل على الدوام يواجه مخلب الافتراس وحيداً في قيظ الصحراء الملتهبة من طنجة إلى جاكرتا، مروراً بكل مقابر الأمة، وضجيجها الساكن حدّ الموت الزؤام.

كان العرب على موعد مع ربيع فلسطين التشرينيّ، وهم يوزعون أزهار الموت قنابل تتشظى من سوريا والعراق وليبيا إلى اليمن، مروراً بكل ميدان دعشنته الأيادي الآثمة من الضاحية حتى سيناء والقطيف. جاء ربيع فلسطين بعبق زكيّ توارثته أجيال الشقاقي والعيّاش والكرمي والنايف وجبريل، لم تكن أنفاس مهند الحلبي والبهاء وضياء التلاحمة قد طال عليها أمد أنسام رائحة الدم الزكي منذ شجاعية مصباح حتى زلزال هنادي في حيفا.

كان العرب على موعد مع ربيع فلسطين التشرينيّ، وهم يوزعون أزهار الموت قنابل تتشظى من سوريا والعراق وليبيا إلى اليمن

كان العربان يستبسلون في الانتحار على أبواب دمشق وصنعاء، وقد تبيّن أنّ آهات البوعزيزي عندما ابتدأت لهيباً يحرق الطغاة، فإنّ (جئناكم بالذبح) جعلها محرقة مستعرة بأشلاء الشعوب ومقصلة للآمال، ومدفناً لقضية القدس، فإذا بتشرين القدس المتجدد يستنهض كل (صبّار) الصحاري ليضع الجرح في مقبضه، وينثر الشوك في حلق الجزار، ويرفع كل الحجب عن رايات تسترت بالعُقاب لتزرع السواد في الرقة وحلب والقلمون، وتنثره بياضاً سلميّاً مع أبراج الجولان المحتلة حتى أحياء القدس العتيقة بصرخات اليتم، فلا (جهاد عالميّ) ولا (إذا استنصروكم في الدين فعليكم النصر) لها مفاعيل إلّا على أطلال اليرموك، وفيافي سيناء، وسماء صعدة الشمّاء.

ليست المرّة الأولى التي ينتفض فيها شباب القدس وفرسان الخليل وأشبال قباطية وصبايا (أشرقت)، وهم يستصرخون الأمة (يا لوحدنا) وما لهم من صريخ، كانوا يعاكسون التيار العربي على الدوام، كان العرب منذ زمن يذهبون زحفاً للسلام المدنس في كامب ديفيد ومشروع الملك فهد، فكانت انتفاضة الحجارة والمساجد، وكان العرب يعلنون مبادرتهم للسلام والصلح الشامل، فكانت انتفاضة البنادق، وعندما غرق العرب في ربيعهم اللاهب، جاءت هبّة القدس لتدير مؤشر البوصلة نحو حائط البراق وباب المغاربة وأقصى الصعود إلى السماء.

ليست المرّة الأولى التي ينتفض فيها شباب القدس وفرسان الخليل وأشبال قباطية وصبايا (أشرقت)، وهم يستصرخون الأمة (يا لوحدنا) وما لهم من صريخ

هي عادة فلسطينية قديمة، معاكسة تيار العرب، منذ عبد القادر الحسيني وكتائب الجهاد المقدس، والقتال حتى آخر طلقة فوق تلال القدس، إنه القتال بلا رفيق ولا صديق ولا نهاية للطريق، وهي عادة إسلامية قديمة منذ جدهم الحسين، حينما يمّم وحيداً نحو مذبحه عطشاً في الصحراء، ليصلح أصل الدين وحال الدنيا، فيما كانت العربان تنفر زرافات لتبايع يزيد على أن يكونوا له خولاً وعبيداً.

أما وقد احتضنت نجوم تشرين عذابات محرّم، في فسحة للأمل قلّ نظيرها، أو هي محنة للمنح وأمل للآلام، لعلّ التاريخ المتجدد على امتداد جغرافيا الهلال الخصيب من كربلاء حتى القدس، يزهر أمثال عليّ المنقاش، ذلك الفلاح الكربلائي الذي أسقط الأباتشي الأمريكية بطلقات البرنو دفاعاً عن عراق الطهر والحضارة، لتخلّد القدس وسراياها بطولة هذا الكربلائي بعملية استشهادية على أرض نتانيا حملت اسمه ورسمه.

كم هو مثير أن يقع هذا العناق التاريخي بين صرخة القدس بدم شبابها وبناتها لوقف نزيف العرب، وبين صرخة الحسين بدمه ودم آل البيت ليعيد للدين مجده قبل أن يحوّله سدنة العرب إلى شأن عائليّ يعبث به أهل اللهو والمجون في ظل سيوف قبائل كلبية ورثت سطوتها من السيد الرومي قبل رحيله.

كم هو مثير أن يقع هذا العناق التاريخي بين صرخة القدس بدم شبابها وبناتها لوقف نزيف العرب، وبين صرخة الحسين بدمه ودم آل البيت ليعيد للدين مجده

كان وجع القدس يتحشرج على الدوام في شرايين الأمة؛ هل من مغيث، هل من أكتوبر جديد تصرخ فيه جنود الكنانة وقاهرة المعز وبواسل الفيحاء تكبيرات العبور والصعود (الله أكبر فوق سيف المعتدي)، هل من فجر صادق يتجلّى على وقع تجدد تشرين القدس ليبدد عتمة الفتنة، ويخرج الأمة كل الأمة من نير آهات الذبح واللجوء وتيه البحر إلى قبلة حرم خليل الله ومراقد أنبيائه وآله وصحبه وأوليائه ؟!.

جاءت رسالة تشرين الحمراء واندفاع الفتيان والفتيات بسكاكين أكثر ما فيها جرح تفاحة أو حبة برتقال، يحركهم قهر (حواجز الكبر اليهودي) على أعتاب كل مخيم وحيّ وقرية ومدينة ومسجد ومدرسة ومؤسسة، لتتلوّى حوامل هذا الوطن على أجنّتها في عربات نقل صدئة، ريثما يأذن بنيامين، كان الفتى التشرينيّ الحلبيّ، كما الحرّة أشرقت يرون قسمات العمر الطريّ، في زفرة جَنين تقيّده معابر الصدّ في حوارة وقلنديا والجلمة وعنّاب وترقوميا وفي عمق قديمة الخليل المسبيّة في عين سارة منذ عقود.

ربما لم تفلح هبّة القدس في حشد كل طاقاتها، لتحيل نهار الكيان إلى ليل لا ينتهي، فتوجّس أجيال الانتفاضتين من عبث القيادات وخزايا أوسلو وتشرذم بقايا الوطن بين غزة والضفة، وانكشاف الظهر من الأخ والرفيق فلا بحر أمام القدس ولا بحر خلفها، وحده كف القدس ظل يلاطم مخرز السجّان.

في تشرين هذا العام تئن القدس تحت وقع الخيانات، وتقف بكامل جراحها مندهشةً من تلك الجموع التي جاءت خفافاً وثقالاً لوداع الجزّار، وذرف الدموع على رحيل رجل الحرب والسلام!!!

ولعلّ القدس وفتيان الخليل وفتياتها كانوا يقدمون أرواحهم قرابين قلّما أوجعت ظهر المحتل، وقد عرّتهم أوهام السلام من كل أدوات الفعل، ونهج الثورة، ومن كل خبرة، وأغرقت عوائلهم في همّ لقمة العيش، أو لعلها التكنولوجيا الزاحفة والإعلام المأجور عندما نقل المعركة في (اللاوعي) إلى ساحات الضياع.

في تشرين هذا العام تئن القدس تحت وقع الخيانات، وتقف بكامل جراحها مندهشةً من تلك الجموع التي جاءت خفافاً وثقالاً لوداع الجزّار، وذرف الدموع على رحيل رجل الحرب والسلام!!!

تقف القدس على استحياءٍ أمام أضرحة الشهداء لتعلن براءتها من كل هذا الرجس، ولتملأ الأفق أن ترابها حتماً سيلفظ جسد الجزار، وإن طال الزمن أو قصر، ولتصرخ بكل ما تبقى فيها من صوت وعزيمة أنها لم تزل على العهد وما بدّلت تبديلا.

 

 

 

*باحث فلسطيني،  وأسير محرر قضى في سجون الاحتلال ستة عشر عاماً، ماجستير تاريخ، صدر له عدة دراسات وبحوث، منها (المستضعفون في الأرض) وتحت الطباعة (ابن تيمية بين وهم المرجعية وسطوة الدم).

  • إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir