بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفی محمد وعلی آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين سيما بقية الله في الأرضين.
أشكر الله تعالی شكراً وافراً أن وفقني لزيارتكم أهالي شيراز الأعزاء وإن بشكل متأخر.
جاءت هذه الزيارة بعد مدة طويلة من عتاب الأصدقاء الشيرازيين والإخوة في محافظة فارس علی أن زيارة المحافظة قد تأخرت. ويجب أن أقول إن شوقي للقائكم أيها الأهالي الأعزاء ومدينتكم الجميلة ومحافظتكم المباركة الزاخرة بالمفاخر ليس بأقل منكم أيها الإخوة والأعزاء. هنا مدينة العلماء والعلم والذوق والثقافة. هنا مدينة الشخصيات التاريخية والعالمية. شيراز ومحافظة فارس تحتل مرتبة راقية بين مدن البلاد ومحافظاتها.
في زياراتي للمدن ولقاءاتي بالأهالي الأعزاء في المدن المختلفة عادةً ما أشير إلی النقاط المميزة وخصائص تلك المدينة من الناحية التاريخية أو النواحي الأخری، والهدف من ذكر ذلك لأهالي المدن المختلفة هو أن يتوفروا - ولا سيما الشباب منهم - أينما كانوا من هذا البلد الكبير العريق الحافل بالمفاخر علی هوية واضحة لمدينتهم وماضيهم وتاريخهم. لكن هذا الشيء يبدو دون مبرر بالنسبة لمدينة شيراز ومحافظة فارس لأن مفاخر شيراز ومحافظتكم ومدينتكم كثيرة ومعروفة عالمياً إلی‌ درجة لا تعود معها حاجة لأن يذكر المرء شيئاً لتعريف شيراز وماضيها. بيد أن هناك استنتاجاً أتوخاه ولأجله أشير إلی أن شيراز أثبتت قدراتها ومواهبها الإنسانية طوال القرون الماضية في جميع المجالات العلمية تقريباً. وهذا يصدق أيضاً علی المجالات الاجتماعية والدينية وما يتعلق بمصير الشعوب - أي التصميم والعزيمة الوطنية - فعلی هذا الصعيد أيضاً تتمتع محافظة فارس ومدينة شيراز بتاريخ بارز ساطع.
كلما دقق الإنسان في تاريخكم أكثر تأكد أكثر من ذروة ثقافة هذه المنطقة. من الناحية الدينية - وسوف أعود ثانية للتأكيد علی هذا الجانب - يعد مرقد السيد أحمد بن موسی وإخوته الإجلاء وسائر السادة من آل الرسول علامة مهمة جداً. أن يجعل أبناء الرسول المحترمين الأجلاء منطقة فارس وأهاليها موضع خطابهم ويختاروا ديارهم مأمناً‌ لهم فهذا أمر ذو معان ومضامين كبيرة. خصوصاً السيد أحمد بن موسی - هذه الشخصية المميزة والذي كان من المبرزين بين أبناء الأئمة وآل الرسول المعروفين - كتبوا عنه: وكان أحمد بن موسی‌ كريماً جليلاً ورعاً وكان أبو الحسن عليه السلام يحبه ويقدمه . أبوه الإمام موسی بن جعفر كان يقدمه علی سائر أبنائه وأقربائه ويخصه بمحبته. وكان رجلاً جواداً كريماً ذا ورع ومقام جليل ومنزلة رفيعة. كانت شيراز مقصد هذا السيد العزيز وسائر السادة فجاءوها وحظوا فيها بدعم أهاليها. ولا تزال بركات هذا الإنسان الجليل تعم كل المحافظة وقسماً كبيراً من هذه البلاد.
في مضمار الأدب والفن يتألق سعدي وحافظ كجوهرتين على جبين اللغة والآداب الفارسية. هذا ليس بشيء يحتاج لتعريف أحد. في العلوم المختلفة برزت في هذه المحافظة شخصيات عظيمة كان كل واحد منها فريد عصره وزمانه. تعريف وذكر أسماء هؤلاء العظماء سواء في مجال الفلسفة، أو الفقه، أو الأدب والنحو، أو الفن، أو التفسير واللغة، أو فروع من قبيل علم الفلك، والفيزياء، والطب؛ ذكر أسماء الشخصيات التي وصل كل منها في هذه العلوم المتنوعة إلى قمة من القمم وصاروا من مشاهير زمانهم يستدعي محفلاً آخر ونوعاً آخر من اللقاءات. وتكفي هنا هذه الإشارة.
وبخصوص القضايا الاجتماعية ونزعة هؤلاء الأهالي الأعزاء - أي أنتم أيتها الجماهير العزيزة - للغيرة الدينية والجرأة في القرار ينطوي التاريخ على صفحات جد مهمة وقيمة. العلماء المجاهدون الذين قدمتهم هذه المحافظة لتاريخ العلوم الدينية في هذا البلد، قلما نجد نظيرهم في منطقة من مناطق إيران.
الكل يعرف الميرزا الشيرازي؛ والعالم الكبير المرحوم السيد علي أكبر فال أسيري الذي ثار في مدينة شيراز ضد نفوذ الإنجليز والأجانب وعارضهم، ثم قبضوا عليه ونفوه، لكن آثار فعله هذا بقيت لحد الآن. ربما كتبوا في هذه المنطقة التي أنتم فيها الآن - بالقرب من حافظية - أن السيد علي أكبر فال أسيري جاء بالقرب من حافظية وبدأ يقرأ زيارة عاشوراء وإذا بالأعداء يهجمون ويقبضون عليه لينفوه. والميرزا الشيرازي والميرزا الثاني - الميرزا محمد تقي الشيرازي - الذي قاد كفاح الشعب العراقي ضد هجمات الإنجليز واحتلالهم بعد الحرب العالمية الأولى. وكان المرحوم السيد عبد الحسين لاري شخصية بارزة مميزة ساعد العشائر الغيورة الشجاعة بمحافظة فارس في مقارع سلطة الإنجليز من أجل تكريس النظام الدستوري القانوني وتأسيس حكومة إسلامية. بدأ هذا الرجل كفاحه في هذه المحافظة قبل نحو مائة عام. لرجال الدين في المحافظة العديد من هذه النماذج وقد تمتعوا جميعاً بدعم الجماهير المؤمنة الغيورة في محافظة فارس من عشائر أو أهالي المدن وخصوصاً أهالي مدينة شيراز.
المرحوم السيد نور الدين حسيني أخذ في مدينة شيراز هذه عضو السفارة الأجنبية الذي أهان مقدسات الناس وطرحه أرضاً وجلده بيديه، فأقام بذلك الحد الإلهي، ونهض بكل شجاعة لمقارعة الأجهزة المتجبرة سياسياً واجتماعياً. وبعد ذلك حينما انطلق كفاح رجال الدين جعل المرحوم آية الله الشهيد دستغيب والمرحوم آية الله محلاتي وسائر العلماء في هذه المدينة المسجد الجامع العتيق مركزاً لجهادهم، وقد شاع في كل أنحاء إيران صيت كفاح العلماء في شيراز ومحاضرات المرحوم آية الله دستغيب كناطق باسم رجال الدين الشيرازيين. كنت حينها في قم وكان طلبة العلوم الدينية يتداولون أشرطة محاضرات المرحوم الشهيد دستغيب. سمعنا حينها بهذه المواقف من رجال الدين المجاهدين في شيراز وبدعم من جماهير الشعب.
وفي الفترة الراهنة أيضاً - سواء بعد الثورة أي فترة الحرب المفروضة والدفاع المقدس أو بعد ذلك وإلى يومنا هذا - استطعتم أيتها الجماهير، والشباب، والمثقفون، والنساء والرجال المؤمنون أن تسجّلوا مكانة ممتازة وتثبتوا هوية جماهير محافظة فارس وأهالي شيراز بأعمالكم وليس بمجرد الادعاءات. العلوم والتقنية في هذه المحافظة وعمق البحث العلمي والإبداع المعرفي في شتّى الفروع العلمية أمر ذائع على الألسنة في الوقت الحاضر. ثمة من مدينتكم ومحافظتكم رموز عالمية في العلم؛ إذ تعد هذه المحافظة سباقة ومتقدمة في الطب، والصناعات الالكترونية، والبتروكيمياويات، وفروع العلم، وفروع الهندسة.
جامعة شيراز سباقة في إطلاق فروع وتخصصات علمية عديدة. كانت مشاركتكم ومشاركة شبابكم في الميادين المختلفة ملفتة. وقد مارست وحداتكم العسكرية - وحدات الحرس و الجيش المرابطة في هذه المدينة - أدواراً بارزةً في فترة الدفاع المقدس. إذن، أبدت هذه المحافظة وهذه المدينة قدرات جديرة بالإعجاب والثناء في الماضي التاريخي، وعلى صعيد الدين والعقيدة الإيمانية، وعمق الإيمان الديني، وفي مضمار الجهد العلمي، وفي ميدان الكفاح السياسي، والدفاع عن المكتسبات العظيمة لثورة الشعب الإيراني، وفي المجالات المختلفة الأخرى وهذا ما ينبغي لمسؤولي البلاد أخذه بنظر الاعتبار، فيعلموا أن هذه المنطقة مصدر هائل ودفاق للمواهب الإنسانية. كما ينبغي أن يتنبه لذلك الأهالي أنفسهم ولا سيما الشباب وأساتذتهم، فيعلموا أن كل واحد منهم معين دفاق يمكنه إرواء ظمأ هذه الأرض والبلاد كلها بفيضه وزلاله.
وأقول لكم إن عمق إيمان الجماهير في محافظة فارس وخصوصاً مدينة شيراز ليس مجرد ادعاء. هذا كلام يقال عن مطالعة وتدقيق في جميع الجوانب. في هذه المدينة بما لها من سابقة دينية، وظهور أولئك العلماء ورجال الدين الذين أشرت إليهم، والتحركات التي قاموا بها طوال الأعوام الماضية، تم التخطيط للتغلب على الإيمان الديني فيها من ناحيتين: أولاً من ناحية بلاط الطاغوت حيث نشطوا على هذا الصعيد بكل ما لهم من قوة محاولين تقديم شيراز للعالم بهوية غربية مائة بالمائة، وقد بدأ هذا النشاط من بداية سنوات عقد الثلاثينات (1) واستمر لأكثر من عشرين سنة حتى أعتاب انتصار الثورة. وقد شهدت في الأعوام الأخيرة من عقد الثلاثينات - ربما سنة 39 أو 40 -نماذج ومظاهر الفساد التي كانت تشاع عمداً في هذه المدينة. في شارع زند هذا والمراكز المختلفة للمدينة كانوا يسعون عمداً لدفع الشباب إلى المفاسد الأخلاقية والتحلل وعدم الاكتراث للدين، واستمرت هذه الحالة حتى عقد الخمسينات (2) ومهرجان شيراز للفن والأمور التي ربما يعلمها جميعكم، وربما لم يسمع بها بعض الشباب ولا يعرفونها. كان هذا تياراً.
والتيار الآخر الذي أشيع ضد الدين والتدين والأعتقاد الديني في هذه المدينة أكثر من كثير من المدن الأخرى هو تيار المدرسة الإلحادية بقيادة حزب توده(3) الذي كان له هنا وكره الخطير وأنشطته الدؤوبة خصوصاً في السنوات التي خاض فيها المرحوم السيد نور الدين - رجل الدين الشجاع، الناشط، المدبر، الفعّال، والعارف بالزمان - غمار الساحة. ربما شجعوا حزب توده على الاشتباك بهذا العالم الديني حيث وجدوا الأرضية واسعة لنفوذ الدين ورجاله في هذه المدينة. ذلك التيار الموجّه من قبل البلاط، وهذا التيار الموجّه من قبل الماركسيين آنذاك - تيار حزب توده - عملا كفكّي مقص ضد إيمان الناس والشباب.
لكن هؤلاء الجماهير والشباب هم أنفسهم الذين قاموا بأبرز الأعمال والمبادرات في هذه المدينة سنة 41و42 (4) حين انطلقت النهضة الإسلامية وحركة رجال الدين، أي إن قم وطهران وشيراز وتبريز ومشهد احتلت المرتبة الأولى على مستوى البلاد، فكانت شيراز من مدن المرتبة الأولى. لذلك ألقي القبض في تلك الغمرة على كبار علماء شيراز واقتادوهم إلى طهران.
بذلوا كل تلك المساعي لإبعاد الناس عن الدين فكان هذا جواب الناس؛ أحبطوا مساعيهم بأعمالهم وصمودهم. وبعد ذلك، في السنوات الأخيرة من عهد الطاغوت ، أي في سنة 56 و57 (5) عاد أهالي محافظة فارس ليمثلوا نموذجاً بالنسبة لكثير من مدن البلاد .
لا تعتبروا هذه الأمور التي ذكرناها مجرد مقدمة، فليس أي منها للمجاملة والترحيب وما شاكل. إنما هي للاستنتاج. أود أن أطرح عليكم فكرة حول قضايا الثورة العامة ذات صلة بما ذكرته قبل قليل.
مهما راجعنا تاريخ بلادنا ومهما نظرنا إلی‌ الوراء، لا نجد أي نموذج مماثل للثورة الإسلامية. وأريد إيضاح هذه النقطة بعض الشيء. تم انتقال السلطة طوال تاريخ بلادنا عن طريق طلاب الهيمنة العسكريين وبواسطة الجيوش، وبما يسمی‌ اليوم انقلاباً عسكرياً، أي عن طريق اصطفاف القوی بوجه بعضها،‌ ولم يكن للجماهير أي دور في ذلك. سادت وبادت سلالات ودول متعددة في هذا البلد؛ ولم يكن للشعب دور في أي من هذه التداولات ونقل السلطة.. خذوا مثلاً مدينتكم شيراز هذه ومحافظة فارس حيث حكم الزنديون ثم جاء القاجاريون وانتزعوا السلطة من أيدي الزنديين، فنشبت حرب بين طرفين طامعين في السلطة وجيشيهما، ولم يكن للناس إسهام ودور في ذلك.
كلما نظرنا في تاريخ بلادنا - سواء قبل الإسلام أو بعد الإسلام وإلی يومنا هذا - نجد أن تداول السلطة كان علی هذه الشاكلة دوماً. وهناك استثناء واحد في الزمن القديم سوف أشير إليه. وما عدا ذلك كان انتقال السلطة يجري دوماً بواسطة الجيوش والهجمات العسكرية وبدون تدخل الجماهير.. لم يكن للناس محفزات تدفعهم.. سواء حينما تحيل دولة معينة السلطة لدولة أخری‌، أو عندما تنشب توترات ونزاع علی السلطة داخل السلالة الواحدة ،‌ وهنا أيضاً لو أردنا تقديم المثال من مدينتكم شيراز فقد كان يحكمها أحد أبناء الملك القاجاري فتح علي شاه يدعی حسين علي ميرزا،‌ وحينما توفي أبوه أراد هذه الحكومة لنفسه . وفي طهران تربع علی العرش محمد شاه حفيد فتح علي شاه،‌ فنشبت الحرب بين الطرفين خارج بوابات شيراز. وقد سحق الناس في هذه الحرب طبعاً وطالتهم خسائر جسيمة، وتعرضت مزارعهم وأموالهم وأموالهم وأرواحهم للخطر، لكنهم لم يتدخلوا أبداً في هذا النزاع. هكذا كان الحال علی‌ مر التاريخ. ألمحت إلی‌ أنه كان ثمة استثناء واحد فقط، وهو استثناء مشكوك فيه تاريخياً وممتزج بالأساطير. إنه قصة كاوه آهنگر [ الحداد ] حيث يقال إن هذا الحداد تحرك بمعونة الجماهير وأزال سلطان الضحاك ماردوش. وإذا صح هذا فهو الحالة الوحيدة التي لا نظير لها في التاريخ. طبعاً في التاريخ الذي دونه الغربيون لبلادنا خلال الفترة البهلوية وإلی‌ الآن لم تذكر أسماء فريدون والضحاك وكاوه آهنگر. لقد كتبوا التاريخ بشكل آخر وهذه بحد ذاتها قضية مستقلة لا نروم الخوض فيها. إذا صح هذا النموذج فهو الوحيد في تاريخنا.
الثورة الإسلامية التي تعد أكبر تغيير ونقل للسلطة علی امتداد تاريخنا، أي إنها بدلت أساس الحكم الملكي والسلطان الفردي إلی حكومة شعبية‌ - وهذا هو التحول الأكبر - تمت بواسطة القوی‌ الجماهيرية الشعبية. هنا لم تكن القضية قضية مواجهة بين سلطتين وحرباً بين طرفين متنازعين علی‌ السلطة. نزلت الجماهير إلی الساحة بقيادة رجال الدين وريادتهم. واستطاع الشعب بقدراته الإلهية انتزاع السلطة من أيدي المستبدين والملوك والطواغيت الفرديين وجعلها حكومة شعبية. هذا هو الحدث الوحيد من نوعه علی‌ امتداد تاريخنا في حدود معرفتنا وفهمنا .
إنه حدث جدير بالدراسة والاهتمام من زوايا عدة. أقول إنه بعد مضي نحو 30 عاماً علی‌ حادثة الثورة الإسلامية من المناسب إلقاء نظرة عامة ومستوعبة علی هذه الحادثة. النظرات الجزئية والنظرات الخاصة بالأحداث الوسيطة الصغيرة والمنعطفات المقطعية ليست معبرة ودقيقة جداً. ينبغي إحياء وترويج النظرة العامة المستوعبة للثورة الإسلامية علی‌ مستوی الرأي العام،‌ وقد كان لكثير من جماهيرنا وشخصياتنا المعروفة وبعض الأجانب مثل هذه النظرة الواسعة.
في كل أحداث العالم ينبغي ملاحظة جملة من العناصر إلی‌ جوار بعضها. منها العوامل الأولية أي العوامل العليا في الحادثة، كالمحفزات، والأهداف ، والأرضيات التاريخية والجغرافية، والجغرافية - السياسية. هذه أمور مؤثرة في معرفة الحادثة. العنصر الثاني هو النظر إلی‌ بطل الحادثة وصاحبها. في حادثة الثورة الإسلامية كان العنصر الأول إيمان الشعب وكفاحهم في سبيل التحرر وإرهاصات هذا الكفاح التي التأمت في ثورة الدستور، ونهضة التنباك علی‌ يد الميرزا الشيرازي، وفي الأحداث المختلفة الأخری‌ في نهضة تأميم النفط، وقد انتفعت صحوة رجال الدين والإمام الخميني من هذه الأرضيات علی أحسن نحو ممكن، فانطلقت هذه المسيرة. كانت هذه الأرضية الممهدة.
أما عنصر فرسان الساحة في هذه الحادثة فقد تمثل في جماهير الشعب. الجماهير هي التي سطرت حادثة الثورة الإسلامية العظيمة الفذة في التاريخ. من الخطأ إنكار دور الجماهير وتجاهل مشاركتهم وهذا ما يلاحظه المرء للأسف في بعض الآراء شبه المستنيرة. حينما تميل الجماهير لجهة معينة يسمي الذين لا ينتفعون من ذلك التحرك الجماهيري يسمونه بـ « البوبوليستي » ! أي تحرك العوام ! هذا خطأ. الذي استطاع إيجاد الثورة ودفعها نحو الانتصار هو الإرادات الجماهيرية والتواجد الجماهيري المعتمد علی‌ الإيمان .
استطاع شعب إيران بإيمانه ومشاعره وكبريائه الوطني وفخره بماضيه التاريخي وموروثاته الثقافية العظيمة خلق هذا التحرك الهائل. وكان هدفه - الذي يذكره كل من سألناه بلغته الخاصة - هو كسب الاستقلال والحرية في ظل الإسلام. شعار «‌ استقلال،‌ حرية، جمهورية إسلامية » الذي شاع زمن الثورة كان تعبيراً عن مكنون قلوب الناس. كان الناس يريدون ذلك. كانوا يرون حكام وساسة هذا البلد العظيم مفتقرين لأي استقلال في الرأي، أي إنهم تابعون.
للأجنبي والقوى المستكبرة التي ألقوا أطواق طاعتها في أعناقهم. كانوا ضعفاء غير مستقلين أمامها، ومتشددين متفرعنين حيال شعبهم.. يتعاملون مع الجماهير بالضغط والعسف والهراوات، ولا يسمحون لهم بانتخاب طريقهم.
طوال أعوام الثورة الدستورية إلى ما قبل الثورة الإسلامية لم يحدث أبداً أن يتوجه هذا الشعب بشوق ورغبة ومعرفة إلى صناديق الاقتراع وينتخبوا أحداً. لم يكن ثمة معنى لانتخاب الحكومة، الحكومة كانت وراثية، والمسؤولون والساسة كانوا ممن توصي بهم القوى الأجنبية. المجلس الذي انبثق عن ثورة الدستور تحت عنوان مجلس الشورى كان مجلساً مفروضاً غير منتخب، والشعب كان أسيراً للقرارات التي تتخذها له هذه المنظومة اللامسؤولة وغير الملتزمة. أراد الشعب أن يحظى بالاستقلال ويتمتع بالحرية ويضمن عزته الوطنية، ويحرز سعادته ورفاهه الدنيوي وشموخه المعنوي والأخروي. كان هذا طموح الشعب وقد خاضوا غمار هذا الميدان.. هذا هو العنصر الثاني.
العنصر الثالث في أي حدث هو العوامل المعارضة والمعرقلة لذلك الحدث أو الحركة والتي تفرض بعض التكاليف عليها. وكذا كان الحال في أحداث الثورة الإسلامية، إذ كان هناك العنصر المعارض منذ البداية. معنى هذا هو أن الشعب الإيراني يكسب استقلاله وحريته بسعيه وجهوده، لكنه يجب أن يدفع تكاليف ذلك أيضاً. الشعب أو الشخص أو أي إنسان لا يريد دفع تكاليف الشيء الذي ينشده ولا يتحمل الصعاب لأجله لن يبلغ ذلك الشيء إطلاقاً. القعود وطلب السلامة والتقاعس عن السعي واجتناب المخاطر لا يسمح للإنسان بالوصول إلى مطامحه أبداً. كذلك هي الشعوب. الشعب الذي يبلغ العزة والشموخ هو الذي يخوض غمار الساحة بشجاعة، ويتابع المهمة ويسدد تكاليفها ببسالة، وقد فعل الشعب الإيراني ذلك.
التكلفة التي دفعها الشعب الإيراني كانت ثمانية أعوام من الحرب المفروضة؛ كانت هذه تكلفة نزعة الشعب الإيراني نحو الاستقلال والحرية والعزة وقد دفعها بكل رحابة صدر. صبر على ثمانية أعوام من الحرب، لأن هذه هي تكلفة استقلال الشعب واقتداره وفخره الوطني.
ضحايا الإرهاب الأعمى في عقد الستينات في هذا البلد كانوا تكلفة دفعها الشعب الإيراني. والحظر الاقتصادي الذي فرضوه على شعبنا منذ بداية الثورة وإلى اليوم؛ هذه كانت التكاليف التي دفع فواتيرها الشعب الإيراني؛ أنواع الحظر والحصار الاقتصادي. الآن حيث أتحدث معكم تهدد القوى المستكبرة منذ سنتين بأننا سنقاطع الشعب الإيراني ونفرض عليه الحظر. وكأنهم لم يفعلوا ذلك لحد الآن.
معسكر الرأسمالية والاستعمار يضغط بكل قدراته السياسية والمالية والاقتصادية، وبكل شبكاته الدعائية عسى أن يستطيع فرض التراجع والاستسلام على الشعب الإيراني. لا يريدون فرض تراجع الشعب الإيراني عن حقه النووي وحسب - الحق النووي أحد حقوق الشعب الإيراني - بل عن حقه في العزة، والاستقلال، والقدرة على اتخاذ القرار، وعن حقه في التقدم العلمي. يسير الشعب الإيراني اليوم في طريق التقدم العلمي والتقني ويروم تعويض قرنين من تخلفه في عهد الطواغيت، وقد ارتبك هؤلاء ولا يريدون السماح لشعب إيران الواقع في هذه النقطة الحساسة من العالم والذي رفع راية الإسلام بأن يحرز هذه النجاحات؛ لذلك يمارسون الضغط، لكن الشعب الإيراني واقف صامد.
يهددون بأننا سوف نفرض عليكم الحظر؛ نفرض عليكم الحصار الاقتصادي؛ من الذي خسر في هذه الأعوام الثلاثين التي حاصرتم فيها الشعب الإيراني بشدة أحياناً وبشدة أقل أحياناً أخرى؟ هل كان الشعب الإيراني هو الخاسر؟ أبداً. لقد استثمرنا الحظر لصالح تقدمنا. ذات يوم كنا بحاجة للمعدات العسكرية؛ لم يكونوا يبيعوننا أبسط المعدات العسكرية؛ كانوا يقولون: الحظر. وقد استطعنا استخدام هذا الحظر والانتفاع منه؛ واكتسب الشعب الإيراني اليوم قدرات جعلت أولئك الذين حاصرونا بالأمس يتخبطون لأن إيران بدأت تتحول إلى القدرة العسكرية الأولى في المنطقة. هذا كان نتيجة حظركم. الحظر لم يضرنا شيئاً؛ استطعنا تحويل هذا التهديد إلى فرصة. وكذا الحال اليوم. نحن لا نخشى حصار الغرب. سيبدي الشعب الإيراني بحول الله وقوته حيال أي حظر وأي حصار اقتصادي جهوداً ومساعي تضاعف تقدمه أضعافاً...
هذه هي النظرة الشاملة للثورة، أي النظرة للمحفزات، والأرضيات، والعوامل الفوقية للثورة، وتأسيس النظام، والنظر للعامل المحوري في الثورة أي الشعب وإيمانه الديني، والنظر للتكاليف.. مثل هذه النظرة للثورة تجعلنا مهما كان شأننا وموقعنا ومكاننا لا نهتم كثيراً للقضايا الجزئية الصغيرة، بل ننظر لعظمة الثورة ومسارها العام الذي تواصل والحمد لله طوال هذه الأعوام الثلاثين بقدرة وقوة، وتحرك الشعب الإيراني إلى الأمام في كل يوم بنحو أفضل من اليوم السابق رغم زيادة مؤامرات الأعداء وجهودهم.
أعداء الشعب الإيراني يترصدون كي يستغلوا أية قضية صغيرة أو كبيرة لتحطيم عزيمة وهمة الشعب الإيراني. يستغلون حتى البلايا الطبيعية، كالزلازل، والجفاف، أو الأحوال العامة في العالم كالغلاء. لو نظرتم الآن في تحليلات الإذاعات الأجنبية لوجدتم أن من المحاور التي يروم أعداؤنا استخدامها في دعاياتهم هي القضايا الاقتصادية عسى أن يستطيعوا زعزعة عزيمة الشعب الإيراني.
لقد عرف الشعب الإيراني مسؤوليه. الإيحاء بأن الغلاء الذي قد يطرأ على الوضع الاقتصادي هو بسبب عدم اهتمام المسؤولين الحكوميين ومدراء القطاعات المختلفة؛ هذا خطأ؛ إنهم يهتمون تماماً، ويعلمون ما الذي يحدث.
العالم الغربي اليوم يعاني المشكلات الاقتصادية أكثر من غيره. هم أنفسهم يعلنون أن الأزمة الاقتصادية التي بدأت راهناً من أمريكا وسرت إلى أوربا تدريجياً وهي في طريقها إلى بلدان أخرى، غير مسبوقة في الستين سنة الماضية، أي بعد الحرب العالمية الأولى وإلى اليوم.
منظمة الأمم المتحدة أعلنت الأزمة الغذائية في العالم. مشكلات الشعب الإيراني وبفضل ولطف من الله أقل من كثير من هذه البلدان المتشدقة، وعليهم بهمة المسؤولين والشعب أن يستطيعوا التغلب حتى على هذا القدر من المشكلات. هذا ما يستدعي همم الجميع.
لكل من مسؤولي البلاد سواء في الحكومة والسلطة التنفيذية، أو مجلس الشورى الإسلامي والسلطة التشريعية، أو السلطة القضائية مسؤولياتهم. وعلى الشعب أيضاً مسؤولياته. ما قلته حول الاستيعاب البشري لمحافظتكم ومدينتكم معناه ونتيجته هو أن يكون هذا الاستيعاب والمواهب الإنسانية مفيدة لمستقبل البلد والثورة، وأن تشعر هذه المواهب بالمسؤولية. علينا جميعاً أينما كنا أن نشعر بالمسؤولية وأن نكون ملتزمين حيال مصير البلاد ومستقبلها، وأن نعلم أننا نستطيع ممارسة دورنا. الطالب الجامعي، والاستاذ، والمعلم، والطالب، والفلاح، والناشط في مجال الصناعة، والمستثمر في المجالات المختلفة الزراعية أو الصناعية، عليهم جميعاً الشعور بالمسؤولية. بفضل الشعور العام بالمسؤولية، وبتوجيه الأجهزة والمؤسسات المسؤولة في الحكومة، ومجلس الشورى الإسلامي، والسلطة القضائية سيستطيع الشعب الإيراني، رغم كل العقبات التي يروم أعداؤه العالميون فرضها عليه، التغلب على كل هذه الصعوبات، وتشكيل مجتمع نموذجي - أراده الإسلام للمسلمين - بقدرته وحكمته.
ذكرت أن هذا العام بالنسبة لشعبنا هو عام الإبداع؛ وهذا الإبداع لا يختص بمجال معين؛ ففي المختبر، وفي مركز الأبحاث، وفي صفوف الدرس، وفي الحوزة العلمية، وفي الجامعة، وفي الورشة الصناعية، وفي الأجواء الإدارية، وفي المناطق الزراعية والبساتين، وفي كل مكان، بوسع إبداعات المبدعين والمبتكرين أن تتقدم بكل الأعمال خطوة إلى الأمام، وتجتاز بالبلد أشواطاً ومسافات مهمة.
وبشأن القضايا الاقتصادية ذكرت في بداية هذا العام وبداية العام الماضي - وذكّرت المسؤولين والشعب على السواء - وقلت إن أعين العدو اليوم تحدق في النقطة الاقتصادية الحساسة عسى أن يستطيعوا زعزعة البلد اقتصادياً. يفعلون كل ما يستطيعون؛ وإن لم يستطيعوا سيظهرون في إعلامهم أن هناك خللاً. وهو ما يحصل الآن بكل قوة في إعلام أعدائنا بأشكال مختلفة. وسبيل المواجهة هو الانضباط المالي، والاقتصادي، والنظر للنـزعة الاستهلاكية بعين الإمساك.
أريد أن أؤكد لشعبنا العزيز أن النـزعة الاستهلاكية على نحو الإسراف من الأمراض الخطيرة لكل شعب. ونحن مصابون بعض الشيء بمرض الاستهلاك المفرط هذا. ومن نماذج ذلك - أقولها بمناسبة شحة المياه حيث ابتليت لحد الآن عدة محافظات في البلد ومنها محافظتكم بشحة المياه، ونتمنى أن يمن الله تعالى وينـزل أمطار رحمته عليكم - الإسراف في الماء؛ لا الماء الذي يستهلك في البيوت كمياه شرب وحسب؛ نمط الري الزراعي عندنا نمط مسرف؛ نحن نهدر الماء. إنه واجب المسؤولين والمعنيين في هذا القطاع أن يولوا هذه المسألة اهتماماً خاصاً. يجب أن ينظروا بمزيد من الاهتمام لقضية الإسراف؛ سواء في مجال الماء أو في المجالات الأخرى.
لحسن الحظ استطاع الشعب الإيراني اليوم ومن خلال دفعه تكاليف كانت ثقيلة - لكنه دفعها بكل شوق ورغبة وشجاعة - أن يجتاز سبلاً ومسافات كبيرة وصعبة ويصل إلى حيث نحن اليوم والحمد لله. لكننا ما نزال في أول الطريق.
سوف يستطيع شعبنا بعزيمته الراسخة وبهمم شبابه، وبمواهبه المتراكمة في طاقاته الإنسانية أن يصل لنهاية هذا الطريق، وسوف يتمه إن شاء الله بمناهج عملية وبكل شموخ. وسوف أذكر للجماهير خلال الأيام التي سأقضيها في هذه المحافظة نقاطاً وجوانب مختلفة في الاجتماعات المناسبة.
أشكركم أيتها الجماهير العزيزة، صاحبة الذوق، العطوفة، الوفية، المضيافة، الخلوقة، ذات اللهجة المحببة. ونحمد الله على أن كثيراً من السمات الطيبة لشعب إيران مجتمعة فيكم أهالي شيراز الأعزاء وسكان محافظة فارس. الشكر لله أن وهبكم الحيوية والتوثب الذي نأمل أن يتضاعف يوماً بعد يوم. أسأل الله تعالى لكم التوفيق.

 

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1-الخمسينات من القرن العشرين للميلاد.
2- السبعينات من القرن العشرين.
3- الحزب الشيوعي الإيراني.
4- 1962 و1963م.
5-1977و1978م.