هناك اتّفاقٌ عام على أن عملية الوعد الصادق في 14 نيسان/أبريل، تمثل تحولاً إيرانياً في برادايم (النموذج الإرشادي) المواجهة مع الكيان الصهيوني. فقد انتقلت الجمهورية نحو العمل العسكري المباشر والعلني من داخل السيادة الإيرانية ضد أهداف داخل الكيان، وبذلك تُعدّ العملية لناحية القرار والقدرة انعطافة في تاريخ الصراع بين قوى المقاومة وكيان العدو الإسرائيلي، وليست مجرد حدث عابر، وتأثيراتها تنعكس في مجمل البنية الأمنية للمنطقة. تسعى الجمهورية الإسلامية -  محفزة نظراً لأنه غارق في حرب استنزاف داخل غزة، وفي الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي جبهة البحر الأحمر مع اليمن، ولأنّ العدوّ يسعى إلى تحقيق انتصار في غزة يتيح له الانتقال نحو مفهوم أمني جديد ذي طابع هجومي ضد إيران وحلفائها - إلى تكريس معادلات جديدة بالاستفادة من الخطوات الإسرائيلية غير المحسوبة بدقة. هذه المعادلات يُراد لها أن تسلب العدو قدرة السيطرة على مسار التصعيد خارج فلسطين المحتلة عبر ردع معزز يحمي المصالح الإيرانية في المنطقة، وأن تسرّع جهود استنزاف العدو في جبهات المساندة بما يقوّي الموقف الفلسطيني، وأن تضع الولايات المتحدة تحت ضغط إضافي لإيقاف الحرب الإسرائيلية في غزة.  

أرست الجمهورية في عملية 14 نيسان/أبريل معادلة أولية لكنها قابلة للاتساع بحال كسبت هذه الجولة، وتمكّنت من فرض إرادتها في المحصّلة النهائية. إن هذه المعادلة حسّنت ميزان القوى الإقليمي لمصلحة طهران، وهو ما يمثل تالياً رصيداً لكل المنخرطين في مشروع المقاومة. ولإدراكهم خطورة ذلك؛ سارع داعِمو الكيان إلى البحث عن أدوات اقتصادية وسياسية وأمنية لاحتواء مفاعيل القصف الإيراني لأهداف عسكرية داخل فلسطين المحتلة. تمكنت طهران من إدخال متغير جديد، وكبير ضاغط على عملية صنع القرار لدى كيان العدو وداعميه، وبعد أن كان الصهاينة عالقون في المراوحة في قطاع غزة بعد 6 أشهر من حرب الإبادة، إذ بهم يخسرون جزءاً حيوياً ممّا يسمّونه "حرية العمل" للمبادرة خارج حدود الكيان. مع العلم أن قادة الكيان وضعوا هدفاً بعد عملية طوفان الأقصى بتغيير الشرق الأوسط وفرض السطوة الإسرائيلية، فيما الوقائع الماثلة الآن أمامنا تشير إلى تدهور الردع والمكانة الإقليمية لهذا الكيان.

أظهرت عمليّة «الوعد الصّادق» قدرة مبادرة إستراتيجية للجمهورية الإسلامية توفر لها ذراعاً رادعةً، دقيقةً، قادرةً على الوصول إلى كل مصادر التهديد المحتملة في الأقاليم المحيطة بالجمهورية، ولا سيما كيان العدو الصهيوني. ففي السنوات الأخيرة انهمك الصهانية بتطوير قدرات إستراتيجية، تكتيكية لإدخال إيران في دائرة الاستهداف العسكري خلال سنوات قليلة (بحلول العام 2025 تقريباً) بهدف إخضاع القرار السيادي المستقل لطهران سواء على مستوى البرنامج النووي، أو مصالحها الإقليمية، أو حتى على مستوى التدخل في شؤون إيران الداخلية؛ لاستهداف أمنها وسيادتها ووحدتها وثرواتها وحقوق شعبها. لقد أدى الكشف عن هذه القدرة الصاروخية ذات الأبعاد المتعددة والطبقات المختلفة إلى فرض تحديات إضافية أمام القدرة الإسرائيلية لاستهداف الجمهورية الإسلامية فإيران كيّفت قدرة عسكرية لا متماثلة، تتواءم مع طبيعة التهديدات المحتملة، ودمجتها في نظام ردعيّ مصَّمم بشكل دقيق لمواجهة التهديد الإسرائيلي. هذا النظام الردعي مصممٌ وفق نقاط الضعف في البنية الأمنية الإسرائيلية، ولا سيما غياب عمق إستراتيجي للكيان، وتركّز الثقل الديموغرافي والاقتصادي في بؤر محددة الحساسية الإسرائيلية تجاه الجبهة الداخلية المدنية، وخشية العدو من حرب طويلة يعجز عن نقلها إلى أرض العدو. كما أدت العملية العسكرية الإيرانية إلى زيادة القوة الناعمة الإيرانية في المنطقة، سواء بسبب ظهورها مقتدرة في وجه الكيان، ومنحازة إلى جانب القضية الفلسطينية، وكذلك بسبب ما ظهر من كفاءة عسكرية على مستوى التصنيع والتخطيط والإدارة. وهذا ما قد يعزز شعبية إيران في المنطقة من ناحية، ويحفز سعي فواعل سياسية في المنطقة والعالم لتعزيز التعاون العسكري مع طهران والاستفادة من القدرات الإيرانية في مجال المسيرات والصواريخ.

كما أثبتت العملية الإيرانية مجدداً عمق الارتباط العضوي للأمن الإسرائيلي بالمنظومة الأميركية التي تشمل قوى دولية وإقليمية. وفي حين ساهمت هذه المنظومة في الحد من نتائج الهجوم الإيراني نسبياً، إلا أنها في المقابل عمّقت التبعية الإسرائيلية لواشنطن وهو ما يراه الصهاينة كارثياً على مستوى الصورة والقدرة. لطالما سعت قيادات العدو إلى محاولة إيجاد علاقة فيها درجة من الندية مع واشنطن وذلك للحفاظ على إمكانية العمل باستقلالية عن المصالح الأميركية عند اللزوم، ولمحاولة التأثير في السياسات الأميركية في المنطقة. فهناك خشية إسرائيلية دائمة من غياب التطابق مع المصالح الأميركية ولا سيما مع ظهور أولوية أميركية خارج غرب آسيا (أي الصين). ولذلك طالما عبّر الإسرائيليون منذ عقود عن حاجتهم إلى "استقلالية إستراتيجية" وهو مفهوم أساسي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. لكن منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر استدعى كيان العدو للمرة الثانية الدعم الأميركي، الأمر الذي أجبر واشنطن على الانزلاق إلى حافة مغامرة إقليمية، وهو ما يعدّه الصهاينة تكريساً لفكرة "الارتهان الإستراتيجي" لواشنطن. ولطالما اعتبر الإستراتيجيون الصهانية أن الحاجة الإسرائيلية لتدخّل أميركي بهدف درء ضربة ساحقة أو هزيمة متيقنة لا تقل سوءاً عن الهزيمة نفسها إلا أنها "أهون الشرَّين".

من المرجح أن نشهد عدة ردود متبادلة قبل أن ترسو الجولة الحالية على معادلة جديدة؛ إذ يجهد العدو الصهيوني لاستعادة المبادرة، ومنع نشوء معادلة إيرانية جديدة تقوّض ما كان يظنه تفوقاً إسرائيليًا غير قابل للمس. إن لضربة الجمهورية الإسلامية تأثيراً عميقاً وخطيراً على مستوى الإدراك والوعي لدى شرائح متعددة من شعوب المنطقة، وهذا ما لا يقل أهمية في الحسابات الإسرائيلية عن النتائج العسكرية للعملية. إن سردية التطبيع قامت على ركيزة أن كيان العدو غير قابل للمس ويمتلك قدرة عسكرية قاهرة، إلا أن هذه الركيزة تعرضت الآن لضربة كبيرة ثانية بعد 7تشرين الأول/ أكتوبر؛ فعملية الوعد الصادق الإيرانية اجتذبت العقول والقلوب وأكدت عمق الصِّلات بين قوى المقاومة، وأثبتت محورية القضية الفلسطينية التي كان يُراد تصفيتها في الأشهر الأخيرة.

إن الصراع الحالي في المنطقة منذ ال 7 من تشرين الأول/ أكتوبر سيُفضي إلى تكريس توازن قوى جديد، ويدفع جملة من دول المنطقة إلى إعادة صياغة مفاهيمها الأمنية، وتحديث مقاربتها للقضية الفلسطينية والصراع مع كيان العدو. يمكن لإيران من خلال تكريس معادلة أو معادلات جديدة بوجه كيان العدو، وهو أمر أصبح متاحاً بعد هجوم 14 نيسان/أبريل أن تحقق جملة أهداف مرحلية ذات مفاعيل إستراتيجية وهي: تعزيز صمود المقاومة الفلسطينية، وتحسين شروطها في المفاوضات، وإضعاف الردع الإسرائيلي بما يعقّد الخيارات الإسرائيلية في استهداف المصالح الإيرانية، والمس بهيبة الكيان المفترضة، واجتذاب كتل اجتماعية جديدة إلى جانب قضية الشعب الفلسطيني، وتقوية مشروعية خيار المقاومة، وإعادة تثبيت الصراع مع العدو باعتباره مركز الأزمات في المنطقة، وإظهار الولايات المتحدة في وضعية متراجعة لا يمكن الاعتماد عليها، ودفع حلفاء واشنطن إلى وضعية حذرة فيما يخص المشاركة في أنشطة أميركية عدوانية. إن مرحلة ما بعد7 تشرين الأول/ أكتوبر ما زالت قيد التبلور، ولذا من المرجح أن تواصل القوى الأساسية في المنطقة ممارسة نفوذها للتأثير في شكل النظام الإقليمي وتوازناته المقبلة. وفيما تبدو جملة من هذه القوى فاقدة للمبادرة أو مستتبعة للمبادرة الأميركية، فإن محور المقاومة وفي مقدمته الجمهورية الإسلامية، يبرز كقوة مستقلة، ومقتدرة، ومبادِرة، ومشارِكة في صناعة المعادلات والمعايير والمفاهيم للمرحلة الجديدة التي يُرجى أن تتوافر فيها شروط أفضل للاستقلال والاستقرار والتعاون والتنمية.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir