بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما بقية الله في الأرضين. اللهم سدّد ألسنتنا بالصواب و الحكمة.
أجد أن اللقاء بكم أيها الشباب لقاء جد شيق و جميل، خصوصاً و أن جماعة ملحوظة منكم هم إصفهانيون بلا شك.. أبناء العلم و الإيمان و الفن و المفاخر الوطنية و الإسلامية الكبرى. البرامج التي قدمها أعزائي كانت جيدة و لافتة و أنا أشكرهم جميعاً. لأذكر نقطة حول هذا الإنشاد الجماعي. هؤلاء الإخوة بالطبع قدموا عرضهم بصورة جيدة جداً. و الشعر الذي قرأوه أيضاً كان جيداً.. » ها عليٌّ بشر كيف بشر «. حينما كانوا ينشدون هذا الشعر بلحن و لهجة عربيين خطر ببالي أنه ليتهم أنشدوا بدل هذا الشعر قصيدة شهريار التي يقول فيها:
عليٌّ أسد الله و سلطان العرب
كان يألف قلب الليل هذا
و إذا بهم ينشدون هذه القضيدة أيضاً.. في مثل هذا الإنشاد الجماعي يجب الحفاظ تماماً على الرسالة و المضمون إلى جانب الفن، فالفن هنا أيضاً و مثلما هو في كل المواطن ينبغي أن ينصب في خدمة البلاغ و التبيين. أنا طبعاً شجعت هذا الإنشاد الجماعي العربي منذ عدة سنوات، لكني أعتقد أنه إذا لم يكن الشعر العربي ممتازاً و له خصوصياته الفريدة، فمن المناسب إنشاد الشعر الفارسي ذي المضامين الرفيعة. و من باب المصادفة أن الشاعر الذي نظم قصيدة » ها عليٌّ بشر « هو أيضاً تركي تبريزي كشهريار، و هو الملا مهرعلي تبريزي الذي عاش قبل مائة أو مائة و خمسين سنة:
ها عليٌّ بشر كيف بَشَر
ربُّه فيه تجلّى و ظهر
أنشدوا الشعر الفارسي بألحان فارسية جميلة و بأساليب فنية شيقة و باختيار مضامين يستلهم هذا الحشد الغفير الدروس منها. و قد تم تأمين هذا القصد إلى حد كبير في الجزء الفارسي الذي أنشده أعزائي. قلت هذا ليتجه الذين يسمعون هذا الكلام في كل أنحاء البلاد نحو اختيار نماذج فنية عميقة و ذات مغزى. حاجتنا للفهم و التفهيم اليوم أكثر من أي وقت مضى.
أنتم جماعة عزيزة، غالبيتكم من طلبة الجامعات أو المدارس، و من أهل العلم المفعمين بالنقاء. الشيء الجيد الذي فعله الطلبة الجامعيون الإصفهانيون في هذه الجسلة - و قد شكرتهم في قلبي - هو إصدارهم ملصقاً مشتركاً يحمل اسم التعبئة الجامعية، و الاتحاد الإسلامي للطلبة الجامعيين، و التجمع الإسلامي للطلبة الجامعيين، و الجمعية الإسلامية لطلبة الجامعات، فجاءت الأسماء إلى جوار بعضها. صحيح أنكم قد تختلفون حول عشر مسائل لكن هناك الكثير من المسائل تتفقون عليها. أظهروا هذا الاتحاد حينما تكون آراؤكم متحدة. و هذا هو السبيل. إذا اختلف شخصان حول جملة من المسائل الفكرية أو السياسية العديدة، فلا ضرورة لأن يسحبا هذا الاختلاف على مواطن الاتفاق. مثلاً إذا أرادوا إقامة احتفال أو عزاء أو محاضرة أو شيء من هذا القبيل فلا ضرورة لأن يصطف تياران بوجه بعضهما. الشيء الذي فعلتموه حسن جداً و أنا أشكركم أبنائي الأعزاء من الصميم؟
طول فترة ارتباطي بالجماعات الشبابية التي استمرت لأكثر من أربعين سنة جعلني أعجب بالشباب إعجاباً قلبياً عميقاً. الإعجاب و الثناء طبعاً يختلف عن الترحيب بهم. إنني لا أوافق الترحيب، و أن أقول شيئاً يعجبكم و لا أذكر الشيء الذي ربما أزعجكم و ساءكم. أنا لا اعتقد بمثل هذا، إنما اعتقد أن امتداح الشباب إذا كان في محله فهو صحيح و حقيقي و واقعي. و نقاط الثناء أيضاً واضحة في رأيي و سوف أذكر بعضها: بيد أن الثناء على الشباب يجب أن لا يتحول إلى ترحيب بهم. أنتم أبنائي. الإنسان يحب أبناءه شاء ذلك أم أبى. سواء علم الأبناء بذلك أم لم يعلموا، و سواء شاءوا ذلك أم لم يشاءوا. سواء شكروا حبَّ الأب و الأم أم لم يشكروا. هذه المحبة لا تعني أنه لو كان ثمة خطأ في سلوك هؤلاء الأبناء فيجب أن لا يذكر خوفاً من انزعاجهم، لا، بل يمكن للإنسان أن يكون طبيعياً مع أبنائه أكثر من الآخرين بكثير. إذن، أنا أحب فيكم الشباب و خصائص الشباب الرئيسية من أعماق قلبي و أثني عليها بكل كياني، لكنني استعيذ بالله من أن أقع في فخ الترحيب بالجماعة التي تقف أمامي أو الجماعات الكثيرة التي احترم محبتها.
ما هي النقاط التي تثير الإعجاب بالشباب و الثناء عليهم؟ لو أعددنا لذلك لائحة من مائة نقطة لما كنا مُكثرين. وسأذكر هاهنا جملة نقاط من تلك التي تثير الإعجاب بالشباب.
الشاب يتقبل الحق بسهولة. هذه حالة على جانب كبير من الأهمية. الشاب يعترض بسهولة و صدق، و يبادر دون أية هموم و بلا أية قيود داخلية. و هذه أيضاً حالة مهمة جداً. التقبّل السهل، و الاعتراض الصادق، و المبادرة المتحررة من القيود.. ضعوا هذه العناصر إلى جانب بعضها و سترون أية حقيقة جميلة تظهر إلى النور، و أي مفتاح لحل المشكلات يتوفر لدينا.
الشاب ينشد الإصلاح طبيعياً. أنا بالطبع لا شأن لي إطلاقاً بالمصطلحات الدارجة للإصلاحيين و المحافظين و ما شاكل. ما أرمي إليه ليس الإصلاح كاستعراض سياسي. البعض ينادون بالإصلاح و الحال أنهم لا يعرفون أساساً ما الذي يريدونه و ما الذي ينشدونه. و البعض ينادون بالإصلاح لكن ما في قرارة أذهانهم ليس من الإصلاح في شيء، بل هو لون من ألوان الرجعية و العودة إلى الوراء. ترون أن البعض و باسم الإصلاح الجميل الباهر يريدون العودة إلى زمن لم يكن فيه للدين سوى طابع التشريفات في حياة الإنسان! هذا ليس إصلاحاً. إنه الطرف المضاد للإصلاح. الإصلاح مصحوب بالتكامل و التقدم، و ليس بالتراجع إلى الوراء.
و هناك بالطبع أشخاص يتحدثون عن الإصلاح لكنهم يقصدون الإصلاحات الأمريكية! قبل سنة أو سنتين قلت في صلاة الجمعة إن هناك إصلاحات ثورية و إصلاحات أمريكية. مظهر الإصلاح الأمريكي هو أن تعود جرثومة فساد مثل محمد رضا بهلوي إلى إيران ثانية ليسيطر على الأمور، ثم يقدم مفتاح » هيمنة الأجانب على البلاد « الذهبي لأسياده الأمريكان على طبق من فضة! حين تلاحظون وسائل الإعلام الأمريكية و البريطانية و رجال السياسة عندهم يتحدثون عن الإصلاحات في إيران فإنما يقصدون مثل هذا الشيء، أي أن تتولى زمام السلطة في البلاد جرثومة فساد تابعة و محبة لهم و تكون أداة طيعة في أيديهم تضع كل شيء تحت تصرفهم و في خدمتهم.
طبعاً البعض ينشدون الإصلاح بصدق.. هذا مما لا شك فيه؛ إنهم يعانون حقاً من النواقص و الثغرات و العقد و الانحرافات و يريدون الإصلاح، و هذا شيء إيجابي محبذ في مكانه. الشباب إصلاحي بهذا المعنى. أي إنه ينشد العدالة و الحريات المشروعة و تحقيق المبادئ الإسلامية بنحو طبيعي. الحقائق و المبادئ الإسلامية تثير فيه الهياج و تجتذبه. الصورة المحفورة في ذهنه للإمام أمير المؤمنين عليه السلام تثيره و تستفزه، فيقارن النواقص الراهنة بتلك الصورة و ينشد الإصلاح. هذه خصيصة مهمة جداً.
و من النقاط المثيرة للإعجاب في الشباب هي الطاقة، و القدرة، و الإبداع، و الحيوية لدى الشاب. هذه أحوال متوفرة فيكم بشكل طبيعي. هذا جانب من اللائحة الطويلة لسجايا الشباب. هل يكسب الشاب هذه السجايا و الامتيازات؟ لا، إنكم لم تبذلوا جهداً يذكر للتوفر على ميزات طلب الحق، و الطاقة، و الحيوية، و التأنّي و الهمّة الشبابية. هذه مرحلة طبيعية من مراحل العمر و الحياة. إذن، هي موهبة يوجد قبالها تكليف و مسؤولية.
ثمة هاهنا مغالطة تصنف على ذلك الترحيب الرامي إلى خداع العوام. المغالطة تقول إن المنطق الإسلامي لا يقول شيئاً سوى » التكليف « و » الواجب » بينما الخطاب الجديد في العالم يقول بـ » الحق « فلماذا لا تتحدثون إلا عن الواجب و التكليف؟ البعض أشاعوا هذا الكلام و كان قصدهم تملق بعض المتهربين من الواجب بشكل انتهازي غير صادق.
أولاً الحق و الواجب وجهان لعملة واحدة. ليس ثمة حق من دون واجب. لكل إنسان حق و له في قبال ذلك واجب. إذن، أن يتحدثوا عن الحق و لا يتحدثوا عن الواجب كلام سخيف غير منطقي و فارغ من المحتوى. ثانياً ليس الكلام هنا عن الحق. الواجب الذي نطرحه هنا ليس مقابل حق من الحقوق، بل مقابل امتياز. أنتم لديكم امتياز يضع على عاتقكم بصورة طبيعية واجباً. أنا الذي لا أتمتع بشبابكم لا أتحمل بعض واجباتكم التي تتحملونها. طبعاً قد أتمتع في جانب آخر بامتيازات تفرض عليَّ بعض الواجبات. إذن، ليست القضية هنا تقابلاً بين الحق و الواجب، بل هي التلازم بين الامتياز و الواجب. الواجب ناجم عن امتياز تتحلون به في هذا الطور من أعماركم.. ناجم عن موهبة منحها الله لكم. لاحظوا أن هذا الواجب في المرحلة الراهنة أثقل من أي وقت آخر. لماذا؟ لأن جيل الشباب له دوره في المجتمع بشكل خاص. و لأن عدد الشباب ازداد، و لأن كفّة الشباب راجحة في المعادلات السياسية و الاجتماعية و الثقافية للبلاد. على ذلك، ليست القضية هنا: هل على الشاب واجب تجاه نفسه أم لا. القضية هي أن الأعداد الهائلة للشباب و تواجدهم في الساحة و خصوصاً الوعي الذي يتحلى به شباب بلادنا الملتزمون اليوم - و قلما نجد مثيلاً لهذا الوعي و الحس و التحفز في العالم - يجعل واجباتهم أثقل و أهم. و أقول لكم إن هذا الواجب من الواجبات التي تعد مثيرة و جذابة بالنسبة للشاب، و ليست من تلك الواجبات المتعبة الرتيبة. إنها واجبات متجانسة مع طبيعة الشباب و تدفع الشباب إلى الأعماق و تشجعهم.
لأي شيء نريد أن ندعو الشباب؟ لا نروم إطلاق شعارات عامة. بعض الشعارات جد عامة و غامضة. إنها تشبه الدعوة لساحة لا أحد يدري أين بوابتها أو إن بوابتها مغلقة. طبعاً بعض الواجبات التي نوجهها للشباب هي واجباتهم الشخصية. بناء الذات علمياً، و أخلاقياً، و جسمياً. هذه واجبات مهمة. إنها مطالب من حقنا أن نطالب الشاب بها و الشاب نفسه بحاجة إليها. لكن موضوعنا الآن ليس هذا.
ما نشعر اليوم أنه واجب يقع على عاتق شباب بلادنا هو أن يدافع الشباب عن رصيد الهوية الوطنية و الجماعية للبلاد بكل كيانهم و بأقصى هممهم. كل منظومة بشرية بحاجة إلى هوية جماعية و لا بد أن تشعر بالاجتماع و التلاحم و الهوية الجماعية. عادةً ما يشددون في بلدان العالم على مفهوم الوطنية، و يشددون في بعض البلدان على مفهوم القومية. ما هي الوطنية؟ إنها هوية جماعية يستطيع كل بلد عبر التمتع بها الانتفاع من كل إمكاناته في سبل التقدم و النجاح. إذا لم يتوفر هذا الشعور بالهوية الجماعية، ستواجه تلك المنظومة الكثير من المشكلات و ستحرم من كثير من النجاحات. أي إن بعض النجاحات في البلد لا تتأتى إلا عبر الشعور بالهوية الجماعية. هذه الهوية الوطنية و الجماعية ترتفع في بلادنا حتى فوق القومية. مع أننا نحترم القومية و نعتبرها مقدسة و نشدد عليها كثيراً - بمعناها الإيجابي و ليس بمعناها السلبي أو ما يسمى في العرف السياسي العالمي بالناسيوناليسم - لكن الهوية العامة و الوطنية للشعب الإيراني هي النظام الإسلامي الذي له من الفاعلية و الجاذبية و التأثير الواسع ما يفوق حتى القومية الإيرانية. أهمية هذه الهوية الجماعية العامة ترجع إلى تأثيراتها و مردوداتها على المستوى الإيراني، و كذلك على المستوى الإسلامي، مضافاً إلى تأثيراتها على المستوى العالمي. أي إنها شيء لا يشتمل عليه أي من الشعوب الأخرى.. إنه شيء فوق الوطنية. دائرة بعض الشعارات فوق الوطنية المحدودة. العرب مثلاً يعتمدون على الهوية العربية و القومية العربية، لكن هذه الهوية أولاً محدودة داخل إطار العرب و لا تستوعب غيرهم. و ثانياً لأن العروبة واقع فهي لا تنطوي على مبدأ فوق القومية تهتم له الشعوب الأخرى في العالم. و هكذا تبقى محصورة في إطار معين و تتعارض مع من هم خارج الحدود - العرب و غير العرب، العرب الفرس، العرب و الترك - لأنها تخلو من مبدأ يستوعب دائرة أوسع من هذه الهوية. أما النظام الإسلامي فليس من هذا القبيل. النظام الإسلامي له دوره الوطني و له دوره الإسلامي، و له دوره العالمي.. أي الدور فوق الإسلامي.
الأهمية الإيرانية للنظام الإسلامي ترجع إلى كونه نظاماً سياسياً مستقراً راسخاً متجذراً أوجده الشعب نفسه، و ليس نظاماً مفروضاً على الشعب. إنه نظام معادٍ للإيديولوجيا الملكية. الملكية لها أيديولوجيا. الإيديولوجيا الملكية هي ما تلاحظونه في كل الملكيات العالمية على اختلاف صنوفها و أنواعها. أي الاستبداد و الاستثمارات الخاصة و منطق القوة حينما تكون هناك حاجة لمنطق القوة. في يوم من الأيام قد تدفع أحقاد شخصية متبقية عن فترة الشباب الملك أنوشيروان - الذي حاولوا أن يسمونه العادل - إلى قتل عشرات الآلاف من المزدكيين في يوم واحد! يروى أنه قال حينما كنت شاباً أمرني والدي - قباد - أن أقع على قدمي مزدك ( لأن قباد كان من أتباع مزدك ) و لا تزال الرائحة الكريهة لأقدام مزدك في منخريّ، لذلك أريد الآن بعد ما تربعت على العرش أن أنتقم لا من مزدك نفسه بل من عشرات الآلآف من المزدكيين!
الملوك الصفويون من مفاخرنا - تعلمون أننا نقيم وزناً و اعتباراً للملوك الصفويين لأنهم من أتباع أهل البيت و قد حافظوا على استقلال إيران و وحدة أراضيها - و لكن لاحظوا أن الشاه عباس - و هو شخصية بارزة - كم مارس من الظلم النابع عن الاستبداد. قتل من أقربائه و سمل عيونهم إلى درجة أن بعض الأشخاص اضطروا إلى إخفاء بعض الأمراء الصفويين كي لا يعلم الشاه بوجودهم! أمر مثلاً أن يقطعوا رؤوس الأولاد الأربعة لإمام قلي خان و يضعوها أمامه، و الحال أن إمام قلي خان من الأشخاص الذين قدموا الكثير من الخدمات للصفويين فهو من خدمتهم القدماء و من قادة جيوشهم و رجال سياستهم، لكن روح الاستبداد لدى الشاه جرّت عليه هذا البلاء. الظلم و الجور لم يقتصر على محمد رضا و رضا خان. ثمة في الإيديولوجيا الملكية ظلم و جور ناجم عن الاستبداد و القدرة المطلقة و عدم الالتزام بأية مسؤولية و لا أي عهد إلهي أو شعبي. ثار النظام الإسلامي بوجه الإيديولوجيا الملكية بينما عاشت بلادنا الحالة الملكية لقرون متوالية سواء قبل الإسلام أو حتى بعد الإسلام. الإسلام في المدينة كان يحتوي الحرية و الديمقراطية - بمصطلحات اليوم - بالمعنى الحقيقي للكلمة. هكذا كان الحال في المدينة و مقر النبوة. أما في المناطق البعيدة حيث يحكم فلان من القادة الأمويين في خراسان، أو إصفهان، أو فارس، فلم يكن مثل هذا، إنما كان كل قائد حاكماً مستبداً يفعل كل ما يقدر عليه. إيمان الإيرانيين بالإسلام لم يكن طبعاً لأجل هذه الشخصيات و القادة، بل لأجل رسالة الإسلام التي كان لها قصتها المختلفة. ومن إيديولوجيا الملكية التي يعد الاستبداد ركناً أساسياً من أركانها انبثقت منذ المائة عام الأخيرة فصاعداً آفات أخرى في بلادنا منها التبعية، و منها فساد الملك و حاشيته و شخصيات البلاط: الفساد الجنسي، و الفساد الأخلاقي، و أنواع الفساد المالي.
كانوا ملوكاً ذوي سلطة مطلقة أمام شعوبهم، أما حيال الأجانب فمستسلمين مطيعين.. » أسدٌ عَليَّ و في الحروب نعامةٌ «! كانوا يملون عليهم أشياءً في أهم القضايا لا من قبل رئيس جمهورية، بل من قبل سفير! سفير بريطانيا كان يأتي للبلاط و يقول من مصلحتكم أن تكون الأمور كذا و كذا. و كان الشاه يفهم ما معنى » من مصلحتكم «.. و إلى جانب التبعية المطلقة و الطاعة للأجانب كان هناك عدم الكفاءة إلى ما شاء الله.
أقول لكم إنه لم يتم إنجاز أية أعمال مهمة طوال المائة عام الأخير إلى ما قبل انتصار الثورة. و اليوم تفتحت أعينكم على الحقائق العلمية في البيئة الجامعية. ترون كم أمامنا من الأعمال التي لم تنجز بعد، و من الطريق الذي لم يطوَ بعد. كان بالإمكان السير في هذه الطرق و مواكبة قافلة العلم. كان بالمستطاع تجريب العلم و العلمائية و البحث العلمي و الاستقلال في العلم و البحث العلمي في البلاد. لكنهم لم يفعلوا ذلك، إنما فعلوا العكس.
في عهد دخول العلم الحديث لبلادنا، كان ما دخل هو التقليد و الترجمة. طبعاً، لا أقصد ترجمة الأعمال القيمة - و هي عملية ضرورية - إنما أقصد تفكير الترجمة و ذوق الترجمة و روح الترجمة بمعنى سلب الشعب القدرة على الإبداع، و سلبه شجاعة إطلاق الأشياء الجديدة، و التنكيل به و بخسه أشياءه و الإيحاء له بأنك إذا أردت الوصول لنتيجة معينة و الالتحاق بصفوف الآدميين فعليك أن تفعل نفس ما فعل الغربيون و لا تنحرف عنه قيد أنملة! هكذا علّموا شعبنا في الأروقة العلمية. لم يسمحوا له بالإبداع و التجديد و إنتاج العلم. العلم و الفكر مما ينبغي إنتاجه. لم يفسحوا المجال للإبداع العلمي لا على صعيد العلوم التجريبية، و لا العلوم الإنسانية، و لا العلوم الإنسانية و لا العلوم الاجتماعية. لذلك كان الوضع على هذه الشاكلة التي ترون.
طبعاً خلال هذه الأعوام العشرين التي تلت الثورة و رغم كل المشكلات التي كانت، إلا أن الصفحة انقلبت. و إلا، فقبل الثورة و قبل انطلاق شجاعة الإرادة، و التفكير، و الثقة بالنفس، و الاعتماد على المواهب الإيرانية في البلاد - و هذه من خيرات الثورة - كانت غاية آمال الإنسان و طموحاته هو أن يعمل طبقاً للوصفة التي عمل بها الغربيون. أي إن الأفراد لم يكونوا يسمحون لأنفسهم بتجاوز ذلك السياق. إذن، كان ثمة استبداد، و تبعية، و فساد، و عدم إبداع، و عدم تقدم، لكن الثورة انتصبت مقابل كل هذه الظواهر و ثارت ضدها. لم تكن هذه الثورة و هذا النظام شيئاً اجترحته فئة أو جماعة معينة، إنما شيء قام به الشعب.
القرن العشرون قرن التحولات السياسية الكبرى و الصغرى في العالم، و قد وقعت فيه العديد من الثورات، و الانقلابات، و التحولات. مهما نظرتم في القرن العشرين فلن تجدوا في هذه التحولات ما لم يتأثر بصفقات القوى الأجنبية و تدابيرها خلف الكواليس. طبعاً ثورة اكتوبر السوفيتية استثناء بين تلك الأحداث فقد كانت حدثاً مختلفاً، أما سائر التحولات السياسية التي وقعت في العالم فكانت إما بتأثير من الجماعات الحزبية و من ورائها الاتحاد السوفيتي، أو كانت انقلاباً يدبره بضعة أشخاص من طلاب السلطة. إذن، لم تكن من فعل الشعوب كما كانت الثورة في إيران. ثورة اكتوبر السوفيتية أيضاً لم تكن شعبية و قد ذكرتُ أن تحليلها حكاية طويلة بحد ذاته.
الثورة الإسلامية الإيرانية كانت شعبية مائة بالمائة. إذا زرتم أية قرية من قرى البلاد خلال فترة الثورة لوجدتم الناس ثائرين و لديهم ما يقولونه و يطالبون به، و لديهم شعارات يرفعونها، و كل هذه المطالب و الكلام يدور حول محور واحد هو رسالة الإسلام التي كانوا يرون تجسيدها في إمامنا العزيز الغالي. أهمية النظام الإسلامي من حيث الأبعاد الإيرانية تكمن في أنها: أولاً شعبية مائة بالمائة. ثانياً تقف على الطرف النقيض لما عانت منه بلادنا قروناً طويلة، و هو الإيديولوجيا الملكية و الشخصيات الملكية. لا تجدون أية وطنية بوسعها خلق مثل هذه المحفزات العميقة في قلوب جميع أبناء الشعب. كل واحد من أبناء الشعب كان يطالب بهذه الثورة و بهذا النظام بكل كيانه و ينشده. حتى أكثر الناس لاأبالية كان لهم أيضاً سهمهم في هذه الحركة. هذا على المستوى الإيراني.
أما على المستوى الإسلامي فإن الحالة الوطنية تحاصر عادةً داخل حدودها و لا تكون لها أية قيمة أو جاذبية أو احترام خارج هذه الحدود، أما النظام الإسلامي فقد أحيت الهوية الإسلامية و الشعور بالشخصية المميزة لدى الأفراد و الشعوب في كل مكان كان فيه مسلمون. الأقليات المسلمة المتفرقة في العالم شعرت بشخصيتها. الشعوب المسلمة خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا - أي أجزاء الامبراطورية العثمانية القديمة المتناثرة و التي تحملت آلام الاستعمار لسنين طويلة - شعرت أن نسائم جديدة قد هبّت. نحن طبعاً لا نوافق الامبراطورية العثمانية إطلاقاً فقد كانت حكومة ملكية كباقي الحكومات الملكية بكل مشاكلها و معاناتها، لكن الأوربيين - فاتحي الحرب العالمية الأولى - حينما نسفوا هذه الحكومة الكبرى الممتدة من البلقان إلى جميع نواحي آسيا الصغرى و الشرق الأوسط وشمال أفريقيا - من البوسة و الهرسك حتى مصر، و تركيا الحالية، و العراق، و سورية، و فلسطين - لم يكتفوا بتدمير الحكومة، إنما انتقموا من الشعوب و أذلوها! أوصال هذه الحكومة وقعت في أيدي إحدى الدول الأوربية و تكررت قصة الاستعمار المحزنة .. القصة التي لن تنساها هذه الشعوب إطلاقاً و لن تفارق تاريخهم إلى الأبد. أن يأتي أجنبي إلى بلد من البلدان فيحكم فتوظف كافة إمكانات ذلك البلد لخدمة هذا الأجنبي و أجهزته فيكون نظام الحكم أجنبياً و تضطر جماهير البلد لإطاعة الأجنبي الذي يحكمهم و لا يتجرؤن على التحدث أو فعل أي شيء يعارض مصالحه. هذه كانت حقيقة الاستعمار.
و حينما لم يمارسوا الاستعمار المباشر - كالعراق - أوجدوا حكومة ملكية و جاءوا بشخص غير عراقي - عائلة فيصل لم تكن عائلة ملكية عراقية - و نصبوه حاكماً على الناس، لكن الإنجليز هم الذين كانوا يحكمون في حقيقة الأمر. السياسة كانت سياسة الإنجليز. الإرادة إرادة الإنجليز و الشعب العراقي مستسلم و خاضع لقبضة حكومة أجنبية. انظروا، أية إهانة أشد من هذه لشعب من الشعوب؟ أهانوا كل شيء و قضوا على دينهم، و دنياهم، و شخصيتهم، وآدابهم، و ثقافتهم، و استقلالهم بالتمام.
و يوم أوفدوا ما يسمى بموجة التحديث لهذه المنطقة ينبغي القول إنهم في الحقيقة أسالوا المياه الآسنة للتحديث على هذه المنطقة. لم يرسلوا العلم، و الإبداع، و الاختراعات الحديثة، و التقدم الفكري، و الجامعات الطليعية لبلدان مثل الجزائر، و مصر، و العراق، و سائر المناطق الخاضعة للاستعمار. الشيء الأول الذي جاءوا به هو الابتذال الثقافي، و السفور، و البضائع الاستهلاكية البالية، أو على الأكثر نظم التربية و التعليم المنسوخة من الدرجة الثانية و الثالثة. أي إنهم أهانوا الشعوب على كافة المستويات.
حينما انطلقت التيارات اليسارية في العالم، رفع الكثير من المستنيرون في العالم الإسلامي شعارات يسارية - شعارات اشتراكية و ماركسية - و كانوا يريدون في الحقيقة الانتقام من الغرب. و لكن حين ظهر النظام الإسلامي و الثورة الإسلامية ثارت ضجة كبيرة و عمّ الهياج و الحماس كافة البلدان الإسلامية لأنها وجدت شعباً رفع راية الإسلام و صمد بوجه أقسى التهديدات، لا بوجه الغرب و حسب، بل بوجه الشرق و الغرب معاً، و رفع شعار » لا شرقية و لا غربية « و لم يأبه لأكثر صنوف التطميع إغراءً.
أعزائي، ردود الفعل الأمريكية و الغربية حيال الثورة الإسلامية وليدة مثل هذه الحقائق. أوجدت الثورة في البداية انفجاراً في العالم الإسلامي بث الهلع في قلوب الجميع. حللوا الأمر و قالوا إذا لم نقف بوجه هذه الثورة و لم نسقط هذا النظام فسوف يستغرق العالم الإسلامي و يهدد مصالح الغرب في العالم الإسلامي. و كانوا على حق. لذلك ابتدأت المؤامرات ضد الثورة الإسلامية. إذن، فعل النظام الإسلامي و الثورة الإسلامية ذات الشيء الذي تفعله الوطنية لشعب من الشعوب. أي إن الجميع شعروا بالألفة و رفعوا الشعارات، و أطلقوا على أبنائهم في البلدان البعيدة أسماء شخصيات الثورة. شعراء العرب الكبار الذين لم نكن قد سمعنا بأسمائهم و لم تكن لهم أية صلة بإيران نظموا قصائد عصماء في وصف طهران، و إيران، و شعب إيران. نزار قباني شاعر جد مشهور توفي قبل ثلاثة أو أربعة أعوام، كان معروفاً بقصائده المعارضة للحكومات العربية و قد تهجّم في شعره الجذاب جداً على السلالات الملكية و حريمها. هو طبعاً لم يزر إيران أبداً و لم تكن له أية صلة عرقية بإيران، لكن له حول طهران قصيدة مطولة.. طهران التي لم يرها و لم يعرفها، و حول إيران التي طالما تصدت لها القوميةُ العربية.
أما على المستوى العالمي فقد تركت الثورة الإسلامية تأثيراتها العالمية - حتى في العالم غير المسلم - و لفتت الأنظار إلى قوة الدين في تعبئة الجماهير. الدين الذي كان ظاهرة معزولة تشريفية إذا به فجأة يعبّئ شعباً بنحو يصرع صرعةً كاملةً نظاماً يستند للدعم الدولي، و لا يسمح بأي فراغ على أنقاضه بل يشيد نظاماً له رسالة جديدة. جميع من كانت لديهم أفكار مثالية للبشرية - قضية العدالة، و الإنسانية، و تكريم الإنسان، و المساواة بين البشر، و تساوي الأعراق، و ضرورة الكفاح و التصدي لمنطق القوة الدولي - و الذين حملوا في قلوبهم كلاماً لكنهم لم يتجرأوا على طرحه أو لم يجدوا الفرصة و الإمكانية اللازمة لطرحه، لاحظوا أن نظاماً سياسياً متماسكاً يقوم في مكان ما من العالم و يكتب هذا الكلام على اللافتات و يرفعه أمام أنظار الجميع. كان هذا شيئاً خارقاً بالنسبة لهم.
في زمن حرب فيتنام حيث اشتدت الدعاية و الإعلام ضد أمريكا من دون أن يعبأ أحد لذلك أو يهتم، اجتمع جان بول سارتر الكاتب و الفيلسوف الفرنسي، و برتراند رسل الفيلسوف و الكاتب البريطاني، و عدد آخر و قالوا يجب أن نشكّل محكمة ضد أمريكا و نحاكم هذا النظام على جرائمه التي ارتكبها في فيتنام. أتذكر أن برتراند رسل كان المدعي العام، و جان بول سارتر كان رئيس المحكمة التي ضمّت عدداً آخر من المفكرين السياسيين في العالم الغربي. لم يجدوا أي مكان في العالم يشكلون فيه هذه المحكمة! البلدان الغربية - و منها فرنسا و بريطانيا - كانت شريكة أمريكا في جرائمها، لذلك لم يكن ثمة معنى لتشكيل مثل هذه المحكمة في هذه البلدان. و إذا قامت المحكمة في البلدان الشيوعية اصطبغت بصبغة شيوعية و لأنهم كانوا على خلاف مع الماركسية لم يرغبوا في إقامتها في تلك البلدان. و بالتالي لم تتوفر الحرية في أي مكان من العالم ليقيم فيه هؤلاء محكمتهم. فكان الحل الذي خطر ببالهم هو أن استأجروا سفينة شكلوا على متنها هذه المحكمة التمثيلية فوق مياه المحيطات الحرة! إذن، حين أراد عدد من المفكرين الاعتراض على جرائم أمريكا الفاضحة في فيتنام، كان عليهم إما أن يلجأوا للاحتجاجات في الشوارع - كالأعمال التي تحصل اليوم ضد العولمة.. حيثما ينعقد مؤتمر للعولمة تخرج مظاهرات شوارع و يطلق البعض الشعارات و يهجم عدد من الشرطة بهراواتهم، إلا أن هذه التظاهرات ليس لها أهمية تذكر و لا تأثير كبير، أنما هي مجرد أداة للاحتجاج - أو إذا أرادوا فعل شيء مؤثر في الرأي العام العالمي فلن يجدوا أي مكان في العالم يمكن أن يحتضنهم، لذلك اختاروا سفينة و ساروا إلى وسط المياه و قاموا بفعلهم هذا من دون أي اتصال بالجماهير و بلا أي امتدادات وطنية شعبية. في مثل هذا العالم الذي يعاني قحط مكان مناسب لإطلاق كلمة حق، إذا بشعب من عشرات الملايين و بمحفزات لا نهائية ينـزل فجأة إلى الساحة على نفس هذا الكوكب الأرضي، و ليس على أرض مستأجرة أو ساحة كرة قدم، بل في بلد معروف، و ليس في منطقة نائية من العالم، إنما في الشرق الأوسط أكثر مناطق الجغرافيا السياسية حساسية في العالم، ينـزل إلى الساحة و لا يعترض على أمريكا و حماتها فقط، و لا يقول » لا « لكل الدوافع الاستكبارية الأمريكية و حسب، بل و يعترض حتى على الاتحاد السوفيتي القطب المقابل لأمريكا.
خلال فترة رئاستي للجمهورية شاركت في مؤتمر عدم الانحياز في زيمبابوي. مؤتمر عدم الانحياز يدار من قبل اليساريين غالباً. و هو لا يخلو طبعاً من بلدان ميّالة للغرب و أمريكا. لكن مدراءه الكبار هم روبرت موغابي و فيدل كاسترو - و هما يساريان - و بقية رؤساء الجمهوريات اليساريين في العالم من أنصار الاتحاد السوفيتي حضروا أيضاً و شاركوا في الإدارة. توجهت إلى هناك و ألقيت كلمة. كلمتي كانت مناهضة لأمريكا و للاستكبار مائة بالمائة. ذكرت حقائق الثورة، و حقائق البلاد، و جرائم أمريكا بما في ذلك جرائمها ضد شعب إيران، و القضايا المتعلقة بالحرب المفروضة و ما إلى ذلك. ثم هاجمت بنفس تلك الصراحة و الشدة الاعتداء السوفيتي على أفغانستان، فبهت هؤلاء! و قال لي أحد رؤساء الجمهورية اليساريين: عدم المنحاز الوحيد في هذا المؤتمر هو إيران. لاحظوا أن النظام الإسلامي اكتسب أهميته و تجلياته على المستوى العالمي بهذا الشكل مما اضطر حتى أعداءه إلى احترامه.
أضف إلى ذلك أن الشيء الذي اجتذب إليه خصوصاً الجماهير في العالم غير الإسلامي هو الروح المعنوية. صحيح أنهم أزالوا المعنوية من حياة الناس، إلا أن هؤلاء الناس المحرومين من المعنوية و الغارقين في الحياة المادية يشعرون بالفراغ و النقص. كالإنسان المدمن الذي لا يترك إدمانه لكنه يفرح إذا قيل له إن هناك من يستطيع أن يجبرك بالقوة على ترك إدمانك، و يتمنى من الله أن يقيدوا يديه بالقوة و لا يزوّده بالمخدرات كي ينجو و يرتاح. الكثير من المجتمعات الغربية كانت و لا تزال تعيش مثل هذه الظروف.. أجل.. إنها غارقة في الماديات و بعيدة عن المعنوية، لكنها تشعر بالفراغ و النقص. لقد وجدت هذه المجتمعات أن نظاماً له هذه القدرات السياسية، و هذه المعنويات العالية، بكل هذه الأفكار الجديدة للعالم و بهذه الحيوية و الفتوة قد نزل إلى الساحة و هو يتحلى بالمعنوية.. يشرع أعماله باسم الله و ينهيها في سبيل الله.. يروم بناء العالم باسم الله، و لا يتجاوز الدنيا كما فعلت أجهزة القادة الكنسيين. لاحظوا أن هذه هي قصة الهوية العامة للشعب الإيراني أي النظام الإسلامي. شيء مهم من الناحية الوطنية، و الإسلامية، و العالمية. استرعى هذا النظام في مطلع ظهوره أنظار العالم إليه و استقطب القلوب المحايدة غير المغرضة بنفس الدرجة التي أقلق و أمضّ بها رجال و قادة و حراس الهيمنة الدولية و العالمية فوقفوا في وجهه.
أعزائي، كثيراً ما تحدثت و كررت الكلام عن عداء المهيمنين و النظام الاستكباري للجمهورية الإسلامية. أتمنى أن تتأملوا و تفكروا في هذه القضية قليلاً. المسألة على جانب كبير من الأهمية. ثمة ها هنا عمل مهم جرى و يجري. الحقيقة أن ساسة الهيمنة العالمية الذين يرون العالم كله و مصالحه مباحةً لهم، يشعرون أنهم وقعوا في ورطة كبيرة. مصداق كونهم يعتبرون العالم كله ملكاً لهم هو ما ترونه. يقول الأمريكان إننا جئنا بأسطولنا إلى الخليج الفارسي لأنه فيه مصالح لنا. الهيمنة و الاستكبار العالمي لا يرى نفسه بحاجة لاستخدام الأساليب القانونية الدارجة و المألوفة لإحراز المصالح. الكل ينشدون مصالحهم. لكن طلب المصالح له طريقه. يعطي الإنسان شيئاً و يأخذ شيئاً.. يتفاوض و يكسب امتيازات. لكن هؤلاء غير مستعدين لاتباع هذه القوانين.. يبعثون سفنهم الحربية! حيثما تقتضي مصالح نظام الهيمنة فعليهم التواجد هناك باقتدار! إذا تعرضت هذه المصالح لأدنى تهديد فسيفعلون إذا استطاعوا ما فعلوه في أفغانستان من دون أي إشكال أو مانع أو رادع يخطر ببالهم.. لا يفكرون إطلاقاً.. إلا إذا تلقّوا ضربة على رؤوسهم، و بغير ذلك لا يرون و لا يشعرون بأي مانع أو عقبة تعترض سبيلهم. بل لا يرون حاجة لذلك. يقال لأمريكا هل حصلت على ترخيص من مجلس الأمن الدولي للهجوم على أفغانستان. فيجري وزير خارجيتهم المحترم (!) حواراً يقول فيه لا حاجة لمجلس الأمن! أنتم تدعون أن فلاناً أو الجماعة الفلانية أو المنظمة الفلانية استهدفت برجيكم العزيزين في نيويورك و نسفتهما و سوّتهما بالأرض، فهل عرضتم على أحد دليلاً أو شاهداً أو وثيقة بذلك؟ فيقولون لا حاجة لعرض الوثائق! أي إنه استبداد على مستوى دولي. الشعوب يكافح كلٌّ منها ضد دكتاتور بلاده و يبذل الأرواح للقضاء على هذا الدكتاتور و تنصيب حاكم شعبي مكانه. ثم تضطر هذه الشعوب لقبول الدكتاتورية الأمريكية الدولية الأجنبية و هيمنتها على شؤون بلادها. حين أكرر قضية عداء الهيمنة العالمية لإيران فإنما أفعل ذلك في ضوء هذه الحقائق.
ثمة اليوم نظام مستقر و قوي و ذو رصيد شعبي عظيم. و قد حاربوا هذا الرصيد الشعبي العظيم طويلاً. مما لا يمكن لأجهزة الاستكبار أن تطيقه هو أن تشاهد جماعات مثلكم أيها الشباب تجلس و تستمع من الصميم لأحاديث مسؤول في بلادها. النظام المرتكز على أفكار الناس و أصواتهم، و عواطفهم، و محفزاتهم، و وعيهم، و يقع في منطقة جغرافية جد حساسة و يقول كلمته بلا أي خوف أو وجل، و يفعل ما يريده، فماذا يفعلون لهذا النظام إن لم يعادوه؟ لا بد لهم أن يعادوه. أنا و أنتم من يجب عليه معرفة هذا العداء و تشخيصه.
و كما ذكرت ذلك اليوم في ساحة الإمام لذلك الحشد الهائل فإنهم يمكرون و يتآمرون و علينا أن تكون لنا مضاداتنا أمام مكرهم و مآمراتهم و هجماتهم. » و مكروا و مكر الله «. » إنهم يكيدون كيداً و أكيد كيداً «. إذا غفلنا عن عدوانهم خسرنا. و إذا لم نفكر بحل و علاج نواجه به هجماتهم نكون قد حققنا النجاح لعدونا بأيدينا. و هذا هو سبب تذكرتي و تحذيري الدائم للمسؤولين، و الشعب، و خصوصاً الشباب.
نحن نعيش اليوم فترة حساسة. هل يمكن للشاب أن لا يكترث لشيء؟ تهجم العدو علينا حالة طبيعية. لا ضرورة إطلاقاً لأن تكون لدينا أجهزة خاصة توافينا بالأخبار عن أعماق أعمالهم - و نحن لدينا طبعاً أخبارنا الخاصة - و لكن حتى لو لم تكن لدينا تلك الأخبار الخاصة فمن الواضح و المنطقي و الطبيعي جداً أن يتآمر الأعداء ضدنا. يأتي البعض و يطرحون قضية » وهم المؤامرة «. يأتي شخص و يطرح دون خجل في الجامعات و الأجواء التنويرية في البلاد أن المؤامرة وهم، و الأعداء لا يتآمرون ضدنا. أمريكا لا تتآمر ضدنا!
خلال فترة الحرب المفروضة، كانت هناك شخصيات كثيرة تزور إيران. من هذه الشخصيات التي لا أنساها أحمد سكوتوري رئيس جمهورية غينيا كوناكري في غرب أفريقيا و من الشخصيات البارزة و المحترمة جداً في القارة الأفريقية. المطالعات التاريخية و السياسية لشبابنا ضعيفة للأسف. عليكم أن تكثروا من قراءة هذه المسائل و الإحاطة بها. حصلت ثورة في بلد غنا في غرب أفريقيا و تولت الحكم شخصية أفريقية جد مميزة هو » قوام نكرومي « حيكت ضده بعد ذلك الكثير من المؤامرات.. مؤامرات غربية و أمريكية و غير أمريكية. في أحد أسفار » قوام نكرومي « إلى الخارج نفذوا ضده انقلاباً يمينياً غربياً في هذا البلد اضطر إثره أن لا يعود لبلاده. و دعا أحمد سكوتوري قوام نكرومي لبلاده و عرض عليه أن يتولى فيها رئاسة الجمهورية. مثل هذه الشخصية دعت قوام نكرومي لبلادها. إبان فترة رئاستي للجمهورية حيث كنت أنشط بشكل تنفيذي و عملي على صعيد السياسة الخارجية قلما رأيت بين الشخصيات السياسية في العالم شخصية بقوة هذا الرجل. زار إيران ثلاث مرات تقريباً. طبعاً ضغطوا كي يزور إيران للوساطة في قضية الحرب. كان يتحدث بكلام جيد في اللقاءات الخاصة.. داخل السيارة و أثناء التجوال و الذهاب و الإياب. قال لو لم تتعرضوا بعد الثورة لهجوم عسكري لتعجّبتُ، لذلك ليس من العجيب أن هجموا عليكم. صرّح بأن هجوم العراق ضدكم منظم و مدروس و مخطط له مسبقاً و عملية دولية، و ليس من فعل العراق. و كان على حق فهذا هو الواقع. شنوا هجوماً عسكرياً و ظنوا أن الأمر سينتهي لكن هذا لم يحصل. و فرضوا حظراً اقتصادياً و لم ينته الأمر. مارسوا شتى صنوف الضغط طوال هذه الأعوام الأثنين و العشرين و مارسوا الإذياء. هذه العداوات طبيعية، و ليس سبيل مواجهتها في الاستسلام.
و أطرح هذه النقطة داخل قوسين.. لا يقولن أحد ما الداعي لمواجهة عدو يمارس كل هذه الإيذاء؟ توافقوا و تكيفوا معه! التوافق في القضايا السياسية المهمة ذات الصلة بمصير الشعوب يعني الاستسلام و العمل بحسب ما يريده الأعداء. كشخص يروم الاستيلاء على بيتكم و لا ترضخون له.. يقذفكم بالحجارة دوماً و يحطم الزجاج و يمارس الإيذاء. فيأتي شخص و يقول لكم توافقوا مع عدو يمارس كل هذه الإيذاء ضدكم! التوافق معناه أن تخرجوا من البيت و تسلموا له المفاتيح! التوافق معناه إهانة شعب بكامله و وقوعه في الأسر. معناه تأمين مطالب العدو بخصوص الشعب. النجاة من هذه الهموم و المشكلات ليس لها سوى سبيل واحد هو التفكير و التدبر و التخطيط لهجوم مضاد و فرض اليأس على العدو. جيل الشباب يتحمل مسؤولياته و واجباته في مثل هذه الساحة.
إذا زعم زاعم أمام الشباب إن نظامنا الإسلامي لا عيب فيه إطلاقاً و إننا نطبق نفس الإطار الذي أراده الإسلام فقد قال هراءً. ليس الأمر كذلك إطلاقاً. إننا بشر ضعفاء. حينما يذكر البعض الاسم المبارك للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أو الاسم المبارك للإمام المهدي روحي فداه ثم يذكرون أسماءنا بعدها ترتعد فرائصي. البون شاسع بين حقائق النور المطلق تلك و نحن الغارقين في الظلام. نحن نبات هذا المناخ الدنيوي المعاصر الملوث.. أين نحن من أصغر و أقل تلامذتهم؟ أين نحن من قنبرهم؟ أين نحن من ذلك العبد الحبشي المستشهد في كربلاء بين يدي الإمام الحسين عليه السلام؟ إننا لا نساوي تراب أقدام ذلك العبد. غير أن الحقيقة هي إننا كمسلمين عرفوا طريقهم اتخذنا قرارنا و ركزنا طاقاتنا في هذا الطريق. نسير في هذا الطريق و نواصل المسيرة بكل كياننا. ثمة نواقص في عملنا و جميعها قابلة للحل. طبعاً حينما نعالج هذه النواقص لا يعني هذا أننا بلغنا غاية المقصد.. كلا، سبيل الكمال لا نهاية له. في الطريق الذي نسيره عليه هناك علامة » الوقوف ممنوع « على كل كيلومتر منه.. ينبغي عدم التوقف بل السير إلى الأمام. الكثير من المشكلات الحالية التي يعاني منها شعبنا و بلدنا ممكنة الحل. جانب منها يقع على عاتقي أنا و أمثالي من رجال الدولة. و جانب منها يقع على عاتق الجماهير.
أهم نقاط الضعف التي تختص بالمسؤولين - و قد أشرت لها باختصار ذلك اليوم في ساحة الإمام، و أفصّل فيها لكم أيها الشباب الآن أكثر - هي كالتالي:
إحداها حالة هشاشة البصيرة و ضعف الإيمان الثوري و الإسلامي لدى بعض المسؤولين. هؤلاء معجبون بالوصفات السياسية الغربية.. و بالوصفات الفاشلة في الاختبارات تحديداً. الليبرالية الديمقراطية الغربية التي قيل يوماً إنها تمثل ذروة تكامل الإنسان الفكري و العملي، و لا يوجد شيء فوقها - و اعتقد أن هذا الرأي بحد ذاته دليل على قصر النظر حيث يجد الإنسان محطة معينة و يقول لا يمكن أن تكون وراءها محطة أخرى يسير الإنسان نحوها. كلا، الإنسان غير محدود في حركته و مسيرته - راحت تفضح اليوم نفسها بنفسها. هذه الليبرالية هي التي خلقت قضية أفغانستان راهناً و قضية فلسطين منذ سنين طويلة. هذه الأومانية الغربية الكاذبة هي التي تتجاهل الشعب الفلسطيني منذ خمسين عاماً و تروم إلغاءه بالكامل. لا يسألون أنفسهم هل كان الشعب الفلسطيني موجوداً في العالم أم أنه لم يكن موجوداً. إذا كنتم تعترفون بوجود اسمه فلسطين فأين شعبه إذن؟ أرادوا شطب شعب و اسم جغرافي من على الكرة الأرضية بالكامل. لقد بلغت الأومانية و الليبرالية و الديمقراطية عندهم اليوم درجة من القمع و الإرهاب بحيث لا يسمحون لوسيلة إعلام أجنبية ببثّ أخبار أفغانستان! هذا هو سياق الإعلام الحر من وجهة نظر الغرب. هذه الوصفة مفضوحة و فاشلة في الاختبار. و مع ذلك إذا بأحد مسؤولينا الذي أحرز عزة و احتراماً بفضل الثورة الإسلامية، و ربما كان هناك بضعة أشخاص يحترمونه بسبب إبدائه الانتماء للإسلام و الإمام و الثورة، يناصر فجأة الليبرالية الديمقراطية الغربية و هي القطب النقيض للديمقراطية الإسلامية! الديمقراطية الإسلامية و الحرية في الإسلام حقيقة أخرى مختلفة أساساً. أحياناً نجد مثل هذه الحالات النادرة. أنا طبعاً أشكر الله على أن مسؤولينا رفيعي المستوى مؤمنون بالمرتكزات الإسلامية إيماناً عميقاً. لم يستطع العدو التغلغل فكرياً و سياسياً إلى المواطن الحساسة. رؤساء السلطات الثلاث و مسؤولو البلاد رفيعو المستوى يؤمنون إيماناً عميقاً بمبادئ الإمام و الثورة. و لكن تلاحظ حالات في بعض المؤسسات سبق أن أشرت إليها.
يخترقون القانون على الصعيد الفكري. مضمار الفكر له بدوره قوانينه التي لا بد أن تتبع. إذا كان لأحد شبهة حول أحد المباني الفكرية، فقانون ذلك أن يطرحها في المراكز المتخصصة و الأروقة العلمية. ينبغي إما معالجة الشبهة و محوها من الأذهان أو إذا كانت إشكالاً حقيقياً فيجب تحويلها إلى نظرية تنقاد إليها أذهان أهل العلم و الرأي. هؤلاء السادة لا يتبعون هذا القانون. تعنّ لأذهانهم شبهة معينة و ينتابهم عدم الإيمان و تقضم أرضة الأهواء و النـزوات و طلب الرفاه و الدنيا - نتيجة ألف ابتلاء و مشكلة - أركان إيمانهم القلبي العميق فيصبحوا من أرباب الشبهات، ثم يطرحون هذه الشبهة على الرأي العام و يسمون ذلك إعادة نظر! هذه خيانة للرأي العام.. ما معنى إعادة النظر؟ تارة يكون معنى إعادة النظر أن يعود الإنسان بدافع الفكر و الإنصاف عن خطأ كان قد وقع فيه. هذه حالة جيدة جداً. لكن إعادة النظر السياسية، و المصلحية، و الناجمة عن تغيّر الظروف، و تطميع العدو ليست إعادة نظر، إنما هي تذبذب و تلوّن.
لدينا في الإسلام اجتهاد دائم. الاجتهاد الدائم معناه أن يعمل الإنسان الواعي على استكمال أفكاره دائماً. في طريق التكامل قد يصحح الإنسان خطأً من الأخطاء.. هذه ممارسة صحيحة و إيجابية. في طريق الفكر الإسلامي، يجب على الواعين، و المفكرين، و القادرين على الاجتهاد و الاستنباط في المباني الفكرية و النظرية للثورة - و ليس كل من ادعى ذلك، أو كل من لم يحرز الصلاحيات العلمية و الفكرية اللازمة - أن يفكروا دوماً و يستكملوا الأفكار. هذه حالة جيدة. ينبغي أن لا ننتمي لحزب » الريح « فنتخذ قرارنا كل يوم بحسب اتجاه هبوب الرياح، أو ننظر كيف تحرك العدو فنطابق تحركاتنا مع تحركاته. إذا قطّب حاجبيه نتخذ ملامح خائفة، و إذا أطلق كلاماً شديداً نتخذ ملامح معتذرة! هذا غير ممكن.
لو نظر الإنسان في الحياة السياسية لبعض الأفراد منذ أول الثورة و إلى الآن لوجدها خلطة عجيبة من شتى صنوف الفكر و ألوانه! ذات يوم لم يكن أمثال هؤلاء ليكتفوا بأن تهتف الجماهير بشعارات » الموت لأمريكا و الموت للسوفيت «. كانوا يقولون يجب أن نهتف » الموت للشرق و الغرب «. كنا نقول لهم السوفيت رمز التفكير و الطريق الخاطئ. و أمريكا رمز الجرائم و الظلم.. ما الداعي لأن تقولوا: » الموت للشرق و الغرب «؟ فكانوا يقولون لنا: أنتم محافظون و استسلاميون! من بين هؤلاء السادة هناك اليوم من هم على استعداد للاعتذار رسمياً لأمريكا و بريطانيا و القول لهم: لقد أخطأنا حينما أسأنا لكم و هتفنا ضدكم.. اعذرونا. بعض هؤلاء الأشخاص كانوا يطلقون في بدايات الثورة بدافع التطرف المنفلت آراءً اقتصادية عجيبة غريبة تصيب الإنسان بالذهول التام! كنّا نقول لهم: كيف يمكن أن تكون هذه الآراء إسلامية؟ كانوا يريدون فرض أفكار يسارية اشتراكية جد متطرفة و تطبيقها باسم الإسلام. و بعض هؤلاء ممن تولوا مسؤوليات معينة قاموا بأعمال سيئة في ذلك الحين. لا أنسى أننا في شورى الثورة - في سنوات 57 و 58 - كان لدينا قانون يصنف أصحاب رؤوس الأموال قبل الثورة إلى أربع فئات: الفئة (الف)، و الفئة (ب)، و الفئة (ج)، و الفئة (د). الفئة (ب) هم الذين حصلوا على رساميلهم عن طرق غير مشروعة و غير قانونية، و حكمهم هو أن تسيطر الحكومة على رساميلهم. و الفئة (ج) هم الذين لم يكسبوا رساميلهم بطرق غير مشروعة، لكنهم حصلوا على قروض كبيرة من البنوك، و ارتكبوا بعض التزييف و الغش و لم يعيدوا الأموال. إذن، يجب أن يسددوا قروضهم. فإذا سددوا القروض كانت معاملهم لهم، و لكن إن لم يسددوا تتم السيطرة على معاملهم. في بداية رئاستي للجمهورية كُلّفتْ لجنة بتشخيص من يدرجون ضمن الفئة (ب)، و من يدرجون ضمن الفئة (ج)، و ما إلى ذلك من الأعمال. طبعاً لم تكن هذه المهام بيدي كرئيس للجمهورية، إنما بيد رئيس الوزراء و أجهزة هيئة الحكومة، و قد اطلعت أن ثمة في هذه الهيئة من يصرون على تحويل الفئة (ج) إلى الفئة (ب). أي إنهم أرادوا الحيلولة دون بقاء المعمل بيد صاحبه الذي يمكن أن يسدد قروضه للبنك و يبقى يشغِّل معمله و لا يعطل عمّاله عن العمل. في ذلك الحين كان هناك مثل هذا المنحى اليساري المتطرف الباطل المعادي للرأسمالية. و نفس أولئك الأشخاص هم اليوم على استعداد لفرش السجاد الأحمر أمام أصحاب الشركات و الرأسماليين الصهاينة كي يأتوا إلى إيران و يستثمروا فيها! يتحول الإنسان من أقصى الأفكار اليسارية الماركسية إلى أكثر التوجهات اليمينية الاقتصادية تطرفاً، و يسمي هذا إعادة نظر؛ هذا ليس إعادة نظر، إنه تذبذب و تلون. كان ذلك تطرفاً في حينه، و هذا هو اليوم أيضاً تطرف. وجود هؤلاء المطالبين بإعادة النظر في بعض الأجهزة و المؤسسات يسبب العراقيل و الخطر. إنهم يلحقون الأضرار إذا كانوا في الجامعات، و إذا كانوا في الحكومة، و إذا كانوا في المجلس، و أينما كانوا. هذه إحدى الآفات التي تهددنا.
و من الآفات أيضاً التعطش للدنيا. الكثير منا - أولئك الذين اعتبروا السلطة و المناصب غنيمة - أصبنا بحب الدنيا للأسف. قبل خمس أو ست سنوات ذكرت في ندائي لاتحاد الطلبة الإسلامي هذه النقطة - لأنني كنت أشعر ببعض الأمور في ذلك الحين - و قلت إن على بعض الأفراد أن يحذروا من الوقوع في أسر الدنيا و لذائذها. الذي يرى أنه مسؤول سوف ينـزل الويلات بنفسه و بالناس إذا صار من اللاهثين وراء الدنيا و الرفاهية.
بعض مشكلاتنا وليدة ضعف بعض المدراء المشغولين بالأعمال الجزئية و الأنشطة السياسية و الحزبية. حين أؤكد على هذه المسألة يقول البعض إن فلاناً يعارض الأحزاب و التحزب. و الحال أننا كنا أول من أسس حزباً بعد انتصار الثورة الإسلامية. إذا كان ثمة تحزّب بالمعنى الحقيقي للكلمة فأنا من أنصاره. لكنني لا أرى التحزب في أن يجتمع عدد من أدعياء السياسة ليطلبوا السلطة - عشرة أشخاص، أو خمسة عشر شخصاً، أو عشرون شخصاً - فيطلقوا شعارات و هياجاً و أموراً جذابة كاذبة يجرّون بها الناس أو جماعات من الناس هنا و هناك، و لا يكفوا عن اختلاق الشجارات و النـزاعات، و لأجل أن لا يبقوا عاطلين يضخمون مسألة صغيرة، و يطرحون شيئاً ضئيل الأهمية على أنه كبير الأهمية و يتناقشون و يجترحون التحليلات حوله أياماً و أسابيع، و يصنفون الآخرين وفقاً له إلى أصدقاء و أعداء.. فلان من التيار الفلاني إذن فهو عدو. و فلان من التيار الفلاني فهو إذن صديق. إنني لا أعتبر هذا تحزباً. هذه أساليب سياسية خاطئة و شائعة في العالم. كنّا مغتبطين بأن مثل هذه الأمور غير موجودة في إيران، لكن البعض يتوقون لها للأسف. لكن حين يتولّى شخص مسؤولية معينة فسوف يضر بمسؤوليته و مهماته إذا أراد أن يتوق لهذه الأمور. ذات مرة وجهت نداءً لبعض مسؤولي الحكومة و قلت لهم إن الساعات التي تمضونها في اجتماعاتكم الحزبية - لا أقول طبعاً إنكم تتقاضون أموالاً و إمكانيات - هي ملك الحكومة و الشعب، و لا يحق لكم أن تنفقوها على الشؤون الحزبية و الفئوية و ما إلى ذلك. بعض نقاط ضعفنا وليدة هذه الحالة. و إلا، فمدراؤنا صالحون. البعض يشكلون على مدراء الحكومة.. لا، مدراؤنا في القطاعات المختلفة - لحسن الحظ - مدراء صالحون على العموم. البعض منهم يبدون حقاً همماً في بعض الأمور، و لا أريد ذكر أسمائهم، و إلا فمن المناسب أن أفعل هذا. ثمة بين المسؤولين الحكوميين أشخاص يمكن ذكر اسمائهم للجماهير كشخصيات ناجحة، لكن ذكر أسماء البعض قد يفهم منه إلغاء و رفض للبعض الآخر، لذلك لا أذكر الأسماء. و لكن لدينا مثل هؤلاء الأفراد لحسن الحظ، شريطة أن لا تشوب نشاطاتهم تلك الحالات التي ذكرتها.
من العيوب و الآفات الأخرى عدم وحدة الكلمة. وحدة الكلمة ظاهرة ضرورية. و لأنني شددت على هذه النقطة في كلمتي في ساحة الإمام لا أروم تكرارها هنا. من الضروري أن يتخذ المسؤولون موقفاً واحداً خصوصاً في القضايا العالمية و شؤون البلاد الرئيسية. حينما يظهر اختلاف بسيط بين تصريحات المسؤولين تلاحظون كيف تضخم الإذاعات الأجنبية هذه الاختلافات و تضاعفها. و حينما لا يكون ثمة اختلاف فإنهم يختلقونه و يزيفونه ليقولوا إن اتحاد الكلمة غائب بين المسؤولين. هم يخافون أشد الخوف من الجماعة المنسجمة المتعاطفة المتعاونة في عملها. من حسن الحظ أن تركيبة دستورنا حددت حلول المشكلات و جعلت القيادة محوراً و في النقطة المركزية لكل المسؤولين. هذه إمكانية و فرصة كبيرة جداً كي يستطيع المسؤولون العمل مع بعضهم بوحدة كلمة.
ما هي التوقعات من الشاب؟ نريد من الشاب أن لا يضل الطريق. لا إشكال في النقد، بيد أن الإلغاء و الإقصاء أعظم ظلم لهذا الشعب. البعض يلغون النظام الإسلامي بلغة النقد. و البعض يرون أن نقد المدير أو المسؤول الفلاني نقد للنظام. هذه مجانبة للإنصاف. النظام الإسلامي معناه تركيبة الدستور. الأساليب التنفيذية و الإجرائية لهذا النظام موجودة في الدستور نفسه، و متوفرة بشكل واضح في وصية الإمام الجليل و سيرته و كلماته. الواجب الأهم هو أن نحافظ بكل قدراتنا و كياننا علی حزام الأمان المتين جداً لشعب إيران و الذي يصنع هويتنا العامة و أقصد بها النظام الإسلامي. على الشاب أن يصب كل هممه في بيئة عمله و دراسته و مسؤولياته المستقبلية - و بكل يقظة وتأنٍّ و اندفاع - على حراسة هذا النظام. معالجة عيوب النظام و ردم نواقصه شيء، و مواجهته و رفضه و مواكبة العاملين على إسقاطه شيء آخر. إن الإنسان ليحزن حزناً شديداً حينما يسمع شخصية جامعية كما تسمى تقول في وسط جامعي: الرجل هو من يبقى في البلاد و يناضل ضد هذا النظام كي يجفّف جذوره! هل الذي يعمل على تجفيف جذور هذا النظام الإسلامي الإلهي الشعبي رجل؟! النظام الذي بذلت في سبيله كل هذه الجهود البشرية و الشعبية.. النظام الذي ضحّى من أجله كل هؤلاء الشباب.. النظام الذي أريقت في سبيله على الأرض دماء كل هؤلاء الشهداء.. النظام الذي تحمّل مخلصو هذا البلد كل هذه المصاعب و المتاعب و العراقيل في سبيل تقويته.. النظام الذي يسنده في وقوفه شعب كبير بكل كيانه.. النظام الذي غدا رصيداً لعزة الإسلام و شرف إيران و شموخها في العالم.. العمل لتجفيف جذور هذا النظام رجولة؟! إنه أكبر خيانة و لؤم. هذه الظنون قصيرة النظر لا تصدر طبعاً إلا عن قلوب معلولة معيبة. جذور هذا النظام جد قوية و هي من أعمق الجذور و لم تستطع حتى العداوات الكبيرة أن تضعضعها.
النقاط الأساسية التي ينبغي أن تتنبهوا لها أيها الأعزاء هي هذه: صيانة الدستور و خط الإمام - المتجسد و المتبلور في وصيته رضوان الله عليه - و الشعارات الأساسية و السياسية العامة للبلاد. هذه أشياء ينبغي حراستها و الاعتزاز بها من الأعماق.
المتوقع من الشباب أن لا ينسوا المطالبة بالعدالة. و أن يعتبروا الحرية بمفهومها الإسلامي السامي جداً - سواء الحرية الفردية، أو الحرية الاجتماعية، أو السياسية، أو الحرية المعنوية و الروحية - من مطالبهم الدائمية فلا ينسونها. عليهم أن يدرجوا مكافحة الفقر و توفير الرفاه العام ضمن مطالباتهم. و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أيضاً من أهم المسائل التي يجب على الشباب الاهتمام بها. و ينبغي كذلك أن لا يستسلموا لخداع وسائل الإعلام حينما تقلب الحقائق رأساً على عقب. أبرز مساعي العدو راهناً هي أن يستخدم أكثر الأدوات و الأساليب الاتصالاتية الحديثة و ما بعد الحديثة تطوراً ليعرض حقائق بلادنا بالمقلوب. لا تستسلموا لإرادتهم و تعاملوا مع المسائل بتفكير. لا تستسلموا للنـزاعات بين بعض المسؤولين و التي تؤججها بعض الصحف للأسف. تظهر قضية بين اثنين من المسؤولين فيضاعفونها و يضخمونها بحيث تصبح قضية اجتماعية عامة تشغل الأذهان. أشرتُ يومها إلى أن قضية ما.. لرئيسي السلطتين التنفيذية و القضائية آراء مختلفة تم تحديد حلها في القانون، و لها حلولها النظرية و العملية أيضاً. سمعتُ أن رئيس الجمهورية المحترم قلق و منـزعج لأن رسالته لرئيس السلطة القضائية أذيعت في وسائل الإعلام. حسب ما أخبروني فإن مكتبه لم يذع الرسالة. لاحظوا أنهم جعلوا هذه المسألة علامة نزاع و أثاروا ضجيجاً حولها. كرروها في المجلس مراراً و أثارتها الصحافة كراراً و حولوها إلى قضية رئيسية في البلاد. و الحال أن هذه ليست مشكلة البلاد. مشاكل البلاد قضايا من قبيل توفير فرص العمل، و بناء البلاد، و مياه الري. لدينا في بلادنا كل هذه المشاكل، فما أهمية الخوض في هذه الشؤون الصغيرة؟ تحصل حالات اختلاف الرأي من هذا النوع عند تعاون السلطات مع بعضها مراراً. فهل على الصحافة و رجال السياسة تحويلها إلى الشغل الشاغل لأذهان الشباب؟! لا تستسلموا أنتم و لا تجعلوا هذه الأمور شاغلكم الرئيس. الشاغل الرئيس الذي يجب أن يجتذب اهتمام الشاب هو القضايا التي ذكرتها: طلب العدالة، و صيانة النظام الإسلامي، و معرفة العدو، و الاهتمام لاستقلال البلاد، و الاهتمام للصلة و الترابط بين المسؤولين و الشعب. طبعاً ثمة شؤون تختص بشبابنا الأعزاء دون سواهم، خصوصاً الشباب العاكف على طلب العلم، و منها بناء الذات.
أعزائي، عوضوا نقصنا و تخلفنا العلمي، و هذا ما يحصل بالدراسة، و التفكير، و العمل، و الشجاعة العلمية. عززوا من إيمانكم. مشاعركم الطاهرة و قلوبكم النيرة النقية خير فرصة أمامكم كي تعززوا دعائم الإيمان في قلوبكم، و هي دعائم موجودة و الحمد لله. نشكر الله لأن كثيراً من شبابنا - ربما جاز القول أكثرية كبيرة منهم - طاهرون. حاذروا من أن يستطيع طلاب تلويث الأذيال في العالم - الذين يرومون تلويث أذيال كل الشباب في العالم - بلوغ أمنياتهم في خصوصكم. عززوا قوة الإرادة لديكم. اهتموا للرياضة. أؤكد خصوصاً على الرياضة، و اعتبر الرياضة كممارسة دولية و استعراضية يراد منها الإثارة حالة تصنّف على الدرجة الثانية. الرياضة بالدرجة الأولى لتقوية الجسم و سلامته، و هذه حالة ضرورية لكل الشباب في بلادنا نساءً و رجالاً. أعدوا أنفسكم لإيصال هذه الأعباء إلى محطاتها. إنها أعباء تختص بكم.. هذا البلد و هذا النظام لكم أنتم. الجيل الذي سبقكم طوى جزءاً من الطريق، و أنتم من يجب عليكم طيُّ الجزء الأكبر من الطريق بوعي أوسع إن شاء الله.
اللهم، بمحمد و آل محمد، زد من نور هؤلاء الشباب يوماً بعد يوم. ربنا، بمحمد و آل محمد، اكتب المستقبل المشرق الشامخ المنتصر لإيران على أيدي هؤلاء الشباب القوية. ربنا مُنَّ عليهم بسعادة الدنيا و الآخرة، و اجعلهم جميعاً من جنود الإمام المهدي المنتظر عجل الله له الفرج، و استجب دعاءه عليه السلام في حقنا و حق كل هذه الشبيبة.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.