من بغداد إلى كابول، والآن إلى طهران، لم تتغيّر حكاية المؤامرات الشيطانية للاستكبار العالمي: يشيطن النظام الذي يقف  في وجه الاستكبار، ويُجرَّد الشعب الذي يصمد في وجه السياسات الاستعمارية من إنسانيته. فجأة، تُقدَّم نساؤه وفتياته على أنهنّ ضحايا لا حول لهنّ ولا قوة، ويحتجن بصورة طارئة إلى صواريخ أمريكية "لإنقاذهنّ"! كأنّ الحرية تُنال برصاص المعتدي وصواريخه! وهكذا، وباسم "الحرية"، تُسفك دماء الشعوب وتُحوَّل أوطانها إلى رماد. لقد تكرّر استخدام قضية حقوق النساء في الدعاية الحربية للإمبراطوريات الاستعمارية الغربية مرات ومرات، وقد أثبت التاريخ أنّ الهمّ الحقيقي لتلك الإمبراطوريات لم يكن يومًا الحرية أو العدالة، بل توسيع النفوذ والحفاظ على المصالح الاقتصادية والجيوسياسية. كما تساعد وسائل الإعلام، إلى جانب قادة هذه الأنظمة الدموية، في تبرير هذه السياسات الإجرامية، وتجعل من الحروب وأنواع الحظر تدخّلًا إنسانيًا لهدفٍ نبيل: "حرية المرأة".

كما أُوضِحَ في مقالة «تبجّح بحقوق المرأة واستعمر»[1]، فإنّ ادّعاء الغرب بدعم حقوق النساء المسلمات يستند إلى تصوّرات استعمارية تعدّ هذه المرأة ضحيّة عاجزة أمام الذكورية والتحجر، وتُقدّم الرجل الغربي بوصفه المُخلّص والمنقذ لها. القوى الغربية مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، لطالما استخدمت خطاب "حقوق المرأة" كغطاء لاحتلال عسكري، وحصار اقتصادي، وهيمنة سياسية على الدول المستقلة. شعارات من قبيل "حرية المرأة" لا تنبع من تعاطف حقيقي، بل تُستعمل كأداة لاستمالة الرأي العام، وتبرير العدوان، وإضفاء شرعية على التدخلات الاستعمارية. على سبيل المثال، تمّ احتلال أفغانستان والعراق بوعد تحرير المرأة، لكنّ النتيجة لم تكن سوى القتل، والفقر، وتدمير البنى التحتية، ومزيد من المعاناة للنساء.

تُقنع وسائل الإعلام الغربية جمهورها، عبر هذا الخطاب، بأن ذبح الأبرياء، وتجويع الأطفال، وقصف المدن وبُناها التحتية، وإسقاط الحكومات وتنصيب أنظمة تابعة، هو هدف إنساني يُنفّذ تحت عنوان "حرية المرأة".

 

إيران: عقود من الشيطنة

في حالة إيران أيضًا، يجري تنفيذ السيناريو ذاته منذ سنوات طويلة؛ من تصوير حجاب النساء الإيرانيات على أنه رمز للقمع، إلى التعتيم التام على إنجازات المرأة الإيرانية في المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية؛ حاولت وسائل الإعلام الغربية اختزال هوية المرأة الإيرانية في صورة مظلومة ومضطربة تنتظر "الخلاص" من قِبل "العالم الحر". لكن، أليس هذا "العالم الحر" نفسه هو من حرم الأمهات الإيرانيات من أدوية معيّنة؟! أليس هو مَن سعى عبر أنواع الحظر الخانقة إلى إفراغ موائد النساء المعيلات لأسرهن؟!

الاعتداءات الأخيرة على سيادة إيران ليست مجرد فصل من كتاب الحروب المشؤومة للاستكبار، بل هي قصة مفصلة لسنوات طويلة من الدعاية الحربية والحرب على الهوية ضد شعب قرر قبل أكثر من أربعين عامًا طرد نظام تابع من أرضه، وتقرير مصيره بشرف وحرية. على مدار هذه السنوات، حاول الجهاز الإعلامي الغربي الضخم وضع قضية "حرية النساء في إيران" في قلب الدعاية ضد الجمهورية الإسلامية، وبُنيت هذه الدعاية على أساس أن إسقاط النظام يجب أن يُقاد عبر شعارات نسوية. ظلت عناوين وكالات الأنباء العالمية تركز باستمرار على قضية النساء الإيرانيات، وخاصة قوانين الحجاب، فصُوّرت المرأة الإيرانية المحجبة إما كرمز لغسل الأدمغة والتطرف، أو كضحية صامتة تحت سلطة حكومة دينية. عندما يتعلق الأمر بتبرير إسقاط النظام في إيران، تُسمع شعارات نسوية ومطالب بالمساواة من مراكز أبحاث مرتبطة بأجهزة عسكرية، ومسؤولين يتحملون مسؤولية قتل وتجويع ملايين الأبرياء حول العالم.

تطرّق الإمام الخامنئي  إلى هذه المسألة أيضًا في كلمته المتلفزة الثالثة عقب عدوان الكيان الصهيوني على إيران، وقال: «إنّ الأمريكيّين منذ بدايات الثورة منهمكون بمعاداة إيران الإسلاميّة، وهم في اشتباك معها. في كل مرة، لديهم ذريعة جديدة، فتارةً حقوق الإنسان، وأخرى الدفاع عن الديمقراطية، وحينًا حقوق المرأة، وأحيانًا تخصيب اليورانيوم، وتارة أخرى القضية النووية بحد ذاتها، ومرةً قضية صناعة الصواريخ؛ يختلقون ذرائع مختلفة، ولكن جوهر المسألة شيء واحد فقط، وهو إخضاع إيران»[2].

في خضم ذلك، يستوجب على وسائل الإعلام أيضًا تقديم صورة منحازة ومحرفة، لإخفاء العواقب الدامية للحرب والحظر، والوقوف على جثث الأطفال المحترقة والممزقة جرّاء القصف، وتهنئة بعضهم بعضًا على هزيمة النظام الذكوري.

 

المرأة الإيرانية، موضوع المخططات الاستعمارية

ينطلق هذا الخطاب الاستعماري من ضرورة تحرير المرأة المسلمة الإيرانية من قبضة النظام الذكوري الديني باستخدام الصواريخ والقنابل، ويصل الأمر إلى اعتبار كل صوت معارض لذلك عاملًا مباشرًا للقمع والتحجر. هؤلاء المدافعون في الظاهر عن حقوق المرأة هم أنفسهم الذين يدعمون في الوقت ذاته الكيان الصهيوني، في حين يجري تمزيق النساء الفلسطينيات بالصواريخ؛ وهم الذين يغضون أبصارهم عن معاناة النساء اليمنيات واللبنانيات، لأن معاناتهن لا تخدم مصالح الاستعمار الغربي.

في ذروة العدوان الوحشي الذي شنّه الكيان الصهيوني على المدن الإيرانية، ومع سقوط الأطفال والمواطنين الأبرياء ضحايا للقصف، عبّر في الفضاء المجازي عن رفضهم لهذه الحرب، لكنّ بعض الشخصيات الإعلامية الغربية، وهم يختبئون خلف قناع الدفاع عن حقوق المرأة، ادّعوا أنّه ينبغي إدانة تعامل الجمهورية الإسلامية مع النساء. كان ردّ المستخدمين الإيرانيين ساحقًا[3]: ما يجب إدانته هو «متلازمة المُخلّص» التي تُعاني منها عقولكم. أنتم مَن يتوهّم أن الخلاص والحرية بأيديكم. نحن شهود على ما جرّته هذه الأوهام على العراق وأفغانستان. نحن مَن رأى صمتكم أمام القتل والعذاب اللامحدود للنساء الفلسطينيات. نحن نعلم جيدًا أنكم دعمتم أعتى الديكتاتوريات ما دامت تعمل لمصالحكم الاستعمارية. التاريخ كلّه يشهد أن أيديكم لم تحمل يومًا حريةً، بل كانت تحمل الدمار والموت. ونحن، لا أنتم، مَن نضع حدًا لهذه الأكاذيب.

مَن يريد سماع صوت امرأة مسلمة مستعدة للتضحية بحياتها دفاعًا عن مقاومة شعبها؟ حين اعتادت كل الآذان على سماع القصص المصطنعة النمطية التي يحكيها المعارضون؛ أيّ منصة ستكون مستعدة لإظهار مشهد امرأة تروي الحقيقة من تحت القصف في استوديوهات الأخبار؟ إنّ أدنى شرخ في هذا الجدار المبني على الأكاذيب كفيل بهدمه كاملًا. هذه الرواية لن تجد أبدًا طريقها إلى وسائل الإعلام الغربية، لأنها تقوّض الصورة النمطية التي رسموها عن "المرأة الإيرانية كضحية مستضعفة".

ما لا ينعكس أبدًا في وسائل الإعلام الغربية هو مقاومة النساء المسلمات الإيرانيات الواعية الشامخة في وجه السياسات الاستعمارية. يجري حجب هذا الواقع عمداً، لأن آلة الحرب الغربية بحاجة دائمة إلى صناعة صور زائفة كي تبقى على قيد الحياة. المرأة الإيرانية، إن كانت مقاومة، وإنْ كانت تقف بوعي في وجه التدخل الأجنبي، وتقول «لا للإذلال، لا للاحتلال، لا للاستعمار»، لن تعود ذريعة صالحة لفرض الحظر أو شنّ الهجمات العسكرية. لذلك، يجب تصويرها على أنها ضحية، مظلومة، محاصَرة، وبلا صوت؛ امرأة لا ترى الخلاص إلّا في يد الغرب.

هذا الحجب المتعمّد لصوت المرأة الإيرانية المقاومة هو استراتيجية إعلامية؛ جزء من مشروع «النزعة الإنسانية العسكرية» (Military Humanism). امرأة تُدرّس في الجامعة، تقاتل في الخطوط الأمامية للدفاع عن وطنها، تصمد في وجه الحظر، وتفضح الأكاذيب الغربية، لا تجد مكانًا في أطر الأخبار في «بي بي سي» أو «صوت أمريكا»، أو «نيويورك تايمز»؛ لماذا؟ لأن مثل هذه المرأة تفسد سردية الغرب؛ السردية التي تربط الحرية بالحرب، وتُصوّر التحرر كأنه يُلقى من السماء.

 


[2] https://arabic.khamenei.ir/news/9742

[3] https://x.com/Soureh_design2/status/1936731573069496495