في عام 2019، ظهرت بطلة التنس العالمية، سيرينا ويليامز،في حملة دعائية لشركة «نايكي» تحت شعار «احلمي بما هو أكثر جنوناً»[1]، حاملةً رسالة دعم من هذه العلامة التجارية العالمية إلى النساء الرياضيات اللواتي يسعين إلى تجاوز العقبات وكسر التوقعات. في العام نفسه، كشفت أليسون فيليكس، بطلة ألعاب القوى الأمريكية، في مقابلة صحفية، عن الظروف التمييزية التي تضمنها عقد هذه الشركة معها: «طلبتُ منهم أن يُدرَج في العقد بندٌ ينصّ على ألّا يُعاقبوني إذا لم أتمكن من تقديم أفضل أداء أثناء فترة الحمل». وكان ردّ الشركة على مطالب هذه الرياضية، التي لم تكن تطلب سوى أن تحلم «بما هو أكثر جنوناً»، هو: «اعرفي حدودكِ... واركضي فقط!».[2]
جشع الشركات والتسويق للنسوية: تمكينٌ حقيقي أم ثقافة استهلاك؟
تُمتدح النسوية بوصفها حركة تدافع عن حقوق النساء وتناضل من أجل المساواة بين الجنسين، وادّعت دائماً أنها تسعى إلى الارتقاء بمكانة النساء والدفاع عنهن في مواجهة النظام الرأسمالي الاستغلالي. غير أنّ شعارات الناشطات النسويات بشأن «مكافحة الاضطهاد الاقتصادي»[3] و«جشع الشركات»[4] تحوّلت إلى ممارسات تصبّ بالكامل في خدمة ثقافة الاستهلاك.
استخدام تعابير من قبيل «تمكين المرأة» و«دعم المساواة بين الجنسين» تحوّل في الآونة الأخيرة إلى استراتيجية تسويقية معتمدة لدى الشركات؛ فمعظم العلامات التجارية العالمية الكبرى باتت تستهدف النساء في حملاتها الإعلانية، مستخدمةً شعارات خاصة بالفتيات، وموسّعة إعلاناتها الرقمية ذات الطابع النسوي، وذلك لأن الدراسات أظهرت أنّ 86% من النساء يستخدمن وسائل التواصل الاجتماعي لاقتراح المنتجات وتقييمها والحصول على الاستشارات الشرائية.[5] كما كشفت دراسات عدّة أنّ المستهلكين يفضّلون الشراء من الشركات التي تتناول في إعلاناتها قضايا اجتماعية.[6]
فعلى سبيل المثال، أطلقت شركة «دوف»[7] في عام 2004 حملةً إعلانية بعنوان «الجمال الحقيقي»[8]، وجّهت عبرها نقدًا صريحًا للمعايير الجمالية ذات الطابع الأوروبي، مؤكدةً أنّ كل لونٍ، وكل مقاس، وكل ملامح وجه تُعدّ جميلة، وأنّه لا ينبغي للنساء أن يفقدن ثقتهن بأنفسهن بسبب معايير جمال مفروضة تُحمّل أجسادهن نظرة جنسية. نتيجة لهذه الحملة، التي لا تزال تُعدّ حتى اليوم واحدة من أنجح الاستراتيجيات الإعلانية وتُحتفى بها في أوساط التسويق والدعاية، أصبحت صابونات «دوف» العلامة الأكثر رواجًا في الولايات المتحدة، وتربّعت على قائمة المبيعات الأعلى لمنتجات شركة «يونيليفر»[9] (الشركة المالكة للعلامة). كما ارتفعت المبيعات الناتجة عن هذه الحملة بين عامي 2004 و2014 من 2.4 مليار إلى 4 مليارات دولار.[10]
في الوقت نفسه، تستخدم شركة «يونيليفر» التي تملك علامة «دوف»، والتي تتبنى شعارات لمحاربة معايير الجمال الأوروبية، ذات الأساليب الشائعة التي تروج للجاذبية الجنسية للنساء في حملات إعلانات لعلاماتها التجارية الأخرى، وفي دول آسيوية، حيث يكون لون بشرة النساء أغمق، تبيع الشركة كريمات التفتيح التي تروّج لمعايير الجمال المتفق عليها في المجتمعات ذات البشرة البيضاء.
ذلك لأنّ الرأسمالية لا تزال تجني أرباحها من فقدان ثقة النساء بأنفسهن ومن انخفاض تقديرهن لذواتهن. لا يهم ما تقوله إعلانات شركة «دوف» عن الجمال الحقيقي، فالأمر لا يزال يسير في ذات الاتجاه. تروج صناعة العناية الذاتية،[11] والتي أصبحت صناعة عالمية تقدر قيمتها بـ 600 مليار دولار،[12] إلى صرف الأموال على هذا المنتج أو ذاك المنتج الخاص بالعناية بالبشرة[13] في إطار «النشاطية»[14]. شركة «لوريال»[15]، بشعار «لأنك تستحقين ذلك»[16]، تُخبر النساء بأن قيمتهن مرتبطة بالاستهلاكية.
أدت استراتيجيات الشركات في استغلال الوقت الذي تقضيه النساء على الإنترنت لأهدافها الإعلانية إلى دور فعّال «الإنفلونسرز» (المؤثرّين). تتضمن تقنيات «الإنفلونسرز» في جذب الجمهور المحتويات التحفيزية، وخلق شعور القرب من الجمهور، وجذبهم في بيئة ودودة. وفي الوقت ذاته، يعرضون وجوهًا تتناسب مع معايير الجاذبية التي ترغب الشركات الإعلانية في تسويقها، كما يعرضون حياة مثالية؛ مما يولد شعورًا بانعدام الأمان لدى المتابعين، ليتم بعد ذلك إقناعهم بضرورة شراء المزيد والمزيد من المنتجات. وفقًا للإحصائيات، فإن 69% من المشترين يثقون في اقتراحات «الإنفلونسرز» الذين يتابعونهم.[17]
في هذه المرحلة، ما تبقى من الممارسات النمطية لنشطاء النسوية والشعارات غير الفعّالة هو شراء الوهم. شراء «تي شيرت» يحمل شعارًا نسويًّا، على الأرجح تم خياطته من قبل فتاة صغيرة بأجر زهيد في «ورشة عمل استغلالية»[18] في إحدى الدول الآسيوية، شراء منتج تجميلي له طابع نسوي، إنفاق المال على هذا المنتج أو تلك العلامة التجارية التي تتحدث في إعلاناتها عن المساواة وحقوق المرأة، هو ما يُشكّل واقع الأنشطة النسوية الحالية. لذلك، وفي مفارقة واضحة، تعمل هذه الشركات عبر شعاراتها البراقة بشأن تمكين المرأة وزيادة ثقتها في نفسها، بإيصال رسالتين متناقضتين في آنٍ واحد: من جهة، تقول لها «أنتِ كافية كما أنتِ»، ومن جهة أخرى توحي لها بأنّ الشعور بالرضا والثقة في النفس لا يتحقق إلا بالمزيد من الشراء، وكأنّ الرسالة الخفية هي «مهما اشترَيتِ، فلن يكون ذلك كافيًا أبدًا»؛ وبهذا، تُهمَّش النساء غير القادرات على الإنفاق، ويُستثنين من دائرة الشعارات البراقة التي تروّجها هذه العلامات التجارية.
تحت أضواء اللوحات الإعلانية المزيّنة بصور نساء ثريّات وقويّات (وفق التعريف النسوي والرأسمالي)، تدور في الظلّ حقيقة من الاستغلال والاستعباد؛ فمعظم هذه الشركات البراقة، التي تملأ الأسواق بشعاراتها الجذابة والخاوية، عملت على تلزيم[19] عملية إنتاج منتجاتها إلى دول آسيوية مثل إندونيسيا وبنغلادش وفيتنام. في هذه الدول، حيث تغيب القوانين الرادعة والرقابة الفعّالة،[20] تسود بيئات عمل غير آمنة، ويُمارس العمل الإجباري وحتى تشغيل الأطفال. كثير من العلامات التجارية الشهيرة في مجالات الرياضة والأزياء والجمال، ترتبط بمصانع وورش استغلالية تعمل في مثل هذه الظروف، وتُنتج بضائعها وسط صمت دوليّ مريب. بالرغم من هذا الاستغلال وهذه الظروف المأساوية، تؤدي الإعلانات ذات الطابع النسوي دور الغطاء التمويهي[21]، بحيث تبقي المشترين مفتونين بهذه الشعارات، فيتصورن أن تسوّقهم المفرط هو جزء من النضال والنشاط المدني ضد اللامساواة بين الجنسين، ويشعرن بأنهن يقدّمن فائدة عبر هذه النزعة المادية[22] والاستهلاكية.
كما جاء في خطاب قائد الثورة الإسلامية، الإمام خامنئي، في لقاء جمع من النساء من أرجاء البلاد على أعتاب ذكرى ولادة السيد الزهراء (ع) و«يوم المرأة» في جمهورية إيران الإسلامية (17/12/2024)، فإن الهدف الأوّلي من الحركات النسوية لم يكن سوى استغلال مشاركة النساء ونشاطهن باعتبارهن قوى عاملة رخيصة الأجر لمصحلة المصانع وخدمةً للنظام الرأسمالي، ولكن ذلك جرى تحت غطاء إنساني وشعارات براقة من قبيل «الحرية» و«الاستقلال المالي للمرأة». وفي هذا السياق أيضاً، تقف خلف الشعارات الكاذبة لحملات الإعلانات التجارية والعلامات التجارية التي تدّعي الدفاع عن حقوق المرأة، أيادٍ خبيثة تعمل على تحويل النساء إلى مستهلكات لا يشبعن، ترى كلٌّ منهنّ في الشراء من الشركات المليارديرية هويتها وقيمتها.
[1] Dream Crazier
[3] Economic Oppression
[4] Corporate Greed
[5] https://digitalmarketinginstitute.com/blog/20-influencer-marketing-statistics-that-will-surprise-you
[6] https://www.weforum.org/stories/2021/12/people-prefer-brands-with-aligned-corporate-purpose-and-values
[7] Dove
[8] Real Beauty
[9] Unilever
[10] Allen, Emma. "Jess Weiner and the dove real beauty campaign: selling feminism for profit or social change?"Women Leading Change: Case Studies on Women, Gender, and Feminism 6.1 (2022): 18-37.
[11] Self-Care
[13] Skin Care
[14] Activism
[15] L'Oréal
[16] Because you're worth it
[18] Sweatshop
[19] Outsource
[20] Regulations
[21] Smoke Screen
[22] Materialistic