الكاتبة: زهراء شافعي
العداء الغربي للحجاب لا يعبّر عن مجرّد خلاف بسيط حول اللباس، بل يكشف عن مواجهة أعمق بكثير؛ فحجاب المرأة المسلمة، الذي يعدّ تكليفًا شرعيًا وإيمانًا وكرامة، يُصوّره الغرب على أنه رمز للاستبداد وسلب الحرية. هذا السعي الغربي لتغيير لباس المرأة المسلمة ليس وليد اليوم، بل متجذّر في السياسات الاستعمارية التي تهدف إلى فرض القيم الغربية وتعميم نموذجها الثقافي. نحن أمام جبهتين متضادتين تمامًا: الأولى، تستند إلى النموذج الغربي الاستعماري الذي يُعرّف المرأة كسلعة للاستهلاك وأداة للتشييء الجنسي؛ والثانية، هي الرؤية الإسلامية الأصيلة التي تصون كرامة المرأة وتدعم دورها الاجتماعي ضمن إطار أخلاقي نابع من هويتها وإيمانها.ب
فرض النموذج الغربي للمرأة بوصفه «المعيار العالمي»
سعى الغرب منذ القِدَم إلى فرض النموذج الأوروبي-الأميركي للمرأة بوصفه النموذج الوحيد المقبول للمرأة المتحضّرة في سائر المجتمعات. وبمعزل عن شعارات «الحرية والمساواة»، فإنّ هذا النموذج يريد المرأة في خدمة النظام الرأسمالي، وله جذوره في النماذج القديمة للحضارتين الرومانية واليونانية، إذْ جُرّدت المرأة من حقوقها الإنسانية وخُفِّضت إلى مجرد أداة لملذات الرجال. واليوم، تتكرّر هذه النظرة بقناع عصري: «المرأة الحرة» في الغرب ليست سوى أسيرة للموضة، والاستهلاك المفرط، والإغراءات الجنسية التي يجب عرضها على الملأ! ومن هذا المنطلق، تُصوَّر المرأة المسلمة غير الغربية، في السياسات الاستعمارية الغربية وفي دعايتها، على أنها بحاجة إلى الإنقاذ ونيل الحقوق الإنسانية. في العصور الاستعمارية الماضية، كانت مثل هذه الشعارات الجوفاء والمزيّفة تُستخدَم لتبرير «المهمات الحضارية» التي ادّعتها القوى الاستعمارية. ففي الجزائر، قدّمت القوات الفرنسية المحتلّة الحجاب على أنه رمز للتخلّف وذلّ المرأة، وسوّقت نزع الحجاب من قِبل النساء المسلمات كخطوة نحو التمكين. اليوم أيضًا، في فرنسا، وتحت غطاء «اللائكية» (العلمانية)، تمارس الدولة رقابة على لباس النساء المسلمات، بينما تغضّ الطرف عن تسليع المرأة في الإعلانات ووسائل الترفيه. الرسالة واضحة: «دينكم وهويتكم يتعارضان مع كونكم فرنسيين».
بريطانيا الاستعمارية، شأنها شأن فرنسا؛ رأت أنه من واجبها محاربة الحجاب. عبّر «اللورد كرومر»[1]، الذي شغل سابقًا منصب القنصل العام البريطاني في مصر، عن رؤية الغربيين لمصر والحجاب في كتابه «مصر الحديثة» الصادر عام 1908. كتب في أحد مقاطع الكتاب: «الإسلام دين يُهين المرأة مقارنةً بالرجل الذي يتمتع بحرية اللباس، ولا يسمح لها بحرية اللباس». كان «كرومر» هذا نفسه قد ربط انسحاب بريطانيا من مصر بـ«تحرير المرأة»، أي بإلغاء الحجاب. دائمًا ساند البريطانيون نزع النساء لحجابهن.[2]
بعد الحرب العالمية الثانية، عجزت الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية عن مواصلة «مهمتها التحضرية»، فسلّمت الراية إلى الولايات المتحدة. روّجت هذه الأخيرة، وأثناء احتلالها للعراق وأفغانستان، عبر منابرها الرسمية لفكرة أنّ الغزو كان من أجل «تحرير المرأة».[3] حتى جورج بوش نفسه صرّح عند دخول القوات الأمريكية إلى أفغانستان قائلًا: «لقد نالت نساء أفغانستان حريتهن اليوم».
لا تقتصر معركة الغرب ضد الحجاب على القوانين التقييدية أو السياسات القمعية؛ فوسائل الإعلام العالمية هي السلاح الخفيّ في هذه الحرب. تحوّلت «هوليوود» ومنصات التواصل مثل «إنستاغرام»، وحتى ألعاب الفيديو، إلى ساحات لفرض معايير الجمال ونمط الحياة الغربي. في هذه المنصات، تهمّش صورة المرأة المسلمة المحجبة أو تُختزل في قالب نمطي باعتبارها مضطهدة، متخلّفة، وتحتاج إلى «الإنقاذ». في الأفلام، تظهر الشخصيات النسائية المحجبة إما كضحايا للعنف الأسري، أو تُقدَّم بوصفها رموزًا للتطرف. هذه السرديّات ليست عشوائية، بل تُشكّل جزءًا من مشروعٍ أكبر يستهدف تشويه الهويّة الإسلاميّة وبثّ مشاعر الدونيّة في نفوس الجيل الشابّ من المسلمين. كما تمتدّ هذه الحملة الإعلاميّة إلى المجتمعات المسيحيّة المحافظة أيضًا – كحال بعض مناطق أمريكا اللاتينيّة – حيث تُستخدم وسائل الإعلام لنشر العُري والانفلات الجنسي، في محاولةٍ لمحو الهويّات الدينيّة والتقليديّة فيها. وهكذا، تحت شعار «إنقاذ النساء من سطوة النظام الذكوري»، يبرز شكل جديد من أشكال الاستعمار الثقافي، إذْ يُعاد تعريف الحرية والتمكين عبر الخضوع للعريّ والمعايير الظاهرية الغربية، ونمط الاستهلاك المفرط.
ميراث النموذج الغربي: تفكك الأسرة ورواج العنف والفساد
تُقدَّم المرأة الغربية «الحرة»، التي تركز على العمل، وتتحرر من القيود الجنسية، وتعيش باستقلالية، بوصفها ذروة التقدّم الاجتماعي. لكنّ الدمار الذي خلّفه هذا النموذج يكشف عن حقائق مريرة وقاتمة: تفكك الأسرة، وانحدار كرامة المرأة، والارتفاع المتزايد في نسبة الأطفال غير الشرعيين، ومعضلات كثيرة أخرى.
كانت الأسرة الطبيعية (المكوّنة من الأب والأم والأبناء) يومًا ما حجر الأساس في المجتمع الغربي، لكنها اليوم آيلة إلى الزوال؛ ففي الولايات المتحدة، يُولد 40% من الأطفال لأمهات غير متزوجات، ويقترب معدّل الطلاق من 50%. أما في فرنسا، فتصل نسبة الطلاق إلى 55%، ويُولد 60% من الأطفال خارج إطار الأسرة. ومن تبعات خرافة «الحرية الجنسية» الزائفة، انتشار تسليع المرأة وتحويلها إلى شيء جنسي في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والشخصية، حتى غدت أداةً لمضاعفة أرباح الشركات وهدفًا للاستغلال الجنسي من قبل الرجال.
تُظهر هذه الأزمات، التي نشأت أساسًا من شعارات خادعة مثل «الحرية» و«المساواة»، أنّ النموذج الغربي لا يقدم حلًا لمشكلات النساء، بل يُسهم في إعادة إنتاج الظلم والاستغلال؛ ففي هذا النظام، تُمنَح المرأة «الحرية» لشراء الماركات الفاخرة، لكنها تُستعبَد لمقاييس جمال زائفة، وتُمنَح حق إقامة علاقات جنسية بلا قيود والتزام، لكن حين تُصبح أمًّا عازبة أو يُولد الطفل بلا هوية، يعجز المجتمع الغربي عن توفير أي دعم أو حماية لهما.
المواجهة بين النموذج الاستكباري والثقافة الإسلامية
لماذا يدّعي الغرب الدفاع عن حقوق الإنسان، ثم يدعم أنظمة ديكتاتورية، في حين يفرض أنواع الحظر على الجمهورية الإسلامية بسبب الحجاب؟ وهل تُعدّ «الديمقراطية» الغربية التي تحظر الحجاب الإسلامي في المدارس الفرنسية مدافعة عن الحرية حقًّا؟!
الحقيقة هي أن عداء الغرب للحجاب لا علاقة له بحرية المرأة، بل يرتبط بمحاولة إلغاء رمز المقاومة في وجه الهيمنة الثقافية الغربية. الحرب على الحجاب ليست سوى تعبير عن نزعة الهيمنة والسعي إلى الاستعمار الثقافي. يُمثّل الحجاب راية المواجهة مع الاستكبار الذي يسعى إلى إذابة كل الشعوب داخل منظومته القيمية.
إنّ الحجاب، سواء بصفته تكليفًا شرعيًا أو تعبيرًا سياسيًا، يُجسّد الإيمان والاعتقاد، ويُمثّل رمزًا للمقاومة في وجه الإبادة الثقافية. أثبتت جمهورية إيران الإسلامية، عبر تمسّكها بالحجاب كجزء من هويّتها الإسلامية–الإيرانية، أنّ من الممكن الصمود في وجه الهجمة الاستعمارية على القيم الوطنية والدينية، وتقديم نموذج قائم على الأخلاق والكرامة الإنسانية. وكما أشار قائد الثورة الإسلامية في أحد خطاباته عام 1991، فإنّ البيئات الإسلامية الحقيقية، وفي مقدّمتهم الجمهورية الإسلامية، كانت من المواضع التي لم تُصِبها سهام المستعمرين في سعيهم لنشر نموذجهم الثقافي. لا يريد الغرب للمرأة المسلمة أن تمتلك نموذجها المستقل، ذلك النموذج الذي يجمع بين العلم والنموّ الاجتماعي والأسرة والأخلاق، ويمنحها في ميدان صراع الهويات درعًا لا يُقهر اسمه الحجاب. إنّ الاستهداف المستمر والدائم للمجتمع الإيراني عبر الدعاية المغرضة والمؤامرات الظاهرة والخفية، نابع من شعور المستكبرين بالتهديد؛ فمجتمع كإيران، بهويّته الحضارية التي تمتدّ لثلاثة آلاف عام، وبمذهبه الذي يعدّ امرأة مثل السيّدة زينب الكبرى (ع) رمزًا للمقاومة، يقف في وجه نموذج يجعل المرأة ألعوبة وأداة للاستهلاك والاستغلال، ويبرهن على أن الهيمنة الثقافية الغربية ليست عصيّة على الهزيمة.
[1] Lord Cromer
[2]https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2018/5/25/%D8%AE%D9%84%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%A7%D8%A8-%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A
[3] https://english.khamenei.ir/news/11393/Weaponizing-women-s-rights-How-imperialists-justify-invasions
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir