منذ عام 1970، خُصّص شهر نيسان/أبريل في أمريكا ليكون شهر التوعية بـ«الاعتداء الجنسي»[1] والوقاية منه. ومنذ ذلك الحين، نشهد كل عام تفاقمًا في أوضاع النساء في هذا السياق. في كل عام، يُعلن الرئيس الأمريكي رسميًا انطلاق هذا الشهر من خلال بيان رسمي. وقد جاء في بيان جو بايدن لعام 2024 ما يلي: «أكثر من نصف النساء، وأقل من ثلث الرجال في أمريكا، تعرضوا للعنف الجنسي. أما بالنسبة للأشخاص ذوي البشرة الملوّنة فإن نسب التعرض لهذا النوع من العنف أعلى من ذلك. الضحايا كانوا عرضة لهذا العنف في كل مكان ينبض بالحياة؛ في العمل، في المدرسة، في المنزل، وحتى على الإنترنت»[2].
الغرب المناهض للمرأة
تشهد الحضارة الغربية - بما في ذلك أمريكا - أزمة وبائية مزمنة تتمثل في سوء السلوك الجنسي ضد النساء[3]، والذي يرجع، وفقًا للدراسات العلمية الحديثة، إلى نزع الكرامة والإنسانية الواسع النطاق عن النساء في المجتمعات الغربية، وهي قضية يشار إليها في الدراسات العلمية باسم «تشييء المرأة وتنميطها جنسيًا». وتشير الإحصاءات المتزايدة لهذه الأزمة إلى أن جهود المجتمعات الغربية لمواجهة هذا الوباء باءت بالفشل، لدرجة أننا نشهد، على الرغم من هذه الجهود، تدهورًا يوميًا في أوضاع النساء في الغرب في هذا الصدد. بالإضافة إلى عدم سلامة النساء في الأماكن العامة والخاصة، فإن مختلف المؤسسات الغربية، بما في ذلك بيئات العمل والجيش والشرطة والسجون والجامعات والمدارس ووسائل الإعلام والبيئات الرياضية والثقافية والترفيهية، تعاني من وضع هش بسبب الانتشار الواسع لمشكلة الاعتداء الجنسي، لدرجة أن الخبراء يصفون "انتشار الاغتصاب" في هذه المؤسسات بأنه من «المؤشرات المدمّرة لعدم المساواة بين الجنسين»[4].
الغرب؛ هذه الحضارة المريضة[5]
لقد أصيبت هذه الحضارة الغربية المريضة بوباء «تجريد المرأة من إنسانيتها»، وتُظهر التجربة الثقافية المُعاشة للدول الغربية ضررًا جسيمًا يلحق بالأطفال في ظل هذه الظروف، حيث انعكست المخاوف بشأن استغلال الأطفال جنسيًّا على نطاق واسع في تقارير الجمعيات العلمية والمقالات العلمية البحثية وكتب الخبراء. وفي ظل هذه الحلقة المفرغة، تواجه كلّ جيلٍ ظروفًا أكثر تعقيدًا من سابقه؛ فالزواج يتعرض لأزمات بفعل النظرة المادية للأدوار والعلاقات بين الرجل والمرأة، وتنتشر علاقات عابرة، غير شرعية، وخارجة عن الأعراف والأخلاق. وحتى في حال حدوث الزواج، فإنه غالبًا ما يكون هشًّا وغير مستقر، ومع ازدياد نسب الطلاق وتفكك الأسرة، تزداد بالتبعية مظاهر التفكك والانحراف الاجتماعي. في ظلّ هذا النمط الثقافي، تتعلم النساء أن مظهرهن الخارجي – وفق معايير جنسية مُفروضة – هو أهم ما يحدد قيمتهن. لقد أدمن الغرب الأرباح التي يجنيها من هذه الدوامة المدمّرة، بينما تُعتبر التكاليف الباهظة المترتبة عليها في نهاية المطاف مجرد «تكاليف جانبية»[6]. وتُظهر الدراسات العلمية حول تَشييء المرأة وتنميطها جنسيًا أن المجتمعات التي تُكرَّس فيها هذه الظاهرة بشكل واسع، تُصبح مظاهر العنف متجذّرة أيضًا لدى الرجال، بحيث تنخفض مكانة المرأة في نظرهم، ويصبحون يرونها من منظور مادي بحت، ويعتقدون أن من حقهم الاستمتاع بها كأنها ملك لهم. هذا السلوك يبدو واضحًا في تصرفات الكثير من الرجال الذين يمتلكون نفوذًا اقتصاديًا، سياسيًا، أو ثقافيًا في الغرب.
ما الحل إذًا؟
يمكن القول إن الحضارة الغربية تعاني من خطأ في الحسابات: فهي من جهة تُصرّ على الحفاظ على ثقافة مسمومة تؤسس لتشييء المرأة وتجعل منه أمرًا مألوفًا ومقبولًا اجتماعيًا، ومن جهة أخرى تحاول بناء مجتمع خالٍ من العنف الجنسي ضد النساء دون أن تعالج هذا الداء الثقافي المتجذّر. تُظهر الدراسات العلمية حول العلاقة بين التشييء الجنسي للمرأة والعنف الجنسي أنه بقدر ما تم تصوير معاناة النساء في الغرب بسبب هذا العنف، هناك أيضًا سعي ملحوظ، ولا سيما بين النخب الأكاديمية في الدول الغربية، لإيجاد مخرج من هذا الواقع المؤلم. وكلما تعمّقت البحوث في سُبل معالجة هذا الوضع، برزت أدلّة قاطعة تؤكّد حقيقة صارخة: النظام الليبرالي القائم على المادية والمنفعة لا يملك حلًا حقيقيًا للخروج من هذا المأزق.
وتُبرز الدراسات العلمية حول «تَشييء المرأة وتنميطها جنسيًّا»، تؤكّد بوضوح أن الإسلام هو النظام الاجتماعي الوحيد القادر على تقليص هذه «المؤشرات المدمّرة لعدم المساواة بين الجنسين» إلى أدنى مستوياتها، والمضي في مسار اجتثاثها من جذورها من خلال مقاربة وقائية شاملة على مستوى المجتمع. وأما الضجيج الذي تثيره القوى الكبرى حول موضوع الحجاب، فيمكن اعتباره محاولة للتغطية على نتائج دراسات معمّقة تكشف عن الرؤية التقدّمية التي يقدمها الإسلام في ما يتعلق بأسس العلاقات السليمة بين النساء والرجال في المجتمع.
الحجاب... رمزٌ لنظام التفاعل الاجتماعي في الإسلام
لطالما أُبعدت نساء الغرب عن دروب الحل الحقيقي لمشكلة المرأة، تحت تأثير حملات الإسلاموفوبيا وإيرانوفوبيا التي رسّختها منظومات الهيمنة الثقافية. غير أن الأحداث التي شهدها العالم بعد السابع من أكتوبر 2023، وخاصة في غزة، كشفت أن الجيل الشاب في الغرب بدأ يتحرر من القيود الذهنية التي فرضها الاستعمار والرأسمالية، وبات مستعدًا لهدم جدران التزييف الإعلامي التي أحاطت به. اليقظة المتصاعدة التي نشهدها اليوم بين شعوب الغرب، وخصوصًا بين الشباب، تجاه العدالة لفلسطين، ليست مجرد تعاطف عابر، بل مؤشر على تحوّل جذري، وخطوة جريئة على طريق تجاوز عقدة التفوق الحضاري التي لطالما زعمتها الحضارة الغربية. لقد بدأ الشباب في الغرب يدركون حجم الانفصال الإنساني الذي كرّسته حضارتهم في نظرتها إلى الشعوب الأخرى، ويبدو أن هذا الوعي الجديد يحمل في طياته إمكانيات واعدة لتوسيع التحول نحو مجالات ثقافية أوسع، لا سيّما في ما يخص قضية المرأة. فالإحصاءات والدراسات، التي تترجمها المعاناة اليومية التي تعيشها النساء في الغرب، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الحضارة الغربية لا تمتلك تفوقًا يُذكر في قضايا المرأة، بل إنها، في كثير من أوجهها، صنعت تجربة مؤلمة ومثقلة بالمعاناة، ليس للنساء فقط، بل وللرجال أيضًا. وإذا ما أدركت نساء الغرب أن النموذج الغربي في التعامل مع المرأة ليس مقياسًا للتفوّق، بل جزء من أزمة أعمق تتعلق بنزع الإنسانية عن المرأة، فإن هذا الإدراك سيمهّد الطريق لتحوّل ثقافي كبير، يعيد بناء التصورات حول المرأة ومكانتها، ويمنح الحجاب - لا كمجرّد زيّ، بل كرمز حضاري – موقعه الحقيقي في النقاش العالمي حول كرامة المرأة وعدالة حضورها في المجتمع.
حين يهتف شباب الغرب: "كلنا فلسطينيون"، يمكننا أن نأمل بأن يتحوّل الحجاب أيضًا إلى رمزٍ للمطالبة بتجاوز واقع تشييء المرأة في الغرب، وصوتٍ صارخ لاستعادة كرامة المرأة، وإنسانيتها، وقيمتها في المجتمع. الحجاب، إذن، يمكن أن يغدو الكلمة المفتاحية في مشروع تضامنٍ عالميّ بين النساء ضد قرنٍ كاملٍ من تجريد المرأة من كرامتها على يد النظام الرأسمالي الاستكباري المتعالي. وعندها، فإن بيان الرؤية الإسلامية تجاه كرامة المرأة سيكون مدخلًا فعّالًا لخلاصٍ عالمي من وباء تشييء المرأة، وفتحًا لأفقٍ إنسانيّ جديد تتقدّم فيه كرامة المرأة على كل حسابات السوق والاستهلاك والهيمنة.
الإمام الخامنئي تناول هذا الموضوع في عدة مناسبات موضحًا بقوله: «بعضهم يقول إن الحجاب يُعيق رشد المرأة وتقدّمها؛ لكن الواقع عكس ذلك تمامًا. فالحجاب يمنع التبرّج والاستعراض غير الضروري، وهو ما يَحول دون التقدم الحقيقي للمرأة. نحن اليوم نرى آلاف النساء العظيمات والبارزات في ميادين العلم والعمل والمجتمع والسياسة والتقنية، وجميعهن يعشن حياتهن بحجابٍ كامل. وعندما ننظر إلى المرأة من هذا المنظور، يبرز أيضًا دورها في الأسرة: دورها كأم، وكزوجة، وكربة منزل، وسواها من أدوار جوهرية. وهذه الأدوار تزداد تهميشًا يومًا بعد يوم في الغرب؛ فمؤسسة الأسرة هناك تسير نحو التفكك والانهيار» (03/02/2021). كما قال سماحته في موضع آخر: «حين يُنزَع الحجاب عن النساء، وحين تُدفع المرأة نحو التعري والانكشاف، فإن أول من يُسلب أمنه هي المرأة نفسها، ثم يُسلب الأمن من الرجال والشباب من بعدها. فإذا أردنا بيئةً سليمة وآمنة، بحيث تتمكن المرأة من أداء عملها في المجتمع، ويتمكن الرجل من تحمّل مسؤولياته، فإن الإسلام قد حدّد الحجاب كتشريع واجب، وهو من أبرز أحكام الإسلام. ومن فوائده الأساسية تحقيق هذا النمط من الأمان الاجتماعي» (11/03/1997).
ما يمكن أن يشكّل نقطة تحوّل في هذا السياق هو إطلاقُ حراكٍ عام يتبنّى كسر الحصار الإعلامي الغربي المفروض على قضية الحجاب، ويرتكز على فهمٍ عميق للدراسات العلمية المعاصرة، تلك التي تكشف بجلاء أن النظام الاجتماعي الإسلامي في تعاطيه مع الحجاب يمثل إحدى المعجزات النفسية-الاجتماعية في منظومة الإسلام.
ليس من المستبعد أن نشهد في مستقبلٍ غير بعيد تحوّل الحجاب في الغرب إلى رمزٍ للنضال من أجل استعادة كرامة المرأة وتجاوز النظام القائم على الظلم والتمييز. وكما باتت الكوفيّة اليوم رمزًا عالميًا في الغرب للتضامن مع حرية فلسطين، فإن الحجاب أيضًا قد يصبح شعارًا شعبيًا واسع الاستخدام في ساحات الكفاح ضد الظلم الواقع على المرأة.
[1] https://en.wikipedia.org/wiki/Sexual_Assault_Awareness_Month
[2] https://bidenwhitehouse.archives.gov/briefing-room/presidential-actions/2024/03/29/a-proclamation-on-national-sexual-assault-awareness-and-prevention-month-2024/
[3] https://www.tehrantimes.com/news/489100/Violence-against-women-on-rise-in-West
[4] Deserted: The U.S. Military's Sexual Assault Crisis as a Cost of War (August 14, 2024)
https://watson.brown.edu/costsofwar/files/cow/imce/papers/2023/2024/8.14.24%20Greenburg_S exual%20Assault%20Crisis_Costs%20of%20War.pdf
[5] Victim blaming on civilizational scales
[6] Side effect