«نحن ممتنّون جدّاً لطمأنتكم إيّانا بقولكم إنّكم لا تطمعون في مواردنا النفطية في إيران والعراق».
هذا جزء من رسالة ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا إبّان الحرب العالمية الثانية، إلى روزفلت، رئيس الولايات المتحدة الأمریكية، قبل عدّة أشهر من الهجوم الأوروبي لأمریكا في الحرب العالمية الثانية عام 1944. هذه العبارات، التي كُتبت في ذروة حاجة بريطانيا إلى المساعدات المالية والعسكرية الأمریكية، تعبّر عن القيمة التي لا توصف لهذه الموارد بالنسبة لبريطانيا. لكن ما هي حكاية هذا النفط؟
في عام 1901م، حصل ويليام نوكس دارسي بموجب عقدٍ مدته ستّون سنة على امتياز استخراج النفط في مساحات شاسعة من إيران تمتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، والتزم بأن يدفع بعد تسليم مبلغٍ نقديٍّ محدد، نسبة 16% من أرباح الشركة سنوياً إلى إيران. وبعد ثمانية أعوام، أي في نيسان/أبريل 1909، وبعد عامٍ واحد من تدفّق النفط من آبار غرب إيران وجنوبها الغربي، جرى تسجيل شركة كبرى باسم «شركة النفط البريطانيّة - الإيرانية المساهمة» في لندن برأسمال قدره مليونا جنيه إسترليني، وبمساهمة من حكومة بريطانيا. وقد غيّرت هذه الشركة اسمها عدة مرات لاحقاً، وكانت في النهاية الأساس لتأسيس واحدة من أكبر شركات النفط في العالم، وهي «بريتيش بتروليوم» (BP).
كبرت هذه الشركة إلى حدٍّ أنه مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية، وبعد أن اقتسمت بريطانيا وفرنسا منطقة غرب آسيا كما لو كانت قطعة كعك، استطاعت بريطانيا أن تستحوذ على نفط الأقاليم الغنية في العراق، أي بغداد والبصرة، ثم جزء من نفط الموصل، مستندةً إلى إمكانيات وقدرات هذه الشركة.
غير أنّه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت الإمبريالية البريطانية بالانحسار شيئاً فشيئاً، لتحلّ محلها الولايات المتحدة الأمریكية.
موعد جمع الإرث والميراث
ما إن اتخذت الولايات المتحدة قرار دخولها الحرب العالمية الثانية، حتى شرعت في إعداد نفسها لإقامة نظامٍ عالمي يقوم على الهيمنة. ومع انتهاء الحرب ووهن القوى الأوروبية، برزت أميركا لتتولى عبر توسيع قواعدها العسكرية وتأسيس مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها، مهمة التحكم في النظام الأمني والاقتصادي للعالم بأسره. غير أنّ هذا الغطاء القانوني كان يخفي تحته محيطاً من المؤامرات غير المشروعة، والانقلابات، والحروب العدوانية، والجرائم. فأيّ محاولةٍ استقلالية كان لا بد أن تُصنّف إما ضمن المعسكر الشرقي، وإما أن تخدم توجّهات السياسات الاستعلائية الأمريكية؛ ولم يكن ثمّة مسار ثالث متصوَّر. وإيران كانت واحدة من تلك الدول التي، بعد الحرب العالمية الثانية، انطلقت فيها حركة ساعية للاستقلال واسترجاع الحقوق المهدورة إبّان الوجود البريطاني، لكنها ما لبثت أن واجهت الواقع الجديد في العالم: الاستعمار العجوز كُفّت يده، وجاء الاستعمار الفتيّ يجمع الإرث والميراث.
ملف إيران
بعد فترةٍ وجيزة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، نهض الشعب الإيراني بقيادة علماء الحوزات والتيارات الوطنية من أجل تأميم صناعة النفط وانتزاعها من أيدي البريطانيّين. وقد أثمرت الضغوط على الشاه الشاب باختيار محمد مصدّق رئيساً للوزراء، فأقرّت إيران في آذار/مارس 1951م قانوناً يقضي بسلب شركة النفط البريطانية أيّ صلاحية في التنقيب والاستخراج والاستثمار في النفط الإيراني. وبُعيد صدور هذا القانون، رفعت بريطانيا شكوى ضد إيران أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، غير أنّ المحكمة امتنعت عن إصدار حكمٍ لأنّ شركة النفط البريطانية كانت شركةً خاصة، وبالتالي لم تُدان إيران. عندها لجأت بريطانيا، مدعومةً من بقية الدول الغربية، إلى فرض عقوبات متنوعة على صناعة النفط الإيرانية. وهنا برزت أفضل فرصة لدخول المستعمر الفتيّ: الولايات المتحدة.
كشفت قضية تأميم صناعة النفط للولايات المتحدة أنّ الشعب الإيراني على استعدادٍ للنضال والتضحية في سبيل نيل الاستقلال والخلاص من الهيمنة. هذا الوعي وهذه الروح كان لا بد من قمعهما، ورأت أمریكا أنّ الفرصة مواتية لذلك. وقد منح تأميم النفط على يد حكومة شعبية قوةً كبيرة للسياسيين الإيرانيين، فدخلوا في مواجهة مع الشاه، كما برزت أكثر فأكثر أنشطة الأحزاب ووسائل الإعلام المناهضة للملكية.
كما شكّل وجود تياراتٍ تميل إلى الاتحاد السوفييتي داخل هذه الأحزاب والصحف ذريعة مناسبة بيد الأمريكيين، ليُقدِموا على التدخل في القضية، ويُثبّتوا موطئ قدمهم في المنطقة أكثر مما كان من قبل.
الصراع بين الشاه ومصدّق وما تلاه من هروب الشاه من إيران، وفّر أرضيّة مناسبة لأجهزة الاستخبارات الأمریكية كي تستثمر في الضبّاط الساعين وراء السلطة، وتطيح بحكومة مصدّق. وفي 19 آب/أغسطس 1953م، نُفِّذت عملية «آجاکس» في إيران. وخلال هذا الانقلاب قُتل كثيرون، واعتُقل مصدّق وجرى نفيه. عاد الشاه إلى إيران، وبدأ حقبة استبدادٍ دامت 25 عاماً، استبدادٌ كان مديناً فيه للولايات المتحدة. وقد بادر منذ البداية إلى مكافأتها، فخصّص للشركات الأميركية 40% من صناعة النفط الإيرانية، مكافئاً لها على صنيعها.
أداة بيد المستعمرين، شرطيّهم، وجزيرة استقرارهم
جعلت الفترة الممتدّة بين الانقلاب عام 1953م وانتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، إيران عزيزةً لدى الولايات المتحدة بقدر ما كانت عزيزةً على تشرشل من قبل. ففي خضمّ الحرب الباردة ومع تنامي نفوذ الاتحاد السوفيتي في العالم العربي، باتت أميركا تُمسك بيدها ورقتين إقليميتين كبيرتين: إيران والسعودية.
تحوّلت إيران البهلويّة إلى أداةٍ تنفّذ البرامج الإقليمية وما وراء الإقليمية للولايات المتحدة. فعندما كادت حلقات الحصار تخنق الكيان الصهيوني في الحروب العربية - الإسرائيلية، كان نظام الشاه من أبقى صمّام النفط مفتوحاً باتجاهه، مانعاً انهياره. وحين ثبّت حزب البعث في العراق علاقاته مع موسكو، عمدت السلطة البهلوية إلى تسليح الجماعات الكردية الحدودية لزعزعة حكمه. وحين واجه الأمريكيون صعوبات في تأمين الدعم اللوجستي لحربهم الدموية في فيتنام، كانت الطائرات الحربية والطيّارون الإيرانيون المدرَّبون في أمريكا يُرسَلون لقصف الشعب الفيتنامي. كذلك أُنشئت قواعد عدّة على الأراضي الإيرانية لمراقبة أنشطة الاتحاد السوفيتي، وبدأ أكثر من 25 ألف عسكري أمريكي عملهم في إيران تحت غطاء «المستشارين».
كل تلك الامتيازات التي قدّمها شاه إيران للولايات المتحدة، إلى جانب صفقات التسليح الضخمة، واستثمارات إيران في الصناعات والأسواق الغربية، ومساعيه لطمس الثقافة الدينية من المجتمع الإيراني، جعلت من إيران ما سُمّي بـ «جزيرة الاستقرار» في المنطقة؛ جزيرة استقرار خُصِّصت لتثبيت هيمنة أميركا على المنطقة.
الطّائرُ أفلَتَ من القَفَص
شكّلت الثورة الإسلامية عام 1979م صدمةً من العيار الكبير للولايات المتحدة. فإلى جانب الخسائر الاقتصادية الهائلة التي تكبّدتها، فقدت واشنطن أداةً إقليميةً بالغة الأهمية. إذ إنّ أميركا كانت قد تمكّنت عبر إيران من رفع تهديدات كبرى عن كيان الاحتلال الصهيوني، وفي الوقت نفسه خرجت مصر، بعد كامب ديفيد، وهي الدولة العربية الأكثر ريادةً في مواجهة إسرائيل، من ساحة الصراع نهائياً. غير أنّ هذه الثورة الإسلامية في إيران هي التي بثّت روحاً جديدة في قضية فلسطين.
ولم يقتصر الأمر على انقلاب مسار إيران في قضايا المنطقة الجوهرية رأساً على عقب، بل إنّ الثورة الإسلامية شرّعت أمام الشعوب المسلمة والحرّة مسارًا ثالثاً، مختلفاً عن معسكري الغرب والشرق. أصبح بالإمكان التفكير بالاستقلال، وعدم التعامل مع مقصّ القطبين كقدرٍ محتوم. وهذا المسار الثالث وهذه الرؤية هما اللذان أوجدا جبهة المقاومة في المنطقة، وواجها المشاريع الأمريكية في غرب آسيا ضمن تحدٍّ وجودي. هذا الأفق الجديد جعل الولايات المتحدة تحتاج أكثر من أربعة عقود حتى تتمكّن من إعادة بعض حكومات المنطقة إلى مسار تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، لكنّ هذه المرة تصاعدت نقمة الشعوب على تلك الحكومات أضعافاً مضاعفة، لأنّ نموذج الثورة الإسلامية وجبهة المقاومة قائم أمامها وحيٌّ وفاعل.
لعلّه بات أوضح الآن لماذا سعت الولايات المتحدة منذ اليوم الأول لانتصار الثورة الإسلامية إلى حرفها عن مسارها أو القضاء عليها. وكما قال الإمام الخامنئي في 8 كانون الثاني/يناير 2025: «أمریكا كانت قد امتلكت هذا المكان، لكنّه انتُزع من قبضتها، ولذلك فهي تضمر حقداً كحقد البعير والجمال على البلاد والثورة، ولن تتركها وشأنها بسهولة. لقد هُزمت أمريكا في إيران، وهي تسعى اليوم إلى تعويض تلك الهزيمة».
إنّ إيران، ذلك الكنز الذي حاول تشرشل في أصعب أيام حياته أن يحميه من أطماع أمريكا، وذلك الكنز الذي بقيَ على مدى خمسة وعشرين عاماً في قبضة الأميركيين، أصبح اليوم في يد شعبه المسلم نفسه. وهذا ربّما هو السبب الجوهري لعداء الولايات المتحدة لشعب إيران قبل الثورة وبعدها: إيران كانت إرثاً استعمارياً لبريطانيا، لكنّ شعبها انتزعه من بين أنياب أميركا.