بالنظر إلى الوثائق المتوافرة لدى الجيش الإسرائيلي، التي تشير إلى حروب الكيان المستمرة منذ تأسيسه لتوسيع حدوده، ما مدى خطورة هذه القضية في رأيكم على دول المنطقة في ظل ممارسات الكيان الصهيوني؟

تُظهر وثائق الكيان الإسرائيلي أن «اتساع الحدود» ليس مجرد حدث طارئ، بل مسار ثابت في عقيدة الأمن لدى الكيان الصهيوني، ما يجعله خطرًا مباشرًا على دول المنطقة قانونيًا وسياسيًا وأمنيًا. يتجلى هذا في مستويات عدة مترابطة:

أولًا: تكريس واقع حدودي بالقوة: يملك الكيان سجلًا تشريعيًا يشرعن الضمّ مثل قانون الجولان (1981) وقانون «القدس عاصمة "إسرائيل"» (1980)، في تجاهل واضح لقرارات مجلس الأمن. هذا السلوك يضرب قاعدة أساسية في النظام الدولي: عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة.

ثانيًا: تمدد استيطاني يقوّض أي تسوية: الكتلة الاستيطانية الضخمة—أكثر من 737 ألف مستوطن—تعيد رسم الجغرافيا السياسية، وتحوّل الضفة الغربية والقدس إلى فسيفساء متداخلة يصعب معها قيام دولة فلسطينية متماسكة، بما يعني «ضمًا زاحفًا» متواصلًا.

ثالثًا: تبنّي عقيدة «المعركة بين الحروب»: هذا النهج الأمني يجعل الكيان الغاصب يمارس ضربات إرهابية عبر الحدود، خصوصًا في سوريا ولبنان، لتفادي «تراكم القدرات» لدى خصومه. تكرار هذه العمليات يهدد بتحويل المنطقة إلى مساحة اشتباك دائم واحتمالات تصعيد مقصود.

رابعًا: تصدير عدم الاستقرار: تصاعد هجمات المستوطنين في الضفة—وفق تقارير أممية—يشعل دورات انتقام محلية تمتد آثارها إلى ساحات أخرى متشابكة، ما يضع الدول المجاورة أمام حسابات ردع حساسة.

خامسًا: تداعيات إقليمية واسعة: أي تغييرات أحادية في الحدود تفتح الباب أمام مطالب مماثلة في المنطقة. كما يرتفع الضغط الأمني على الجبهات الجوية والبحرية، وتتأثر مسارات الطاقة والممرات التجارية.

عمليًا، تتجلى خطورة هذا المسار في: تآكل الردع القانوني، احتكاكات حدودية مزمنة، إضعاف حلّ الدولتين، ارتدادات لجوء واقتصاد ظلّ، وتراجع فعالية النظام الدولي نفسه.

 

برز مصطلح «التوسع الإقليمي» بصور مختلفة على لسان قادته منذ بداية تأسيس "إسرائيل"، كما شهدنا ميدانيًا احتلالًا لمناطق في دول مجاورة لفلسطين المحتلة. هل يُشكل هذا الموقف خطرًا على الدول العربية التي تتعامل أحيانًا مع النظام الصهيوني؟

يمثّل «التوسع الإقليمي» للكيان الصهيوني خطرًا بنيويًا على الدول العربية، لأنه ليس مجرّد خطاب سياسي، بل سلوك تشريعي وميداني ممتدّ يجد جذوره في ضمّ القدس الشرقية والجولان، في تحدٍّ مباشر لقرارات مجلس الأمن. هذا النمط يضرب أهم قاعدة تحمي الاستقرار الإقليمي: عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة.

الخطورة تتجلّى في أربع ظواهر مركزية:

أولًا، القدرة على فرض تغييرات أحادية في الحدود تقوّض المواقف العربية في أي نزاعات مستقبلية.

ثانيًا، سجلّ الاحتلال العابر للحدود—خصوصًا في لبنان—الذي يؤكد استعداد الكيان للبقاء عسكريًا خارج حدودها متى وجدت ذلك مناسبًا.

ثالثًا، اعتماد عقيدة «المعركة بين الحروب» التي تُنتج ضربات إرهابية لجيش الكيان مستمرة قد تُشعل احتكاكات غير مقصودة مع دول الجوار.

رابعًا، الاستيطان بوصفه «ضمًا زاحفًا» يشوّه الجغرافيا السياسية ويُصدّر عدم الاستقرار للمنطقة.

بالنسبة إلى الدول العربية المطبّعة، فإن المخاطر تراوح بين تآكل السيادة القانونية، وتزايد التهديدات الأمنية العابرة للحدود، وتضارب داخلي بين مسار العلاقات الرسمية وبين واقع الميدان، إضافة إلى ارتدادات اقتصادية على مسارات الطاقة والملاحة.

تقليل الكلفة يتطلب: خطوطًا قانونية حمراء مكتوبة، قنوات فضّ اشتباك، رقابة صارمة على الاستيطان، حماية اقتصادية مشتركة، وموقفًا ديبلوماسيًا عربيًا موحّدًا يعيد للمرجعيات الدولية وزنها.

 

الصهاينة يرددون صراحةً شعارَ «من النيل إلى الفرات» حتى أن إحدى وسائلِ إعلامِهم أعلنت أن هذا المطلب ليس بأمرٍ كبير. تحقيقُ هذا الهدف يستلزمُ إضعافَ دولِ المنطقة وتقسيمَها. ما الأهدافُ التي يسعى الصهاينةُ عبرها إلى تفتيتِ دولِ المنطقة وانهيارِها؟ وما هي السبل لمنعِ تحقيقِ هذا الهدفِ الصهيونيِّ الذي يحظى أيضاً بدعمٍ أمريكيٍّ كامل؟

شعار «من النيل إلى الفرات» لا يُعد خطة عملياتية جاهزة للتنفيذ، ولكنه يعكس ذهنيّة توسعية تُستخدم لتبرير سياسات تآكلية تستهدف إضعاف الدول المحيطة وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لمصلحة "إسرائيل". الخطر ليس في الشعار نفسه، بل في السياسات التي تنبني عليه.

أولًا: إعادة هندسة الإقليم لمصلحة الهيمنة الإسرائيلية: يعمل الكيان على خلق واقع ميداني يضمن تفوقه، سواء عبر احتلال مباشر، أو عبر خلق كيانات محلية ضعيفة، أو عبر تشكيل سلطة بديلة تسهّل الهيمنة. هذا النمط تكرر تاريخيًا في فلسطين ولبنان والجولان.

ثانيًا: تفكيك الدولة المركزية لدى الخصوم: دولة منقسمة أو هشّة أقل قدرة على تشكيل تهديد أو دعم حركات إرهابية عملية. هذا ما تظهره الأدبيات الإسرائيلية التي تروّج لمفهوم «التجزئة السياسية» كأداة لخفض المخاطر.

ثالثًا: فرض وقائع استيطانية وقانونية دائمة: توسيع المستوطنات وشرعنتها يخلقان «حقائق لا يمكن التراجع عنها»، ما يعقّد أي تسوية مستقبلية ويعيد رسم الحدود بما يخدم المشروع الصهيوني.

رابعًا: استثمار الدعم الأمريكي غير المحدود: الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي من واشنطن يمكّن الكيان من تنفيذ سياسات أحادية بأقل كلفة ممكنة.

 

كيف يمكن منع هذا المشروع؟

بجانب التجهيز والتحشيد العسكري للقوى المقاومة للاحتلال يمكن تبنّي إجراءات قانونية وسياسية واقتصادية ضد أي محاولة للتفتيت:

1. مسار قانوني دولي واضح: توثيق الانتهاكات وإحالتها للأمم المتحدة والمحاكم الدولية، بما يقيّد أي محاولات لتغيير الحدود بالقوة.

2. موقف عربي–إسلامي موحد: منع وتجريم أي علاقة تطبيع مع "إسرائيل" ما دام الاستيطان قائمًا، ووضع شروط مكتوبة قابلة للتحقق، مع آلية لتعليق العلاقات في حال الإخلال والتوسع في الديبلوماسية الإيرانية لتحقيق هذا الهدف مع دول المنطقة.

3. ضغط دولي وإعلامي منظم: حملات حقائقية تستهدف الرأي العام وصناع القرار الغربيين، وتكشف آثار التفتيت على الأمن الدولي.

4. تحصين الدولة من الداخل: تقوية المؤسسات الأمنية والدفاعية والثقافية، وحماية النسيج الاجتماعي، والاستثمار في خطوط التماس لمنع أي نفاذ خارجي.

5. بناء تحالفات اقتصادية بديلة: مشروعات طاقة وممرات تجارية إقليمية تقلل من نقاط الضعف التي يمكن أن يستغلها الكيان الصهيوني.

 

بالنظر إلى سياسات الكيان الصهيوني الحربية في المنطقة، وخاصةً بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، حين هاجم قطاع غزة ثم وسّع نطاق عدوانه ليشمل لبنان واليمن وسوريا وحتى إيران، هل يُمكن للعلاقات مع هذا الكيان الذي يرى بقاءه في الحرب والتوسع، أن تُحقق السلام لمن وقّعوا معه اتفاقية التطبيع؟

تُظهر تجربة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول أن الحديث عن «سلام» مع كيانٍ صهيوني يقوم وجوده على الحرب والتفوق العسكري مجرد وهم سياسي. العقيدة الأمنية الإسرائيلية لا ترى في التعايش خيارًا، بل تعتمد على الضربات الوقائية خارج الحدود، وتوسيع ساحات الاشتباك من غزة إلى لبنان وسوريا واليمن، وصولًا إلى العمق الإيراني. هذا السلوك يكشف أن التطبيع لا يقيّد يد "إسرائيل"، بل يمنحها مساحة أوسع للمناورة بينما يُطلب من العرب الهدوء وضبط النفس.

الدول التي طبّعت اكتشفت أن العلاقة لم تمنحها حصانة أمنية ولا سياسية. لم يتراجع العدوان، ولم تُحترم حدود العلاقة، بل تواصلت عمليات التوسّع، فيما بقيت «الضمانات» الإسرائيلية مجرّد وعود تتساقط عند أول اختبار. ما بعد 7 أكتوبر أثبت أن التطبيع لا يغيّر سلوك الاحتلال، بل يغيّر فقط توقعات من راهنوا عليه.

"إسرائيل"، كما تظهر تجاربها، لا تنتج سلامًا لأنها تستمد استقرارها الداخلي من استمرار الخطر الخارجي، وتعتمد على دعم غربي مشروط بتفوق عسكري دائم، وترفض أصلًا الاعتراف بالحقوق الفلسطينية. لذلك إن أي سلام بلا توازن قوّة وردع سياسي وقانوني يتحول إلى سلام ناقص ينهار سريعًا.

خلاصة القول، إن اتفاقيات التطبيع لا تصنع سلامًا، بل استقرارًا زائفًا قابلًا للانفجار. السلام الحقيقي لا تبنيه دولة تجعل الحرب أساس وجودها، ولا تقدّم شيئًا سوى هدنة مؤقتة بانتظار جولة توسّع جديدة.

 

أي خطوات ينبغي للحكومات الإسلامية فعلها من أجل إيقاف مسار تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني؟

إيقاف مسار التطبيع ليس قرارًا سياسيًا بسيطًا، بل مسارٌ شامل يحتاج إلى أدوات متوازنة: قانونية، ديبلوماسية، اقتصادية، إعلامية ومؤسساتية. الهدف هو خلق كلفة سياسية واقتصادية وأخلاقية تجعل استمرار التطبيع بلا شروط أمرًا غير قابل للاستدامة.

أولًا: تحصين الجبهة الداخلية: ينبغي إصدار قوانين وطنية تمنع وتجرم أي اتفاق تطبيع مع الكيان الغاصب بالرجوع الى عمليات الاستيطان وتعذيب الأسرى، مع إلزام الحكومات بنشر بنود الاتفاقيات كاملة. إشراك البرلمانات والمجتمع المدني ضروري لمنع اتخاذ قرارات خلف الأبواب المغلقة وإيجاد آليات مساءلة شفافة.

ثانيًا: موقف عربي–إسلامي موحد: التطبيع الأحادي يمنح الاحتلال قدرة على المناورة، بينما يضعف الوزن التفاوضي للعرب. الحل هو إنشاء وثيقة شروط إقليمية مشتركة تلزم عدم الانفتاح السياسي أو الاقتصادي مع الكيان، مع آلية جماعية لتعليق العلاقات ضد أي دولة مطبعة.

ثالثًا: أدوات قانونية قوية: تأسيس خلايا توثيق عربية وإسلامية تُعد ملفات دقيقة للانتهاكات، وإيداعها لدى الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، بما يخلق ضغطًا قانونيًا مستمرًا على الاحتلال ويجعل التطبيع مكلفًا.

رابعًا: الضغط الاقتصادي: فرض قيود على الشركات العاملة في المستوطنات، حظر استيراد منتجاتها، وبناء بدائل اقتصادية إقليمية تُقلل من جاذبية التعاون مع الاحتلال. كما يمكن دعم أطر المقاطعة السلمية ضمن ضوابط قانونية واضحة.

خامسًا: معركة السردية: إطلاق حملات إعلامية موثقة تكشف كلفة التطبيع على الحقوق الفلسطينية والسيادة العربية، وتوفير منصات للأصوات الديبلوماسية والأكاديمية القادرة على تقديم بدائل سياسية واقعية.

سادسًا: استثمار الموقف الدولي: العمل مع القوى الأوروبية والأممية لربط أي تعاون مع الكيان الغاصب بوقف انتهاكاته، كنهج ديبلوماسي لتعرية الكيان الغاصب أمام الشعوب الأوروبية.

خلاصة القول، إن إيقاف التطبيع يتطلب استراتيجية مركّبة: تشريعات تحصّن الداخل، ديبلوماسية موحدة تعيد الحسبان للحقوق الفلسطينية، ضغط قانوني واقتصادي يرفع الكلفة على الاحتلال، وسردية إعلامية تُعيد توجيه الرأي العام. من دون هذه الأدوات، سيظل التطبيع استثمارًا سياسيًا قصير النظر، لا يخدم استقرار الأمة ولا أمنها الإستراتيجي بل يصب في خدمة الكيان الغاصب الصهيوني.