بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.

لقد انعقد هذا اللقاء في مناسبة «13 آبان» (4/11/1979). طبعاً، نفيُ الإمام (رضوان الله عليه) عام 1343 هـ.ش. (1964) وحدثت مجزرة التلاميذ في اليوم نفسه عام 1357 هـ.ش. (1978)، ولكنّ القضيّة المهمّة، والتي شكّلت منعطفاً تاريخياً بالنسبة إلينا، هي قضيّة السيطرة على وكر التجسّس. سأخصّص هذا اللقاء لتبيين هذه المسألة، ولكن، قبل أن ندخل في هذا الحديث، وبما أنّه قد جرى ذكر الاسم المبارك للسيّدة زينب (سلام الله عليها) والاسم المبارك للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها)، أرى من المناسب أن أقول لكم أيّها الشباب ألّا تكتفوا بالاسم والذكرى القلبيّة، بل اتبعوهم عملياً كشيعة حقيقيّين. الخطوة الأولى هي [الاقتداء] بكيفيّة حضور هاتين العظيمتين وسائر المعصومين أمام الله المتعالي. أينما كنتم، شجّعوا المحيطين بكم على أن يؤدّوا الصلاة كما هي مطلوبة من عباد الله الصالحين. أقول لبناتي العزيزات، السيّدات الحاضرات في الجلسة، أن يوجّهن عناية مَن حولهنّ إلى أن يعددن مسألة الحجاب مسألة دينيّة وإسلاميّة وزهرائيّة وزينبيّة. أوصيكم جميعاً ألّا تنسوا الأنس بـالقرآن. قلتُ مراراً، اقرأوا القرآن كلّ يوم، ولو نصف صفحة. افتحوا القرآن من أيّ موضعٍ فيه، اقرأوا نصف صفحة، أو صفحة واحدة، أيّ مقدار ترغبون فيه وتَشعرون بالميل إليه، وحافظوا على ارتباطكم بالمعنويّات. لأنّ شابّنا في هذا العصر المليء بالتحدّيات لا يمكنه أن يقول «الموت لأمريكا» بالمعنى الحقيقيّ للكلمة إلّا عندما يكون قويّاً من الناحية الداخليّة والدينيّة والاعتقادية والاتّكال على الله المتعالي وعلى القدرة الإلهيّة. الشابّ الذي يستطيع أن يقف بوجه سطوة وجبروت وزجر فراعنة العصر هو مَن كان قلبه مع الله ومرتبطاً به. حافظوا على هذا. هذا الجمع الشبابيّ الحاضر هنا، هؤلاء الآلاف من الشباب، جميعكم، وكذلك شباب البلد، لو أنّكم التفتم إلى هذه النقطة، في رأيي سنحقّق تقدّماً أكبر وأفضل، سواء في أمور دنيانا، أو في شأن إدارة بلدنا، أو في مجال مواجهة أعدائنا.

أمّا «13 آبان»، فيمكن النظر إلى حادثة «13 آبان» وسيطرة الطلاب الجامعيّين على السفارة الأمريكيّة من زاويتين: الأولى من الزاوية التاريخيّة؛ والأخرى من الزاوية الهويّاتيّة (المتعلّقة بالهويّة). إنّها حادثةٌ حدثت، ونريد أن نفهم هذه الحادثة وندركها على نحو صحيح. من الناحية التاريخية، لا شك أن هذا اليوم سيكون يوم فخرٍ وانتصارٍ للشعب في مستقبل البلاد، بلا أدنى ريب. إنه اليوم الذي تجرأ فيه شبابنا، في مواجهة قوة كان يخافها ساسة العالم، تجرأوا ولم يخافوا، واقتحموا سفارتها بناءً على استدلال، ووفق دليل، ولسبب سأشرحه الآن. إنه يوم فخرٍ ويوم انتصار. لقد مرّت علينا في تاريخنا أيام انتصار، كما مرّت علينا أيام ضعف واضمحلال، ويجب أن نتذكّر كليهما. عندما أقول «تاريخنا»، لا أعني التاريخ الممتد إلى ألف أو ألفي عام. [بل أعني] منذ العصر الذي نشأ فيه الاستعمار، وشاع فيه الاستعمار والاستكبار في العالم، إذ لم يكن بلدنا بمنأى عن ذلك، وحدثت في البلد أحداثٌ؛ بعض هذه الأحداث هي أحداث مهمّة ومُظفَّرة وتُظهر اقتدار الشعب الإيراني، وبعضها الآخر أحداث مريرة سأشير إليها الآن.

يجب أن نستحضر في أذهاننا الأحداث السارّة وأن نكرّرها ونحفظها في ذاكرتنا الوطنيّة، كما ينبغي أن نستحضر القضايا والأحداث المريرة أيضاً. عندما نتذكّر أيام الذُّرى، والأيام السعيدة، فإننا نكتسب الثقة بالنفس، ونشعر بالقوة والاقتدار. على سبيل المثال، إنّ حادثة إحباط اتفاقيّة التنباك الاستعماريّة هي حدثٌ مهمّ في تاريخ البلاد، حصل على يد الميرزا الشيرازي؛ عندما نستحضر هذه الحادثة، نشعر بالقدرة، ونُدرك أنّ شعبنا يستطيع أن يتغلّب على قوّة عظمى مثل بريطانيا في ذلك الزمان - ففي ذلك الوقت، كانت بريطانيا أعظم وأقوى من جميع قوى العالم -. أو [مثلاً] إلغاء معاهدة «وثوق الدولة»؛ معاهدة وثوق الدولة كانت أيضاً معاهدة تسلّم كلّ شيء في البلاد إلى أيدي البريطانيين. لقد تقاضى عددٌ من كبار السياسيّين في البلاد رشوةً ووقّعوا هذه الاتفاقيّة مع البريطانيين. المرحوم السيّد حسن مدرّس وأنصاره بذلوا جهودهم وأبطلوا هذه الاتفاقيّة. إذاً، إنَّ يوم إبطال هذه الاتفاقيّة هو يومٌ سعيد؛ لقد أحبطوا مخطّطات البريطانيين.

إذاً، إنَّ حفظ هذه الأيّام في الذاكرة الوطنيّة هو عملٌ ضروريّ. الآن، قد لا تعرفون أنتم هذه الأحداث جيّداً؛ فمن الممكن أنّكم أيّها الشباب الأعزّاء، لا تعلمون جيّداً ما هي قضيّة حادثة وثوق الدولة أو حادثة [فتوى تحريم] التنباك للميرزا الشيرازي؛ إنّني أوصي بشدّة التجمّعات الطالبيّة الجامعيّة، والتجمّعات التلميذيّة [في المدارس]، وتجمّعات التعبئة، وجموع أهل المطالعة والقراءة، أن يجلسوا ويدرسوا هذه الأمور، ويناقشوها، ليعلموا ما الذي حدث في البلاد. هذه توصيتي المؤكّدة لكم جميعاً.

حسناً، قلنا إنّه يجب أن نحفظ في الذاكرة أحداث الصعود والذّروة، والأحداث العذبة، وأحداث التقدّم والانتصار، كما يجب أن نحفظ في أذهاننا الأحداث المريرة وألا ننساها؛ لماذا؟ لكي نحرص على ألّا تتكرّر تلك الوقائع في حياتنا. ماذا نقصد بالأحداث المريرة؟ مثل الانقلاب الذي حدث سنة 1299 هـ.ش. (1920) على يد رضا خان؛ فقد نُفِّذ انقلاب، أي إنّ البريطانيّين نفّذوا انقلاباً في إيران بواسطة رضا خان، وهذا الانقلاب أدّى بعد ثلاث أو أربع سنوات إلى قيام الحكم البهلوي الملكي وما تلاها من هذه الفظائع وهذه الشدائد وذلك الاستبداد والدكتاتوريّة الفريدة في البلاد، وهيمنة الأجانب على البلاد؛ على كل حال، لقد كان يوماً مريراً. لنكن متنبهين، ولنحفظ ذلك في أذهاننا، ونعرف وندرك ما الذي حدث في ذلك اليوم، وما هي المقدّمات التي مهّدوها وأفضت إلى هذه الحادثة. يجب أن نُدوّن هذه الأمور أيضاً ونحفظها.

إذاً، «13 آبان» من المنظور التاريخي هو يومٌ من هذا القبيل. «13 آبان» هو اليوم الذي ذهب فيه طلابنا وسيطروا على السفارة الأمريكية. إنه أحد الأيام التي يجب أن تترسّخ في تاريخنا، وفي ذاكرتنا الوطنية، ويجب ألّا تُنسى، ويجب أن يعرفها شعبنا كله. لحسن الحظ، مصادر المعلومات متوافرة في البلاد، ويمكن قراءة وتعلم كثير من قضايا ذلك اليوم في كتب مختلفة وفي كتب كُتبت خصيصاً لهذه المسألة. هذا من الناحية التاريخية.

أما من ناحية الهويّة، فهذا هو الأهم. لقد كشفت السيطرة على السفارة عن الهوية الحقيقية لإدارة الولايات المتحدة الأمريكية. كما كشفت وحددت أيضاً الهوية الحقيقية والجوهرية للنهضة الإسلامية والثورة الإسلامية. هذا هو التأثير الهويّاتي لهذه الحادثة. بالتأكيد، نحن الإيرانيون كنا نعرف الطبيعة الاستكبارية لأمريكا؛ لم يكن الأمر أننا لا نعرف ما هي أمريكا – سأشرح هذا لاحقاً - ولكن هذا الحدث أوضح لنا هذه القضية أكثر. أريد منكم أيها الشباب الأعزاء أن تدركوا عمق المسألة؛ انتبهوا جيّداً.

دعوني أولاً أوضح معنى «الاستكبار». ما هو معنى «الاستكبار»؟ [عندما] نقول «الاستكبار العالمي»، فما هو معنى «الاستكبار»؟ كلمة «الاستكبار» هي كلمة قرآنية، وقد استُخدمت في القرآن. كما أحصوها وأخبروني، فإنّ كلمة «الاستكبار» ومشتقّاتها قد تكرّرت في القرآن نحو خمسين مرّة. «الاستكبار» يعني الشعور بالاستعلاء، هذا هو معنى «الاستكبار»؛ [أي] أن تكون لدى دولة أو إنسان أو مجموعة حالة من الاستعلاء. طبعاً، [هذه] صفة سيئة، ولكنها لا تؤدي إلى العداوة. أول مستكبر كان إبليس، الذي قال عندما أراد الله تعالى أن يخلق آدم: أنا أفضل من آدم، ولن أسجد لآدم، فحلّت عليه اللعنة الإلهية إلى الأبد. «الاستكبار» يعني الشعور الاستعلاء، ولكنّ هذا الاستعلاء على نوعين: تارةً يرى شخصٌ ما أو حكومةٌ ما نفسَه أعلى من الآخرين، ولكنه لا يتدخل في شؤون الآخرين؛ هذه أيضاً ليست صفة جيدة، الاستكبار سيّئ، ورؤية النفس أعلى [من غيرها] ليس بالأمر الجيّد، ولكنّه لا يُنشئ عداوةً أو خصومة، إنّه مجرّد أمر سيّئ؛ ولكن تارة أخرى، لا. بل ترى حكومةٌ ما، أو شخصٌ ما، أو مجموعةٌ ما، أو متغطرسٌ ما، نفسَه أعلى من الآخرين، ويمنح نفسه الحق في أن يعتدي عليهم وعلى مصالحهم الحيوية، وأن يُملي عليهم الواجبات والتكاليف؛ وعليه الاستكبار أمرٌ سيّئ. إن حكومة ما - لنفترض أنها كانت بريطانيا في مدة ما، واليوم هي أمريكا - تمنح نفسها الحق في أن تنشئ - مثلاً - عشر قواعد عسكرية في ذلك البلد الذي ليس لديه حكومة قوية أو شعب واعٍ، وأن توفر لنفسها الإمكانات، وأن تأخذ نفطهم، وتستولي على مصالحهم، وتنهب ثرواتهم الباطنية؛ هذا هو الاستكبار؛ الاستكبار الذي نكرهه، الاستكبار الذي نتحدث عنه، الاستكبار الذي نهتف ضده، هو من هذا النوع.

حسناً، لقد واجهت بلادنا استكبار الحكومة الأمريكية؛ فقبل الحرب العالمية الثانية، لم تكن الحكومة الأمريكية دولة تعتدي على هذا وذاك؛ ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الحكومة الأمريكية دولة مستكبرة بالمعنى ذاته الذي ذكرناه؛ تتدخل في كل مكان، تمتد يدها إلى كل مكان، تدخل في كلّ شأن، وحيثما تقتضي مصالحها، وبأي وسيلة كانت - تارةً بالغضب والتجهّم، وأخرى بالابتسامة، وأحياناً بالقوة، وأحياناً بالرشوة - تغلب مصالحها على مصالح الشعوب. إذاً، هذه هي حال أمريكا. لقد شاء القدر أن تقف أمريكا في هذه المدة بالتحديد - المدة التي هي محل نقاشنا، وهي مدة العامين 1356 و1357 هـ ش (1977 و1978) وتلك الأوقات - في وجه الجمهورية الإسلامية مع حدوث الثورة الإسلامية. طبعاً، نحن الإيرانيون كان لدينا سجل سابق مع أمريكا؛ أي لم يكن الأمر أننا لم نعرف الطبع الاستكباري لأمريكا؛ بلى، لقد عرفنا أمريكا منذ «28 مرداد» (19/8/1953).

إنّ حادثة «28 مرداد» هي حادثة مهمة. انظروا، دعوني أقول كلمة بشأن «28 مرداد»؛ لا يزال كثيرون لا يدركون أهميّة انقلاب «28 مرداد» والضربة التي وجّهها إلى إيران، ولا يلتفتون إلى ذلك؛ إنّهم يعرفون فقط اسم «28 مرداد» وأنّ انقلاباً قد حدث [يومها]. إنّ بلدنا منذ ما بعد الثورة الدستورية وحتى حوالى أربعين عاماً، كان إما غارقاً من الفوضى والاضطرابات أو رازحاً تحت تعدّيات الحكومات الأجنبيّة، أو مبتلىً باستبداد وديكتاتوريّة رضا خان الغليظة التي لا تعرف الرحمة، على مرّ حوالى 42 عاماً تقريباً، أي إن الشعب الإيراني كان يعيش في مثل هذا الوضع طوال هذه العقود. في عامي 1328 و1329 هـ ش (1949 و1950)، حصلت أحداث في البلاد وساعدت عناية الله أيضاً، فتشكّلت حكومة وطنيّة للمرّة الأولى في البلاد، وهي حكومة مصدق؛ لقد كانت حكومة وطنية. تشكلت الحكومة الوطنية، ووقفت في وجّه البريطانيّين - كانت بريطانيا آنذاك في الواقع ملكة العالم؛ كانت أعلى وأقوى وأكبر من القوى جميعها - واستعادت نفط البلاد الذي كان عملياً متاحاً للبريطانيّين بالمجّان، وأخذت هذا النفط من البريطانيّين و«أمّمته» - وفق تعبير ذلك اليوم - أي وضعته تحت تصرف حكومتنا، وتشكّلت حكومة وطنية في البلاد.

من سنة 1329 إلى سنة 1332 ه.ش. (1950-1953)، أي في هذه السنوات الثلاث، ضغطت مؤامراتُ بريطانيا وحلفائها بشدة على هذه الحكومة لإسقاطها. ارتكب مصدّق سذاجةً وغفلةً؛ إذْ قصدَ الأمريكيين للتخلّص من شرّ البريطانيين وطلب منهم العون، فابتسم له الأمريكيون. طبعاً، كانت هناك سوابقُ «مبدأ ترومان الرابع» وأمثاله ممّا جعله يظنّ أنّ أمريكا ستساعده. ابتسم الأمريكيون لمصدّق، ولكن من وراء الستار، وبغفلته وغياب انتباهه، تواطؤوا مع البريطانيين، فأطلقوا انقلاباً أسقطوا به الحكومةَ الوطنيّة التي كانت قد تشكّلت بعد أربعين سنة، وأعادوا الشاه الذي كان قد فرّ من البلاد. كانت هذه ضربةً قاسيةً على الشعب الإيراني. هذه هي [قضية] «28 مرداد»، أي إنّ حكومة منتخبة من الشعب، ولم تكن تريد أن تخضع لبريطانيا أو للاستعمار الأجنبي، وأرادت أن تكون حكومةً وطنيّة، أطاح بها الأمريكيون بمختلف أساليب الخداع وقضوا عليها. لقد وجّه الأمريكيون ضربةً قاسيةً إلى الشعب الإيراني. هذه هي [قضية] «28 مرداد». منذ ذلك الحين عرف الشعب الإيراني أمريكا، وعرف كم هي كيانٌ خطيرٌ على البلاد. لذلك نحن نعرف أمريكا منذ «28 مرداد»، ولم تكن جديدةً علينا. ما أريد قوله هو أنّه بعد حدوث الانقلاب، حين أعادوا محمد رضا الفارّ إلى البلاد، وطوال خمسةٍ وعشرين عاماً من الديكتاتورية القاسية والمتشددة مع الشعب، كانت أمريكا دوماً داعماً لمحمد رضا، وسنداً له، ومصدر تشجيعه.

ثمّ إنّ هذا العدوّ الحقيقيّ للشعب الإيرانيّ كانت له سفارة هنا؛ العدوّ الحقيقيّ للشعب الإيرانيّ. عندما انتصرت الثورة، كان الأمريكيّون أوّل من عارضها؛ ففي مجلس الشيوخ الأمريكيّ، صُودِق على قرارٍ ضدّ الشعب الإيرانيّ وضدّ الثورة. بعد ذلك سمحوا لمحمد رضا بالدخول إلى أمريكا، وأسكنوه في مستشفى من أجل العلاج، ولكنّ الأجهزة السياسيّة والأمنيّة كانت على اتّصال معه. أدرك الشعب الإيرانيّ ذلك، فغضب الناس وخرجوا إلى الشوارع في تظاهراتٍ ضدّ أمريكا. لماذا؟ لأنّهم شعروا بأنّ ما حدث في «28 مرداد» سيتكرّر، وأنّ نقل محمد رضا إلى هناك إنّما هو تمهيدٌ لإعادته إلى إيران بشتّى الأساليب التي يجيدها الأمريكيّون.

لقد غضبَ الناس وخرجوا إلى الشوارع وتظاهروا، وكان جزءٌ من تلك التظاهرات حركةَ الطلّاب الذين دخلوا السفارة وسيطروا عليها. طبعاً، لم يكونوا ينوون البقاء في السفارة، فليلتفت الجميع إلى هذه النقطة. لم يكن الطلاب يرومون البقاء في السفارة، إنما أرادوا أن يُظهروا للعالم مدى غضب الشعب الإيراني من سماح أمريكا بدخول الشاه إليها، فقط لا أكثر. كانوا يريدون البقاءَ ليومين أو ثلاثة فقط ثمّ الخروج، كان هذا ما يرومون فعله. لكنّهم عندما دخلوا السفارة، عثروا هناك على وثائق كشفت لهم أنّ المسألة أعمقُ بكثير من هذا الحدّ، وأنّ الأمرَ ليس مجرّدَ قرارٍ صادرٍ عن مجلس الشيوخ الأمريكي؛ بل كانت السفارة مركزاً للتآمر والتخطيط لإسقاط الثورة. أي إنهم كانوا يعملون على المؤامرة فعلاً حتى ينفذوا مخططاتهم، والسفارة لم تعُد سفارةً. طبعاً، السفارات كلها لديها مركز استخباراتي، يجمع المعلومات عن البلد؛ فالسفارة المتواجدة في أيّ بلد لديها مركز استخباراتي لجمع المعلومات وإرسالها إلى بلدها. ليست هنا الإشكالية. لكنّ مشكلة السفارة الأمريكية لم تكن هذه؛ مشكلة السفارة الأمريكية هي أنها كانت غرفة تآمر على الثورة الإسلاميّة: يلتقون بالأفراد ويحرّضون الأشخاص، يؤسّسون تنظيمات ويستغلون الساخطين من فلول النظام السابق، ويحاولون حشد الجيش، إن أمكنهم ذلك، لإنجاز عمل ضد الثورة الإسلامية. لقد أدرك [الطلاب الجامعيّون] هذا الأمر؛ وعندما أدركوا هذا، بقوا في السفارة.

أما أن نقول «لماذا سيطروا على السفارة؟ ومشكلتنا مع أمريكا بدأت من هنا»، فهذا ليس كلاماً دقيقاً في رأيي. أولاً، مشكلتنا مع أمريكا لم تنشأ من قضية «13 آبان» (4/11/1979)، بل نشأت من «28 مرداد»، فمعارضة الشعب الإيراني لأمريكا تعود إلى ذلك الوقت. ثانياً، كان «13 آبان» في الواقع كشفاً لمؤامرة وخطر كبير على الثورة الإسلاميّة فعلها الطلاب – سلمت أيديهم - إذْ تمكنوا من جمع الوثائق؛ وتكبّدوا عناء كبيراً في جمع هذه الوثائق التي كانوا قد ألقوها في آلة التلف، لمعرفة ما كان يحدث داخل السفارة.

لم تكن أمريكا تطيق الثورة، لأنّ الثورة اقتلعت من حلقها لقمة سائغة. كانت لقمة لا نظير لها في تصرّف أمريكا: كانت إيرانُ كلّها خاضعةً لهيمنة أمريكا وتسلّطها؛ كانوا ينهبون نفطها وثرواتها الباطنيّة ومقدّراتها وأموالها، ثمّ يبيعونها السلع التي يريدونها هم وبالأسعار التي تروق لهم. هكذا كان الوضع، ثمّ انتُزع ذلك كلّه من يد أمريكا. الثورة الإسلاميّة تصدّت لأمريكا. لم يكن الأمريكيون مستعدين لكفّ يدهم بهذه السهولة. لذا بدأت المؤامرات، وبدأت أمريكا تحريضها ضد الشعب الإيراني منذ بداية الثورة الإسلاميّة. ضد الشعب الإيراني! ليس فقط ضد الجمهورية الإسلامية، بل بدأت [التحريض] ضد الشعب. بدأت بقطع العلاقات، إذْ كانت المبادرة لقطع العلاقات من جانب أمريكا أولاً. ثم شرعت في فرض الحظر، ثم توالت مختلف الممارسات الأخرى تباعاً. حقاً، إنّ كل من يستحضر ما فعلته أمريكا على مدى هذه السنوات، أي من يتذكر ولا ينسى، سيدرك حقانية مقولة الإمام [الخميني]: «صبّوا جام غضبكم فوق رأس أمريكا».

لم تقتصر عداوةُ أمريكا لإيران على العداء اللفظيّ، ولا اقتصرت على الحظر فحسب، بل كانت عداوةً عمليّة. دَبّر الأمريكيّون ما استطاعوا من مؤامرات ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، ودعموا أعداءها الفعليّين بكلّ ما أمكنهم، ووجّهوا إلى مصالح الشعب الإيرانيّ كلَّ ضربةٍ استطاعوا إليها سبيلاً. إن الطبيعة الاستكبارية لأمريكا لم تكن منسجمة مع طبيعة الثورة الإسلاميّة التواقة للاستقلال. ما أرغب في قوله هو: إن الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا ليس خلافاً تكتيكياً أو عرَضاً، بل هو خلاف جوهري. تُسقط أمريكا طائرة الركاب الإيرانية وعلى متنها 300 مسافر في البحر عندما تستطيع ذلك. تدفع أمريكا شخصاً مثل صدام إلى الهجوم على إيران وتقدم له أنواع الدعم كافة عندما تستطيع ذلك. تشن أمريكا هجوماً مباشراً على البلاد عندما تستطيع ذلك. تمارس أمريكا أنواع الأعمال الدعائية جميعها ضد الجمهورية الإسلامية عندما تستطيع ذلك. تفعل أمريكا كل شيء عندما تستطيع ذلك. هذا هو واقعُ المواجهة والصراع بين الجمهوريّة الإسلاميّة وأمريكا.

بعض الأشخاص يقلبون التاريخ رأساً على عقب، ويعدّون الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا نابعاً من شعاركم هذا: «الموت لأمريكا»! إنها لسذاجة أن يتصور المرء أن مجرد إطلاق شعب ما شعار «الموت لأمريكا» يدفع ذلك العدو للمقابلة بمثل هذا العداء. كلا، فشعار «الموت لأمريكا» ليس بتلك الأهمية التي تجعل الأمريكيين يعارضون إيران ويواجهونها وينازعونها بسببه. القضية هي قضية خلاف جوهري، وتباين جوهري. القضية هي قضية تعارض مصالح تيارين، تيار أمريكا وتيار الجمهورية الإسلامية.

يتساءل بعض الأشخاص: حسناً، نحن لم نرضخ لأمريكا، ولكن هل يعني هذا أن القطيعة مع أمريكا أبديّة؟ هل سنبقى معارضين لأمريكا إلى الأبد مثلاً؟ الجواب؛ أولاً إن الطبيعة الاستكبارية لأمريكا لا تقبل شيئاً سوى الاستسلام. هذا ما يريده الرؤساء الأمريكيون جميعهم ولكنهم لا يصرحون به. لكن هذا الرئيس الحالي صرّح به، فقال: «على إيران أن تستسلم». هذا في الحقيقة فضحَ باطن أمريكا. ما معنى استسلام أيّ شعب؟ كيف إذا كان شعباً مثل إيران، مع هذه القدرات وهذه الثروات كلها، وبهذه الخلفية الفكرية والمعرفية، وبهذا العدد كله من الشباب الواعين والمفعمين بالدوافع؟

طبعاً، لا يمكننا التكهّن بما سيؤول إليه المستقبل البعيد، ولكن على الجميع أن يدركوا أنّ علاج كثيرٍ من المشكلات اليوم هو في أن نصبح أقوياء، يجب تعزيزُ قدرة البلاد. ينبغي أن تؤدّي الحكومة واجباتها في القطاعات المختلفة بكلّ قوة، وأن تواصل القوّات المسلّحة مهمّاتها باقتدار، وأن يُقبل الشباب على التعلّم والتقدّم العلميّ بعزمٍ راسخ. إذا أصبحت البلاد قويّةً وشعرَ العدوّ بأنّ الصدام مع هذا الشعب القوي لن يجلب له نفعاً بل خسارة، عندها ستغدو البلاد حصينة، بلا شكّ. القوّة العسكريّة ضروريّة، والقوّة العلميّة ضروريّة، وقوّة الإدارة الوطنيّة ضروريّة أيضاً؛ يجب إنجازُ هذه الأمور كلّها، كما ينبغي أن تحافظوا أنتم الشباب على قوّة الدافع لديكم. أي، لا تفقدوا هذا الدافع، ولا تسمحوا بانطفاء هذه الروح.

يقول الأمريكيون أحياناً، وليس دائماً، إنهم يرغبون في التعاون مع إيران. إنّ التعاون مع إيران لا ينسجم مع التعاون وتقديم العون للكيان الصهيوني الملعون. الكيان الصهيوني الملعون، بهذا الوضع الذي شاهده وأدركه وأدانه العالم بأسره أخيراً، تساعده أمريكا، وتسانده أمريكا، وتدعمه أمريكا. في ظل هذا الوضع، لا معنى للتعاون مع إيران، وهو أمر غير مقبول. نعم، إنْ تخلّت أمريكا تماماً عن دعم الكيان الصهيوني، وسحبت قواعدها العسكرية من هذه المنطقة، وكفّت عن التدخّل في شؤونها، عندئذٍ يمكن بحث هذا الأمر؛ هذه المسألة ليست مطروحة الآن، ولا في المستقبل القريب.

ما أريد أن أقوله لكم أيها الشباب الأعزاء هو هذا: أولاً، زيدوا من معرفتكم وإلمامكم واطلاعكم على القضايا السياسية الأساسية لبلادكم في الأمس واليوم والغد. حلقات المعرفة هذه التي ذكرتها: دراسةٌ بالمعنى الحقيقي للكلمة عن ماضي البلاد والأحداث التي حدثت، والمواضع التي خسرنا فيها، وتلك التي ربحنا فيها، وتلك التي أظهرنا فيها ضعفاً، وتلك التي أظهرنا فيها قوة، ونتائج كل واحدة من هذه المواضع. ثم، يجب أن يتقدم العلم في البلاد. قبل بضع سنوات، كانت حركةُ التقدّم العلميّ عندنا تسير بخطى جيّدة جداً، أمّا الآن، فقد شهدت شيئاً من التراجع. أودّ أن أقول للمسؤولين في الجامعات والباحثين والطلّاب في أنحاء البلاد: لا تسمحوا لهذا التقدّم العلميّ أن يتراجع، فسرعةُ التقدّم ضروريّةٌ لنا. يجب أن تمضي البلاد قدماً في الميدان العلميّ، وكذلك في الميدان العسكريّ، وبتوفيق من الله، فإنّ قوّاتنا المسلّحة تعمل ليلاً ونهاراً، وتبذل جهدها، وستتقدّم أكثر، إن شاء الله. ستتمكّن البلاد، بفضل الله، من أن تُثبت قوة شعبها، ولن تستطيع أيّ قوّة، مهما بلغت قدراتها، أن تُخضع الشعب الإيراني وتجبره على الاستسلام، والله المتعالي سيعينه.

عززوا ارتباطكم بالله؛ عبر الصلاة والقرآن والأنس بالحقائق الدينية، لتجتذبوا العون الإلهيّ، ولتصنعوا غداً أفضل لأنفسكم ولشعبكم، إن شاء الله.

والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.

في إشارة إلى القرار الرقم 164 الصادر في 8 أيار/مايو 1979 ضدّ إيران.

«صحيفة الإمام» (النسخة الفارسية)، ج. 11، ص. 121؛ خطابه في جمعٍ من حرس الثورة الإسلامية بطهران في تاريخ 25/11/1979.

في 3/7/1988، استهدفت المدمّرة الأمريكية «وینسنس» طائرة مدنية تابعة لجمهورية إيران الإسلامية كانت متجهةً من بندرعباس إلى دبي، فاستُشهد 290 راكبًا بينهم 66 طفلًا و53 امرأة. بعد مدّةٍ قصيرة، منحت الحكومة الأمريكية وسام الشجاعة لقائد المدمّرة، ويليام راجرز!

دونالد ترامب.