أولاً)

أتى رجل إلينا، بشيبته وعمامته السوداء، الذي كان أشبه برجل خرج من رحم الزمان وكتب التاريخ والقصص القديمة.

رجل كان كل شيء فيه مختلفًا. إنه مفجّر الثورة الإسلامية في إيران الذي اختار طريق المقاومة والصمود. لقد قاد الخميني معسكر المستضعفين ليحوّلهم من أمة مهمشة ومنكسرة إلى أمة شامخة ومنتصرة، وحوّل صموده إلي وصفة خالدة للمقاومة والكرامة والشجاعة، ومن دون أي شك لقد قاد ثورةً فريدةً في عصرنا الحالي لا نظير لها بمواصفاتها القيادية وأهدافها الدينية ومبادئها الأصيلة السامية.

 

ثانياً)

الإمام الخميني منذ بدء حركته الجهادية داخل إيران قبل انتصار الثورة الإسلامية وصف "إسرائيل" بـ«الغدة السرطانية»[1]، وكانت القضية الفلسطينية من أولوياته في مدة نضاله حتى انتصار الثورة. هذا الاهتمام يمتد على طول مدة جهاده بعد انتصار الثورة الإسلامية أيضًا، وصرّح بهذا الموقف مراراً في أكثر من مناسبة منذ بداية النهضة الإسلامية في إيران، وكانت القضية الفلسطينية من ثوابت كلماته: «الشعب الإيراني شعر بشعوره الإسلامي العميق أنّ ضياعَ فلسطين ضياعُ جزء من جسده. لهذا قدّم دائماً رغم تعاون الشاه المقبور مع الدول العميلة لـ"إسرائيل"، أسمى مشاعره الطاهرة إلى المناضلين الفلسطينيين. لقد عارضتُ على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً تعاون الشاه وحكومته مع "إسرائيل"». [الإمام الخميني| 15/12/1978]

بهذه المواقف رفرف العلم الفلسطيني مكان العلم الصهيوني في إيران وتحولت سفارة العدوّ إلى سفارة فلسطين وعُيّن أول سفير لفلسطين في إيران الثورة وتوقف تصدير النفط إلى الكيان وقُطعت العلاقات معه.

كما أعلن للقدس يومًا عالميًا لا تزال تحتفي به الشعوب في العالم كرمز من رموز الدعم القضية الفلسطينية. هذا  كله كان من أجل دعم الإخوة الفلسطينيين، ونراه بوضوح في كلماته: «نحن سنكون دومًا حماةً للإخوة الفلسطينيين والعرب»[2]، وأيضاً: «علينا أن ننهض جميعاً للقضاء على "إسرائيل" وتحرير الشعب الفلسطيني»[3].

 

ثالثاً)

بلغ الأمر إلى أننا نرى اليوم في الأدب الدولي السياسي مصطلحًا جديدًا، ونرى هذا المصطلح والمضمون كثيرًا في ما يقوله الأجانب! هو طريقة مقاومة الإمام الخميني، وتُحدِّث عن الثورة وإنجازاته ودعمه للقضية الفلسطينية في كل مكان، وهذه الرؤية لا تزال مستمرة في حقلَي الأدب السياسي والاجتماعي. على سبيل المثال تجب الإشارة إلى تأكيد القيادي في «حركة حماس»، أسامة حمدان، الذي قال إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران أخسر كيان الاحتلال الإسرائيلي حليفًا إستراتيجيًا وجعل إيران من أهم داعمي القضية الفلسطينية، وكان هذا تحولًا مهمًا في رفع الروح المعنوية على مستوى المنطقة[4].

بإمعان النظر في هذا المستوى، نرى متغيرات إقليمية ودولية منذ انتصار الثورة الإسلامية، وما تبع ذلك من تغيير في خارطة الواقع السياسي على مستوى المنطقة كلها.

في هذا الإطار، يرى ممثل حركة «الجهاد الإسلامي» في لبنان أن الثورة الإسلامية في إيران بارقة نصر أضاءت شعلة أمل للشعب الفلسطيني وأنارت درب المقاومة ومهّدت الطريق لتطور قدرات المقاومة الفلسطينية في مواجهة العدو الصهيوني.  

لقد أصبحت «إيران حجة على الدول كلها»!

 

رابعاً)

لقد أوضح الإمام الخميني في ما بعد أن القضية الفلسطينية ليست صراعًا علی حدود جغرافية، بل هي صراع عقائدي وحضاري وتاريخي بين الحق كله وبين الباطل كله. الحق كله الذي يمثله الشعب الفلسطيني ومن ساندوا قضيته في العالم جميعهم، والباطل كله الذي يمثله الكيان الصهيوني وداعموه جميعهم.

من وجهة نظر الإمام الخميني أن القضية الفلسطينية من القضايا التي لا تقبل المجاملة أو المهادنة أو أنصاف الحلول أو الطروحات المجزأة بأي صورة، كما لا يخفي بأن تحرير فلسطين كلها بحاجة إلى تضحيات كبيرة، وحسب قول سماحته يجب ألا يُلتفَت إلى حجم الخسائر التي يمكن أن نتحملها أثناء هذه المسيرة، و"إسرائيل" تطمح إلى أن تقيم لها دولة من النيل في مصر إلى الفرات في العراق[5]، لأن هذه الرقعة هي التي يعتقد اليهود أنها أرض الميعاد التي لا بد أن تكون تحت سيطرتهم، وأن يقيموا عليها دولتهم المزعومة.

في العصر الحاضر وبعد مرور 36 عامًا من رحيل الإمام الخميني،  يتأكد العالم من أن "إسرائيل" كيان لا يمكن السلام معه ولا يمكن لأي مواثيق أو عهود أن تبرم معه، لأنها دولة يهودية طامعة تطمح إلى الهيمنة الكاملة على الدول الإسلامية في مختلف المجالات، إنها كيان لا يحترم العهود، وعندما دخل في معاهدات مع الفلسطينيين والعرب، نقضها.

نرى اليوم أيضًا بأعيننا رؤيته الصائبة بكل وضوح عندما قال لنا إن "إسرائيل" تطمح إلى الاستيلاء على الحرمين الشريفين، علی مکة المکرمة والکعبة المشرفة والمدینة المنورة وليس فقط على القدس[6] ووفقا لتحذیر سماحته یتضح إن فلسطين والبلاد العربية والإسلامية كلها لن تسلم من شر الكيان الصهيوني إلا باستئصال هذا الكيان والقضاء عليه، وأي شيء غير ذلك إنما هو ضياع للوقت وإتاحة الفرصة لـ"إسرائيل" أن تتمكن أكثر وأكثر.

 

خامساً)

تنشر وسائل الإعلام كافة ما يفعله الكيان الصهيوني في داخل فلسطين من عملية إبادة وتدمير البيوت واقتلاع أشجار الزيتون من مزارع الفلسطينيين. نسمع ذلك كله ونراه على مرأى العالم ومسمعه عبر وسائل الإعلام الدولية. لكن لا نسمع ونرى رؤية عملية أو حلاً صحيحاً لإنقاذ الفلسطينيين والأمة من الكيان الصهيوني المجرم.

سبب ذلك هو أن مشكلة الشعوب في حكوماتها التي لم تقف بجدية ضد "إسرائيل" كما قال الإمام الخميني، ولكن هذا لا يعد مبررًا! لأن اليوم تحولت إيران إلى جمهورية إسلامية حصينة و متمردة علی أنواع الهيمنة الاستعمارية كلها، ومنذ رحيل الإمام المؤسس، خليفته وشريك مشروعه الثوري المتميز الإمام الخامنئي يجيد رسم خطوط ثورته وتجديد فحواها ويحمل بصماته وروحه المعنوية، وإنه بفكره التحرري يرى في اتحاد الأمة الإسلامية منفعة عظيمة بما فيه من إحلال الأمن وتحقق التقدم والاستقرار، ويقول إنه لو كان الناس غير مشتتين، لكانت قضايا غزة وفلسطين والضغوط على اليمن حاليًا لم تحدث[7].

لا يجوز للمسلمين أن يتخلوا عن جهادهم في سبيل إزالة هذه الغدة السرطانية الخبيثة! والحل الوحيد في الوحدة والمقاومة!

 

سادساً)

بناءً علی ما ذُكر، إن الإمام الخميني لم يكن مفجر الثورة الإسلامية في إيران فحسب، إنما هو مفجر الفكرة التي تقول «إن "إسرائيل" يجب أن تمحى من الوجود» ومؤسسها!

لقد نبّه الإمام إلى ضرورة ألا يتهاون المسلمون أو يتقاعسوا عن فعل ما من شأنه تغيير الواقع المأساوي في فلسطين كله وألا يكتفوا بالأقوال والخطابات فقط، فيما أعداء الأمة يعتمدون على الحركة والمبادرة.

في النهاية، أقول بلسان الإمام الخميني وليس بلساني، وبكتابته وليس بكتابتي، وبنبوءته وليس بنبوءتي، إنه لا وجود لدولة "إسرائيل" في عقيدتنا ولا مستقبل لها بين الشعوب. هذا أيضًا مما صرح به خليفته، الإمام الخامنئي، عن زوال الكيان الصهيوني في غضون 25 عاماً.[8]

خليفته وبقيادته الفذّة التي تقود هذه السفينة بعد رحيل أعظم شخصية في التاريخ المعاصر، ورغم الأمواج العاتية والتهديدات والتحديات التي واجهتها إيران منذ انتصار الثورة، جعل الجمهورية الإسلاميّة تقود مسيرة الدفاع عن المظلومين ودعم المستضعفين ونصرة الفقراء والمحرومين، ودعم فلسطين وشعبها بما تمتلكه كله.

علينا ألا ننسى أنه ما لم تنهض الشعوب الإسلامية والمستضعفون في العالم ضد الاستكبار العالميّ ومن يدور في فلكه، وخصوصاً "إسرائيل" الغاصبة، فإنّ أولئك لن يسحبوا أيديهم المجرمة عن الدول الإسلاميّة.

في الخاتمة، علينا أن نقول وفي ذكرى رحيل ذلك الرجل العظيم بشيبته وعمامته السوداء: يا خميني، بوركت يداك على ما تركته لنا من مقاومة ونضال!

 


[1] . صحیفة الإمام، ج 10، ص 159.

[2] . صحيفة الإمام، ج 5، ص 139.

[3] . صحیفة الإمام، ج 12، ص 148.

[4] . أسامة حمدان في حديث لبرنامج "ضيف وحوار"، قناة العالم الاخبارية 2/2/2022.

[5] . صحیفة الإمام، ج 19،ص 32.

[6] . صحیفة الإمام، ج 16، ص 109.

[7] . كلمة الإمام الخامنئي في لقاء مع القيّمين على شؤون الحج 4/05/2025.

[8] . کلمة الإمام الخامنئي في لقاء مع مختلف فئات الشعب 9/9/2015.