في ما يلي نضع بين أيديكم نصّ جلسة المناقشة الافتراضيّة التي جرت مع المتخصص في الشأن الإسرائيلي الأستاذ علي حيدر ضمن سلسلة المناقشات التي تحمل عنوان «رواية النصر» وتمّ فيها إجراء قراءة في خطاب الإمام الخامنئي عقب انتهاء الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 

بعد يومَيْن من وقف إطلاق النار، ووسط ما كان يُشاع كله عن تغيّب الإمام الخامنئي عن الأنظار، في ظلّ التهديدات الإسرائيليّة له؛ أطلّ القائد بكلمة متلفزة ثالثة يُعلن النصر للشعب الإيراني ليس فقط على الكيان الصهيوني، بل وعلى النظام الأمريكي، وقدم رواية الجمهورية الإسلامية عن هذه المعركة. ما أصداء هذه الكلمة على مستوى الكيان الصهيوني؟

أهمية موقف الإمام الخامنئي في رسم ملامح ما بعد الحرب
في ما يتعلق بأصداء كلام الإمام الخامنئي، لا بد من التوضيح بداية بأن الحرب التي شُنّت على الجمهورية الإسلامية تندرج ضمن إطار الحروب غير المكتملة، بمعنى أن الحرب لم تؤدِّ إلى نتائج حاسمة بالنسبة إلى الطرفين. صحيح أن العدو قد استطاع أن يحقق بعض الإنجازات التكتيكية هنا وهناك وبعض الإنجازات المهمّة، ولكنها لا ترتقي إلى مستوى الأهداف التي طمح أو كان يطمح إليها الأمريكي والإسرائيلي. من هنا تبرز أهمية مفاعيل هذه الحرب على صناع القرار وعلى رأس الهرم، لأن موقفه سيحدد اتجاهات الأحداث واتجاه التطورات، وتزداد أهمية الموقف الذي سيتخذه وسيعلنه وسيقدم عبره هذه الحرب للرأي العام الداخلي وللخارج، تزداد أهميته انطلاقاً من هذه المعطيات.
لذلك فقد كان موقف الإمام الخامنئي - دام حفظه - عاملاً أو محطة تأسيسية لمرحلة ما بعد الحرب، أولاً لجهة إظهار بعض الجوانب الأساسية المتصلة بهذه الحرب في الداخل، وحتى التهنئة التي هي في ظاهرها تهنئة - وهي كذلك - ولكنها تعكس شعوراً بالنصر وإدراكاً بأن هناك إنجازاً كبيراً قد تحقق شاركت به القيادة والقوات المسلحة والشعب الإيراني.

فشل الرهانات الأمريكية والإسرائيلية واستمرار المواجهة
أضف إلى أن المطلب الأساسي الذي كان ينتظره العدو الأمريكي والإسرائيلي من نتائج هذه الضربة على مؤسسة القرار هو الموقف من الشروط الأمريكية. في المناسبة، اطلعت على كواليس اتخاذ القرار في كيان العدو - من أحد أهم الأهداف التي طُرحت هو أن تدرك القيادة الإيرانية بأن الهجوم الأمريكي الإسرائيلي نفسه وعلى النحو الذي شهدناه، أن يدركوا بأن المضي في هذا المسار سيكون مكلفاً لإيران وقد يؤدي إلى ردعهم.
لذلك من هنا كان موقف الإمام الخامنئي مهماً وأساسياً وحاسماً في تبديد هذا الرهان الأمريكي الإسرائيلي، لذلك أيضاً إن موقفه هو الأكثر حضوراً لدى جهات التقدير الاستخباري والسياسي ولدى جهات القرار السياسي والأمني في تل أبيب وفي واشنطن، وانطلاقاً منه أُعِدّ وهُيِّئ لمرحلة ما بعد الحرب التي شهدناها، ولكن باتجاه الأهداف نفسها.
في الأحوال كلها، المواقف التي أُعلنها الإسرائيلي والأمريكي لاحقاً تؤكد بما لا يدع مجالاً للبس أو الشك أن هذه المعركة لا تزال مستمرة وقد تشهد أشكالاً جديدة وقد تشهد مستويات من التصعيد. السبب بكل بساطة هو أن هذه الحرب فشلت في تحقيق أهدافها، بل قد تكون أسست لنتائج معاكسة لما طمحوا إليه أو لما كانوا يطمحون إليه من تحقيق أهداف.
انطلاقاً من ذلك كله، فقد شكل حضور ومخاطبة الإمام الخامنئي للشعب الإيراني وللقوى الخارجية عنواناً رئيسياً؛ شكل تتويجاً لمرحلة الحرب بنتائجها كافة وتأسيساً لمرحلة ما بعد الحرب، بانتظار ما ستؤول إليه النتائج.

 

غالبًا ما يكثر النقاش عن مفهوم النصر وكيفية قراءة النصر خاصة في الحروب المركبة، وغالباً ما تكون مرحلة ما بعد الحرب هي المرحلة التي يسعى فيها كل طرف إلى تثبيت روايته عن المعركة وإعلان نفسه منتصراً فيها. بالنظر إلى هذه الحرب، كيف يمكن أن نقرأ نتائج المعركة لدى أطراف المواجهة، على ضوء مفهوم النصر وأبعاده ومستوياته؟

معيار النصر بين وضوح الأهداف وفشل الحسم
بما أننا أمام نوع من المعارك لا يوجد فيه حسم، لذلك لا تكون النتائج صريحة وواضحة وحاسمة على نحو - على الأقل لبعض الناس ممن يريدون تزوير الحقائق - قابل للتحوير، انطلاقاً من الميزة التي أشرت إليها. طبعاً غياب الحسم هو نتيجة عجز الأمريكي والإسرائيلي وفشلهما في هذا الإطار.
لكنْ هناك معيار يتفق عليه العقلاء من غير المتخصصين وحتى من المتخصصين لتحديد النصر - ما إن كان قد تحقَّق نصر أم لا - وهو: هل تحققت الأهداف من هذه الحرب أم لا؟ بكل بساطة. نستطيع أن نتخذ هذا المعيار في المشكلات الفردية وفي المشكلات الجماعية وفي صراع الحق والباطل وفي صراع الدول وإلى آخره، وفي المستويات كلها ولا يختلف عليه اثنان في هذا المجال.
العدو جاهر بعدد من الأهداف ولمّح إلى أهداف: جاهر بالقضاء على البرنامج النووي الإيراني، وجاهر بالقضاء على القدرات الصاروخية الإيرانية، ولكنه ألمح على نحو شبه صريح إلى مسألة تغيير النظام. أريد أن أذكر النقطة الأخيرة: أساسًا حجم الضربة وحجم الحرب وحجم الأهداف التي اختيرت، والتي نجحت والتي لم تنجح، يؤشر إلى أن المسألة لم تكن مجرد ضرب قدرات صاروخية أو ضرب برنامج نووي.
حتى أن نتنياهو نفسه قد قال بصريح العبارة إن أهدافنا هي كذا وكذا وكذا ونتيجتها إسقاط النظام، وفي مناسبة أخرى رجح إسقاط النظام نتيجة لهذه الأهداف، ما دام يسعى ويريد أن يحقق أهدافاً محددة ويعرف مسبقاً بأن هذه يترتب عليها إسقاط النظام، معنى ذلك أن الهدف إسقاط النظام، خاصة إذا ما لمسنا ذلك على مستوى الواقع والفعلي.

إسقاط النظام: الهدف المسكوت عنه في الظاهر والحاضر في العمق
أما السؤال: لماذا لم يعلنوا عن نيتهم إسقاط النظام؟ فهذا جزء من التكتيك السياسي، أولاً حتى إذا لاقاه بعض أعضاء النظام في الجمهورية الإسلامية في الداخل، ألا يبدو وكأنهم ينفذون إستراتيجية إسرائيلية باعتبار أن الإسرائيلي أعلن إسقاط النظام وهؤلاء تحركوا في هذا السياق، معنى ذلك أن القصة مفضوحة، يعني محاولة التخفيف منها.
ثانياً، إذا لم يسقط النظام، سينطبع في الأذهان أن الهدف المباشر والرئيسي كان إسقاط النظام ولم يسقط النظام، وبالتالي تصبح النتيجة صريحة وواضحة وغير قابلة للتأويل في مسألة فشل الحرب وانتصار الجمهورية الإسلامية، لهذه الاعتبارات أبقوا مسألة إسقاط النظام هي مسألة يشوبها نوع من الغموض المدروس.
لكن الواقع - كما أشرت ومن يدقق في المواقف يصل إلى نتيجة واضحة - يعني ما معنى أنك تقول إنني أريد أن أحقق هدفاً، اثنين ثلاثة، ونتيجته ستؤدي إلى نتيجة أخرى؟ معنى ذلك أنك تسعى إلى النتيجة الأخرى في هذا الإطار وأنك تدرك أنها ستحقق النتيجة الأخرى بتقديرك، إضافة إلى أن "إسرائيل" لا تخفي طوال العقود السابقة أن مشكلتها مع نظام الجمهورية الإسلامية، يعني من الطبيعي أن يكون هدفها ذلك. أضف إلى أن الولايات المتحدة لم تترك مناسبة إلا وسعت إلى تحقيق هذه النتيجة منذ انتصار الثورة حتى الآن.
في الأحوال كلها، إذاً على مستوى إسقاط النظام وتغييره لم يتحقق ذلك وهذا واضح، بل العكس هو الذي حدث. يعني ليس فقط أن هذه النتيجة لم تتحقق، بل الذي حدث أن النظام جدد هويته الثورية وجدد التفاف الشعب حوله وأظهر وحدة وطنية غير مسبوقة في مواجهة تهديدات الخارج باستثناء ما هنا وهناك في هذا الإطار.

فشل الأهداف الاستراتيجية الثلاثة: الصواريخ، النووي، النظام
إذاً هذا على مستوى لم يتحقق الهدف الإستراتيجي الحقيقي، وبالتالي إنّ صمود النظام وصمود الإيراني في مواجهة هذا الهدف يشكل انتصاراً ويشكل فشلاً للعدو الإسرائيلي.
أما على مستوى البرنامج النووي الإيراني بالكواليس أيضاً - على فكرة كلمة كواليس هم استخدموها في كيان العدو، كواليس اتخاذ القرار ، ما المراحل التي مر بها اتخاذ القرار وماذا كانوا يقولون في المداولات - هم منذ اللحظات الأولى كانوا يقولون: "إسرائيل" غير قادرة على تدمير البرنامج النووي الإيراني، وبالتالي علينا أن نسعى إلى تحقيق أهداف ما، وأمريكا ينبغي أن تتدخل في هذا الإطار.
الذي حدث - مشكلتهم مع البرنامج النووي الإيراني أنه برنامج وطني محلي، إنتاج ذاتي، يعني غير قابل للقضاء عليه بالأساس. يعني مثل أن يقول أحدهم أريد القضاء على علم الفيزياء في بلد ما، كيف أقضي على علم الفيزياء؟ أو على علم الكيمياء؟
لو كان الأمر مقتصراً على عدد من العلماء هنا أو هناك وأجهزة مستوردة من هنا أو هناك، نعم كان يمكن القضاء على البرنامج النووي الإيراني عبر تدميره كما حدث مع العراق في العام ألف وتسعمئة وواحد وثمانين، عندما كانت فرنسا تبني للنظام العراقي، دُمّر الموجود وفرنسا لم تعطه، انتهى البرنامج النووي العراقي.
أما في إيران، فالمسألة - أنا آخذ الحد الأقصى - بما أنها إنتاج ذاتي وتطوير ذاتي والبنية التحتية موجودة وهناك نتائج ملتبسة ببعض المنشآت في هذا الإطار، في الأحوال كلها البرنامج النووي الإيراني لم يُقضَ عليه. الدليل الأبلغ في هذا الاتجاه، هم يهددون إيران بأنها إذا أرادت تطوير البرنامج النووي الإيراني وترميمه والانطلاق به من جديد سيواصلون الضربات، معنى ذلك أنّهم يقرّون أن هناك تدميراً للبرنامج الإيراني، إذاً هذا الهدف لم يتحقق.
على مستوى القدرات الصاروخية، أعتقد أن الصواريخ وتواصلها حتى اليوم الأخير واللحظة الأخيرة كافيان للدلالة على فشل هذا الهدف، خاصة أنه لو لم تكن صواريخ إيران فعالة في هذا الإطار – في المناسبة - لما أوقفوا الحرب، ولكانوا فعلوا بإيران كما فعلوا في اليمن عندما استمرت الحرب عليها سنوات عدة إلى أن طورت صواريخها واستطاعت أن تؤدي إلى تغيير نتائج المعركة.
لو استطاعوا أن يقضوا على القدرة الصاروخية الإيرانية - حتى غالبية القدرة الصاروخية لإيران  - كانت إيران في موقع المتلقي وليس في موقع الرد، وعندها لا يوجد أي تكلفة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، يوجهون إليها الضربات حتى تستسلم.
إذًا، الأهداف الرئيسية الإستراتيجية الثلاثة التي تشكل معياراً - من القدرة الصاروخية إلى البرنامج النووي إلى تغيير النظام - كلها لم تتحقق، وانطلاقاً من هذا المعيار نخلص إلى نتيجة واضحة بأن هذه الحرب كانت حرباً خاسرة بالنسبة إلى الإسرائيلي والأمريكي، وبالنسبة إلى إيران شكلت ضربات لها تستخلص عبراً منها من أجل المرحلة المقبلة وتنطلق من جديد في رؤية جديدة وفي تحصينات جديدة وتكتيكات جديدة ووفق آفاق جديدة.

 

إحدى السرديّات التي حاول العدوّ الإسرائيلي ترسيخها بعد وقف إطلاق النار، هي نجاحه في تحقيق الأهداف التي شنّت الحرب من أجلها. مثال عليه ما جاء في تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: «حققنا نصرًا تاريخيًا سيبقى لأجيال. أزلنا تهديدين مباشرين: التهديد النووي وتهديد العشرين ألف صاروخ باليستي. واجهنا الفناء». كيف يقرأ العدو بتياراته المختلفة الحرب، بلحاظ الأهداف ومسار المعركة والنتائج؟
في الواقع هناك أشرت أنت إلى مسألة مهمة جداً. الإسرائيلي يسيطر على السردية على نحو كبير ورسمي في الداخل الإسرائيلي وهو لا يستطيع أن يتحدث عن مسألة، لا يستطيع أن يقدم الحرب على أنها فشلت منذ الآن لأن ذلك سينعكس على صورة الردع الإسرائيلية وعلى صورة الردع الأمريكية، وسينعكس ذلك سلباً داخل الجمهور الإسرائيلي انطلاقاً من أن نتنياهو ورط "إسرائيل" في خيار لم يحقق الأهداف المرجوة منه، وفي الوقت نفسه دفع أثماناً كبيرة وربما يكون قد دفع إيران إلى سيناريوهات وخيارات أكثر خطورة نووية مستقبلاً.
انطلاقاً من ذلك، هم لا يزالون يحافظون على سردية تحاول أن تهيمن على الرأي العام، ولكنه ومنذ الآن بدأت الأصوات لبعض الخبراء الذين يشككون في هذه الرواية، من ضمنهم وزير الدفاع السابق أفيجدور ليبرمان الذي حذر ورفع الصوت عالياً بأن ما حدث يشكل خطراً في هذا الاتجاه، إضافة إلى بعض الأصوات الهادئة المهنية التي حذرت مما جرى.
قالت إنه في حال لم تُخضَع إيران أو يُدمَّر البرنامج النووي الإيراني على الأقل، يجب أن نكون قد حققنا نتيجة لكي تكون معتبرة، لكي نكون قد أبعدنا إيران سنوات إلى الوراء، وإلا فإنني لن أكمل هنا، وإلا ستكون النتيجة كارثية عليهم، وهذا ما ستثبته الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة، بأن ما يأملونه ويطمحون إليه لم يتحقق.
أضف إلى أن أداءهم ومواقفهم تؤشر إلى أنهم ضمناً يدركون ذلك، ولذلك تجد أنهم يحذرون ويهددون، من ترامب إلى نتنياهو. ما داموا مطمئنين بأنهم انتصروا ودمروا البرنامج النووي، فما الداعي للتهديدات؟ إذا كان كل شيء قد انتهى؟ إذا لم يعد هناك برنامج نووي وانتهى البرنامج النووي، لماذا تواصلون التهديد؟ انتهينا، لماذا تطالبون بالمراقبين؟ لم يعد هناك برنامج نووي. لذلك أداؤهم يكشف كذبهم، ولكنهم لن يطيلوا الوقت حتى تتبدد هذه السردية.

 

شهدت الجبهة الداخلية في هذه الحرب مشهداً غير مسبوق، لناحية الدمار والخسائر التي لحقت بمراكز الثقل الاستيطاني، ومن المعلوم حجم التعتيم الذي مارسته الرقابة على ما ينشر عن الحرب في الداخل الإسرائيلي. بناء على متابعتكم، ما هي انعكاسات هذه الحرب على كيان العدو خاصة على مستوى الجبهة الداخلية ووعي المجتمع الاستيطاني والتداعيات الاجتماعية المحتملة لذلك؟

تفوق إيراني على منظومات الاعتراض الغربية
في الواقع، مما حققته إيران في هذه الحرب أنها انتصرت على منظومة الاعتراض الصاروخي للمعسكر الغربي بأكمله، من اطلع لو قليلاً على المراحل التي يمر بها الصاروخ الإيراني منذ انطلاقه من إيران وصولاً إلى فلسطين، يجد بأن هناك شبكة إنذارات ومحاولات اعتراض تبدأ من الخليج وتمر بالعراق والبحر الأحمر والأردن، وصولاً إلى فلسطين.
وعليه، إنّ الصاروخ الذي يصل يقطع هذه المحطات الموزعة كلها على هذه الدول كافة، ثم يصل إلى قلب الكيان، ونحن نتحدث عن محطات اعتراض وإنذار مبكر لحلف الناتو للولايات المتحدة الأمريكية، يعني نتحدث عن أحدث منظومات اعتراض في العالم.
هذا الإنجاز الكبير لإيران سيكون له بُعدان أو اتجاهان في الأبعاد: اتجاه داخلي إيراني بضرورة التركيز أكثر فأكثر على هذه القوة الصاروخية التي ثبتت جدواها وأنه من دونها لتحولت إيران إلى ساحة يستبيحها الأمريكي والإسرائيلي والأطلسي، إضافة إلى أن الشعب الإيراني رغم الأزمات الاقتصادية سيكون مهيئاً نفسياً وعملياً للقبول بالميزانيات كلها التي تتطلبها زيادة هذه المنظومة الصاروخية وترميمها وتطويرها، وهذا أمر مهم جداً في هذا الإطار.

تحوّل نوعي في معادلة الردع وضرب العقيدة الأمنية الإسرائيلية
من الجهة الإسرائيلية، ما فعلته إيران يتجاوز مجرد كونه اعتراض منظومة اعتراض، أولاً هو اعتراض لمنظومة الاعتراض وهو إنجاز، ثانياً تحويل الكيان الإسرائيلي بأكمله إلى ساحة حرب من شمال فلسطين إلى جنوب فلسطين، وهذه المرة الأولى تتحقق منذ ما بعد حرب الثمانية والأربعين، وهذه المرة الأولى مع أن إيران لم تستخدم قدراتها كلها وإنما اتبعت تكتيكاً تصاعدياً تدريجياً لأسباب شرحها في محلها.
ثالثاً إن أي قرار لاحقاً بمعاودة العدوان على إيران سيكون لهذا الأمر حضور جدي بعدما ثبتت فعالية الصواريخ الإيرانية وقدرتها على الاعتراض، لا أعني بذلك أنهم لن يكرروا، ولكنه سيصبح - إذا كان في البداية عن فعالية هذه الصواريخ هناك تقدير نظري وعملي على نحو محدود نتيجة عملية الوعد الصادق الأولى والثانية - الآن أصبح واضحاً لديهم في هذا الإطار.
رابعاً إن مسألة الردع التي تحدثت إيران عنها انطلقت إلى الناحية العملية، بمعنى لمن لا يعلم بأن استهداف تل أبيب ومنطقة تل أبيب بهذه الكميات الصاروخية وبهذا المستوى من الزخم الصاروخي هو أمر يشكل حتى وفق العقيدة الأمنية الإسرائيلية الجديدة خطاً أحمر. يعني أعطي مثالاً: الجميع يتحدث عن أن "إسرائيل" غيرت عقيدتها الأمنية، أصبحت على استعداد للدخول في حروب طويلة وكلام من هذا - هذا صحيح - ولكن حتى الذي وضع هذه العقيدة - اللواء يعقوب عاميدرور - وضع شرطاً ألا تُقصف تل أبيب حتى تستطيع "إسرائيل" الاستمرار في هذه الحرب الطويلة.
يعني هناك قيد حتى تستطيع "إسرائيل" - تستطيع أن تتلقى ضربات في الأطراف، مركز الثقل الاجتماعي السياسي الاقتصادي العسكري بالمعايير كلها يجب أن تبقى محيدة، الذي حدث أن إيران مباشرة بدأت بضرب تل أبيب وبقوة في هذا الإطار وأهداف مدروسة ومحددة ونقطوية، هذه مسألة أساسية جداً.
إضافة إلى ذلك، إن ضرب "إسرائيل" بهذا المستوى هو تحدي الولايات المتحدة الأمريكية. أنا من الذين تابعوا الرهانات الإسرائيلية منذ أكثر من عشر أو خمس عشرة سنة، النظرية الإسرائيلية كانت تقول - وحتى نتنياهو كان يقول - إن "إسرائيل" إذا ضربت النووي الإيراني وغير النووي، فإن الحضور الأمريكي والتلويح بالتدخل بردع إيران لأن أمريكا قادرة على تهديد النظام، أصل الرد الإيراني بهذا المستوى سقوط لهذه النظرية.  
وإلا تخيلوا معي العكس، لو أن إيران تراجعت أو ضربت الأطراف أو بوتيرة منخفضة، لا بوتيرة تصاعدية، ماذا كانت ستكون تداعيات ذلك على مجمل المعادلة الإقليمية وعلى مستقبل إيران؟ يكفي أن نفترض ذلك حتى تتبين النتائج. إذاً، بهذا البعد الإستراتيجي هناك شيء كبير جداً أُسّس له.

ترسيخ الردع وتحصين الجبهة الداخلية لما بعد الحرب
أعود وأذكر، نحن أمام نمط من الحروب غير المكتملة. ما أقوله هو تأسيس لهذا الاتجاه. في ما يتعلق بالجبهة الداخلية، هناك شيء جديد تحقق من المهم جداً الإشارة إليه، وهو أنه في أي حرب، من المهم جداً للطرف الذي يبدو فيها صامداً ومنتصراً، ألا تنتهي المعركة وقد استنفد قدراته كلها، لأنه في هذه الحال ماذا سيترك للمرحلة المقبلة؟
ثانياً، أن يكون لا يزال يحتفظ بقدرات مهمة للمرحلة المقبلة. 
ثالثاً، أن يرسخ في وعي قادة العدو أنه مستعد ويملك القدرة والإرادة على المبادرة للمرحلة المقبلة.  هذا ما حققته إيران في هذا المجال، وإلا - أيضاً لنكتشف أهمية ذلك - لنفترض أن كلاً من هذه العناصر لم يتحقق، ماذا كان يمكن أن يتحقق على أرض الواقع؟ 

 

ممّا بات معلومًا، أنّ الإمام الخامنئي كان قد تولّى شخصيًا قيادة الحرب والقوات المسلّحة منذ اللّحظات الأولى، هذا فضلًا عن إدارة المشهد الداخلي الإيراني عبر كلماته المتلفزة المتتالية وبياناته. كيف قرأ العدو هذا الدور للإمام الخامنئي في إدارة المعركة وكيف تفاعل مع التصريحات الرسمية التي كانت تتحدّث عن إمكانية اغتياله؟
في الواقع، مسألة الإمام الخامنئي، في "إسرائيل" وفي أمريكا - هم يرون أن عدوهم ولاية الفقيه بكل بساطة - مشكلتهم مع هذا النظام هو عقيدة ولاية الفقيه، ويرون أن قوة هذا النظام في ولاية الفقيه. أعتقد أنّ سماحة القائد أشار منذ مدة في إحدى كلماته إلى دور ولاية الفقيه على نحو إجمالي، وأعتقد هذه الأبعاد حاضرة لديهم.
عندما تحدث سماحة القائد وقال إن دور ولاية الفقيه ضمانة أو سبب الحفاظ على استقامة الدين والاستقامة السياسية - استقامة الجمهورية الإسلامية - ومعنى استقامتها بمفهومنا وتعبيرنا، بمفهومهم وتعبيرهم يعني مواصلة الخط الذي هي فيه في ما يتعلق بمواجهة الاستكبار، في الموقف من فلسطين، من تحرير فلسطين، في الموقف من الاحتلال الصهيوني، وفي مواصلة خط خياراتها الإستراتيجية الكبرى على المستوى الصاروخي والنووي وأيضاً دعم قوى المقاومة في هذا يعني الاستقامة، هم يترجمونه كذلك.
بالتالي هذه المسألة تُؤكّد لهم في هذه المحطة أن ما كانوا يتصورونه عن نقطة قوة النظام في هذه المسألة، في لحظة الاختبار، أثبت النظام صحة هذه المقولة، وأيضاً استطاع أن يمسك أو أن يملأ الفراغ الذي نتج على نحو مفاجئ وقوي من الضربات التي توالت في اللحظات الأولى، وهي اللحظات الأكثر خطورة لمن يتعرض لهذه الضربات.
الذي استطاع أن يمسك بالخيوط كلها ويديرها هو سماحة الإمام القائد. لذلك أعتقد بما لا لبس فيه أن مسألة الاغتيال كانت موضوعة على جدول الأهداف، يعني لا يوجد شك عندي بنسبة واحد بالمئة.
لماذا؟ لأن هذه الأهداف كلها شرطها كان إحداث فراغ في رأس الهرم وتفرعاته كلها على مستوى سياسي وعلى المستوى العسكري، وإدخال إيران في فوضى وحالة من اللامركزية، الأمر الذي يفتح الباب أمام أعداء الثورة للتحرك مع سيطرة سياسية نفسية عسكرية إسرائيلية أمريكية، عندها تذهب الأمور بحسب نظريتهم وتخطيطهم إلى الاتجاهات التي كانوا يخططون لها.
لكن سلامة القائد وحفظ الله لنا وحفظ الله له لنا بدّد هذه المخططات كلها، ونسأل الله، أي صرنا بحاجة إلى دعاء أكثر فأكثر، أن يحفظ سماحة القائد إن شاء الله.

 

جاء في تصريح نتنياهو: «"إسرائيل" دمرت أكثر من نصف منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية... سنحقق الأهداف جميعها... إسقاط النظام منوط بالشعب الإيراني». لكن على عكس الرهان الإسرائيلي، جاء تفاعل الشعب الإيراني بمختلف أطيافه وتلاحمه في هذه المعركة صادماً للبعض. كيف قرأ العدوّ المشهد الشعبي في إيران في الحرب؟

التلاحم الشعبي حول النظام... الركيزة الأساسية للصمود
في ما يتعلق بتصريحات نتنياهو عن الصواريخ، حقيقة، لقد حيّرنا وحيّر المتابعين المتخصصين، راح يحكي عن ستة وعشرين ألف صاروخ، أربعة وعشرين ألف صاروخ - أي رقم نعتمد؟ يبدو أنهم بشيء معين أربكتهم هذه القضيّة. 
في الأحوال كلها، مسألة الشعب الإيراني - أنا أذكر في كلمة سابقة لسماحة القائد يلخص فيها أعمدة الجمهورية الإسلامية وهي موجودة بالاسم - الشعب والإسلام. إذا أُزيح الإسلام، انتهت الجمهورية الإسلامية، وإذا أُزيح الشعب، يفقد الإسلام القدرة والتمكن أو الحكم وأي أن يفعل، أن يصبح، أن ينتقل من النظرية إلى التطبيق.
لذلك يجب أن نشكر، مهما سمعنا من حملات إعلامية في بعض المحطات. يا إخوان، يجب أن نحفظ هذه الأمور بدلالاتها، بمعنى صحيح كان هناك انقسام سياسي في إيران - حتى إن السيد القائد تحدث عن عيوب ونواقص داخل إيران في هذا المجال - ولكن في بعض المحطات يصح أن تشكل محطة كاشفة نلجأ إليها كلما التبست علينا.
بمعنى لو لم تكن غالبية الشعب الإيراني ملتفة حول النظام، لكان سقط النظام في هذه الضربات. وقوف الشعب وحتى بعض المعارضين لنظام الجمهورية الإسلامية، حول الدولة الإيرانية وحول النظام دفاعاً عن إيران، هذه مسألة أساسية جداً وهي تشكل رسالة إلى الخارج في هذا الإطار، وهي نوع من التيئيس له.

الرسالة الكبرى: الشعب الإيراني سند النظام في لحظات الاختبار
حتى في بعض المعطيات كانت التعبئة التي تمثل الشعب حاضرة من دون توجيه مركزي، لأنه في أول ثماني وأربعين ساعة كان هناك ضياع، وفقدان سيطرة بهذا المعنى، ولكن الحالة الإيمانية والثورية التي كانت في نفوس هؤلاء الشباب والرجال هي التي حركتهم وقطعت الطريق على كثير من المخططات الداخلية التي كان يبيتها أعداء النظام.
هذه المحطة يجب أن نحفظها نحن قبل العدو بأن كل من يريد أن يشكك لاحقاً - من الآن إلى سنوات - بشأن القاعدة الشعبية التي يستند إليها النظام، يجب أن نستحضر هذه القاعدة، هذه المحطة، بما كان للشعب دور حاسم أيضاً في تبديد رهانات العدو، وهذا يخيفهم.
يعني هم يتحدثون عن وضع اقتصادي صعب - هذا صحيح - والأخطر من ذلك أن هذا الوضع الاقتصادي الصعب نتيجة خيارات نظام الجمهورية الإسلامية، يعني الخطة التي اتبعوها أنهم يقولون للشعب إن هذه الصعوبات التي تواجهونها هي بسبب خيارات النظام، ويجب أن يغيرها.
حسنًا، أتت هذه الضربات بما تحمله من أبعاد عسكرية ونفسية وإلى آخره؛ إذا التف الشعب حول النظام ووقف في مواجهة الأعداء وسط هذه العناصر، ففي أي مرحلة سيقف ضدّ النظام؟
لذلك ما حدث سيشكل محطة بارزة لدراسة العدو لواقع إيران ونقاط قوتها التي كان يفترضها أنها نقاط ضعف أيضاً، ولكن ذلك لا يعني أنهم سيكفون عن مؤامراتهم وسيواصلون مخططاتهم في هذا الاتجاه، ولكن ذلك سيحدث من معطيات جديدة. 

 

من المعلوم أنّ هذه الحرب التي فُرِضت على الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية هي حرب إسرائيلية - أمريكية منذ اليوم الأوّل، وأنّ ضربة الولايات المتّحدة الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية الثلاث في 22 حزيران ليست إلّا الوجه المباشر لهذا التحالف. لقد كان هذا التدخّل في مدة وجيزة لا تتعدّى الـ 10 أيام، في حرب بدأها الكيان نفسه. ما هي الدلالات التي يحملها الدخول المباشر لأمريكا في الحرب على مستوى فهم وضعية الكيان الصهيوني وقدراته الدفاعية، وهو الذي ادعى في بداية المعركة أنه قادر على تحقيق أهدافها منفرداً؟

من "إسرائيل القوية" إلى الحاجة للدعم الأميركي المباشر
حسنًا، الآن كثيرون منا عندما يتحدّثون عن "إسرائيل" يقولون إنها دمرت في لبنان، صحيح؛ دمرت في غزة، صحيح؛ تهاجم في اليمن، صحيح؛ تهاجم في إيران، صحيح؛ وهذا يعني أنّها تمتلك قدرات وتفوقاً جوياً استخباراتياً عسكرياً هائلاً وقدرات تدميرية هائلة. لكن "إسرائيل" هذه نفسها - لنجرِ مقارنة تاريخية - هل هي في مسار تصاعدي أو لا؟ هذه المقارنة تخدم سؤالًا لاحقًا. 
أولاً، "إسرائيل" في مواجهة الأنظمة العربية في 1967، لم تكن تحتاج تدخّلًا أمريكيًّا مباشرًا لحسم الحرب مع مصر وسوريا، ولم تتدخل على نحو مباشر – لا أتحدث عن الدعم، بل الحضور المباشر -. في حرب 1948، وحرب 1956، نعم، دخلت بريطانيا وفرنسا، وفي حرب 1973، التي هاجمت فيها مصر وسوريا، فتحت "إسرائيل" أيضًا قنطرة جوية ولم تتدخل قوات أمريكية - تأتي سفن وأساطيل وتضرب، لم تتدخل -.
حسنًا، كان من طموح "إسرائيل" المعلن - نتنياهو أكثر من كان يردد ذلك – أنها تطمح إلى أن تصبح قادرة على الدفاع عن نفسها بنفسها، بقدراتها الذاتية.
حسنًا، نلاحظ بعد هذه الحروب كلها والتدمير منذ ما بعد «طوفان الأقصى»، أتت الأساطيل الأمريكية للردع، استعداداً للتدخل إذا شُنت حرب على "إسرائيل". حسنًا، أليس من المفترض أن تكون "إسرائيل" قد أصبحت أقوى من السابق؟
عندما تدخل في مواجهة اليمن الأمريكي ليعين "إسرائيل" في مواجهة اليمن؟ اليمن! إلى أن انكفأ. في مواجهة إيران، في الدفاع كان للأمريكي الدور الرئيسي بمنظومات الاعتراض - الساد والدعم الأمريكي للمنظومات المنتشرة بالعراق، المنتشرة بالخليج، المنتشرة بالبحر، والمنتشرة بالبحر المتوسط، والأردن – حسنًا، هذه كلها قواعد أمريكية - وصولاً إلى فلسطين المحتلة الطبقات الثلاث الإسرائيلية: قبة حديدية، مقلاع داود، وحيتس. إذا كان هناك مشاركة أمريكية كاملة في الدفاع، ونحن نعرف أنه أي طرف حتى لو كان يملك قدرات هجومية، إذا كان لا يملك قدرات دفاعية في مواجهة رد الخصم، لا تفيده شيئاً كثيراً القدرات الهجومية.

"إسرائيل" كقاعدة أميركية متقدمة وتحوّل في معادلات الصراع
حسنًا، هنا "إسرائيل" أصبحت أكثر حاجة إلى أمريكا مباشرة – لا نتحدّث عن دعم أمريكا – وإلى حضور مباشر ودور مباشر، ومهدوا لذلك بحدث لا يُتحدّث عنه في كثير من الأحيان، عندما نقلوا "إسرائيل" من قيادة المنطقة الأوروبية - كانت "إسرائيل" ضمن قيادة المنطقة الأوروبية - بينما منذ سنوات عدة أدخلوها ضمن قيادة المنطقة الوسطى التي تضم دول المشرق العربي، يعني إيران وغيرها.
لماذا؟ لأنها يجب أن تكون جزءاً من مظلة ومنظومة رادار وإنذار مبكر واعتراضات لحماية "إسرائيل"، ولكي تكون كذلك يجب أن تكون تنظيمياً وإدارياً تابعة لـهم، حتى تكون هذه الرادارات كلها مشبكة. حسنًا، هذا للدفاع عن "إسرائيل"، مع العلم أن "إسرائيل" أكثر قوة مما مضى.
أيضاً في ما يتعلق بضرب البرنامج النووي الإيراني، "إسرائيل" احتاجت إلى الولايات المتحدة لضرب المنشآت النووية بغض النظر عن النتائج، وكانت تدرك منذ اللحظة الأولى أنها غير قادرة.
أيضاً كثير من المخططات الداخلية المرتبطة بإيران، الأمريكي هو الأقدر على ذلك وليس الإسرائيلي، أي إن هذه الدول، عندما تكون منفتحة على "إسرائيل"، فهي تفعل ذلك بطلب أمريكي، وذلك بسبب وجود هيمنة أمريكية.
إذاً، الذي حدث، ثبّت أن "إسرائيل" قاعدة أمريكية ولا تزال أمريكا بحاجة إليها ومتمسكة بها، ولكن أمريكا أصبحت أكثر اضطراراً إلى الحضور المباشر والتدخل المباشر دفاعاً عنها، وهذا يؤشر إلى تغير جوهري في معادلات الصراع، ربما لا ينسجم في الظاهر مع الحروب والصورة التي اتخذتها "إسرائيل" في هذه المرحلة في هذا الإطار، ولكن أحببت أن أشير إلى هذه المسألة في هذا المجال.

 

تتالت تصريحات الرئيس الأمريكي بوتيرة مكثّفة بعد ضرب المنشآت النوويّة، في محاولة لتظهير أن الضربة الأمريكية الأخيرة هي من حسمت الحرب، وحقّقت الآمال بتعطيل البرنامج النووي. ما وزن الضربة الأمريكية للمنشآت النووية، وما مدى تأثيرها الحقيقي على إيران وبرنامجها النووي؟ وكيف قرأ العدو هذه الخطوة؟
حسنًا، التقييم الحقيقي موجود عند الإخوة الإيرانيين وعند القيادة الإيرانية، ولكن بالمؤشرات أريد أن أشير إلى مسألة وهي أن الإيراني عندما بدأ ببناء برنامجه النووي، وعندما كان يبني منشآته كان يبنيها لأنه في يوم من الأيام سيتعرض لهجوم أمريكي وليس لهجوم إسرائيلي، يعني لم يكن يبني وفق القدرات الإسرائيلية وفاجأته أمريكا، بل كان يبني وفقاً لفرضية أن أمريكا ستضرب يوماً ما - والإسرائيلي دخل هنا في هذا الإطار - فلذلك يفترض بهذا المنظار أن تكون أكثر تحصيناً مما يتوقع كثيرون، هذا أوّلًا.
أوّلًا، النقاش الذي دار بين الاستخبارات الأمريكية - السي آي إيه - وبين نتنياهو وبين ترامب يؤكد أن جهات مهنية وازنة في منظومة القرار والتي سربت عبر «السي إن إن» يعني - السي آي ايه - أنه لا، ليس الأمر كما يقول ترامب في هذا المجال، بل هو مؤشر إلى أنّه صحيح أنه حصلت أضرار جدية وكبيرة ولكنها لم تعطل البرنامج النووي الإيراني ولم تسلب إيران البنية التحتية التي تمكنها من الاستفادة مما مضى والتطوير والترميم والانطلاق من جديد. بالتالي نحن مطمئنون ليس من باب الأماني، وإنما لأن إيران التزمت وعلى لسان سماحة القائد بهذا المجال، يعني هناك واقع فعلي.  
ثانيًا، المؤشرات التي أشرت إليها وهي أنّ إيران كانت تعد العدة مسبقاً لهذا السيناريو. 
ثالثاً، ردود الفعل الأمريكية والإسرائيلية الملتبسة والاختلافات بين جهات مهنية وغير مهنية وتهديداتهم بأنهم سيواصلون، معنى ذلك هم يدركون بأن المسألة لم تنتهِ.
بما أن الأهداف لم تكتمل ولم تتحقق وإيران مصممة على خياراتها، معنى ذلك أن المعركة مستمرة على نحو أو آخر، وأننا سنشهد المزيد من تحريك الأوراق الداخلية والخارجية، وأن التهديد بالضربات سيتواصل، وأن العمليات الأمنية التخريبية ستتواصل، وأن محاولات الضغط الاقتصادي وزيادة الوضع الضغط الاقتصادي سيتواصل. ألمانيا تحدّثت عن أنه سيُعاد تحريك آلية الزناد لإعادة العقوبات الدولية على نحو تلقائي، معنى ذلك أننا لا نزال في قلب المعركة وقد نشهد كثيراً من التطورات من ضمنها إمكانية أن تتجدد هذه المعارك. 
في الخلاصة، هذه الجبهة فُتحت ولم تُغلق وسيكون من الصعب إغلاقها لمدة طويلة.

 

بات من الواضح أن العدو الإسرائيلي دخل الحرب بهدف إحداث تغيير في النظام الإيراني أو إضعافه على نحو مؤثر، في محاولة لإحداث تحول نحو شرق أوسط جديد. على ضوء مجريات المعركة، كيف يقرأ العدو مستقبل المشهد الإقليمي ما بعد الحرب الأخيرة؟

استمرار فاعلية حزب الله رغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية
الإسرائيلي يعدّ بأقصى تقديراته أنّه حتى في المناطق التي رأى أنه حقق إنجازات فيها، لم تكتمل أهدافه، يعني في لبنان مثلًا، تُطرح الأسئلة نفسها المطروحة بشأن إيران، ما دام قُضيَ على «حزب الله» وانهزم، لماذا لا يزال مستمرًّا بمطالبة الحزب بنزع السلاح. 
في المناسبة هنا أودّ قول معلومة وهي مؤكدة، إنه عندما بدأت الحرب على إيران، وجهت أمريكا تهديداً إلى إيران بأنه إذا انضم «حزب الله» إلى الحرب فإن أمريكا ستتدخل مباشرة في الحرب، غير الضربة النووية وضربة المنشأة النووية. حسنًا، ما الذي يعنيه هذا الأمر؟ معنى ذلك أن الأمريكي لا يزال تقديره بأن «حزب الله» لا يزال يشكل قوة إقليمية ولا يزال قادراً على إلحاق الخسائر الكبيرة في الجبهة الداخلية الإسرائيلية. هو ليس مجرّد تهديد - هم لديهم ثقة بقدراتنا أكثر من بعضنا - إذاً لا يزالون يتعاملون معه بوصفه قوة إقليمية بنسبة أو بأخرى، فضلاً عن كونه القوة الدفاعية الأولى والوحيدة في لبنان في قضيّة ضمان مستقبل لبنان.

معوقات استكمال مشروع التغيير في الشرق الأوسط
إذاً، في ما يخصّ التغيير، حققوا خطوات ولكنها لم تكتمل من البوابة اللبنانية. في الواقع، المتغير الأهم والأكثر خطورة ليس الحرب التي حدثت، بل هو المتغير السوري، وإلا الحرب نفسها مع النتائج نفسها، لو لم يسقط النظام السوري ويُستبدل بهؤلاء الموجودين الآن، لكان وضعنا مختلفًا كلياً الآن في هذا الإطار.
غزة المستفرد بها، ومستوى العمليات التي تُنفّذ الآن! كأنها في أول يوم، حتى أنّ بعضها فاقت في زخمها الأيام الأولى من العملية، فغزّة لم تكتمل أيضًا.
في مواجهة إيران، لا يمكننا أن نقول إن المشروع لم يكتمل هناك، لا يمكن القياس بهذه الطريقة! قد يؤدي إلى نتائج عكسية، أي ما سيحدث هو العكس، فإنّ الخطر الإيراني سيزداد، لأن خيارات إيران ستختلف ضمن هذا الإطار. 
فإذًا، التغيير في الشرق الأوسط هو هدف، وفي المناسبة، كان قائماً منذ بدايات الكيان الإسرائيلي عام ثمانية وأربعين، وهو هدف دائم، ولكن كل مدة يأتون بنسخة جديدة حسب الظروف السياسية وموازين القوى التي تكون قائمة، وإلا فهي هدف مستمر.
إذاً، هم يرون أنّهم حققوا خطوات ولكن عندما اصطدموا بالجدار الإيراني، حدث اهتزاز بعملية التغيير، ولا يمكن لهم أن يستكملوا عملية التغيير إلا عبر شروط عدة من ضمنها ألا تبقى الجمهورية الإسلامية جمهورية إسلامية كما هي، وألا يبقى «حزب الله» كما هو، وإلا هذا التغيير كله الذي يتحدثون عنه – وفي المناسبة، ورد على لسان توم براك نفسه في مقابلة منذ أيام عدّة، يقول إن التغيير الذي حدث هو تغيير مؤقت في لبنان، في إيران، في اليمن، في العراق، في غزة، كله تغيير مؤقت، ويجب أن نستفيد من الوقت لنحول الإنجازات السياسية، وإلا سوف يتغيّر كلّ شيء مجدّدًا. 

 

بعد عامين حملا كثيراً من الأحداث والمنعطفات، بين لحظة الطوفان وكلام القائد عن الهزيمة التي لا يمكن ترميمها، ولحظة الوعد الصادق 3 وكلام القائد عن المصير المرير والمؤلم الذي سيجنيه الكيان الصهيوني، كيف يمكن أن نقرأ بواقعية مستقبل الكيان على ضوء هذه المعطيات كلها؟

قراءة واقعية لمستقبل الكيان الصهيوني
عادة عندما نتحدّث عن مستقبل الكيان في هذه الأوقات، هناك أشخاصٌ يتعاملون معه كأنه كلام نظري. لا، من منطلق حقيقي وبالمعطيات الواقعيّة والسنن، بمعنى أنّه عندما نقرّر الحديث عن مستقبل أي كيان، نتحدث عن الاتجاه العام، في هذا الاتجاه قد يحدث تقدم وقد يحدث تراجع، لكن ما هو الخط العام؟
مرة سألني أحدهم سؤالًا منذ سنوات عدّة، حين كان الدواعش قريبين من الحدود اللبنانية من جهة سوريا، فأتوا إلى القريتين وكانوا على وشك أن يصلوا إلى الحدود اللبنانية من جهة تدمر، فكان يقول لي إنّهم وصلوا إلى هنا وهنا، إلى آخره. 
قلت له، أودّ أن أقول لك شيئًا، عندما تهمّ بقراءة مستقبل أي مسار، فإنّنا على سبيل المثال نكون بمستوى معيّن، نتجه صعودًا، ونحن في طور الاتجاه نحو الأعلى نتعرّض لبعض الضغوط، فننظر ونشعر بالخوف – الأمر أشبه بعلامات إشارات القلب – وأنت في طور الصعود، هناك عدوٌّ يقاومك، والطريق ليست معبّدة أمامك، لا، أنت تصعد وهناك تجاذب، يجعلك تصعد وتهوي وتذهب يمينًا وشمالًا وتتقدّم وتتراجع، وهكذا دواليك.  
أنت عندما تريد أن تقيّم، لا تنظر إلى كلّ تفصيل من هذه الإشارات، لأنّك سترى أنّها صعدت تارة، ونزلت تارة أخرى، إنما عليك أن تنظر إلى القاعدة التي انطلقت منها، بعد مضي خمس أو ثلاث عشرة أو خمس عشرة سنة، أين هو الاتجاه العام؟

تحوّل المعادلات العسكرية والإقليمية
قبل قليل أشرت إلى "إسرائيل"، كيف كانت أمريكا والغرب يعتمدان عليها لحسم الحروب؟ أصبحا الآن مضطرين أن وجدا هما نفسهما ضمن هذا الإطار ليدافعا عن الجبهة الداخلية الإسرائيلية. في الحروب السابقة، لم تُقصف جبهة "إسرائيل" الداخلية كلها. الآن، لا يقتصر الأمر على جبهتها الداخلية، "إسرائيل" كل تُقصف. 
ثالثًا، "إسرائيل" كانت تحارب جيوشاً نظامية في مصر وسوريا وإلى آخره، واستطاعت أن تحقق انتصارات وتفرض عمليات تسوية على الدول العربية. رغم هذه الإنجازات كلها، هناك قوة برزت واستطاعت أن تفرض معادلة جديدة من إيران مروراً باليمن، والعراق بحاله الملتبسة، وصولاً إلى لبنان؛ في هذه المنطقة ككل، إذا أجرينا قراءة وفقاً لهذه الظروف، سنجد أنّنا نتعرض لتجاذب، نحن بسياق صراع، وهذه طبيعة الصراع، ولكن بالاتجاه العام "إسرائيل" كانت القوة العظمى التي تستطيع أن تذهب وتدمر العراق والمنشآت النووية العراقية في سنة 1981، ولا يُطلق عليها صاروخ واحد، واستطاعت أن تدمر مفاعل دير الزور بسوريا بعد حرب الألفين وستة، في عام ألفين وسبعة، ولم يُطلق عليها صاروخ واحد.
الآن، تستنجد بأمريكا لتدمير برنامج نووي وقدرة صاروخية، لأنها تقول بذاتها إن هذه القدرات إن استمرت في هذا الاتجاه ستشكل خطراً وجودياً عليها، ولم يستطيعوا القضاء عليها، وإذا كانوا بذروة الاندفاع التي هم فيها - هذا هو أقصاهم - ولم يستطيعوا القضاء علينا، كيف يكون الاتجاه؟

حتمية التحرير في ضوء السنن التاريخية والإلهية
لكن نحتاج إلى مزيد من الصمود، مزيد من التصميم ومزيد من التخطيط وحسن الاستخلاص للعبر. بالتأكيد وفق السنن الإلهية، إن مسألة تحرير فلسطين حتمية تاريخية. 
حتمية، لماذا؟ لا من موقع الجبر، يعني ليس الأمر رغماً عن هذه الشعوب. لا، الأمر ليس على هذا النحو، بل متعلق بإرادة الإنسان، لأنّ هناك شعوباً تستيقظ وتصحو وتثق بقدراتها وتثق بربها وتضع خططًا للمواجهة، لتنمية قدراتها في مواجهة الاستكبار والتفوق العالمي - على مستوى التكنولوجيا - واستطاعت أن تحقق قدراً من المعادلة والتوازن، وأن تصمد في الميدان.
ذلك كله، "إسرائيل" يزوّدها الأطلسي والدول الأوروبية والأمريكية وحتى الشرقية اقتصادياً - الصين وروسيا - بينما إيران محاصرة من دول العالم كلها، وتُشن عليها أنواع الحروب كافة واستطاعت أن تصمد في مواجهة الأمريكي والإسرائيلي، هذا مؤشر خير أم مؤشر هزيمة؟

ما أثر تداعيات المواجهة على الوعي الاسرائيلي لناحية جدوى البقاء في فلسطين المحتلة وفكرة الملجأ الآمن لليهود؟
هناك ركيزتان أساسيتان يقوم عليهما الكيان: أن يؤدي دوراً وظيفياً في المنطقة، وأن يكون ملجأً آمناً لليهود، الدور الوظيفي تؤديه قوى المقاومة، وهذا المسار الذي تحدّثت عنه، كله يتعلق بالدور الوظيفي.
أما على مستوى الداخل الإسرائيلي، فـ"إسرائيل" عندما تحاول تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، تفعل ذلك انطلاقاً من ماذا؟ انطلاقاً من أن "إسرائيل" تشكل ملجأً آمناً لليهود، والآن لم يعد في الإمكان الرهان على الأزمات لدفع اليهود - ولو مكرهين أو مجبرين - للمجيء إلى فلسطين، بمعنى أنّ الحرب العالمية الثانية نشبت وجاء هتلر، فهرب الناس، حتى غير الصهاينة جاؤوا إلى هنا، حدثت مشكلات في روسيا فهرب اليهود وجاؤوا إلى هنا أيضًا. حدثت أزمات اقتصادية في هذا البلد أو ذاك، في أثيوبيا وغيرها وغيرها، فجاء كثيرون إلى هنا.
الآن غالبية اليهود موجودون في دول خارج فلسطين المحتلة، في الدول الأوروبية، أي الدول المرفهة اقتصادياً والمستقرة سياسياً والمتطورة علمياً التي فيها قدر كبير من الرفاهية، وبالتالي لا تتحقق الهجرة إلى فلسطين إلا إذا كان هناك منافس في هذه العناوين لهذه الدول، ولا يمكن أن تتحقّق الهجرة على نحو كبير.
من هنا إن سلب "إسرائيل" الشعور بالأمان وإفقاد المستوطنين الشعور بالأمن الشخصي والجماعي وإبقاء "إسرائيل" تحت وطأة الأزمات الاقتصادية التي تفاقمت الآن نتيجة الحروب، كلها تشكل عوامل ضغط كبيرة لتقويض مسألة الملجأ الآمن.
لكن يجب أن نلتفت إلى مسألة، وهي أننا نتحدث عن مسارات ولا نتحدث عن حدث سيحصل غداً، يعني ما دام لديهم أمل في إمكانية استعادة الوضع، سيبقى هناك تشبث بهذه المنطقة، ولكن عندما يصلوا إلى مرحلة أن المحاولات والجولات والعروض كلها لم تستطع أن توفر الأمن لـ"إسرائيل"، عندها ستجدهم يخرجون جماعات.
أختم بهذه العبارة، المؤشر الأقوى الذي برز ولم يبرز في أي مرحلة من مراحل الحروب السابقة، أنه في هذه الحرب، أصدرت وزيرة المواصلات ميري ريجيف أمراً بمنع الهجرة والخروج من "إسرائيل" - لا براً ولا بحراً ولا جواً - لأنهم كانوا يخشون ويخافون، وهذه المرة الأولى التي يخشون فيها من انتشار صور المتدفقين إلى الخارج. معنى ذلك أنهم كانوا يدركون بأن هذا المسار كان سيتحقق، وهذه الصورة ستشجع مسألة أن "إسرائيل" لم تعد ملجأً آمناً لليهود وتشجع محور المقاومة وشعوب المنطقة على الالتفاف حول خيار المقاومة.