تشكّل الكيان الصهيوني منذ عام 1948 على أساس احتلال الأراضي الفلسطينية وتهجير العرب قسرًا، وانتهج منذ نشأته سياسات تقوم على نزعة الفوقية الصهيونية، وإثارة الفرقة بين شعوب العالم العربي، والتطفل على موارد المنطقة، وبذلك لم يتمكن من تحقيق أمنٍ مستقر لنفسه، بل تحوّل إلى مصدرٍ لزعزعة الاستقرار وانعدام الأمن في الشرق الأوسط. اعتمد هذا الكيان، عبر الترويج لخطاب التخويف من إيران وعقد تحالفات مؤقتة مع بعض الدول العربية، على غرس وهم «الاعتراف والبقاء» في أذهان حكّام هذه الدول، في حين تُظهر التجارب التاريخية أن هذا الكيان يتراجع فورًا عن التزاماته حال تغيّر مصالحه. تحمل طبيعة هذا الكيان المعادية للعرب، والمنبثقة من أيديولوجيا الصهيونية وإنكارها لهويّة وحقوق العرب، دورًا محوريًا في إضعاف الوحدة العربية وتشديد التوترات الإقليمية، إلى جانب سياساته التوسعية والفتنوية. وكما أكّد قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، مرارًا، فإنّ مفاهيم من قبيل «الطبيعة المعادية للعرب لدى الكيان الصهيوني» و«نزعة الفوقية الصهيونية» و«الطبيعة الطفيلية» و«عجز الكيان عن توفير الأمن لنفسه» لا تعبّر فقط عن خبث هذا الكيان وزيفه في غربي آسيا، بل إنها متجذرة في استراتيجياته القائمة على اختلاق عدوّ وهمي، وتأزيم الأوضاع، وخلق حالة من اللااستقرار في المنطقة.
طبيعة الكيان الصهيوني المعادية للعرب
تنطوي طبيعة الكيان الصهيوني المعادية للعرب على أبعاد هويّاتيّة-خطابيّة، وعسكرية، وسياسية، كما تتجلّى في الكثير من المصاديق. على الصعيد الهويّاتي-الخطابي، كان أحد الشعارات الرئيسة لهذا الكيان، قبل الاحتلال والتأسيس، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هو ادعاء «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وقد روّج لهذا الشعار زعيما الحركة الصهيونية، تيودور هرتزل ويسرائيل زانغويل، وكان يُعبّر عن تجاهل تام لوجود العرب الفلسطينيين الأصليين في أرض فلسطين. تُظهر وثائق «المؤتمر الصهيوني العالمي» عام 1897، التخطيط لهجرة اليهود إلى فلسطين دون أي اعتبار لحقوق السكان العرب الأصليين، وهو ما يعكس إنكار الهوية العربية منذ البداية. تقوم الأيديولوجيا الصهيونية على خطاب تفوّق العِرق اليهودي بوصفه «الشعب المختار». هذا المنظور، المرتكز إلى بعض التفسيرات الدينية والقومية المستندة إلى التلمود، يعدّ العرب وغير اليهود شعوبًا أدنى ينبغي إخضاعها أو تهميشها. من هذا المنطلق، يكرّس الكيان الصهيوني قوانين تمييزية، مثل «قانون الدولة القومية لليهود» الصادر عام 2018، والتي تُقصي حقوق غير اليهود، بمن فيهم العرب الفلسطينيون، وتُهمّش الهوية العربية واحتقارها. لقد بلغ هذا الاحتقار الهويّاتي حدًّا جعل هذا الكيان، في سعيه لترسيخ الهوية اليهودية في فلسطين، يعمل على محو الهوية الثقافية والتاريخية للعرب، وذلك عبر تغيير أسماء المناطق العربية، وتدمير الآثار التاريخية العربية-الإسلامية، وهدم أكثر من 500 قرية فلسطينية بعد عام 1948، واستبدالها بمستوطنات يهودية أو حدائق ترفيهية، كحديقة "كندا" قرب القدس، فضلًا عن تقييد تعليم الثقافة العربية. أدّت هذه السياسات إلى احتقار الهوية العربية وقطع صلة العرب بإرثهم الثقافي. المثال على ذلك؛ تغيير أسماء المدن والبلدات العربية مثل «أم الرشراش» إلى "إيلات" و«أم خالد» إلى "نتانيا"، وهو ما يُشكّل جزءًا من هذه الاستراتيجية.
في البُعد العسكري، استندت الأيديولوجيا الصهيونية، في سعيها لإقامة دولة يهودية ذات أكثرية يهودية، إلى سياسة التطهير العرقي. طُبّقت هذه السياسة ضمن خطط مثل «خطة دالت» عام 1948، التي هدفت إلى طرد العرب من المناطق الاستراتيجية في فلسطين. كما نفّذ الكيان الصهيوني اعتداءات عسكرية متكررة ضد الدول العربية، من أبرزها قصف مفاعل «تموز» (أوسيـراك) النووي في العراق عام 1981، في دلالة على محاولة لمنع التقدّم العلمي والعسكري في البلدان العربية. كما شكّلت الهجمات المتكرّرة على الأراضي السورية، ومنها قصف المواقع العسكرية في السنوات الأخيرة، ودعم العقوبات الاقتصادية ضدّ الدول العربية المعارضة مثل العراق في تسعينيات القرن الماضي، وسوريا بعد عام 2011، وإثارة الفرقة في العالم العربي عبر دعم التحالف السعودي ضد اليمن، جزءًا من هذه السياسات.
سعى الكيان الصهيوني، عبر سياسة «فرّق تسُد»، إلى إضعاف وحدة الدول العربية على الصعيد السياسي. على سبيل المثال، استغلّ في خمسينيات وستينيات القرن الماضي الخلافات بين الدول العربية، كالتوتّر بين مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وبعض الأنظمة العربية التقليدية مثل السعودية والأردن، للحيلولة دون قيام جبهة عربية متحدة ضدّ الكيان. كما سعى الكيان عبر الدبلوماسية الخفية والتعاون الاستخباراتي مع بعض الأنظمة العربية التقليدية، مثل الأردن في سبعينيات القرن الماضي، إلى عزل مصر التي كانت تتزعم العالم العربي. بلغت هذه السياسة ذروتها في اتفاقيات «كامب ديفيد» عام 1978، التي أدّت إلى توقيع اتفاق سلام بين مصر والكيان الصهيوني، وقسّمت العالم العربي إلى معسكرين. في سياق متصل، دعم هذا الكيان في مراحل عدّة جماعات انفصالية أو معارضة داخل البلدان العربية بهدف إضعاف الحكومات المركزية، كما في دعمه وتحالفه مع بعض الميليشيات المسيحية مثل «الكتائب اللبنانية»، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ما أدّى إلى إضعاف الدولة المركزية، وتعميق الانقسامات بين المكوّنات اللبنانية (السنية والشيعية والدرزية والمسيحية)، وتعزيز نفوذه في لبنان، وصولًا إلى احتلال الجنوب اللبناني عام 1982. وقد شمل هذا الدعم تقديم الأسلحة والمعلومات أو المساعدات اللوجستية للفصائل المناوئة للأنظمة العربية.
لم يكتفِ الكيان الصهيوني بهذا الحدّ، بل تدخّل أيضًا في الشؤون الداخلية للدول العربية عبر عمليات استخباراتية وتجسسية؛ ففي ما عُرف بـ«عملية سوزانا» أو «فضيحة لافون» عام 1954، حاول عملاء هذا الكيان تنفيذ تفجيرات في مصر ونَسبها إلى فصائل عربية، بهدف تخريب علاقات مصر مع الدول الغربية، وزعزعة استقرار حكومة جمال عبد الناصر. كذلك، دعم الكيان الصهيوني بنحو غير مباشر النظام الأردني في أحداث «أيلول الأسود» عام 1970، في مواجهة الفصائل الفلسطينية، بهدف إضعاف حركات المقاومة الفلسطينية، والإبقاء على الأردن كحليف غير معلن. أسهمت هذه الممارسات في تعميق حالة انعدام الثقة بين الدول العربية، وفي إضعاف قوى المقاومة العربية.
استغلّ الكيان الصهيوني التوتّرات السياسية بين الدول العربية من أجل إضعاف الجبهة العربية المتحدة، مثل دعمه غير المباشر للخلاف بين قطر والتحالف السعودي-الإماراتي، بهدف إضعاف «مجلس التعاون الخليجي» وتقليل مستوى التعاون بين الدول العربية. كما ساهم بدعمه لمشروع «سدّ النهضة» في إثيوبيا في تأجيج التوتّرات السياسية بين مصر والسودان وإثيوبيا، إذ يُهدّد هذا المشروع المصالح المائية للدول العربية. قدّم الكيان الصهيوني دعماً سياسيًا وعسكريًا لأطراف غير عربية (مثل إثيوبيا)، وعزّز علاقاته مع بعض الدول العربية ضدّ أخرى، مساهِمًا بذلك في بثّ الفرقة، بهدف تقليص التعاون الإقليمي بين الدول العربية وتعزيز نفوذه في المنطقة.
نزعة الفوقية الصهيونية والطبيعة الطفيلية للكيان الصهيوني
يُعدّ مفهوما «نزعة الفوقية الصهيونية» و«الطبيعة الطفيلية للكيان الصهيوني» وجهين أساسيّين لسياساته وممارساته المنبثقة عن أيديولوجيا تقوم على تفوّق العرق اليهودي والسعي للهيمنة على المنطقة. يشكّل مفهوم التفوق الأساس النظري الذي يُبرّر انتهاك حقوق العرب واحتقارهم، فيما تعبّر الطبعية الطفيليّة عن التطبيق العملي لهذا التصوّر، إذْ تعدّ موارد العرب وثرواتهم حقًا مشروعًا للصهاينة يُصادَر بلا حرج. وفقًا للرؤية الصهيونية المستندة إلى تعاليم التلمود، يُنظَر إلى العرب كأقوام دونية منزوعة الإنسانية، ما يبرّر – في نظرهم – إنكار المساواة والاستقلال عنهم، ويُضفي شرعية على سلب أراضيهم واستغلال مقدّراتهم.
أدّت «نزعة الفوقية الصهيونية» و«الطبيعة الطفيلية للكيان الصهيوني» إلى أن تواجه حتى دول مثل الإمارات والبحرين، التي أقامت علاقات دبلوماسية معه، إنعدام ثقة شعبية وإقليمية واسعة. في المقابل، تعزّزت مكانة حركات المقاومة مثل «حزب الله» «أنصار الله» و«حماس» في وعي الشعوب العربية والإسلامية، إذ تُفسَّر ردود أفعالها وإجراءاتها على أنها استجابات شرعية لجرائم الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين. يمكن ملاحظة مظاهر التطفّل لهذا الكيان بوضوح في «اتفاقية أبراهام» عام 2020 مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، التي مكّنته من الوصول إلى الأسواق العربية والتقنيات الإقليمية والموارد الاقتصادية، فيما لم تحقق الدول العربية نفعًا مستدامًا.
عجز الكيان عن توفير أمنه
رغم امتلاكه لتفوق عسكري ودعم واسع من القوى الغربية وأنظمة معلومات متقدمة، يواجه الكيان الصهيوني تحديات متعددة الأبعاد وجدية في تحقيق أمن مستدام لنفسه. يعود هذا العجز إلى عوامل عدة منها طبيعة الاحتلال التي ينتهجها، مقاومة الفلسطينيين المستمرة، التوترات الإقليمية، وانعدام الاستقرار الداخلي. تشير الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة التي تشنها وتطلقها فصائل المقاومة، خاصة من لبنان واليمن وغزة، إلى عجز هذا الكيان عن توفير بيئة آمنة لنفسه ولمستوطنيه. بالإضافة إلى ذلك، أدّت الخلافات السياسية والاجتماعية داخل الكيان الصهيوني، بما في ذلك الانقسام بين الجماعات الدينية والعلمانية، والاحتجاجات ضد سياسات الحكومة، والأزمات والفساد الاقتصادي الحكومي، إلى إضعاف التماسك الداخلي. هذا الاضطراب يقلل من قدرة الكيان على مواجهة التهديدات الخارجية ضده. كما أن الفساد السياسي وانعدام الثقة العامة بالمؤسسات الحكومية قد زادا من تفاقم هذه المشكلة. لقد أدى الفساد السياسي في المستويات الحكومية العليا، بما في ذلك الاتهامات الموجهة لمسؤولين كبار مثل بنيامين نتنياهو، إلى فقدان الثقة العامة بالمؤسسات الحكومية.
يعتمد الكيان الصهيوني في علاقاته مع الدول بشكل كبير على الدعم العسكري والمالي والسياسي من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية. هذه العلاقة التبعية، إلى جانب إضعاف الاستقلال الاستراتيجي، تجعل الكيان عرضة للتأثر بتغيرات السياسات العالمية. على سبيل المثال، أدى التراجع في دعم الرأي العام له وانهيار خطاب مظلومية الكيان الصهيوني بعد ارتكاب جرائم حرب وقتل المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال في غزة، إلى أزمة شرعية في الغرب نتيجة الانتقادات لانتهاكات حقوق الإنسان، الأمر الذي عرّض أمن هذا الكيان للخطر. من الناحية العسكرية والدفاعية؛ بعد هجمات جمهورية إيران الإسلامية المشروعة والدفاعية، ضمن عمليتي «الوعد الصادق 1» و«الوعد الصادق 2»، بالرغم من وجود أنظمة دفاع متقدمة مثل القبة الحديدية، تلاشى الاعتقاد بانعدام إمكانية اختراق أجواء الكيان وتكبّده للأضرار، مما تسبب في خلق شعور بالضعف والهشاشة في أوساط مستوطني الأراضي المحتلة.
في الجانب الداخلي، وبما أن هذا الكيان الصهيوني مجتمع يضم مجموعات متنوعة من الناحية الدينية، مثل اليهود الأرثوذكس والعلمانيين والإصلاحيين، ومن الناحية العرقية، مثل الأشكناز والسفارديم واليهود المهاجرين من أفريقيا وآسيا، ومن الناحية السياسية، من اليساريين واليمينيين والأحزاب المتطرفة، فإنّ هذا التنوع لم يعزز التماسك بل أدى إلى خلق انقسامات عميقة. الخلاف بين اليهود الأرثوذكس والعلمانيين حول دور الدين في السياسة، والخدمة العسكرية الإلزامية التي غالبًا ما يُعفى منها الأرثوذكس، ونمط الحياة، زاد من التوترات الاجتماعية. هذه الانقسامات تُحدث اختلالات في صنع القرارات الكبرى للحكومة، مثل سياسات الاحتلال أو مفاوضات "السلام". لذا، فإن كيانًا لا يستطيع توفير الأمن على الصعد الداخلية، الإقليمية، والعابرة لحدود الإقليم لن يكون بالتأكيد دعامة مناسبة لتحقيق الأمن للدول العربية أيضًا.
في الختام، تُعدُّ المصاديق المتعددة، من جملة: نكبة 1948، وقانون «الدولة القومية لليهود» لعام 2018، والاستيطان غير الشرعي، والاعتداءات العسكرية على الدول العربية؛ دليلاً واضحًا على نزعة الفوقية والعداوة تجاه العرب والعالم الإسلامي اللتين تميّزان هذا الكيان. كما أنّ عجز هذا الكيان عن توفير الأمن، الناتج عن المقاومة المستمرة للفلسطينيين، والتوترات الإقليمية مع حركات المقاومة مثل «حزب الله» و«أنصار الله»، وانعدام الاستقرار الداخلي الناتج عن الانقسامات السياسية والاجتماعية، واعتماده على الدعم الخارجي، يؤكد كلام قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، الذي يرى أن هذا الكيان يفتقر إلى الشرعية والقدرة على البقاء في المنطقة. هذا الانعدام في الاستقرار، إلى جانب السياسات الفتنوية والتوسعية، لم يمنع من توفير الأمن لهذا الكيان فحسب، بل وضعَ أيضًا الدول العربية المتحالفة معه في مواجهة فقدان الثقة والهشاشة الإقليمية.