بسم الله الرحمن الرحيم
أهلاً و مرحباً بكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء و أشكر الله كثيراً أن وفقنا اليوم لأن نجرّب في هذه الحسينية النقاء بنقاء و معنوية عوائل الشهداء و الشباب الأعزاء و أهالي تبريز و آذربيجان الأوداء التي تذكرنا بالإمام الحسين بن علي ( عليه الصلاة و السلام ) و تنوّر أجواء حياتنا و عملنا بهذا التوجه و الصفاء الذي ألفناه فيكم أهالي تبريز الأعزاء.
إنه اقتران له معنى كبير. اليوم يوم الأربعين، و حادثة التاسع و العشرين من بهمن في تبريز حادثة أربعينية. كان الأربعين في واقعة كربلاء بدايةً. بعد أن حدثت واقعة كربلاء - تلك الفاجعة الكبرى - و تسطّرت التضحيات الفذة لأبي عبد الله ( عليه السلام ) و أصحابه و أعوانه و عياله في ذلك المكان المحدود، كان على واقعة الأسر و السبي أن تنشر الرسالة، و كان على خطب السيدة زينب الكبرى ( سلام الله عليها ) و الإمام السجاد ( عليه الصلاة و السلام ) و كشفهما للحقائق أن تعمل كوسيلة إعلامية قوية لنشر الأفكار و الأحداث و الأهداف و الاتجاهات على نطاق واسع.. و هذا ما حصل بالفعل. من ميزات بيئة القمع أن الناس فيها لا تتوفر لديهم الفرصة و الجرأة على التعبير عن الحقائق التي أدركوها في أعمالهم. فأولاً: لا يسمح الجهاز الظالم المستبد للناس بأن يفهموا و يدركوا، و إذا خرج فهم الناس من يده و فهموا الحقائق و الأمور فلن يسمح لهم بالعمل بما فهموه. في الكوفة، و في الشام، و في وسط الطريق أدرك الكثيرون الكثير من الأشياء عن لسان زينب الكبرى ( سلام الله عليها ) أو الإمام السجاد ( عليه الصلاة و السلام ) أو عبر مشاهدتهم حال الأسرى، و لكن من كان يتجرأ و يقدر على إبداء ما فهمه مقابل أجهزة الظلم و الاستكبار و الاستبداد و القمع؟ بقيت القضية أشبه بغصّة في حناجر المؤمنين. و تفجرت هذه الغصّة لأول مرة في يوم الأربعين.. الفوران الأول حصل في كربلاء في يوم الأربعين.
كتب المرحوم السيد بن طاووس - و غيره من الشخصيات اللامعة - أن قافلة الأسرى، أي السيدة زينب ( سلام الله عليها ) و باقي الأسرى، حينما جاءت كربلاء في الأربعين، لم يكن هناك جابر بن عبد الله الأنصاري، و عطية العوفي فقط.. بل » رجال من بني هاشم «.. عدد من رجال بني هاشم و أصحاب الإمام الحسين كانوا مجتمعين حول تربة سيد الشهداء و جاءوا لاستقبال زينب الكبرى. و ربما كانت هذه السياسة الولائية لزينب الكبرى بالتوجه إلى كربلاء - عند العودة من الشام - من أجل قيام هذا الاجتماع الصغير - لكن الغزير بالمعنى - في ذلك الموضع. البعض استبعد وصولهم إلى كربلاء في يوم الأربعين، و للمرحوم الشهيد آية الله قاضي مدوّنة مفصّلة يثبت فيها أن هذا الشيء ممكن الوقوع. على كل حال ما ورد في كلمات القدماء و الكبراء هو أن زينب الكبرى و جماعة أهل البيت حينما نزلوا كربلاء كان فيها عطية العوفي، و جابر بن عبد الله و رجال من بني هاشم. هذا مؤشر و نموذج لتحقق ذلك الهدف الذي كان ينبغي أن يتحقق بالاستشهاد، أي نشر هذا الفكر و بث الجرأة في نفوس الناس. و من هنا انبثقت أحداث التوابين. و مع أن نهضة التوابين قمعت، و لكن وقعت بعد مدة قصيرة ثورة المختار و سائر أبطال الكوفة و كانت نتيجة ذلك انهيار عائلة بني أمية الظالمة الخبيثة. طبعاً حلّت من بعدهم السلالة المروانية، لكن المقاومة استمرت و الطريق انفتح. هذه هي خصوصية الأربعين. أي ثمة كشف للحقائق في الأربعين، و ثمة عمل، و يوجد في الأربعين كذلك تحقيق لأهداف هذا الكشف عن الحقائق.
و نظير هذه الحالة حصل في أربعينية تبريز. سبق أن ذكرت هذا لأهالي تبريز الأعزاء: لو لم تقع حادثة التاسع و العشرين من بهمن في تبريز، أي لو لم يتم إحياء ذكرى شهداء قم من قبل الجماهير في تبريز بكل تلك التضحيات، لربما اتخذ مسار الكفاح طريقاً آخر. و كان من المحتمل جداً أن لا يقع هذا الحدث الكبير بهذا الشكل الذي وقع فيه. أي إن قضية تبريز و انتفاضة أهالي تبريز في التاسع و العشرين من بهمن كان حدثاً مصيرياً. أحداث الدماء المسفوكة في قم و أساس الدوافع في انتفاضة قم أشياء أحيتها أحداث تبريز. طبعاً دفع الناس في هذا السبيل تكاليف.. قدموا أرواحهم، و راحتهم، و أمنهم.. قدموا كل هذا لكن النتيجة التي حصلوا عليها هي توعية البلد كله. و هكذا أقيمت الأربعينية لأحداث قم، كما أقيمت عدة أربعينيات لشهداء تبريز الذين تضرجوا بدمائهم في التاسع و العشرين من بهمن. هذا دليل على انتشار الحركة. و هذه هي طبيعة الحركة الصحيحة.
حسناً، هذا ما يتعلق بالتاريخ و الماضي. مرّت لحد الآن إحدى و ثلاثون سنة على وقائع تبريز في التاسع عشر من بهمن سنة 56. إحدى و ثلاثون عاماً زمن طويل. الكثيرون من الحضور هنا إما لم يكونوا قد ولدوا في ذلك الحين، أي إنهم الآن شباب، أو إذا كانوا مولودين فقد كانوا صغار السن و لم يفطنوا. ما هو الدرس؟ كل حدث ينبع من نيّة سليمة و فكرة صحيحة له دروسه، فالأحداث الكبرى تنطوي على دروس. ينبغي تعلّم تلك الدروس. دروس واقعة التاسع و العشرين من بهمن هي أولاً تأثيراتها في توعية الجماهير و إيقاظهم، و ثانياً بث الجرأة في نفوسهم و عدم الاكتراث للصعاب و الأخطار، و ثالثاً الأمل بالمستقبل. هذه هي الدروس الثلاثة المهمة. أولاً الوعي و الإدراك. الكثيرون لم يفهموا أهمية الظرف، لكن أهالي تبريز أدركوا الظرف و حساسيته و بادروا. هذه اليقظة و وعي الظروف و حساسيتها تعد أمراً مهماً بحد ذاته. و بعد إدراك الظرف الحساس يجب أن تكون هناك الهمّة و الجرأة للمبادرة. هذه هي النقطة الثانية. ثم ينبغي أن تتم المبادرة انطلاقاً من الأمل و التوكل والاعتماد على الله و حسن الظن بالله. هذا جانب من دروس التاسع و العشرين من بهمن.
لو لم يكن هؤلاء الناس مؤمنين، و لو لم يكن الإيمان يموج في قلوبهم، فحتى لو كانوا قد تحلّوا بذلك الوعي لما نفعهم وعيهم شيئاً و لما أفضى إلى مبادرة تذكر. إيمان الناس و يقظتهم و مبادرتهم في الوقت المناسب، كل هذا كان له دوره. و هو ما غدا دروساً لنا. و كذا الحال اليوم أيضاً، و كذا هو المستقبل. ينبغي متابعة الأحداث بوعي.
الكثير من الشعوب لم تدرك حساسية الظروف حينما مرّت بظروف حساسة. و لأنها لم تدرك ذلك تراكمت عليها الأحداث فتخطتها و بقيت في غفلة و سُحقت تحت أقدام الأحداث. حينما وقف بعض العلماء بوجه استبداد رضا خان، لو كان الجميع قد واكبوهم، و لو أدرك كل أبناء الشعب و بوعي عميق ما الذي كان يحدث في البلاد و وقفوا بقوة ربما كان شعبنا الآن متقدماً إلى الأمام خمسين عاماً و لما تكبد خسائر خمسين عاماً من عهد النظام البهلوي الطاغوتي التابع المنحط. الغفلة تؤدي إلى أن يتحمل الإنسان هذه الخسائر. ينبغي عدم الغفلة. لو كان ثمة إدراك لحساسية الظرف يوم قام الأمريكان بانقلابهم في هذا البلد - الأمريكان و الانجليز معاً في سنة 32 - و لو اتخذت المبادرة المناسبة لما تحمل البلد - يقيناً - سنوات من الخسائر التي تحملها. ينبغي رصد الأحداث بكل يقظة؟
شعبنا اليوم يشاهد أمامه جبهة واسعة تحاول بكل قدراتها سلخ الثورة الإسلامية عن سمتها و تأثيرها المناهض للاستكبار. سعت هذه الجبهة منذ بداية انتصار الثورة للحؤول دون قيام الجمهورية الإسلامية المنبثقة عن الثورة. بذلوا كل جهدهم كي يحولوا دون انبثاق الجمهورية الإسلامية، و لم يستطيعوا طبعاً. كانت لهم مبادراتهم السياسية، و حظرهم الاقتصادي، و حربهم المفروضة على هذا الشعب لمدة ثمانية أعوام. أمدّوا عدو هذا الشعب بالمعدات و بثوا الوساوس الداخلية ضد الثورة الإسلامية و نظام الجمهورية الإسلامية فلم يستطيعوا. و هكذا توصّلوا إلى نتيجة فحواها أن من المستحيل إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، لأن المدافعين عنه و حماته هم الناس المؤمنون الذين جعلوا من صدورهم دروعاً في الدفاع عنه، و هناك الملايين من المؤمنين يسندون هذا النظام. ليست القضية قضية المسؤولين و الحكومة. تارة يكون هناك نظام يقوم على عدة أفراد و عدد من المرتزقة. مثل هذا النظام لا يشكل خطراً على الاستكبار. و تارة يعتمد النظام على إيمان الجماهير و قلوبهم و دعمهم العميق.. مثل هذا النظام لا يمكن زلزلته. هذا ما أدركه الاستكبار. هذه التظاهرات، و ذكرى الثاني و العشرين من بهمن التي أحييتموها هذه السنة كانت استعراضاً عظيماً هائلاً. و تواجد الشباب في الميادين المختلفة، و شعارات الثورة التي احتيت أكثر من السابق لحسن الحظ - ليس هناك بين المسؤولين من يتعامل مع شعارات الثورة بخجل، بل يفخرون بالاستقلال، و الحرية، و الإسلام، و الدستور القيم الغني المحتوى و المعاني - تدل كلها على عدم إمكانية زعزعة النظام. وصلوا إلى نتيجة أنهم يجب أن يقللوا من مضمون النظام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. الهجوم الثقافي الذي ذكرته قبل سنين، و هذه الغارة الثقافية التي يلاحظ المرء أماراتها في المرافق المختلفة سابقاً و حاضراً، إنما كانت بهذه النيّة و بهذا القصد. بقصد إفراغ الثورة من محتواها و مضمونها الإسلامي و الديني و من روحها الثورية. هذه من النقاط الحساسة التي تستدعي يقظة الجماهير. إنها أشبه بقضية التاسع و العشرين من بهمن. الكثيرون لم يفهموا أهمية التاسع و العشرين من بهمن لكنكم أيها التبريزيّون فهمتموها و أبديتم فهمكم هذا على المستوى العملي. و كذلك الحال في كافة المراحل. على شعبنا إدراك أهمية الأحداث، و هو اليوم يدرك هذا الشيء لحسن الحظ. الشعب يقظ تماماً. و هذه بحد ذاتها من بركات الثورة و نظام الجمهورية الإسلامية. لقد استيقظ الناس و توفروا على القدرة على التحليل.
ليعلم الجميع أن أعداء نظام الجمهورية الإسلامية اليوم عاجزون عن استئصال هذا البناء المتين. يحاولون بشتى الوسائل الانتقاص ذرةً ذرةً من هذا المحتوى على أيدي الذين كانت و لا زالت لهم يد في هذه الثورة. لتحمل الجمهورية الإسلامية اسم الجمهورية الإسلامية و اسم النظام الثوري و لكن لا يكون في هذا النظام أثر لمحتوى الإسلام و الثورة. ما هي قيمة الأسم؟ المحتوى هو الضروري و المهم. واجبي و واجبكم هو الدفاع عن محتوى الثورة و المبادئ القيمة للثورة، و لا نسمح بتجاهل هذه الركائز القيمة و هذه القيم السامية. هذا هو واجبنا.
و لنعلم أن الله تعالى يعين الجماعة التي تتحرك انطلاقاً من الإيمان به و تستخدم مبادراتها و قدراتها الإنسانية و طاقاتها من أجل هدف معين. الله تعالى يعين - يقيناً - الذين يعملون من أجل الأهداف الإلهية. حيثما هُزمنا، و حيثما لم يمدّنا الله بعونه فقد كان ذلك لأننا لم نقم بالعمل الصحيح، و لم نقدِّم نصيبنا من العمل. لو كنّا قد أنجزنا حصتنا من العمل لكان الله تعالى قد أعاننا. يقول سبحانه: » اوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم «.(1) القضية قضية طرفين. الله تعالى و هو مالك أرواحنا و من وهبنا جميع المواهب عقد معنا عهداً له جانبان. اعملوا أنتم و سنعمل نحن أيضاً. الله سبحانه وعدنا بهذا. إذا لم نعمل بواجبنا فلن يكون بوسعنا توقع العون الإلهي.
لقد أثبت الشعب الإيراني و الحمد لله أنه صاحب مبادرة و عمل. طوال هذه الأعوام الثلاثين التي تمنّى فيها أعداؤنا أن تنسى شعارات الثورة. حينما تنظرون اليوم - بعد مضي ثلاثين عاماً على الثورة - إلى التجمعات الجماهيرية و أقوال الجماهير و شعاراتهم ترون نفس تلك المشاعر و نفس تلك الشعارات التي كانت في بداية الثورة. لقد حُفظ هذا الصراط المستقيم، و هذا شيء على جانب كبير من الأهمية لا نلاحظه في ثورات التاريخ. و قد حصل هذا بفضل الإيمان بالله و ببركة الإسلام. ينبغي المحافظة على شعارات الثورة. و على الشباب خاصةً أن يغتنموا هذه الفرصة و يعرفوا قدرها. و لحسن الحظ فإن جيل الشباب عندنا اليوم أكثر تجربة و وعياً من جيل الشباب يومذاك. إذا كانت كفّة المشاعر هي الراجحة يومذاك، فإن تواجد الشباب في الساحة اليوم إنما هو بدافع الفكر و الوعي، و ليس مجرد مشاعر. و مع أنه يحتوي على المشاعر و هي مهمة لكنه يحتوي أيضاً على الفكر و الوعي الصحيح و التواجد في الساحة.
حشر الله شهداءنا الأبرار مع الرسول، و حشر إمامنا الجليل رائد هذه الحركة العظيمة مع أوليائه. و جعلنا من جنود هذا الدرب و المضحين من أجل هذا الهدف المقدس، و زاد يوماً بعد يوم من توفيقاته لكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الهوامش
1 - سورة البقرة، الآية 40.