بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله تعالى على ما حباني من توفيق، منذ اللحظة الأولى لدخولي دار المؤمنين، هذه المدينة المفعمة بالود و المحبّة و الخير، لأكون ضمن هذا الحشد الكريم المعطّر بأريج الشهادة و ألتقي بكم أيّها الأحبّة من أسر الشهداء و المعاقين والأُسَری الأحرار و المضحين من مدن كاشان و آران و بيدكل.
إنّ محفلنا هذا مفعم بالمشاعر و العواطف الجيّاشة التي تستمد معينها من البنية المعنوية التي يتحلّى بها كلّ منكم. و هذا شأن محافل الشهداء و المضحين على الدوام. فالمشاعر الجياشة لا بدّ أن يكون منشؤها معنوياً و إلهياً و دينياً و ملكوتياً، لأنّ الشهداء متصلون بالملأ الأعلى و بالملكوت الإلهي. إنّ هذه المشاعر بالغة الشرف و الكرامة، أسأل الله أنْ يوفق المسؤولين و المتصدّين لمعرفة قدر هذه المشاعر و الأحاسيس التي يبادلنا بها شعبنا الكريم، و خصوصاً أسر الشهداء و المضحين، و يكونوا شاكرين لله على هذه النعمة البالغة.
إنّ الأمر المهم بالنسبة لشهدائنا، هو أنّه بالرغم من كونهم قد حلّقوا بأجنحة المشاعر و الأحاسيس الطاهرة، إلاّ أنّ مرشدهم في ذلك السفر و في تلك الرحلة هو العقل و المنطق و الدليل. من هنا استطاعت حركة الإيثار و الشهادة و الجهاد و التضحية أنْ تنفذ إلى كافة الطبقات الاجتماعية في بلدنا و تأخذ لها حيّزاً مهمّا بين أبرز العقول و الطاقات. إنني أعتقد أنّ على أبناء الشهداء أن يفخروا بآبائهم، ليس فقط لأنّهم كانوا رموزاً للإيثار و التضحية و الفخر و العزّة، بل و لأنّهم كانوا معيناً يفيض بالعلم و المعرفة الحقيقية. و من الخطأ أن نتصوّر أنّ الشاب و البطل المقدام كان يترك مدينته و قريته و يذهب إلى ساحة الحرب و يتحمّل كل تلك المشاق تحت وطأة المشاعر و الأحاسيس فقط ـ طبعاً هذا لا ينفي أهميّة المشاعر و الأحاسيس التي يكون مصدرها إلهياً و إسلامياً و ثورياً و معونياً، فهي مباركة و ميمونة للغاية ـ لكن لم تكن المشاعر هي الدافع الوحيد لحركة الشباب، بل كانت تلك المشاعر مقرونة بالهداية العقلانية، فالشاب كان يعلم جيّداً و يفقه طبيعة حركته و ما الذي يدفعه نحو ساحات الوغى.
فيا شبابنا يا مَن تمثلون البقية الباقية من الشهداء! و يا أيّها الآباء و الأمّهات الذين كانوا أحضاناً للشهداء و المضحين! و يا أيتها النسوة اللواتي قضين مع الشهداء شطراً من حياتهن! إنّ الشهداء الكرام، يمثلون كوكبة أدركت نور الحقيقة في دياجير الظلام التي خلفتها حقب الأزمان، فهرعوا إليها يتنافسون. و هذا هو المهم في الأمر. فالكثير لا يرون الحقيقة و لا يفقهون، و كثير ممّن يرى الحقيقة، لا يمتلك جرأة أو عزماً على السير نحوها و طلبها. من هنا فمَن استطاع مشاهدة الحقيقة، و امتلك الجرأة و العزم على طلبها، و لم يأل جهداً في ذلك، فإنّ مثل هذا الشخص يمثل، في أي وقت من الأوقات، إنساناً مختلفاً و متميّزاً، سواء أكان شاباً أو كهلاً أو يافعاً، امرأة أو رجلاً، و من أي طبقة اجتماعية كان.
إنّ نظامنا الإسلامي قد ظهر ضمن بيئة عالمية و في برهة زمنية سادت فيها أنظمة ظالمة أخذت تتحكّم بمصير البشرية بأسرها. و الثورة الإسلامية لم تكن حدثاً جزئياً يقتصر على الإطاحة بنظام ظالم كان يسيطر على مقدّرات البلد. فالنظام الجائر الذي كان يتولّى سدّة الحكم في بلدنا و يتحكّم بمصائر الناس عن طريق العنف و القهر و الجهل، كان مدعوماً من قبل نظام عالمي و من قبل زعماء الأنظمة العالمية، فمواجهته كانت تعني مواجهة كافة مراكز القوى العالمية في ذلك الوقت. من هنا عندما انتصرت الثورة الإسلامية و تمكّنت من إزاحة هذه العقبة من طريقها، بدأت نفس تلك القوى بالتواطئ على الشعب الإيراني، و تبيّن أنّ هناك شبكة عنكبوتية من القوى الظالمة تقوم بدعم النظام البهلوي السفّاك، و لا تتورّع عن خنق أي صوت أو كلمة تصدح بالحق في هذا العالم. لذلك عندما نشبت الحرب المفروضة و التي دامت ثمان سنوات، تواطئت جميع تلك القوى على الشعب الإيراني. فمَن يا ترى كان باستطاعته فهم كل تلك الحقائق في ذلك الوقت، و في خضم الحجم الهائل من الإعلام العالمي المضاد، و مَن كان بإمكانه إدراك الواقع على ما هو عليه و الإيمان به، لدرجة يتحوّل معها هذا الإيمان إلى واعز للحركة و النهوض و القتال؟ لا شك إنّ ذلك كان يتطلّب إنساناً يملك قلباً متلألأً بنور المعرفة و العلم، قلباً منيراً مفعماً بالحياة. لقد كان شبابكم ـ و أعزاؤكم الذين شهدوا ميادين القتال و نالوا فيها درجة الشهادة ـ من هذه الفئة من الناس.
لقد كانت الرؤية في إيران لجبهات القتال و الكفاح الدائر بين الحق و الباطل، لَتبدو في ظاهر الأمر قتالاً مع بلد جار و دفاعاً عن الأراضي الإيرانية، لكنّها كانت في الواقع و في الصميم دفاعاً عن جبهة العدل و الحق في العالم بأسره. لقد كان شبابكم في الحقيقة يدافعون و يضحون و يستشهدون دفاعاً عن كل مظلوم و عن كل صيحة حق تطلق في هذا العالم.
اعلموا يا شبابنا الأعزاء، و يا أبناء الشهداء الكرام، أنّ تلك الصفحات التي سطرها آباؤكم من الشهادة و التضحية قد نوّرت الكثير و الكثير من الناس و أرشدتهم إلى الإسلام و عرّفتهم بحقائق الإيمان و هدتهم إلى سبيل الحق.
إنّ شهداءنا مظاهر للعقلانية الدينية، و رموز للدفاع عن الحق و العدل. و هذا مجدٌ كبير و مفخرة عظيمة.
إنّ أكبر خيانة يقوم بها المرء تجاه أمّته و شعبه، أن يتواطأ مع الجهات الإعلامية المهيمنة على العالم، و يشاركها حجب الحقيقة و منع أشعة الشموس التي تضيء حياة و تأريخ تلك الأمة و ذلك الشعب.
إنّ كل من يستهين باسم الشهداء أو ينتقص من هذه الحركة العظيمة ـ التي سطّر صفحاتها شبابنا الأعزاء في تلك الحقبة ـ في الحقيقة، يخون تاريخه و تاريخ شعبه و أمّته.
إنّني أقول لكافة الآباء و الأمّهات الذين فقدوا أعزاءهم في ميادين القتال و الصراع بين الحق و الباطل، و لسائر أبناء الشهداء الذين فقدوا آباءهم و لم يتمكنوا حتى من رؤيتهم، و لزوجات الشهداء الذي تجشموا عناء و ألم فراق الزوج و الرفيق و المواسي: أعزائي! إنّكم بشهادة هؤلاء لم تخسروا، فأن كنتم قد فقدتم أحبتكم، فإنّ شخوصهم حاضرة و ناظرة و مستقرة و محفوظة في خزائن و نفائس الشهادة الإلهية. إنّ هذه الحياة عابرة و ماضية، و كل منّا راحل عنها، لكن الفوز و المجد إنّما هو لمن كان في رحيله عن الدنيا تضحية من أجل الناس و الدين و البلد. إنّ هؤلاء قد رفع الله منزلتهم حتى لتفوق منزلة الملائكة.
و لطالما قلت لذوي الشهداء، و من كلّ قلبي، لندعو الله سبحانه أنْ يحشرنا مع أحبائكم الشهداء، فإنّ لهم عند الله مقاماً و منزلة و شأناً. إنّ أعزاءكم قد نالوا أفضل ما يمكن أن يناله إنسان. و لا يخفى أنّ أجركم و ثوابكم مقرون بثواب الشهداء.
و لطالما قلت إنّ الموضع الذي تَمَتْرَس فيه الشهداء بغية التصدّي لأعداء الدين و الحقيقة يمثّل الموضع المتقدّم الأوّل، أمّا الموضع الذي يليه فتمثّله أُسر الشهداء و ذويهم.
إنّكم تقفون خلفهم، ففراقكم و آلامكم و آهاتكم و حرمانكم من رؤيتهم و شعوركم بالحسرة على لقائهم لا يضيع عند الله تعالى، فأنتم مثابون على ذلك.
إنّ الله تبارك و تعالى قد خص ذوي الشهداء بأجر عظيم، و ما يضاعف ذلك الأجر هو عدم إظهار الجزع و الصبر و الشكر على البلاء، فعلى مدى سنوات الحرب كانت أُسر الشهداء تقف مرفوعة الرأس تتحدّث عن شهادة ذويها بفخر و اعتزاز فتشحذ الهمم و تستحثّ الآخرين و تبعث فيهم روح الإقدام على إرسال شبابهم للتضحية في ميدان الفداء.
لقد قدّمت هذه المدينة شهداء بارزين و أعزاء. و لا يمكننا إحصاء جميع أسماء القادة الشهداء الذين نهضوا من هذه المدينة و استبسلوا، فالقائمة قد تطول، فهناك الشهيد كريمي، و الشهيد زجاجي، و غيرهما من الشهداء و القادة البارزين الذين تمكنوا عبر حضورهم في جبهات القتال من تحقيق إنجازات كبيرة جداً.
لقد قدّمت كاشان و آران و بيدكل و المناطق و المدن المحيطة بها رجالاً بارزين كان لهم دور متميز في ساحات القتال، فحققوا انجازات مهمّة و أبدوا كفاءة قلّ نظيرها.
أمّا اليوم فمهمّة الشعب، إبداء الاحترام و التقدير لكم و للشهداء. و مهمّة المسؤولين و المتصدّين الشكر و التقدير و تحويل ذلك إلى عمل و خدمة لكافة أسر الشهداء و ذويهم، و كذلك المعاقين و الأسرى. و أمّا مهمّتكم فتتمثّل في الإبقاء على اسم الشهداء عالياً مرفوعاً عزيزاً، عبر السلوك و العمل و تهذيب النفس و القول الصادق الرصين. يجب أن يسمع العدو من أبناء الشهداء كلاماً يكون له أثر الرصاصة في قلبه. إنّ أبناء الشهداء اليوم متواجدون في كلّ مفصل من مفاصل البلد، كالجامعات، و المدارس و مراكز العمل و المسؤولية، و على مختلف الأصعدة و المستويات.
فيا أعزائي! أينما كنتم، إياكم أن تسمحوا لمخططات الأعداء أن تأتي على بريق نور الشهادة المعجون بطينتكم فتقضي عليه. عليكم أن تفخروا بالطريق الذي سار عليه آباؤكم و أعزاؤكم و استشهد فيه، و اعلموا ! لو لا وجود الشهداء و المعاقين، و لو لا تلك التضحيات لكان شعبنا اليوم أكثر شعوب المنطقة شقاءً و بؤساً.
و كما تلاحظون فالعديد من شعوب المنطقة تمتلك حساً دينياً و مشاعر و كلاماً و رأياً، إلاّ أنّها لا تمتلك الجرأة على البوح به؛ لما تُجابه به من قمع و كم للأفواه. إنّ هذا الواقع كان لَيشهده بلدنا بصورة أشد و أقسى، لأنّه قابع تحت الهيمنة الأمريكية، فكانت حياة الشعب، مادية أم معنوية، تسحق تحت وطأة أطماع الأعداء و أهوائهم.
إذن فالذي حفظ للشعب الإيراني عزّته و كرامته و حيثيّته و حرمته، هم أعزاؤكم من الشهداء و المضحين.
إنّني أعتقد أنّ شبابنا اليوم، لا يختلف عن شباب الأمس الذي استطاع في ثمانينيات القرن الماضي أن يسمو براية الإسلام و يجعلها ترفرف عالياً، و سيكون بفضل الله و بما يمتلك من رصيد علمي و معرفي و بما يحمل من صفاء و نقاء، قادراً على جعل راية الإسلام و العدل و الحق التي ترفعها الجمهورية الإسلامية خافقة على ربوع العالم أجمع.
و أخيراً ندعو الله سبحانه أن يعزّ شهداءنا و يحشرهم في زمرة أوليائه. اللهم ! احفظ للدماء الزاكيات التي أريقت في سبيلك ـ و كانت سبباً لعزّة و كرامة هذا الشعب ـ بركتها و يمنها و عزّتها حتى قيام بقية الله الأعظم. اللهم ! ذوي الشهداء ـ الآباء و الأمهات و الزوجات و الأبناء و الأخوة و الأخوات ـ اشملهم برحمتك و لطفك و رأفتك. اللهم! اجعلنا من جملة العارفين بمقام و منزلة الشهداء و ذويهم و المؤدّين حقّهم. اللهم! بارك في جمعنا هذا، و فيمن تحدّث فيه و استمع، و اشملهم بلطفك و عنايتك.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته