بسم الله الرحمن الرحيم

أهلاً و مرحباً بكم كثيراً أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء. نتمنى أن تكون هذه الدورة الجديدة من المجلس مباركة و مصدر خير للبلاد و لكل واحد منكم ضمن الطموحات التي يحملها كل إنسان مؤمن في ضوء حضوره و وقوفه أمام الله.
هذه الأيام أيام شهر رجب المبارك. أول شيء ينبغي أن نلاحظه جميعاً - أينما كنا - في هذه الأيام، ثم في أيام شعبان المبارك، ثم على درجة ثالثة أرفع في شهر رمضان المبارك، هو إصلاح أنفسنا و إبعاد الغفلة و الظلمات عن قلوبنا. هذا هو الأصل و الأساس. كل هذه الأحداث و التجاذبات المتواصلة في حياة الإنسانية، و في بعثة الأنبياء، و في الكفاح الاجتماعي و السياسي و العسكري الذي خاضه الأنبياء الإلهيون ضد أعداء الله - المحن و الآلام و الأفراح و الانتصارات و الهزائم، كلها و كلها - مقدمة يراد منها أن يستطيع الإنسان عند اجتياز هذه الحدود التي هو مضطر لاجتيازها - أي الحدود بين الحياة المادية و الحياة الأخروية الدائمية - أن يكون مسروراً راضياً غير متحسّر. الكلام كله حول هذا الشيء. إذا قيل لكم لتكن أخلاقكم أخلاقاً حسنة، و إذا قيل لكم اعملوا بهذه الضوابط و المقررات، و إذا قيل لكم جاهدوا و كافحوا، و إذا قيل لكم أعبدوا، فكل ذلك إنما هو لكي تتحول هذه المادة الخام المودعة لدينا إلى شيء جيد و نتاج أمثل نخرج بها من هذه البوابة.. من أجل أن نملأ هذه الصفحة البيضاء التي منحونا إياها لننقّشها بأعمالنا، من أجل أن نملأها بنقوش جميلة إيجابية و نرفعها فوق رؤوسنا و نمضي. كل شيء هناك.. المصير هناك.. و هذه مقدمات. هذا المعسكر الذي نمارس فيه اليوم تماريننا، إنما هو من أجل أن نستخدم تماريننا هذه في مكان ما. لذا ينبغي أن تنصّب مساعينا في هذا المعسكر على الانتفاع من الفرص إلى أقصى حد ممكن، و لا ندع غنيمة تفوتنا أو رصيداً يحترق و يتلاشى و لا يعود علينا عائد مقابله.
قال الله تعالى: »إن الإنسان لفي خسر«.. هذا هو معنى الخسر.. معناه احتراق رأس المال و ذهابه و ضياعه. نحن جميعاً و في كل لحظة إنما نخسر رساميلنا. ما هو رأس المال؟ إنه العمر. في كل لحظة نخسر أنا و أنتم هذا الرصيد. لقد خسرنا اليوم قياساً إلى الأمس جزءاً آخر من رأس مالنا. كل لحظات هذا العمر الذي يستمر عدة عقود مثلاً إنما هو فترة احتراق لهذه الشمعة.. فترة اضمحلال رأس المال هذا. حسناً، ما الذي نكسبه مقابل ذلك.. هذا هو المهم. »إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر«. إذا كان ثمة إيمان و عمل صالح - و الجزء الأهم من العمل الصالح هو التواصي بالحق و التواصي بالصبر - عندئذ سيكون ذلك الرصيد قد ذهب و لكن حلَّ محله شيء أفضل منه. كما لو تأخذون أموالكم إلى السوق و حينما تخرجون من السوق تكونوا قد فقدتم أموالكم و عادت جيوبكم فارغة، بيد أن المهم هو ما الذي أخذتموه معكم بدلاً عنها، و أن لا تعودوا من السوق صفر اليدين. شهر رجب فرصة جيدة.. إنه شهر الدعاء و التوسل و التوجّه و الاستغفار. يجب أن نستغفر دائماً، و لا يظننّ أحد أنه في غنى عن الاستغفار. يقول رسول الله (ص): »إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة«. مما لا شك فيه أنه حتى الرسول الأكرم (ص) كان يستغفر الله سبعين مرةً في اليوم. الاستغفار للجميع، خصوصاً نحن الغارقين و الملوثين في هذه الأعمال المادية و الدنيا المادية. الاستغفار يغسل جزءاً من هذه الأدران و يمحوها. إنه شهر الاستغفار، و سوف نغتنم الفرصة إن شاء الله. نبارك لكم حلول هذا الشهر، و سيكون شهراً مباركاً علينا و عليكم إن شاء الله، و حينما ننتقل من هذا الشهر إلى شهر شعبان نكون قد أنجزنا جزءاً من المهمة بتوفيق من الله.
و من الضروري أن نشكر النواب المحترمين لإبدائهم مودتهم و إعلانهم دعمهم بعد كلامنا المتواضع في صلاة الجمعة. التوحد و التلاحم في الإعلان عن المواقف الأساسية في البلاد حالة إيجابية جيدة. خصوصاً حينما يرى الإنسان الأعداء أمامه قد أرهفوا أسماعهم و فتحوا أنظارهم ليروا هل هناك ضعف أو انتكاس أو تردد في الطرف المقابل، حتى ينتهزوا الفرصة بلا تأخير و يشنوا هجومهم. في مثل هذه الظروف على وجه الخصوص من المهم جداً و من الضروري جداً توحيد الأصوات.
أذكر نقاطاً عدة للسادة المحترمين حول مجلس الشورى، و هي نقاط يفترض أنكم تعرفونها، فهي إذن تذكرة. أحياناً يكون للاستماع أثر لا يوجد في مجرد العلم و المعرفة. يعرف الإنسان أشياء لكن من الحسن أن يسمعها مرةً أخرى. و هذا الاجتماع و الحمد لله اجتماع جيد و رفيع المستوى من حيث الخبرة و المعرفة و الأفكار و العلوم، و نحن مسرورون لهذا و نتباهى به.
من النقاط التي وددت الإلفات إليها هي أن مجلس الشورى يعد القوة المفكرة في البلاد. الأفكار تتجلى في لبوس القانون، ثم تسري و تجري في كل كيان البلد. الشيء الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار دوماً هو أولاً أن نرى ما هي طبيعة الصلة بين أفكار هذه القوة المفكرة و القيم الأساسية للثورة - فهذا الغصن متفرع على كل حال من جذع الثورة العظيم و الفارع و القوي - ثانياً ما هي طبيعة الصلة بينه وبين المجتمع و مشكلات البلاد و احتياجات الناس. نظرة إلى المبدأ و المنطلق، و نظرة ثانية إلى النتيجة و النهاية. نظرة إلى المنبت و نظرة إلى الهدف. هذه نقطة يجب أن تكون واضحة. إذا كانت هذه كانت القوانين أصيلة و صحيحة و ناهضة و كفوءة. و إذا لم تكن الأولى كان الغصن منقطعاً عن الشجرة و فاقداً لأصالته، لن تكون القوانين أصيلة. إذا لم تكن الثانية كان القانون أصيلاً و مشروعاً لكنه غير مقبول. إذا لم يكن القانون منسجماً مع احتياجات المجتمع و مقتضياته الفورية و الآنية و كذلك احتياجاته طويلة الأمد، عندئذ لن يكون مقبولاً بمقدار ما يتصف بالنقص في ذلك الجانب. هذه نقطة يجب أخذها بنظر الاعتبار.
قلتم مثلاً يجب الاهتمام بالسياسات المرتبطة بالمادة 44 من الدستور. لاحظوا أن هذا بحد ذاته مؤشر. إذا كنا نوافق سياسة المادة 44، فلن نمرِّر قانوناً لا يتناغم مع هذه السياسات. كما أن تمرير قانون غير منسجم مع سياسيات المادة 44 مرفوضٌ عندكم كذلك الحال بالنسبة لأساس قيم الثورة الإسلامية و مباني الثورة و أركانها. ينبغي مراجعة مباني الثورة و عدم نسيانها. ليس من الصحيح أن يقال إننا يجب أن نشك في آراء الإمام، و قد لا يستخدمون عبارة نشك لكنهم يطلقون كلاماً معناه الشك. وصية الإمام خلاصة لكلماته (رضوان الله تعالى عليه) و لمباني الثورة و أصولها. كان الإمام رجلاً كبيراً و واعياً. خذوا هذه الأمور بنظر الاعتبار دوماً، و لتكن القوانين و المواقف و المسيرة على هذا الأساس. قد يفهم الإنسان المسألة بشكل و يفهمها شخص آخر بشكل مختلف - لا إشكال في ذلك - و لكن ينبغي أن يكون هذا هو الهدف و المحور.
نقطة أخرى هي أن للقانون جانب ملِزم و سيادي و ولائي.إنكم من خلال القانون تعمِلون ولايتكم و اقتداركم على المجتمع، لذا فالقانون ملِزم. هذا شيء صحيح و محفوظ في محله. أي إن الجانب الآخر في المجتمع و هم أبناء المجتمع - و أنتم من جملتهم - سيقف تحت مظلة اقتدار القانون و سيُعمِل القانون ولايته عليهم. هذا هو الجانب الواضح من القانون. و ثمة جانب آخر هو التأثير الثقافي و التربوي للقانون في المجتمع. أي قانون تسنّونه حتى لو لم يكن له على الظاهر صلة بالقضايا التربوية و الثقافية - كأن يكون قانوناً اقتصادياً على سبيل المثال - سيكون له أثر ثقافي و أخلاقي و تربوي مباشر أو غير مباشر على المجتمع. السلوكيات و الأخلاقيات و التربية لها آثار متقابلة و متبادلة.. الأخلاق تترك تأثيراً في السلوك، و السلوك أيضاً يترك تأثيره على الأخلاق. لاحظوا أنه »ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوء«.. إذا فعلنا شيئاً سيئاً فسيترك أثره على قلبنا و على أخلاقنا، و أحياناً على تصوراتنا و رؤانا. إذا انشدت قلوبنا إلى شيء سيترك هذا الانشداد تأثيره على ذهنياتنا. الأعمال و السلوك من جهة و الأخلاق و التربية من جهة ثانية.. هذه تترك تأثيرات متقابلة.
و كذا الحال بالنسبة للقانون. أي قانون تضعونه سواء كان متعلقاً بالنقل و المواصلات، أو بالجمارك، أو بالاقتصاد، أو بالسياسة الخارجية، أو أي شيء آخر، ستكون له آثار تربوية و أخلاقية. يجب أن يؤخذ هذا الجانب من القانون بنظر الاعتبار. إذا وضعنا قانوناً يعزز روح إطاعة القانون لدى الناس فهذا شيء جيد. و على العكس، إذا شرّعنا قانوناً يخلق لدى الناس روح مشاكسة القانون و عدم الاكتراث له - و لو بشكل غير مباشر - فهذا شيء مرجوح. إذا سننا قانوناً يقوّي روح القناعة لدى الناس فهذا شيء إيجابي. و على العكس إذا كان القانون الذي نشرّعه يقوي روح الإسراف لدى الناس فهو شيء سيئ و سلبي. إذا كان القانون يعزز روح التدين لدى المجتمع فهو جيد، و إذا كان مما يشدد روح اللاأبالية في المجتمع فهو سيئ. تنبهوا إلى هذا الجانب: التأثير المتبادل بين الحقوق و الأخلاق، و التلازم بين القضايا الحقوقية و القضايا الأخلاقية. هذه أمور على جانب كبير من الأهمية.
هذا طبعاً الجانب النظري من القضية، أي إعمال الجانب النظري من القضية. و إلى جوار ذلك هناك البعد أو الجانب العملي و الخارجي للقضية و الذي يجب على السادة أخذه بعين الاعتبار. أي إنكم إذ تريدون مراعاة الأخلاق الإسلامية في قوانينكم من المناسب أن تكون لكم جلساتكم الأخلاقية و المعرفية، فهي تخفف عن الإنسان و تفرغه من التعقيدات التي تتكالب عليه في غمرة العمل. في أتون هذه الأعمال و المهام التنفيذية يجب على الإنسان الترفع إلى السماء و إلى الله و إلى السمو، و التخفّف من الأثقال و من ثم العودة إلى العمل. ذات مرة ضربت مثلاً من هذا الماء الذي ينـزل طاهراً طيباً من السماء ثم يتلوث في هذه المسابح و البحار و البحيرات، و من بعد أن يتلوث يتبخرّ مرة أخرى و يصعد إلى الأعلى ليتطهّر مرة أخرى ثم يعود. نحن أيضاً يجب أن نسمو و نتطهر و نعود طاهرين. أنا و أنتم بأشد الحاجة لهذا الشيء.
حين كنّا في قم كان لدينا صديق كنتُ منشداً إليه في قلبي انشداداً قوياً من الناحية المعنوية. كنت انتفع كثيراً من الجلسات التي تجمعني به.. جلسات أخوية ثنائية أو ثلاثية أو جلسات طلبة الحوزة. كنت استفيد من معنوياته، و أخلاقه، و أحاديثه و سلوكه المعرفي. و افترقت عنه سنوات حيث توجّه إلى النجف و بقينا هنا مشغولين. بعد أن صرت رئيساً للجمهورية عاد هو إلى إيران. و التقيته بالصدفة، فقلت له: يا صديقي إن حاجتي لك اليوم أكبر من تلك الأيام. أنا الآن رئيس للجمهورية و كنت ذلك الحين طالب علم عادي. و تقرر أن يأتي إلينا مرة في الأسبوع أو مرة كل أسبوعين، و كان ذلك إلى أن فارق الدنيا.. رحمة الله عليه. نحن بحاجة لذلك. كلما كانت مسؤولياتنا أكبر كلما كانت حاجتنا أكبر. »الأغنى هم الأحوج« إلى هذه الجلسات الأخلاقية و المعنوية.
من الأمور الجيدة التي تأسست في المجلس منذ البداية تلاوة القرآن الكريم في بداية الاجتماعات الرسمية للمجلس. و في الفترة الأخيرة أثناء رئاسة الدكتور السيد حداد عادل أضيفت لذلك سنة حسنة أخرى هي قراءة ترجمة القرآن - و لا أدري هل لا تزال سارية و جارية أم لا - و هي عملية جيدة جداً. ينبغي أن لا تكون للقرآن حالة شكلية فقط.. ينبغي أن نستمع و نستفيد من كلمات القرآن.. يجب أن نسلّم قلوبنا للقرآن. كل كلمة من كلمات القرآن يمكن أن تحدث ثورة في قلوبنا، طبعاً بالنسبة لمن يأنس بالقرآن و يتفاعل معه. حسب التجربة فإن من لا يأنس بالقرآن لا ينتفع الكثير من القرآن. »أيّكم زادته هذه إيماناً«. حينما كانت الآية تنـزل كان المنافقون يقولون: ها، ما الذي حصل؟ هل ازداد إيمانكم؟ لم يكونوا يفهمون من القرآن شيئاً. إذا كان ثمة أنس بالقرآن و تسليم للفؤاد إلى القرآن، سيرى الإنسان عندئذ أن كل كلمة من القرآن قطرة طاهرة صافية ينتهلها و تفيض على قلبه بالنور. ينبغي التنبه لهذا القرآن و لهذه التلاوة. خصوصاً أنها مرفقة حالياً بالترجمة لمن يحتاج إلى هذه الترجمة. لتكن هناك جلسات أخلاقية و معرفية، و ليأتِ أشخاص ينصحوننا و يذكرون لنا حتى الأمور التي نعرفها. و كما قلت ففي الاستماع أحياناً أثر غير موجود في المعرفة. نعلم كثيراً من الأشياء لكننا لا نتذكرها، و حينما نتذكرها تصحو قلوبنا.
النقطة الأخرى هي أن المجلس محل للحوار، و مستوى الحوارات يفترض أن يكون عالياً، لأن المستوى الفكري و العلمي و المعرفي للأعزاء النواب عالٍ و الحمد لله. تطرح وجهات نظر، و تطرح استشارات. ما أروم التأكيد عليه و ذكره لكم جميعاً أيها الإخوة و الأخوات هو أن ترفعوا روح تحمل الكلام المعارض في المجلس. استمعوا ثم ردوا بالأدلة و البراهين. و إذا لم يكن لديكم الوقت للرد أو الجواب فلا تمنحوا أصواتكم لذلك الرأي و لا تعملوا به. إذا كان ثمة صديق أو رفيق تريدون تنوير ذهنه فلا بأس.. اذكروا له بهدوء.. لا تدعوا الأقوال و الآراء بتراء ناقصة. للأسف كانت هذه الحالة موجودة في مجالسنا منذ البداية بأن يأتي عدد من الأفراد وسط كلام أو حديث شخص آخر و يرفعوا أصواتهم و يضجوا و يتحدثوا. أتذكر في زمن رئاسة الجمهورية أنني ذهبت مرة للمجلس لأجل موضوع معين. كانت لدي كلمة ألقيها في المجلس، و قد طالت الكلمة و كانت مفصلة. أحد النواب و كان صديقنا، لكنه كان منحرفاً عنّا قليلاً - من حيث الفكر السياسي كان منحرفاً عنّا قليلاً و تعلمون أن الصدامات كانت يومئذ شديدة و حادة إلى حد ما - بدأ من آخر المجلس بالكلام بصوتٍ عالٍ، و على حد تعبير السادة أخذ بإطلاق أمواج التشويش. و كنت أقول له: يا أخي العزيز، أقول أنا كلامي و أنت لا تقبله.. لا إشكال في ذلك. و كان يسكت، لكنه يعود بعد لحظات و يرفع صوته. رأيته بعد ذلك و قلت له: لماذا تفعل هكذا؟ استمع للكلام ثم تعال وقف أنت هناك - المجلس مجلسكم - و قل ما تريد قوله. أنا حين جئت و تحدثت فلأنني رئيس الجمهورية و سوف أخرج و يبقى المجلس لكم و يمكنكم أن تقولوا فيه ما تشاءون. قال: لا، المسألة هي أنك حينما تتكلم يؤثر كلامك في قلوب البعض، و أريد أن أحول دون هذا التأثير! طيب، هذا أسلوب، لكنني اعتقد أنه ليس أسلوب مجلس الشورى الإسلامي مجمع نخبة المجتمع الإسلامي.
لقد تعودنا في بحوثنا و نقاشاتنا الطلابية أن يتداخل الكلام بين طلبة العلوم الدينية. أي حينما يبدأ شخص بالاستدلال قد يقول آخرون وسط كلامه: كلا، ليس الأمر كذلك. و يقول هو: كلا، ليس الأمر كما تقولون. و غالباً ما لا تنتهي النقاشات إلى نتيجة. هل سمعتم عن سجالات طلابية يجري فيها التراشق بالكتب؟ هذا هو السبب. شاعت هذه العادة تدريجياً في الحوزة منذ سنوات أن يستمع الإنسان لكلام يعتقد أنه خاطىء و ضعيف لكنه يصغي إليه كاملاً، ثم يقول: لا بأس، استمع أنت الآن، كلامك هذا جوابه كذا و كذا و الإشكال عليه كذا. بعض أصدقائنا وجدت أنهم احتفظوا بتلك الحالة إلی الآن. يلقون كلامهم و يستمع الإنسان لهم إلى أن ينتهي الكلام، ثم حينما يبدأ هو بالكلام يعودون للكلام و الردّ مرة أخرى! هذا غير مناسب لمجلس مثل مجلس الشورى الإسلامي.
إذن، يجب التنبه إلى رفع مستوى التحمل في المجلس، و أيضاً إلى أن لا تكون الآراء و التصريحات بدافع اللجاجة. ذكر هذه المسألة سهل طبعاً لكن العمل بها صعب. أنا أعتقد حقاً أن العمل بها صعب. أحياناً يتكلم الإنسان بسبب اللجاجة و الخصام و معارضة فلان أو فلان أو التيار أو الجماعة الفلانية.. هذا غير صحيح. أي إن الكلام يجب أن لا يكون بدافع اللجاجة و الصراع بين الأشخاص و التيارات. استمعوا لكلام الطرف المقابل حتى لو كان من يتكلم عن غير تياركم و جماعتكم و جبهتكم.. استمعوا و إذا وجدتم أنه كلام صحيح، عندئذ »فيتّبعون أحسنه«. لاحظوا الحكمة القرآنية: ينبغي الاستماع ثم الأخذ بما هو أفضل و أحسن، حتى لو كان هذا الأحسن صادراً عن لسان شخص لا تحبّونه و لا تنحازون له. هذه حالة جيدة جداً. إذا حصل هذا فهو جيد جداً . خلافاً لما لو رأى الإنسان أن الشخص الذي قام للكلام من تيار معارض و من جماعة سلبية حسب اعتقادي، فيقرر منذ البداية أن يردّ عليه و يرفضه. هذه في رأيي مسألة مهمة جداً. يجب العمل بطريقة علمية و استدلالية و مدروسة، و الحوار و التشاور بنحو أخلاقي سليم لا عن لجاجة، و يجب تحمل الرأي المعارض المخالف.
النقطة الأخرى هي أنكم خلال هذه الأعوام الثلاثة التي أمامكم من المفترض أن تديروا البلاد بمعية الحكومة الجديدة. أنتم في جهة و الحكومة في جهة.. أنتم مشرِّعون و الحكومة منفذة.. يجب أن تعملوا سوية. اجعلوا أساس عملكم المماشاة و المداراة و روح التعاون. طبعاً لدينا نقاط و تنبيهات للحكومة أيضاً في هذا المجال و حول قضية التعاون، و سوف نذكرها لأعضاء الحكومة المحترمين في جلسات أخرى، لكن ما نريد أن نقوله لكم هو أن تجعلوا الأساس في التعامل مع الحكومة هو التعاون. الحكومة هي الشخص المتواجد في الساحة. أنا أيضاً كنت في المجلس، كنت نائباً مثلكم، و كنت في الحكومة. إنني على معرفة بكلا الحالتين. نعم، النائب يبذل جهده و يشرع القوانين، و يتوقع أن يجري العمل بهذه القوانين.. هذا كلام صحيح و حق. بيد أن الحكومة بدورها لديها كلام حق فهي تقول إنني أسير في هذا الطريق الوعر الصعب و المرتفعات الخانقة للأنفاس، و على كاهلي كل هذه الأعباء، و قد تستعصي عليَّ الأمور في موضع من المواضع، لذا أتوقع أن تساعدوني و لا تتصعّبوا معي. الحكومة هي العنصر المتواجد في وسط الساحة و في غمرة الأمور. في مواكب اللطم تحمل أعلام - يظهر أنهم يسمونها هنا أعلاماً أو علامات، و كنّا نسمّيها في مشهد جريدة.. أي هذه العلامات الكبرى - قد تحتوي أحياناً عشرة تفريعات أو إثني عشر تفريعاً و هي ثقيلة جداً. أصحاب العضلات القوية في مشهد كانوا مكلفين بحمل هذه الجرائد، و كانت عملية صعبة جداً. أتذكر أنهم كانوا يأتون بهذه الجرائد إلى السوق. كان ثمة في السوق مكان واسع نسبياً، و كان يجب هناك أن يدوروا بالأعلام أو الجرائد و يستعرضونها و ما إلى ذلك. الشخص الذي يحمل الجريدة يضيّفه عشرة أشخاص أو إثنا عشر شخصاً.. واحد يمسح عرقه و واحد يضع الماء في فمه، و واحد يقول له: ساعدك الله، و واحد قد يدلّك كتفيه أحياناً.
العمل التنفيذي صعب. أتذكر أن البعض كانوا يأتون إلى الإمام و يقولون له: يوجد إشكال في المرفق الفلاني، التجارة مثلاً تعاني من كذا أو كذا. كل مرفق من مرافق البلاد فيه بالتالي إشكالات كثيرة و هي إشكلات موجودة دوماً، و كانت موجودة يومذاك أيضاً، و كانت كثيرة. كانوا يذهبون و يشتكون لدى الإمام. كنت أرى أو أسمع أحياناً أن الإمام يستمع لكلامهم، ثم يقول: العمل صعب. و هذا هو الواقع. للعمل في إطار البرمجة و على الورق و الخطوط البيانية معنىً، لكن له في ساحة العمل معنى آخر. الشيء الذي يرسمه الإنسان على الورق سهل جداً، لكنه على المستوى العملي صعب جداً.
كانوا يأتون بخرائط الحرب إلى غرفتي و يجتمع الأصدقاء المعنيون بشؤون الحرب. قادة الحرب كانوا يدلون بإيضاحاتهم و يقولون هذه هي خطة العمليات، نسير من هنا. كنت أرى أن بعض الأصدقاء ينظرون و يقولون: عجيب، إنها عملية سهلة جداً. هذا خط قصير جداً بطول نصف عود ثقاب مثلاً يجب أن نسيره. لكن هذا النصف عود ثقاب الذي يعني مثلاً عشرة كيلومترات من المقرر أن يشتبك فيه عشرات الآلاف و يقتل و يجرح فيه عدد كبير. على الخارطة هو نصف عود ثقاب من الطريق و يبدو أنه ليس بالأمر الشاق، لكنه صعب عند التنفيذ العملي. القصد أن العمل صعب، و يجب مراعاة الحكومة و مداراتها.
ينبغي أن لا تسمحوا للأمور بأن تصل إلى درجة المماحكات. و الناس عادة تمتعض حقاً من المماحكات. بعض دورات المجلس كانت دورات مليئة بالمماحكات. آثار هذه التوترات على المجالس آثار سلبية جداً. الناس لا يرتاحون لذلك إطلاقاً.
كلما فتح الناس الإذاعة الخاصة بالمجلس وجدوا فيها معركة، و كلاماً لاذعاً. الناس لا تحب مثل هذه الأحوال. يريد الناس أن نكون نحن الجالسين هنا في مواقع إدارة البلد متعاطفين مع بعضنا، و نعمل مع بعضنا و نتعامل بصميمية، لا أن نغض الطرف عن أخطاء و ذنوب بعضنا.. أبداً، هذا ليس شيئاً محبذاً على الإطلاق، بل هو قيمة سلبية، و لكن ينبغي أن يكون نوع التعامل صميمياً و عطوفاً و إيمانياً و أخوياً.
و قضية أخرى - و حديثنا أخذ يطول - هي قضية ثقافة الالتزام بالقانون في البلاد. نحن بحاجة حقاً إلى أن يكون القانون مؤشراً و محوراً و فصل الخطاب في كل شؤون البلد. لو التزمنا بالقانون حقاً فسوف يساعد هذا الأمر مساعدة حقيقية على مرونة حياة الناس. أنه بالضبط كالمصابيح الخضراء و الحمراء عند تقاطع الشوارع. لاحظوا كم تخلق من المشاكل عدم مراعاة هذه المسألة. مثلاً تصلون بسيارتكم إلى تقاطع طرق، لنفترض أن الضوء الأخضر كان مضاءاً لمدة دقيقة أو دقيقتين و السيارات تعبر و تمر، و بمجرد أن وصلتم أنتم اشتعل الضوء الأحمر. القضية صعبة طبعاً، و عليكم التوقف هناك لمدة معينة. دخولكم في تلك المنطقة الممنوعة بدافع من طلبكم الراحة، سيؤدي إلى الإخلال في وضع عشرات الأشخاص و السيارات على طرفي الطريق. و حتى شرطي المرور الواقف هناك لتنظيم الأمور سيواجه مشكلة. طيب، راعوا القوانين حتى لا تحدث كل هذه المشاكل. لاحظوا، هذا مثال واضح نواجهه يومياً و لذلك غالباً ما يراعيه الناس و يلتزمون به. و القوانين في كل مكان على هذه الشاكلة. إذا جرت مراعاة القوانين كانت الأمور مرنة و سهلة. و إذا حلّ عدم الالتزام بالقوانين بيننا - و كل شخص له على كل حال تبريره لعدم التزامه بالقانون، أحدهم يقول هذا القانون يضيّع حقّي، و هذا القانون كذا و ذاك كذا، لكن هذه التبريرات غير مقبولة - أختلت الأمور و الأعمال.
إذا شاع عدم الالتزام بالقانون تعقدت الأمور، و تفاقم زحام السيارات و أختل المرور، و حصلت عقد مرورية، و تبددت مصالح الناس و سحقت. على الجميع احترام القانون. و أقول لكم إن هذه الحالة كغيرها من الحالات التي ينبغي أن تنتشر ثقافتها من النخبة لتصل إلى عموم المجتمع. إذا لم تلتزموا أنتم النخبة بالقانون فلا تتوقعوا من عموم المجتمع الالتزام بالقانون. ندعي أننا نخبة - سياسية أو نخبة علمية - لكننا لا نكترث للقانون في أمورنا و شؤوننا!
و في خصوص هذه القضايا الجارية فقد كنت مصراً و لا أزال و سأبقى مصراً في المستقبل أيضاً على تطبيق القانون. أي إننا لن نتجاوز القانون حتى خطوة واحدة. قانون بلادنا قانون الجمهورية الإسلامية. لا شك أن النظام و الشعب لن يخضعوا للعسف و لمنطق القوة مهما كان الثمن. الجهة المقابلة للالتزام بالقانون و الانقياد له هي الدكتاتورية. ليعلم الأصدقاء - إن لم يكونوا يعلموا - و هم يعلمون أنه يوجد في قعر أرواحنا جميعاً ميلٌ إلى الدكتاتورية، و علينا قمع هذا الميل. و كما قلنا يجب علينا ترويض هذا المتحجّر القابع في داخلنا دوماً بمطرقة القانون و الدين و التعبد. إذا لم نعالج أنفسنا كان العلاج صعباً. إذا لم يكن هناك انقياد للقانون ستبرز الدكتاتورية رويداً رويداً. و الدكتاتورية تظهر بهذه الصورة في المجتمعات.
و النقطة الأخيرة - و قد ذكرت هذه الفكرة مراراً - هي أن تكون نظرة النواب المحترمين في ممارستهم للعملية التشريعية و سنّ القوانين - مركوزةً على البلاد برمتها. طبعاً يجب بالتأكيد ملاحظة مصالح منقطتهم - لا شك في ذلك - بيد أن تلك المصالح يجب أن تكون ضمن منظومة النظر لعموم البلاد، و إلا إذا تقرر أن يعمل نائب الشرق للشرق حتى لو كان ذلك على حساب الغربى و ضد الغرب، و يعمل نائب الغرب للغرب حتى لو كان عمله على الضد من مصلحة الشرق، فلن تكون هذه حالة مقبولة. أن يكون الشخص نائباً للشرق أو للشمال أو للجنوب معناه أن يُشرك الشخص حاجة منطقته التي يعرفها عند سنّه للقوانين، لا أن يشرّع القانون لأجل تلك المنطقة فقط.. القانون للجميع. هذه هي النظرة العامة للبلاد عند عملية تشريع القوانين.
و هناك أيضاً قضية الإسراف و التبذير. الإسراف في التكاليف، و الإسراف في الأسفار.. هذه أيضاً أمور يكتبها أو يرويها لي أحياناً بعض النواب المحترمين. عليكم أنفسكم أن تتفطنوا إلى هذه النقطة و لا تسمحوا لمجلس الشورى الإسلامي بالخروج عن حالة الورع و الزهد. ينبغي الاهتمام لهذه الحالة بجد.
نتمنى أن يوفقنا الله تعالى و إياكم إلى ما فيه رضاه، فلا تكون فترة المسؤولية هذه سبباً في ازدياد أوزارنا و أعبائنا، بل تكون إن شاء الله سبباً لسعادتنا و تقربنا إلى الله تعالى، و تكون مقبولة عند الإمام المهدي المنتظر (أروحنا فداه). سنكون مشمولين بأدعيته عجّل الله تعالى فرجه، و تكون أرواح إمامنا الجليل و الشهداء الطاهرة راضية عنّا إن شاء الله.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته