بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين سيما بقية الله في الأرضين.
السلام عليك أيتها السيدة يا فاطمة المعصومة يا بنت موسى بن جعفر عليك و على آبائك الطيبين الطاهرين المعصومين أفضل الصلاة و السلام.
اقتران لقائنا العظيم جداً هذا، و الذي أضفى حضور الأساتذة و الكبراء و الفضلاء و كل الطلبة الأعزاء في الحوزة العلمية في قم العظمة ‌عليه، مع الولادة السعيدة لسيدنا علي بن موسى الرضا (عليه آلاف التحية و الثناء) و كذلك ولادة أخته الجليلة السيدة فاطمة المعصومة (سلام الله عليها) يذكّرنا بالخطوة العظيمة المباركة لهذا الأخ و أخته، و هجرتهم العميقة المعاني و التي كانت بلا مراء خطوة بناءة و مؤثرة في تاريخ شعبنا و تاريخ التشيع. لا ريب أن دور السيدة المعصومة (سلام الله عليها) في تكوين مدينة قم و عظمة هذه المدينة العريقة الدينية التاريخية دور فوق الكلام و النقاش. هذه السيدة الجليلة و هذه البنت الشابة المتربّية في أحضان أهل بيت النبي (ص) بتحركها في جماعة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) و أصدقائهم و أنصارهم، و اجتيازها بالمدن المختلفة، و نثرها بذور المعرفة و الولاية بين الناس على امتداد الطريق، ثم الوصول إلى هذه المنطقة، و النزول في قم، جعلت من هذه المدينة تتألق كمقر رئيسي لمعارف أهل البيت (عليهم السلام) في تلك الفترة ‌المظلمة الحالكة من حكومة ‌الجبابرة، و تكون حصناً يشعّ بأنوار علوم أهل البيت و معارفهم على كل العالم الإسلامي شرقاً و غرباً.
و اليوم أيضاً فإن مدينة قم هي المركز المعرفي و العلمي في العالم الإسلامي. اليوم أيضاً و كما في ذلك الزمان تعدّ قم القلب الناشط المتحرك الذي يستطيع و يجب أن يضخ دماء المعرفة و البصيرة و الصحوة و الوعي لكل أنحاء جسد الأمة الإسلامية. في ذلك العهد صدرت أول كتب الفقه و المعارف الشيعية و تأليفات أتباع أهل البيت (عليهم السلام) عن مدينة قم. الكتب الأساسية المعتمدة من قبل الفقهاء و العلماء ‌و المحدثين في مدينة قم ظهرت في الحوزة العلمية‌ بقم. كتاب «نوادر الحكمة» لمحمد بن أحمد بن يحيى، و كتاب «بصائر الدرجات» للصفار، و كتاب «الشرايع» لعلي بن بابويه القمي، و كتاب «المحاسن» للبرقي، و كتب أحمد بن محمد بن عيسى، و العشرات و المئات من الكتب الأخرى صدرت و أنتجت في هذا المقر المعرفي. نشأت هنا شخصيات حينما كانوا يسافرون إلى أقطار العالم الإسلامي كانت تتحول محافلهم و مجالسهم إلى مجالس فيض علمي. الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) الذي كان من الجيل الثالث و الرابع لهذا التحرك العظيم حينما جاء‌ بغداد - و كانت بغداد مركزاً للشيعة و الحديث - اجتمع تحت منبره العلماء و الفضلاء و الأكابر، و انتفعوا من علمه. لذلك تلاحظون أن الشيخ الصدوق شيخ و أستاذ الشيخ المفيد (رضوان الله عليهما). و هكذا تحولت قم إلى مركز و قطب.
و مدينة قم اليوم أيضاً قطب. اجتمعت هنا طوال الأعوام المديدة عشرات الآلآف من الفراشات العاشقة حول شموع معارف أهل البيت، و اكتسبوا العلم و المعرفة، و هم يعانون من مشكلات عديدة، و يتطلعون لأهداف عالية و معنوية، و يتقدمون إلى الأمام دون اكتراث لهذه المشكلات. ربما قلّ أن نعلم أو ربما لا نعلم في العالم بوجود مثل هذا العدد الهائل من البشر في مدينة واحدة يطلبون علوم الدين و المعرفة و المعنوية و السلوك الجماعي، و يسعون و يجهدون نساء و رجالاً ليلاً و نهاراً، و يجاهدون الجهاد المعنوي و العلمي و الثقافي. هذه هي الحوزة في قم اليوم، بهذا الموقع العالمي الممتاز، و بما لقم من السوابق، حيث تشكلت أول حوزة أساسية مهمة للتشيع في هذه المدينة و كان عظماء من قبيل الشيخ الكليني و الشيخ الصدوق و سواهم من المنتهلين من هذا الينبوع الفياض. و أعمالهم تحفظ معارف أهل البيت (عليهم السلام) طوال القرون المتمادية.
الحوزات العلمية - و خصوصاً الحوزة العلمية في قم - لم تكن في أية فترة من فترات حياتها محطّ أنظار الرأي العام العالمي كما هي اليوم. و لم تكن مؤثرة في السياسات العالمية و ربما في المصير العالمي و الدولي كما هي اليوم. لم يكن للحوزة العلمية في قم من الأصدقاء و الأعداء ما لها اليوم. أنتم الناشطون في الحوزة العلمية في قم لكم اليوم من الأصدقاء‌ أكثر مما كان في كل هذا التاريخ، و لكم أيضاً أعداء أكثر و أخطر من كل أحقاب التاريخ. للحوزة العلمية في قم حالياً - و هي في القمّة من الحوزات العلمية - مثل هذا الموقع الحساس.
و ثمّة هنا مغالطة ينبغي أن أشير إليها. قد يقول البعض لو لم تدخل الحوزات العلمية في القضايا العالمية و السياسية و التحديات المختلفة لما كان لها كل هؤلاء الأعداء، و لكانت أكثر احتراماً مما هي عليه اليوم. هذه مغالطة. ما من جماعة أو مؤسسة أو منظومة لها قيمتها تحظى باحترام الرأي العام بسبب عزلتها و عدم فاعليتها و نشاطها، و لن تحظى بعد اليوم أيضاً. احترام المجامع و المؤسسات غير المكترثة و الميّالة للسلامة و المبتعدة بنفسها عن التحديات إنما هو احترام صوري. احترام هو في معناه العميق عدم احترام.. كاحترام الأشياء الذي لا يعدّ احتراماً حقيقياً، و كاحترام الصور و التماثيل الذي لا يعدّ في واقع الأمر احتراماً. و أحياناً يكون هذا الاحترام مشوباً بالإهانة و الاستهانة الباطنية من قبل من يتظاهر بالاحترام. الكائن الحي النشيط المؤثر هو الذي يثير الاحترام سواء في قلوب الأصدقاء أو حتى في قلوب الأعداء. إنهم يعادونه لكنهم يجلونه و يحترمونه.
أولاً عزلة‌ الحوزة العلمية في قم و أية حوزة أخرى تؤدي إلى إقصائها. عدم الدخول في التيارات الاجتماعية و السياسية و التحديات يفضي تدريجياً إلى التهمّش و النسيان و العزلة. لذلك كان رجال الدين الشيعة عموماً و بصرف النظر عن الاستثناءات الفردية و المرحلية متواجدين في الصميم من الأحداث. و لهذا فإن رجال الدين الشيعة يتمتعون بنفوذ و عمق في المجتمع لا تحظى به أية منظومة أخرى من رجال الدين في العالم، إسلامية‌ كانت أو غير إسلامية.
ثانياً لو أراد رجال الدين السير على الهامش و على الرصيف و انتهاج العزلة لأضرّ ذلك بالدين. رجال الدين هم جنود الدين و خدمة‌ الدين، و لا شأن و لا حيثية لهم بمعزل عن الدين. لو اعتزل رجال الدين القضايا الأساسية - و النموذج البارز لذلك هو الثورة الإسلامية‌ العظيمة - و بقوا غير آبهين حيالها لأضرّ ذلك بالدين دون مراء، و الغاية التي يتوخاها رجال الدين هي صيانة الدين.
ثالثاً إذا كان التواجد في الساحة مما يؤدي إلى تحفيز العداء فإن هذا العداء ‌في المحصلة النهائية مبعث خير. فالعداوات هي التي تحفز الغيرة و الحمية و الاندفاع، و تخلق الفرص للكائن الحي. أينما شنت الخصومات و الهجمات و الأحقاد على رجال الدين أو الدين قابلتها خطوات بناءة من قبل الواعين و المتيقظين. قلت ذات مرة‌ في حشد من الناس أن تأليف كتاب من قبل كاتب متعصب ضد الشيعة أدى إلى ظهور عدة كتب تعتبر من مصادر الشيعة الكبيرة. في مدينة‌ قم هذه لو لم يصدر كتاب «أسرار الألف سنة» من قبل شخص منحرف كان تركيبة من الأفكار العلمانية و الميول الوهابية لما اندفع إمامنا الجليل لتجميد دروسه مدة من الزمن و كتابة‌ «كشف الأسرار» في الردّ عليه، و في هذا الكتاب نجد البراعم الأولى للحكومة الإسلامية و ولاية الفقيه، إذ أن إعادة إنتاج هذه الفكرة الفقهية الشيعية المهمة مشهودة في كتاب «كشف الأسرار» للإمام الخميني (رض). و لو لا تحركات التيارات اليسارية و الماركسية و حزب توده في عقد العشرينات و بداية ‌الثلاثينات [الأربعينات و الخمسينات الميلادية] لما تم إنتاج كتاب خالد مثل «أصول الفلسفة و المذهب الواقعي». و عليه فهذه العداوات لم تنته بضررنا. أينما حصل خصام، أبدى الكائن الواعي اليقظ - أي الحوزة العلمية - عن نفسه ردود الفعل المناسبة و خلق الفرص. العداوات تخلق الفرص، طبعاً حينما نكون يقظين و أحياء و لا نكون غافلين.
في عهد رضا خان حينما حصلت تلك الخطوات المعادية لرجال الدين أدت بمرجع مثل المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني (رضوان الله تعالى عليه) إلى أن يسمح بإنفاق الحقوق الشرعية في إصدار المطبوعات و المجلات الدينية. و هذا شيء لا سابقة له و كان عجيباً في حينه. و هكذا صدرت المطبوعات الدينية‌ بالحقوق الشرعية و بسهم الإمام و ظهرت المجامع الدينية بالاعتماد على سهم الإمام. أي إن شخصية مثل السيد الإصفهاني (رضوان الله تعالى عليه) و خلافاً لما قد يتصوره البعض كان يفكر في القضايا الثقافية لبلادنا، و في عالم التشيع، و في البلد الشيعي، و يجيز إنفاق سهم الإمام في مثل هذه الأعمال و النشاطات.. هذه فرص.. العداوات توفر مثل هذه الفرص الكبرى.
رابعاً إذا بقي رجال الدين على الحياد في التحديات الأساسية لن يؤدي ذلك إلى بقاء أعداء‌ رجال الدين و الدين على الحياد أو إلى اتخاذهم جانب الصمت. «و من نام لم ينم عنه» (1). إذا لم يشعر رجال الدين الشيعة بالمسؤولية حيال الأحداث العدائية التي تواجههم، و لم ينزلوا إلى الساحة، و لم يفجّروا طاقاتهم و إمكانياتهم، و لم ينهضوا بالمهمات الكبيرة ‌الملقاة على عواتقهم، فسوف لن يفضي ذلك إلى إيقاف العدو لعدائه، بل على العكس، كلما شعر الأعداء أن فينا ضعفاً تقدموا إلى الأمام، و كلما شعروا أننا منفعلين ضاعفوا من نشاطهم و تقدموا إلى الأمام. لقد أدرك الغربيون منذ أمد طويل الإمكانيات الهائلة‌ للفكر الشيعي على مواجهة الظلم العالمي و الاستكبار العالمي. منذ أحداث العراق، و منذ قضية التنباك.. لذلك لن يسكتوا، و سوف يواصلون تعدياتهم و تقدمهم إلى الأمام. صمت و حياد العلماء و رجال الدين و الحوزات العلمية لا يمكنه إطلاقاً إيقاف عداء الأعداء. و إذن فحركة الحوزات العلمية و عدم بقائها على الحياد حيال الأحداث العالمية و إزاء التحديات الوطنية و الدولية ضرورة من الضرورات لا يمكن الغفلة عنها.
طرح بعد انتصار الثورة الإسلامية عنوانان و مفهومان خاطئان منحرفان من قبل الذين كانوا على علاقة سيئة برجال الدين، و كانوا في نفس الوقت أعداء للثورة الإسلامية. و بالطبع فقد تمّ الرد على هذا الطروحات قولاً و عملاً، و لكن ينبغي مع ذلك التيقظ و التبصر دائماً.
لقد طرح الأعداء‌ هذين المفهومين الخاطئين، و في الواقع هاتين التهمتين كتكتيك: المفهوم الأول قضية حكومة رجال الدين أو المعممين. يقولون: تحكم في إيران سلطة المعممين أو حكومة رجال الدين. و قد كتبوا هذا و قالوه و بلغوا له و كرروه. و المفهوم الثاني هو المعمم الحكومي، حيث قسموا المعممين إلى حكوميين و غير حكوميين. و كان هدفهم من طرح هذين المفهومين المخادعين الخاطئين أولاً حرمان النظام الإسلامي من الرصيد الفكري و النظري و الاستدلالي و العلمي الهائل لعلماء الدين، و ثانياً أرادوا حسب أوهامهم عزل و تشويه سمعة رجال الدين المسؤولين و الثوريين و المتواجدين في الساحة و المتصدين لعدائهم بكل شجاعة. أي إنهم قالوا: إن المعممين بعضهم حكوميون و هم الطالحون و السلبيون، و بعضهم غير حكوميين و هم الصالحون و المنزهون.
العلاقة بين رجال الدين و النظام الإسلامي علاقة واضحة. علاقة رجال الدين و الحوزات العلمية بالنظام الإسلامي علاقة حماية و نصيحة و دعم. و سوف أوضح هذه المسألة. الحماية إلى جانب النصيحة و الدفاع إلى جانب الإصلاح. هذا المفهومان الخاطئان مضللان و عدائيان حقاً. و الدليل على ذلك أولاً: حكومة المعممين و نسبة الجمهورية الإسلامية لهذا المفهوم كلام كاذب. الجمهورية الإسلامية‌ حكومة القيم، و حكومة‌ الإسلام حكومة الشرع و الفقه، و ليست حكومة‌ الأفراد المعممين. كون الإنسان معمماً لا يكفي لأن يتولى سلطة و حكومة. الجمهورية ‌الإسلامية‌ تختلف ماهوياً عن الحكومات الدينية التي يحكمها رجال الدين في العالم، و التي كانت في الماضي و توجد اليوم أيضاً في أنحاء من العالم. حكومة الجمهورية ‌الإسلامية حكومة القيم الدينية. قد يتوفر أحد رجال الدين على القيم و يتقدم على كثير من رجال الدين، لكن كونه معمماً لا يسلبه في الوقت نفسه الكفاءة و المؤهلات. كون الإنسان معمماً لا يحقق له بحد ذاته الأهلية و الكفاءة، و لا يسلبه الأهلية و الكفاءة. إنها حكومة‌ الدين و ليست حكومة‌ شريحة معينة و جماعة معينة. و تصنيف المعممين إلى حكوميين و غير حكوميين، و قيميين و مضادين للقيم، هو أيضاً خطأ فاحش. طلب الحكومة و السلطة و طلب أي شيء آخر غير السلطة إذا كان من أجل الدنيا كان شيئاً سلبياً سيئاً.. إذا كان لتلبية أهواء النفس كان شيئاً سيئاً، و هذا أمر لا يختص بطلب السلطة. نحو أي هدف اتجهنا إذا كنا نقصد من ذلك هوى النفس و المصالح الشخصية كان ذلك على الضد من القيم، و هو مصداق للدخول في الدنيا. يقول: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا» (2). هذا شيء لا يقتصر على طلب السلطة و الحكومة. إذا كانت الدنيا هي الهدف و الغاية‌ كان ذلك أمراً مرفوضاً. و ليس في الأمر حكومة أو غير الحكومة. أما إذا كان التوجه نحو السلطة بهدف معنوي إلهي كان ذلك من أرقى مصاديق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و من أسمى مصاديق الجهاد. إنه تقبل للمسؤوليات الثقيلة أو الدفاع عن المسؤولين أصحاب الكفاءة و الأهلية. إذا كان تعبير المعمم الحكومي يطلق على الشخص الذي يدافع عن النظام الإسلامي أو عن المسؤولين من أجل أداء دَيْنه، و من أجل أداء مسؤوليته الشرعية، فهذه قيمة و ليست قيمة سلبية. بل عدم التحلي بهذه الحالة هي القيمة السلبية. إذن ليس أي من هذين المفهومين - لا مفهوم سلطة المعممين و لا مفهوم المعمم الحكومي و المعمم غير الحكومي - مفهوماً صحيحاً. إثارة هذه المفاهيم بعد الثورة و بعد تأسيس النظام الإسلامي إثارة فيها مغالطة، فهذه المفاهيم لا صلة لها بثقافة هذه الثورة.
و في المقابل ثمة حقيقتان و مفهومان آخران قيميان و صانعان للقيم. أحدهما هو أن النظام الإسلامي يحتاج نظرياً و عملياً لعلماء‌ الدين و الحوزات العلمية و يستند إلى جهودهم العلمية. النظام يتوكأ على الحوزات العلمية، و على العلماء و المبرزين و الخبراء‌ و أصحاب الرأي الدينيين. و المفهوم الآخر هو أن الحوزة و رجال الدين ليسوا غير مبالين حيال النظام الديني. ما من رجل دين و لا عالم دين و لا خادم للإسلام يمكنه أن يكون غير آبه و لا مكترث إزاء النظام الذي تكوّن على أساس الإسلام، و سار و عمل بدوافع إسلامية.. لا يمكنه اعتبار نفسه أجنبياً غريباً على هذه المسألة. هذه بدورها حقيقة ‌أخرى.
الحقيقة الأولى التي ذكرناها، و هي أن النظام الإسلامي يعتمد على الحوزات العلمية مردّها إلى أن التنظير السياسي و التنظير لكافة شؤون إدارة الشعب و البلاد في النظام الإسلامي يقع على عاتق علماء الدين. المتخصصون في شؤون الدين و العلماء بالدين هم الذين يستطيعون الإفصاح عن آراء الإسلام حول قضايا الاقتصاد و الإدارة و الحرب و السلام و الأمور التربوية و الكثير من القضايا الأخرى. إذا لم يمتلئ فراغ هذه العملية التنظيرية و إذا لم ينهض علماء الدين بذلك فسوف تملأ النظريات الغربية و النظريات غير الدينية و النظريات المادية هذا الفراغ. ما من نظام و لا أية منظومة يمكن أن تدير الأمور في الفراغ، إنما سيأتي نظام إداري آخر و نظام اقتصادي آخر و نظام سياسي آخر من إنتاج الذهنيات المادية و يحلّ في هذا الفراغ و يملؤه. و هذا ما حصل في المواطن التي كان فيها مثل هذا الفراغ بنحو ملموس.
و لهذا حذرتُ فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية في الجامعات و نبهت الجامعات و المسؤولين إلى أخطار هذه العلوم المسمومة‌ ذاتياً. العلوم الإنسانية ‌الدارجة اليوم فيها مضامين تتعارض ماهوياً مع المسيرة الإسلامية و النظام الإسلامي، و ترتكز إلى رؤية عالمية أخرى، تطلق كلاماً آخر، و تتابع هدفاً آخر. حينما تشيع هذه العلوم فسوف ينشأ المدراء على أساسها، و يأتي هؤلاء المدراء ليتولوا إدارة الجامعات، و إدارة اقتصاد البلاد، و إدارة الشؤون السياسية الداخلية و الخارجية و الأمن و غير ذلك. الحوزات العلمية و علماء‌ الدين أرصدة و دعامات من واجبها استخلاص النظريات الإسلامية في هذه الحقول من النصوص الإلهية و تشخيصها و توفيرها للمسؤولين من أجل البرمجة و التخطيط و التمهيدات المختلفة. إذن، علماء الدين و أصحاب الاختصاص و النظريات الإسلامية هم دعامة النظام الإسلامي، لذلك من واجب النظام دعم الحوزات العلمية لأنها سنده و ركيزته.
مضافاً إلى أن النظام الإسلامي بحاجة للحوزات العلمية من أجل إدارة الشعب و البلاد، ثمة نقطة أخرى هي أن هناك اليوم شبهات تطرح و تستهدف النظام الإسلامي.. شبهات دينية و شبهات سياسية و شبهات عقيدية و معرفية تنشر في أوساط المجتمع و خصوصاً بين الشباب، الهدف منها فقط هو نقلهم من فكرة إلى أخرى، و القضاء ‌على الأرصدة البشرية للنظام الإسلامي، و النيل من المباني الأصلية للنظام في الأذهان، و مناصبة النظام العداء. لذلك فإن الرد على هذه الشبهات و مواجهتها و مسح هذه الأغبرة عن أذهان المجتمع - و هو ما يتمّ على يد علماء‌ الدين - يعدّ إسناداً آخر للنظام الإسلامي. و بالتالي فالنظام الإسلامي يعتمد من وجوه عدة على علماء الدين و المنظرين و الباحثين و علماء الحوزات العلمية.
و في المقابل، لا يمكن للحوزات العلمية أن تبقى غير مكترثة. الحوزات العلمية و خصوصاً الحوزة العلمية في قم أمّ لهذا النظام و صانعة و منتجة لهذه الثورة و لهذه الحركة العظيمة. كيف يمكن لهذه الأمّ أن تغفل عن ما ولدته و عن أبنها، و تكون غير مكترثة له و غير آبهة به، و لا تدافع عنه في وقت الحاجة؟ هذا غير ممكن. إذن، العلاقة بين الحوزات العلمية و نظام الجمهورية الإسلامية علاقة حماية متبادلة. النظام يحمي الحوزات و يدعمها و الحوزات تحمي النظام أيضاً، فهما يتعاونان و يساعدان بعضهما.
ثمة مسألة تطرح هنا، و أنا أطرحها، و سوف أطرح بعد ذلك إن شاء الله عدة مسائل أخرى من المسائل المهمة المتعلقة بالحوزة العلمية. و المسألة هي استقلال الحوزات. هل دعم النظام الإسلامي للحوزات العلمية يمكن أن ينال من استقلال الحوزات العلمية أم لا؟ و هل عملية الدعم هذه مجازة أم لا؟ هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية. أولاً، لقد كانت الحوزات العلمية مستقلة على امتداد تاريخها، و ليس في فترات الدول المعارضة للتشيع فقط، بل حتى في عهود الدول الشيعية. أي حينما كان الصفويون يحكمون، و جاء‌ علماء كبار كالمحقق الكركي و والد الشيخ البهائي و غيرهما من العظماء إلى إيران، و تولوا مناصب دينية مختلفة، لم يكن هؤلاء العلماء و لا تلامذتهم و المتخرجون على أيديهم من الخاضعين للسياسة‌ الصفوية أو المرتهنين لهذه السياسة. نعم كانوا يتعاونون و يساعدون و يمجّدون و يعظمون، لكنهم لم يكونوا في قبضة الحكام و تحت تصرفهم. و قد كان الأمر كذلك في فترة من الدولة القاجارية. كاشف الغطاء (رضوان الله تعالى عليه) هذا العالم الكبير حينما جاء‌ لإيران و كتب كتاب «كشف الغطاء» أثنى في مقدمة هذا الكتاب و في مبحث الجهاد ثناء كبيراً على فتح علي شاه القاجاري بسبب الحروب التي خاضتها إيران في زمانه مع روسيا، لكن كاشف الغطاء لم يكن شخصاً يخضع لقبضة فتح علي شاه و أمثال فتح علي شاه، بل كان مستقلاً. الميرزا القمي في بيته في قم كان موضع احترام و تكريم الملك في زمانه، لكنه لم يكن ليرضخ لإرادته. أصرّ الملك على أن يفتي الميرزا بما يريد، لكن الميرزا لم يوافق و لم يرضخ. للميرزا القمي رسالة بعنوان «الرسالة العباسية» يعرض فيها رأيه الفقهي في باب الجهاد. و قد طبعت هذه الرسالة و نشرت لأول مرة قبل عدة سنوات. و قد سألوه بطريقة توحي أنهم يريدون منه وكالة و نيابة ليستطيعوا الجهاد بالنيابة عنه - و أظن أن هذا الشيء ورد في «جامع الشتات» أيضاً - لكنه لم يستجب و لم يوافق. هكذا كان رجال الدين الشيعة دوماً.. كانوا دائماً مستقلين و لم يحبسوا أنفسهم في قبضة الحكام و السلطات أبداً، و كذلك الحال اليوم أيضاً، و يجب أن يكون كذلك في المستقبل أيضاً، و سيكون كذلك بتوفيق من الله.
و لكن ينبغي أن تحذروا هاهنا أيضاً من مغالطة أخرى قد تطرح.. استقلال الحوزات لا يعني عدم دعم النظام للحوزات و الحوزات للنظام. البعض يريدون هذا. البعض يريدون تحت طائلة الاستقلال و باسم الاستقلال فصم العرى بين الحوزة و النظام. و هذا غير ممكن. التبعية تختلف عن الحماية و الدعم. النظام مدين للحوزة و لا بد أن يساعد الحوزة. طبعاً الوضع المعيشي لطلبة العلوم الدينية ينبغي أن يعتمد على الناس وفق التقليد الدارج و الزاخر بالمعاني و الرموز و الأسرار. و على الناس أن يدفعوا حقوقهم الشرعية. هذه هي عقيدتي.
كلما دقق المرء في أعماق هذا التقليد و السنة القديمة التي شاعت في حوزاتنا منذ حوالي مائة سنة أو مائة و خمسين سنة يجدها أكثر أهمية و معنى و عمقاً و رموزاً و أسراراً. و هذا هو سر الأواصر الوثيقة بين الناس و الحوزات، و هو أن يشعروا برابطة القربى و الاتحاد. و ليس للناس توقعات كبيرة من رجل الدين، لكنهم يجدون أنفسهم ملزمين بالدعم المالي للحوزات و رجال الدين، و هذا هو الصحيح.
على أن قضايا الحوزات لا تقتصر على قضية المعيشة. ثمة في الحوزات تكاليف لا يمكن النهوض بها إلا بمساعدات بيت مال المسلمين، و مساعدات الحكومات و الدول. من واجب الحكومات دفع هذه التكاليف و من دون أن تتدخل. الكثير من المدارس المهمة في مختلف المدن شيّدت من قبل الأمراء و السلاطين. في مشهد بنيت ثلاثة مدارس بجوار بعضها - مدرسة نواب، و الباقرية و الحاج حسن - و قد بنيت ثلاثتها في عهد أحد السلاطين الصفويين و بأمر منه أو بأمر من شخصيات دولته. لا إشكال في ذلك. كانت المدرسة الباقرية مكان تدريس المحقق السبزواري - الملا محمد باقر السبزواري صاحب «الذخيرة» و «الكفاية» - و قد بنيت من قبل الصفويين. لا إشكال في هذا. يجب أن يدفع رجال الدولة بعض التكاليف و يجب أن لا يتدخلوا. تتقبل الحوزة أنواعاً متعددة من الدعم من قبل النظام و بكل عزة و كرامة. الدعم الذي يقدمه النظام حالياً للحوزات العلمية، و يجب أن يقدمه، بل ينبغي أن يزيد منه، هو من واجبات النظام. و الدعم ليس دعماً مادياً فقط. أهم و أوسع المنابر و وسائل الإعلام الوطنية انتشاراً في الوقت الراهن - و الحمد لله - تحت تصرف مراجع الدين العظام. هذا دعم يقدمه النظام. و يجب على النظام الإسلامي أن يقدم هذا الدعم، و السبب هو تلك الأواصر التي تحدثنا عنها. إذن قضية التدخل و الاستقلال يجب عدم خلطها بالحقائق المشهودة في هذا الباب.
الحقيقة هي أن هذين التيارين العظيمين - تيار النظام الإسلامي و في الصميم منه تيار الحوزات العلمية - تياران مترابطان و متصلان ببعضهما و مصيرهما واحد. ليعلم الجميع هذا. مصير رجال الدين و مصير الإسلام في هذا البلد اليوم مرهون و منوط بمصير النظام الإسلامي. إذا أصيب النظام الإسلامي بأدنى ضرر، فلا مراء أن الخسارة ستكون على رجال الدين و أهل الدين و علماء الدين أكبر منها على جميع أبناء الشعب الآخرين. النظام طبعاً حي و قوي و ناهض، و أقول بكل ثقة إن النظام سينتصر و يتغلب على جميع التحديات التي تواجهه.
القضية المهمة الأخرى المطروحة و التي ينبغي التحدث فيها بوضوح هي قضية التحول في الحوزات. منذ عدة سنوات تطرح قضية التحول في الحوزات العلمية، و خصوصاً الحوزة العلمية المباركة في قم. ما معنى هذا التحول؟ ما الذي تريد أن تفعله الحوزة مما يمكن أن نسميه تحولاً؟ لو أخذنا التحول بمعنى تغيير الخطوط الأصلية‌ للحوزات - كتغيير منهج الاجتهاد - لكان هذا انحرافاً بلا شك. إنه تحول، لكنه تحول نحو السقوط. الأسلوب الاجتهادي الشائع اليوم في الحوزات العلمية، و الذي يعتمد عليه علماء الدين، من أقوى أساليب الاجتهاد و أمتنها منطقاً. الاجتهاد المعتمد على اليقين و العلم، و المتوكئ على الوحي، و البعيد عن الظنون، أي إن استنباطنا استنباط علمي يقيني. هذه الظنون الخاصة الموجودة يجب أن تكون حجيتها كلها يقينية قطعية. حتى اعتبار الأصول العلمية التي نستخدمها في الفقه ينبغي أن يكون اعتباراً جزمياً قطعياً. و حينما لا يتوفر لنا الدليل القطعي على اعتبار هذا الأصل العملي - الاستصحاب أو البراءة أو الاشتغال، و كلّ في مجاريه - و لم نجزم به فلا نستطيع الاستفادة من هذا الأصل.
و عليه فإن كل أساليب الاستنباط في فقهنا تنتهي إما بواسطة أو بدون واسطة إلى القطع و اليقين.
ليس الاجتهاد عند الشيعة بمعنى الاعتماد على الظنون غير المعتبرة. و من هنا استخدم أسلافنا مصطلح الاجتهاد بالرأي، و الاجتهاد المستند إلى الظنون غير المعتبرة، كالقياس و الاستحسان و ما إلى ذلك، و كتبوا الكتب حولها: «الردّ على أصحاب الاجتهاد في الأحكام» لاسماعيل بن أبي سهل النوبختي، و السيد المرتضى في «الذريعة»، و الشيخ في «عدة الأصول»، و غيرهم الكثير ممن رفضوا الاجتهاد المرتكز على الظنون غير المعتبرة.. هذا الاجتهاد مرفوض. و اليوم أيضاً إذا توجه البعض نحو مثل هذا الاجتهاد تحت أية مسميات كان فعلهم هذا مرفوضاً. و قضية أن العالم لا يتقبل هذا منا، و هذا الكلام الفقهي ليس له أنصار في العالم - سواء قالوا هذا صراحة أو لم يقولوه، لكنه موجود في قرارة قلوبهم، و يقودهم إلى نوع خاطئ من الاستنباط - قضية مرفوضة. للأسف لوحظ هنا و هناك حالات من التدخل و التصرف في استنباط الأحكام الشرعية من أجل مراعاة أعراف العالم المتحضر، و هو عالم مادي في الغالب. و الأسوء أن البعض من أجل خطب ودّ القوى المادية أحياناً - و ليس العرف الدارج في العالم المادي، بل عرف القوى المادية و الاستكبارية - أصدروا فتوى تقول إن مساعي الجمهورية‌ الإسلامية النووية السلمية ممنوعة لأنها تثير سوء ظن القوى الكبرى! إنها حماقة من تلك القوى أن تسيئ الظن بهذه المساعي!
إذا كان الاجتهاد بذلك الأسلوب الصحيح المعتمد على الكتاب و السنة، و بتلك المنهجية المعقولة الصحيحة المنطقية المدروسة المحسوبة الناضجة، فهو شيء جيد جداً. الاجتهادات و لو كانت لها نتائج مختلفة تؤدي إلى الحركية و الإيناع و التقدم. كان لمجتهدينا و فقهائنا على امتداد تاريخ فقهنا آراء مختلفة في مسائل متنوعة. التلميذ له رأي خلاف رأي أستاذه، و تلميذه أيضاً قد يطلق آراء ضد أستاذه، لا إشكال في هذا إطلاقاً، بل من شأنه أن يؤدي إلى الحيوية و التقدم. ينبغي تعزيز هذا الاجتهاد في الحوزة. و لا يختص الاجتهاد بالفقه، إنما لا بد من الاجتهاد في العلوم العقلية و الفلسفة و الكلام أيضاً من قبل الخبراء في هذه العلوم. و لو لا هذا الاجتهاد لأصبحنا كالماء الراكد.
يتعين على الحوزة العلمية في الوقت الراهن أن لا تغيب عن ميادين الفلسفة و الفقه و الكلام في العالم. ثمة كل هذه الأسئلة في العالم حول مختلف القضايا، فما هي إجابات الحوزة؟ لا ، ينبغي أن لا تكون الحوزة غائبة و لا منفعلة.. كلا الحالتين مضرة. لا بد من أفكار جديدة، و لا مندوحة من الاستجابة للاحتياجات المتجددة التي تطرح في العالم كالسيل. عليكم أن تعدوا لها الإجابات. إجاباتكم ينبغي أن تتوجه صوب هذه الاحتياجات، و صوب الإجابات التي تطرحها المدارس و الفرق المختلفة. إذا غفلتم عن إجاباتهم فلن تستطيع إجاباتكم أن تفعل فعلها. عليكم طرح إجابات قوية و منطقية و مقنعة. و لا بد أن تطرح هذه الإجابات على مستوى العالم. ينبغي ضخ إنتاجات قم و تصديرها - و كما قلنا فإن قم هي القلب المعرفي للعالم الإسلامي - إلى العالم باستمرار. و لحسن الحظ فإن وسائل الاتصال اليوم متوفرة للجميع. و بوسعكم هنا العمل و التحرك، و يمكن أن يسمع عملكم و ينتفع منه في الطرف الآخر من العالم في نفس الساعة.
هناك احتياجات في مختلف المجالات، سواء للنظام الإسلامي أو على مستوى البلاد، أو على المستوى العالمي. شرح و تبيين علم المعرفة الإسلامي، و الفكر الاقتصادي الإسلامي، و علم السياسة الإسلامي، و المفاهيم الفقهية و الحقوقية التي يرتكز عليها هذا الفكر الاقتصادي و السياسي، و نظام التربية و التعليم، و المفاهيم الأخلاقية و المعنوية و غيرها و غيرها، كل هذا العلوم يجب أن توفر بنحو دقيق و علمي و مقنع، و بما يرتبط بالأفكار الشائعة في العالم. هذه من مهمات الحوزات. و هي عملية‌ ممكنة بفضل الاجتهاد.
إذا لم ننهض بهذه المهمة نكون قد ساعدنا بأنفسنا على إقصاء الدين عن ساحة الحياة الإنسانية، و نكون قد أعنّا بأنفسنا على عزلة رجال الدين. هذا هو معنى التحول. هذه الحركة الاجتهادية المتجددة هي أساس التحول.
و سوف أذكر في خصوص المجالات الأخرى ما يعدّ تحولاً و ما لا يعد تحولاً، و بعبارة أفضل ما يعدّ تحولاً صحيحاً، و ما يعد تحولاً خاطئاً. ما قلته و أقوله دائماً - و سبق أن ذكرت هذا في جلسات عديدة مع فضلاء ‌الحوزة - هو أن التحول و التغيير أمر قهري و لا بد أن يحدث. لا توجد اليوم حول المنظومات الوطنية و الشرائحية و المهنية و غيرها جدران و أسوار. و لكن إما أن ندير هذا التحول و التغيير و نوجّهه أو نتركه. إذا تركناه خسرنا. على كبار الشخصيات في الحوزة و مراجع التقليد و العلماء و المفكرين و الفضلاء أن يشمروا عن سواعدهم و يبدوا الهمم و يبرمجوا لهذا التحول و يوجهوه و يديروه. إذن المعنى الأساسي للتحول هو: التحرك المضموني المتجدد.
و قد يراد و يفهم من التحول معنى خاطئ ينبغي بالتأكيد تحاشيه. التحول بمعنى ترك الأساليب التقليدية الناجعة جداً في التعليم و التعلم في الحوزة، و تغييرها إلى الأساليب الدارجة في الجامعات اليوم، مثل هذا التحول و التغيير خطأ في خطأ.. إنه تراجع إلى الوراء.
إن أساليبنا التقليدية القديمة آخذة بالانتشار في العالم حالياً. و البعض ينشرون هذه الأساليب بدافع التقليد أو من منطلق الإبداع و الابتكار. فهل نأتي بأساليبنا الجامعية المستنسخة عن الأساليب الغربية القديمة إلى الحوزة، لا، إننا لا نعتبر هذا تحولاً. إذا حصل مثل هذا التحول لكان بالتأكيد تراجعاً إلى الوراء. نحن لا نوافق هذا. لدينا في الحوزة العلمية أساليب شائعة جيدة جداً، و قد كانت دارجة منذ القدم. أسلوب الاختيار الحر للأستاذ من قبل الطالب.. حينما يدخل الطالب الحوزة يبحث عن الأستاذ الذي يرغب فيه و يتقبله فيلتحق بدروسه. أساس عمل الطلبة هو التفكير و التدقيق و المطالعة و ليس الحفظ. محورية الحفظ هي الشيء الذي تحول اليوم إلى مصيبة في نظامنا التربوي و التعليمي الحديث و نحن نكافحه و نواجهه منذ فترات طويلة، و لم يصلح الأمر لحد الآن، و يجب أن يصلح. الأساس التقليدي لدينا في الحوزة هو التفكير. حينما يقرأ طالب العلوم الدينية الدرس، فهو يطالعه مسبقاً و يستعد ذهنياً ليستمع من الأستاذ لكلام جديد. و بعد الدرس يتباحث حول ما تعلمه مع زميل أو صديق له، فيعيد عليه الدرس الذي تعلمه و يعيد الآخر الدرس على الأول، لذلك يرسخ الدرس في الذهن. و في بعض الحوزات العلمية‌ مثل حوزة النجف من الدارج تقرير درس الأستاذ - و لم يكن هذا الأمر دارجاً في قم أو أنه كان نادراً جداً - حيث يجلس طالب فاضل بعد درس الأستاذ، و يعيد على بعض الطلبة الذين يحتاجون لذلك كلَّ الدرس الذي قدمه الأستاذ قبل قليل. لاحظوا كم تؤثر هذه العملية ‌في تعميق العلم و المعلومات لدى الطالب. ينبغي عدم التفريط بهذه التقاليد فهي شيء نفيس.
و احترام الأستاذ بدوره من المسائل المهمة. من التقاليد الدارجة في الحوزات العلمية تواضع الطالب أمام أستاذه و احترامه له. كانوا يكتبون «آداب المتعلمين» و يذكرون فيها واجبات المتعلم قبال معلمه، و ما للمعلم من حقوق على طلابه. كما أن للمتعلم في المقابل حقوقاً على المعلم. لم يكن الأستاذ يأتي و يلقي الدرس و يذهب، لا، بل يستمع لكلام الطالب. هذه تقاليد كانت دارجة‌ منذ القدم. و في زماننا هذا كان بعض الأكابر و لا يزالون يرافقهم الطالب بعد الدرس إلى البيت فيتحدث و يتحاور و يسأل. و هناك الجلسات العلمية و البحثية و جلسات الأسئلة و الأجوبة. هذه تقاليد جيدة في حوزاتنا العلمية. الآخرون يريدون سلبنا هذه التقاليد و أن نبدلها بأساليب الآخرين المنسوخة و القديمة. إذن ينبغي لهذه التقاليد أن تبقى و تتعزز. و ليس تغييرها هو التحول المقصود.
من الأمور الضرورية جداً في التحول الإيجابي أن نطابق أنفسنا و جهودنا و أنشطتنا العلمية مع الاحتياجات. ثمة‌ أمور يحتاج إليها شعبنا و يريدون إجاباتها منا و علينا توفير هذه الإجابات و تلبية‌ هذه المطاليب. و ثمة أمور لا يحتاج الناس إليها، و أنما بذلت من أجلها الكثير من الجهود و الأعمال، فلا نشغل أنفسنا بها. هذه مسائل أساسية ‌و مهمة جداً.
إننا نطالب الجامعات بمطابقة نشاطاتها مع احتياجات المجتمع. حينما نتحدث مع الجامعيين و أساتذة الجامعات و الطلبة الجامعيين نطالبهم بهذا و نكرره، و نقول طابقوا حقولكم العلمية مع احتياجات المجتمع، و انظروا ما الذي نحتاج إليه. و هذا الأمر يصدق على الحوزات العلمية من باب أولى.
المسألة الأخرى مسألة النظام السلوكي و الأخلاقي في الحوزات، و التحول إذا حصل ينبغي أن يُعنى بهذا الجانب أيضاً. ثمة عناوين عدة في هذا الخصوص سجلتها هنا: تكريم الأساتذة. ينبغي لنظامنا السلوكي و الأخلاقي في الحوزات أن يتجه بهذا الاتجاه: تكريم الأستاذ، و تكريم الشخصيات الفاضلة، و خصوصاً مراجع الدين. لا يمكن لأي كان أن يبلغ مرتبة مراجع التقليد العظام بسهولة، فثمة‌ صلاحيات كثيرة يجب أن تتوفر لهذا الغرض. المراجع في الغالب هم القمم العلمية في الحوزات. لذلك يتعيّن الحفاظ على احترام المراجع و تكريمهم.
المسألة الأخرى في النظام السلوكي و الأخلاقي في الحوزات هو الاستفاضة من المعنويات و التهذيب. هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية. الشاب الحوزوي اليوم بحاجة إلى التهذيب أكثر من السابق. الذين يدرسون فروع علم السلوك العام و يعملون فيها يؤيّدون هذا الرأي. الشائع في العالم كله في الوقت الراهن أن النظام المادي و الضغوط المادية و الماديات تجعل الشباب قليلي الصبر و مكتئبين. و في مثل هذه الحالة‌ فإن العروة التي يمكن للشباب أن يعتصموا بها هي الاهتمام بالمعنويات و الأخلاق. و هذا هو السبب فيما تلاحظونه من نمو الفرق العرفانية‌ المزيفة و التفاف البعض حولها.. ثمة حاجة يجب أن تلبّى.. شبابنا في الحوزات العلمية - بنين كانوا أو بنات - بحاجة إلى التهذيب. لدينا قمم في التهذيب. في قم هذه كان المرحوم الحاج ميرزا جواد ملكي، و المرحوم العلامة‌ الطباطبائي، و المرحوم الشيخ بهجت، و المرحوم بهاء الديني (رضوان الله تعالى عليهم) قمماً في التهذيب في الحوزة. معرفة‌ سلوكهم و حيواتهم و كلامهم من أفضل الأمور الباعثة‌ على الشفاء و السكينة و النور و تنوير القلوب. كان في النجف أكابر، سلسلة تلاميذ المرحوم الآخوند الملا حسين قلي إلى المرحوم القاضي و غيرهم و غيرهم .. هؤلاء هم المميزون. و لا شأن لنا بمذاهبهم و اتجاهاتهم الفكرية‌ و العرفانية، فالقضية هنا ليست قضية ‌نظرية. كان للبعض مذاهب مختلفة. المرحوم السيد مرتضى الكشميري (رضوان الله تعالى عليه) من أساتذة المرحوم الحاج ميرزا علي القاضي، لكن مذهبيهما الفكريان مختلفان تماماً. واحد يوصي توصية‌ أكيدة بعدم اقتناء‌ كتاب معين و الآخر يعشق ذلك الكتاب. لا تعارض في ذلك. و هؤلاء‌ الأكابر الذين كانوا في مشهد، أناس كنا نعرفهم بالتقوى و الطهر و النزاهة. المرحوم الحاج ميرزا جواد الطهراني و المرحوم الحاج الشيخ مجتبى و أمثالهم، هؤلاء أيضاً من هذا القبيل. المهم أن هذا القلب الذي راح يعلوه الصدأ يحتاج إلى لسان معنوي و كلام نابع من القلب ليشفيه و يزيل عنه الصدأ. و عليه، لا نريد هنا طرح قضية العرفان النظري.
المسألة‌ الأخرى في مجال النظام السلوكي و الأخلاقي في الحوزة مسألة الميول و المشاعر الثورية في الحوزة. أعزائي، المناخ الثوري في البلاد له أعداء‌ عنودون حقودون. إنهم يعارضون سيادة الأجواء الثورية في البلاد و يريدون تبديد هذه الأجواء. لاحظتم أنهم في فترة ‌من الفترات راحوا يشككون في الشهادة و يحاكمونها، و يشككون في الجهاد، و يشككون في الشهداء، و يشككون في آراء الإمام، و يشككون في الأنبياء! القضية ليست أن فلاناً يعارض هذه المفاهيم، إنما القضية هي أن هذه المعارضة‌ حسب رأي الأعداء‌ يجب أن تطرح في المجتمع و يروج لها و يجري هدم الأجواء‌ الثورية و إزالتها. على الجميع في الحوزة‌ العلمية‌ التنبه لهذه المسألة. هكذا هو الوضع على مستوى المجتمع، و من الطبيعي أن يكون كذلك في الحوزات العلمية. يعلمون أنكم يا رجال الدين لستم أفراداً إنما لكم مستمعوكم و محبوكم، و بذلك فأنتم تأثرون في البيئة المحيطة بكم. يريدون إزالة‌ المناخ الثوري و عزل رجل الدين الثوري و إهانة‌ التعبويين و إهانة‌ الشهداء‌ و إهانة الشهادة و التشكيك في الجهاد الطويل لهذا الشعب، و إذا‌ حصل هذا لا سمح الله في جوانب من الحوزة كان ذلك فاجعة. على الشخصيات الكبيرة في الحوزة أن تحذر و تراقب و تمنع ذلك.
و أقول کلمة أخاطب بها الشباب الثوري المتحمس، و عموم الحوزويين هم من الشباب و الطلبة الثوريين المتحمسين. أعزائي، المستقبل لكم، و أنتم أمل مستقبل البلاد، و يجب أن تتيقظوا جداً. صحيح أن الطالب الشاب الثوري أهل عمل و نشاط، و ليس من أهل التسويف و إيكال عمل اليوم إلى الغد، و لكن يجب الحذر من أن تكون حركتكم الثورية بحيث يستطيعون توجيه تهم التطرف لها. ينبغي تجنب الإفراط و التفريط. ليعلم الشباب الثوري كما أن العزلة و الصمت و عدم الاكتراث يسبب الضرر، كذلك التمادي و الإفراط يسبب الضرر. إحذروا من التمادي و الإيغال. إذا صحّ ما وصلتنا تقاريره من إهانة بعض مقدسات الحوزة، و بعض كبار شخصيات الحوزة، و بعض المراجع، فاعلموا أن هذا انحراف و خطأ بلا شك. هذا ليس من مقتضى النزعة الثورية. على الإنسان الثوري أن يكون بصيراً واعياً لتعقيدات الزمن. ليست القضية بهذه السهولة.. أن نرفض شخصاً و نثبّت شخصاً و نقبل شخصاً.. لا يمكن بهذا الشكل. ينبغي أن تكونوا دقيقين و تحافظوا على الحماس الثوري و تتأقلموا مع المشكلات و لا تتبرموا بلجاجة الآخرين و طعونهم، و لكن يجب في نفس الوقت أن لا تكونوا سذجاً. احذروا و لا تيأسوا و إبقوا في الساحة. و لكن دققوا و احذروا من أن يغضبكم سلوك بعض الذين تعتقدون أن سلوكهم يستحق النقد، و لا تجعلوا الكيل يطفح بكم. السلوك المنطقي و العقلائي شيء ضروري. و طبعاً نوصي الجميع أيضاً بعدم اتهام القوى الثورية بالتطرف. البعض أيضاً يحبون هذا.. يحبون اتهام العناصر الثورية و الشباب الثوريين و طلبة العلوم الدينية الثوريين و الفضلاء الثوريين و المدرسين الثوريين في أي مستوى من المستويات بالتطرف، لا، هذا بدوره انحراف يحصل على يد العدو، واضح جداً. إذن لا تطرف في هذا الجانب و لا تطرف في ذلك الجانب.
حسناً، كانت هذه مسائل ذات صلة‌ بالتحول. و الآن أسألكم: هل يمكن تحقيق هذا التحول المعقد الواسع الشامل بدون إدارة متناسقة؟ هذا هو ما طرحناه قبل سنوات في نفس هذه الحوزة العلمية مع أشخاص بعضهم الآن من مراجع التقليد العظام، و كانوا يومذاك في جماعة المدرسين، و بعضهم فارق الحياة ـ رحمة الله و رضوانه عليهم - و استساغوا الفكرة. إدارة و تدبير شؤون الحوزة من قبل جماعة مركزية يوافق عليهم المراجع و الشخصيات الكبرى و يكونوا خبراء و أصحاب رأي في قضايا الحوزة أمر ضروري و لا مندوحة منه و لا يمكن تسيير الأمور من دونه. هذه العملية المعقدة المهمة المتعددة الجوانب غير متاحة من دون إدارة قوية.
و أذكر نقطتين أخريين و أنهي كلامي، فقد طال اجتماعنا كثيراً، و أنا أعتذر منكم أيها الإخوة و الأخوات الذين تجلسون هنا بتزاحم شديد رغم أن المكان كبير جداً، و كذلك من الإخوة و الأخوات المتواجدين في الخارج، و في الصحن، و في أروقة المسجد الأعظم.
النقطة الأولى قضية درس الفلسفة و حقل الفلسفة. لاحظوا أن أهمية الفقه و عظمته يجب أن لا تجعلنا نغفل عن أهمية ‌درس الفلسفة و فرع الفلسفة و علم الفلسفة. لكل من هذه الأمور مسؤولياتها. فرع الفقه له مسؤولياته، و للفلسفة مسؤولياتها الكبيرة. كانت راية الفلسفة الإسلامية‌ بيد الحوزات العلمية، و يجب أن تكون بيدها، و أن تبقى بيدها. إذا تخليتم عن هذه الراية فسوف يحملها آخرون قد لا يتمتعون بالأهلية اللازمة‌. سيقع تدريس الفلسفة و علم الفلسفة بيد أناس قد لا يمتلكون التأهيل الكافي لهذا الموقع. إذا بقي نظامنا و مجتمعنا اليوم محروماً من الفلسفة سيكون أعزلاً لا سلاح له أمام هذه الشبهات المتنوعة و الفلسفات المستوردة. الشيء الذي يمكن أن يوفر إجاباتكم هو ليس الفقه في الغالب بل العلوم العقلية.. الفلسفة و الكلام. هذه أمور لازمة. هذه حقول و فروع مهمة في الحوزات. و الفرع المهم الآخر هو التفسير و الأنس بالقرآن و المعرفة‌ القرآنية. يجب أن لا نبقى محرومين من التفسير. درس التفسير مهم. و درس الفلسفة مهم. هذه حقول ذات قيمة‌ كبيرة.
النقطة الأخيرة حول ظاهرة الأخوات طالبات العلوم الدينية. هذه ظاهرة عظيمة و مباركة‌ جداً. ينبغي تخريج الآلآف من العالمات و الباحثات و الفقيهات و الفيلسوفات في الحوزات العلمية‌ الخاصة بالأخوات.. أية حركة عظيمة ستكون هذه.. لاحظوا كم هي سيئة و مهينة و منحرفة نظرة العالم المادي للمرأة. وجود العالمات الإسلاميات في الحقول المختلفة - كوجود العالمات الواعيات الفاهمات الجامعيات المتدينات المتشرعات - يترك آثاراً جد كبيرة‌ في العالم. إنها سمعة و ماء وجه للثورة. على السيدات أن يدرسن بصورة جيدة. و بالطبع ليس الهدف النهائي لدراسة النساء هو أن يصبحن مجتهدات و فيلسوفات - قد يكون للبعض الرغبة و الموهبة و الوقت لهذه الأمور و قد لا يكون للبعض الآخر - فهناك التعرف على المعارف الإسلامية و القرآنية الذي يمكن أن يكون مفيداً لهن و للآخرين.
اللهم اجعل ما قلناه و ما سمعناه لك و في سبيلك. اللهم بارك و ارع هذه الأقوال و هذا الاستماع و هذه الحركة العظيمة الموجودة في الحوزة. اللهم اجعل أعمالنا و أقوالنا و تحركاتنا مشمولة بنظرات وليّك و رضاه. اللهم و أرض قلبه المقدس عنا. اشمل الروح الطاهرة لإمامنا الجليل و شهدائنا الأبرار الذين فتحوا لنا هذا الطريق برحمتك و بركاتك.
و السلام عليكم و رحمة ‌الله و بركاته.

الهوامش:
1 - نهج البلاغة ، الخطبة 62.
2 - الكافي، ج 1، ص 46.