بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد، و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين، سيما بقية الله في الأرضين. السلام عليك يا فاطمة المعصومة يا بنت موسى بن جعفر، سلام الله عليك و على آبائك الطيبين الطاهرين المنتجبين المعصومين.
اللقاء بكم أيها الشباب الأعزاء في الأيام الأخيرة من هذه الزيارة الطويلة نسبياً كأنما هو مطلع جديد و استعادة للقوى. البيئة الشبابية و المشاعر الشبابية و الأفكار الشابة و الروح و المحفزات الشابة في أي مناخ كانت، تؤثر في ذلك المناخ. من أسباب أن الأجواء ‌العامة في البلاد بتوفيق من الله أجواء‌ زاخرة بالعزيمة و الإرادة و الحماس و العقلانية هو أن الشباب يمثلون الأكثرية في سكان البلاد. و هذا الاجتماع هو اجتماع شبابي بالمعنى الحقيقي للكلمة.
بخصوص شباب قم لدي ذكريات و معلومات عديدة و وفيرة. مع أنه يوجد بين الطلبة الجامعيين شباب جاءوا إلى هنا من مدن أخرى، لكن الأكثرية أو الكل تقريباً هم من الشباب القميين. قبل أن يتصاعد الكفاح في سنوات 41 و 42 شهدنا هنا ذكاء الشباب القميين و وعيهم. لا أنسى أنه كان أمام زقاق الحرم أو في الجهة الأخرى للشارع و زقاق ارگ، كان هناك كوشك لبيع الصحف يعلقون فيه الصحف. و حينما كنا نعود من الدرس نقف و نقرأ عناوين الصحف. و عندما اضطرت الحكومة ‌الطاغوتية للتراجع فيما يخص قضية اتحادات الولايات و المحافظات، و أبطلت ما تمت المصادقة عليه، رأيت الشباب حول زقاق الحرم و في شارع إرم - و كنت أرى هؤلاء الشباب غالباً و لم أكن أتصور أنهم يتابعون الأفكار و القضايا السياسية - يأتون و يقولون لنا: نبارك لكم نجاح رجال الدين مقابل الحكومة الطاغوتية. الشباب القمّيون الذين كانوا في الظاهر بمعزل عن هذه الأمور جاءوا و باركوا لنا نحن طلبة‌ العلوم الدينية ذلك النجاح، و هم لا يعرفوننا أبداً.
و قد فكرت منذ ذلك الحين مع نفسي: أية روح لدى هؤلاء الشباب القميين - لم يكن في قم ذلك الحين طلبة‌ جامعيون، إنما كانوا طلاب مدارس أو غيرهم، و بعض الشباب العاطلين عن العمل - حتى راحوا يتحسسون هكذا إزاء قضايا الكفاح و النهضة، و صراع رجال الدين مع الحكومة الطاغوتية.
بعد ذلك حينما وقعت أحداث عام 56 [1977 م] أبلت قم بلاء حسناً. الحق أن قم هي التي بدأت قيادة حركة الجماهير في الشوارع، و التواجد في الساحات، و الوقوف بوجه القبضات الحديدية و الخشنة لأجهزة النظام. هؤلاء الشباب القمّيون نزلوا إلى الشوارع، و أريقت دماؤهم على الأرض، و قد آذوا بدورهم مأموري و رجال النظام الطاغوتي بدرجة كبيرة. ذكاء الشباب القميين و خفتهم حيّرت رجال النظام بشدة.
ثم وقعت الثورة. و كانت قم دائماً في الصفوف الأمامية. لواء علي بن أبي طالب هذا من الألوية الموفقة في الخطوط الأمامية من ملحمة الدفاع المقدس. في كل الامتحانات الكبرى خرج أهالي قم مرفوعي الرأس و ناجحين. و كان الشباب في الصفوف المتقدمة. أريد منكم أيها الشباب اليوم و أنتم أصحاب مشاعر و أحاسيس و فكر و حماس و توثب أن تنظروا و تتذكروا هذه الهوية المجيدة لجيل الشباب القميين قبل عدة عقود.
لقد كان لأهالي قم دورهم في الثورة. و كان لهم دورهم في ملحمة الدفاع المقدس. و بعد انتهاء‌ الحرب - خصوصاً بعد رحيل الإمام الجليل حيث حرمنا ظلاله الوارفة - كان دور الشباب القميين أبرز. و هذه نقطة مهمة.
لاحظوا أن أعداء الثورة و الجبهة المعادية خططوا في الأعوام الأخيرة من العقد الأول للثورة و بمعونة خبراء إيرانيين لسياسة معينة - و قد استشاروا إيرانيين لأن غير الإيرانيين لم يكن بوسعهم ملاحظة هذه النقطة - هي سياسة خلق مضاد للثورة‌ من قم. كما تفجرت الثورة‌ من قم أرادوا إيجاد مضاد للثورة من قم. قم معقل رجال الدين. و الحوزة العلمية في قم حسب الظاهر، بيد أن رجال الدين موجودون و منتشرون في الحقيقة في كل البلاد. طالب العلوم الدينية الذي يسكن قم له نفوذه في مدينته و في قريته. و هؤلاء‌ الطلبة مجتمعون هنا من كل أنحاء البلاد. يوم يعود هؤلاء الطلبة إلى منازلهم بمناسبة العطل أو لإنجاز أعمالهم فمعنى ذلك أن الحوزة تنتشر في كل البلاد. و إذن، فأية فكرة هنا و أية عزيمة و إرادة و حركة و توجه سيمتد في الحقيقة في كل أنحاء البلاد. هذا ما لم يكن بوسع الأجانب و الأمريكان أن يفهموه و يحللوا حقيقته، إنما بوسع الإيراني العارف بطبيعة رجال الدين أن يفهم هذه الحالة و يعلمها لهم. لذلك حاولوا التمهيد للفتنة ‌في قم. و لأنني لا أروم ذكر الأسماء فسوف لن أذكر الأسماء و أتجاوز هذا الأمر. في سنة 58 و 59 [1979 و 1989 م] سطّر أهالي قم و أهالي تبريز الملاحم، و لم تتمثل تلك الملاحم بمجرد النزول إلى الساحة و رفع القبضات، بل كانت أيضاً ملاحم معنوية و ملاحم شعور و تحليل صائب. و بعد رحيل الإمام حدث نفس الشيء في قم بنحو آخر. يومها أيضاً خطط المعارضون و الأعداء - و معظم الأعداء ‌خارج الحدود و هم الأصليون - لخلق مثل هذا المضاد هنا. و لو كان أهالي قم غافلين، و لو كان شباب قم عاجزين عن التحليل و لا يتحلون بالذكاء ‌و الوعي اللازم، لكانت المشكلات أشد و أصعب. هذه هي حقيقة الأمر. هذا هو الواقع بالنسبة لعموم الشباب في قم.
الذين أخاطبهم في كثير من الأحيان، و من ذلك ما أطرحه اليوم، هم أنتم الشباب لأن الأمر أمركم و البلد لكم. نحن ضيوف لبضعة أيام، و قد انقضى دورنا و نصيبنا و فترتنا، و من الآن فصاعداً تبدأ دورتكم، و عليكم أنتم أن تديروا البلاد، و أن تبلغوا بهذه العزة‌ الوطنية و هذا الاقتدار الوطني حدود الكمال بالاستعانة‌ بالمكتسبات التي تحققت لحد الآن. هذا واجب يقع على عواتقكم في التاريخ. لذلك أخاطبكم أنتم.
إذا اقتنعنا أن جبهة الأعداء تخطط ضد بلادنا و ثورتنا على المدى البعيد، إذن لا بد لنا نحن أيضاً أن نخطط و نبرمج للمدى البعيد. لا يمكن القبول أن جبهة‌ أعداء‌ الإسلام و الثورة المهدَّدة بشدة من قبل الصحوة الإسلامية لا تخطط و لا تبرمج برامج طويلة‌ الأمد، هذا ما لا يصدقه أحد إلا إذا كان ساذجاً و غافلاً جداً. لا بد أن لهم خططهم و برامجهم الطويلة الأمد. كما أن هذه الأحداث التي ترون أنها تقع أحياناً في البلاد، و أيدي الأعداء ‌واضحة فيها، ليست أموراً فجائية الظهور و أبنة‌ ساعتها إنما هي مسبوقة بتخطيطات طويلة الأمد و متوسطة‌ الأمد. برمجوا و خططوا فكانت هذه نتائج مخططاتهم.. لا أنهم قرروا شيئاً في المساء و بادروا لتنفيذه في صباح اليوم الثاني، لا، في فتنة سنة 88 عرضت على بعض الأصدقاء‌ القرائن و الشواهد.. كان هناك تخطيط منذ ما لا يقل عن عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. كان هناك تخطيط منذ رحيل الإمام، و ظهرت آثار ذلك التخطيط في سنة 78 [1999 م] في أحداث الحي الجامعي و الأمور التي يتذكرها أغلبكم، و ربما لم يكن البعض يتذكرونها بشكل جيد. و الأحداث التي وقعت العام الماضي كانت بمثابة‌ الانبعاث لتلك المخططات. طبعاً حاولوا القيام بهذا العمل بملاحظة ‌الوقت و الظروف و الجوانب المختلفة، و قد أخفقوا و الحمد لله، و كان يجب أن يخفقوا. إذن لجبهة الأعداء مخططاتها طويلة الأمد. إنهم لا ييأسون حين يشاهدون أنهم أخفقوا اليوم و لا يكفون عن مساعيهم، لا، بل يواصلون التخطيط لعشرة أعوام أخرى، و عشرين عاماً آخر، و أربعين سنة أخرى. يجب أن تستعدوا دوماً.
يتعين أن يكون لنا تخطيطنا طويل الأمد. طبعاً ليس هذا هو موضع طرح هذا التخطيط طويل الأمد - المراكز الفكرية و السياسية و الثقافية تتابع هذه الأمور و يجب عليها القيام بهذه المهام و هي تقوم بها - و ما استطيع أن أقوله على الإجمال هو وجود أرضية أساسية للتخطيط طويل الأمد أشرت إليها مراراً، و أرى من الضروري هنا أن أتحدث عنها أكثر، و هي مسألة التحلي بالبصيرة.
لقد تحدثت كثيراً في السنة الأخيرة و ما قبلها حول البصيرة، و ذكر الآخرون الكثير من النقاط و الأمور، و وجدت أن بعض الشباب قاموا بأعمال جيدة في هذا المضمار. و أريد التأكيد مرة أخرى على قضية‌ البصيرة. و تأكيدي هذا هو في الواقع بدافع أن تتحركوا أنتم المخاطبين، و أصحاب الميدان و الساحة، و الذين تقع المهمات على عواتقكم صوب الأعمال و البرمجة ذات الصلة بالتحلي بالبصيرة، و تأمّنوا هذه الحاجة المهمة. البصيرة‌ هي النور و الضوء و هي مؤشر القبلة و البوصلة. إذا سار المرء في الصحراء‌ من دون بوصلة فقد يصل إلى مكان ما بالصدفة، لكن هذا الاحتمال ضعيف، و الاحتمال الأكبر هو أن يتعرض نتيجة الحيرة و التيه لمشكلات و متاعب و نصب شديد.. لا بد من بوصلة.. و خصوصاً حينما يكون ثمة عدو أمام الإنسان. إذا لم تكن هناك بوصلة فقد تجدون أنفسكم فجأة داخل حصار الأعداء بلا عدة، و عندها لن تستطيعوا فعل شيء. عليه، فالبصيرة هي البوصلة و المصباح الذي ينير الدرب. البصيرة هي التي تهيّئ الرؤية في الأجواء المظلمة. البصيرة تدلنا على الطريق.
البصيرة‌ بالطبع شرط لازم للنجاح الكامل لكنها ليست شرطاً كافياً. و حسب تعابير طلبة‌ العلوم الدينية‌ فإنها ليست العلة‌ التامة‌ للنجاح. إذ لا بد للنجاح من شروط أخرى، و سوف أشير إليها إن شاء الله في ختام حديثي إذا اتسع المجال و تذكرت. لكن البصيرة شرط لازم. إذا توفرت كل الأمور اللازمة و لم تتوفر البصيرة، لكان الوصول إلى الهدف و النجاح أمراً عسيراً جداً.
يمكننا أن نطرح البصيرة على مستويين. المستوى الأول هو مستوى الأسس و الأصول أو الطبقة التحتية للبصيرة، بمعنى أن يكتسب الإنسان البصيرة في اختياره لرؤيته الكونية، و في فهمه الأساسي للمفاهيم التوحيدية و نظرته التوحيدية لعالم الطبيعة. الفرق بين النظرة‌ التوحيدية و النظرة المادية تكمن في أنه حسب النظرة التوحيدية يعتبر هذا العالم مجموعة منظمة و ذات قانون، و الطبيعة هادفة، و نحن باعتبارنا جزءاً من هذه الطبيعة يعدّ وجودنا و ظهورنا و حياتنا أموراً هادفة، لم نأت إلى الدنيا بلا هدف. هذه من لوازم النظرة التوحيدية. و هذا هو معنى الإيمان بالله العالم القادر. حينما نعلم أننا هادفون عندئذ سوف نبحث عن ذلك الهدف. سوف نحاول أن نعثر على ذلك الهدف. و حينما نجد الهدف و نعلم ما هو يبدأ الجهد للوصول إلى ذلك الهدف، و حينها ستصبح الحياة كلها جهداً و سعياً هادفاً ذا اتجاه معين. و نعلم من جهة ثانية وفق النظرة التوحيدية أن أي جهد و جهاد و كفاح في سبيل الهدف سوف يوصل المرء إلى النتيجة بالتأكيد. وفق هذه النظرة لن يعود لليأس و القنوط و الخيبة و الكآبة معنى في حياة الإنسان. حينما تعلمون أن وجودكم و خلقتكم و حياتكم و تنفسكم إنما هو لهدف معين فسوف تبحثون عن ذلك الهدف، و تسعون و تجدون و تجهدون للوصول إلى ذلك الهدف. و لهذا الجهد و السعي بحد ذاته أجره عند الله تعالى خالق الوجود. و أنتم في الواقع تصلون إلى الهدف مهما كانت المحطة التي تصلون إليها. لذلك لا يمكن في النظرة التوحيدية تصور الخسارة و الضرر للإنسان المؤمن بأي حال من الأحوال. يقول: «ما لنا إلا إحدى الحسنيين». إما أن نقتل في هذا السبيل و هذا هو الأفضل، أو نقضي على العدو و نصل إلى غايتنا، و هذا هو الأفضل أيضاً. إذن لا يوجد هنا ضرر أو خسارة.
و هذا بالضبط على الضد من النظرة المادية. النظرة المادية ترى أولاً أن ظهور الإنسان و وجوده في العالم بلا هدف. هم لا يعلمون أساساً لم وجدوا. و هم طبعاً يرسمون لأنفسهم في الدنيا أهدافاً مثل الوصول إلى المال و الحب و المناصب و الملذات الجسدية و الملذات العلمية و ما إلى ذلك، لكن أياً من هذه الأهداف ليس بالهدف الطبيعي الملازم لوجود الإنسان. حينما لا يكون ثمة إيمان بالله سوف لا يكون هناك معنى للأخلاق أو العدالة و لا يكون هناك معنى لأي شيء سوى الملذات و الربح الشخصي. إذا تضرر الإنسان في سبيل الوصول للربح الشخصي فمعنى ذلك أنه تضرر و خسر. و إذا لم يحقق الربح و لم يستطع بذل مساعيه فسوف يأتي الدور لليأس و القنوط و الانتحار و الأعمال غير المعقولة. إذن لاحظوا أن هذا هو الفرق بين النظرة التوحيدية و النظرة المادية و المعرفة الإلهية‌ و المعرفة المادية. هذه هي الركائز الأساسية الأهم للبصيرة.
على أساس هذه النظرة، حين يكافح الإنسان فإن كفاحه مقدس، و إذا قاتل قتالاً مسلحاً كان قتاله مقدساً كذلك. و لا يوجد لديه كفاح على أساس التشاؤم و إرادة الشر أصلاً. الكفاح أساسه أن تصل الإنسانية - و ليس الشخص وحده - إلى الخير و الكمال و الرفاه و المراتب المتكاملة. وفق هذه النظرة‌ فإن للحياة وجهاً جميلاً، و السير في هذه الساحة الواسعة عملية محببة طيبة، و تعب الإنسان يتبدد بذكر الله تعالى و بتذكر الهدف. هذه هي الركيزة الأساسية‌ للمعرفة و البصيرة. هذه البصيرة شيء ضروري جداً، و علينا تأمينها و توفيرها في أنفسنا. البصيرة في الحقيقة أرضية كل المساعي و الكفاح في المجتمع. هذا مستوى من البصيرة.
و ما عدا هذا المستوى الواسع و العميق من البصيرة فقد يتحلى الإنسان بالبصيرة أو يحرم منها على مستوى الأحداث المختلفة. يجب أن يتحلى الإنسان بالبصيرة. ما هو معنى هذه البصيرة؟ البصيرة‌ الضرورية في الأحداث، و المؤكد عليها في الروايات و في كلمات الإمام أمير المؤمنين (ع) بمعنى أن يتدبر المرء في الأحداث التي تحيط به و التي يمر بها و تكون ذات صلة به، و يحاول أن لا يمرّ بها بنحو سطحي عامي بل يعتبر و يستلهم الدروس، و حسب تعبير الإمام أمير المؤمنين: «رحم الله امرء تفكر فاعتبر» (1). يجب على الإنسان أن يفكر و يستلهم العبر على أساس تفكيره. أي يجب أن يقيّم الأمور و المسائل بتدبر «و اعتبر فأبصر».. يكتسب البصيرة بالتقييم. النظر للأحداث بصورة صحيحة و تقييمها تقييماً صائباً و التدبر فيها يوجد لدى الإنسان البصيرة، أي يوفر له البصر فتنفتح عيناه على الحقيقة.
يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة و السلام) في موضع آخر: «فإنما البصير من سمع فتفكر و نظر فأبصر» (2). لا يمكن رفض أي قول أو قبوله بمجرد سماعه، بل ينبغي التفكير فيه. «البصير من سمع فتفكر و نظر فأبصر». مشكلة الكثير من الذين زلوا و سقطوا بسبب عدم البصيرة هي أنهم لم ينظروا، و أغمضوا أعينهم عن بعض الحقائق الواضحة. على الإنسان أن ينظر، و حينما ينظر فسوف يرى. إننا في كثير من الأحيان غير مستعدين أساساً للنظر لبعض الأشياء. يرى الإنسان أحياناً بعض المنحرفين غير المستعدين للنظر أصلاً. لا شأن لنا بالأعداء‌ المعاندين - و سوف نشير إلى هذا لاحقاً، «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلماً و علواً» (3) - للبعض أغراضهم و حوافزهم و عنادهم... هم أعداء ‌على كل حال، و لا نقاش لنا فيهم، إنما النقاش حولنا أنا و أنتم المتواجدين في الساحة. إذا أردنا أن نتحلى بالبصيرة فعلينا أن نفتح أعيننا و ننظر. ثمة أشياء يمكن أن ترى. إذا مررنا بها مروراً سطحياً و لم نرها نكون قد أخطأنا طبعاً.
أسوق لكم مثالاً من التاريخ. في حرب صفين اقترب جيش معاوية من الهزيمة، و لم تبق مسافة‌ بينه و بين الدمار و الهزيمة ‌الشاملة. ففكروا في حيلة لأنقاذ أنفسهم، و كانت حيلتهم أن رفعوا المصاحف على الرماح و جاءوا بها وسط الساحة. رفعوا أوراق القرآن على رؤوس الرماح و جاءوا بها وسط ساحة القتال، بمعنى أنهم أرادوا القول إن القرآن حكم بيننا و بينكم. قالوا تعالوا نعمل بأي شيء يقوله القرآن. كانت هذه عملية‌ جميلة تروق العوام و السذج. البعض من جيش الإمام علي (ع) الذين صاروا بعد ذلك من الخوارج و شهروا السيوف بوجه الإمام علي (ع) نظروا فقالوا: هذا كلام جيد و الجانب الآخر لا يقول كلاماً سيئاً يقولون تعالوا ليحكم القرآن بيننا و بينكم. لاحظوا أنهم وقعوا هنا في الخدعة‌، و زلت أقدامهم لأنهم لم ينظروا دربهم و ما هو أمامهم. لا يُعذر أحد الإنسان لأنه زلّ بسبب عدم النظر للطريق و عدم فتح عينيه لمشاهدة‌ المزلات. و أولئك لم ينظروا. لو أرادوا النظر للحقيقة لكانت الحقيقة أمام أعينهم. الذي يدعو و يقول تعالوا نرضح لتحكيم القرآن شخص يقاتل الإمام المنتخب المفترض الطاعة! كيف يؤمن مثل هذا الشخص بالقرآن؟ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ما عدا كونه من وجهة‌ نظرنا منصوب و منصوص عليه من قبل النبي، لكن حتى الذين لا يوافقون هذه الفكرة يسلمون بأن الناس جميعاً بايعوه بعد الخليفة الثالث و قبلوا خلافته فصار إماماً و حاكماً مفترض الطاعة‌ في المجتمع الإسلامي. و كل من يحاربه و يشهر السيف بوجهه يكون من واجب كل المسلمين مجابهته و محاربته. فإذا كان هذا الذي يرفع القرآن على الرماح مؤمناً بالقرآن حقاً فإن القرآن يقول له: لماذا تقاتل علياً؟ إذا كان مؤمناً بالقرآن حقاً يجب أن يرفع يديه و يقول إنني لا أحارب و يرمي سيفه أرضاً. كان يجب أن يروا هذا و يفهموه. هل كانت هذه فكرة‌ صعبة؟ هل كانت هذه معضلة لا يمكن فهمها؟ لكنهم قصروا. و هذا هو انعدام البصيرة. لو تدبروا و تأملوا قليلاً لأدركوا هذه الحقيقة. لأنهم كانوا أصحاب أمير المؤمنين في المدينة، و شاهدوا أن عملاء معاوية و أعوانه كان لهم دورهم في قتل عثمان، و ساعدوا على قتله، و رفعوا في الوقت نفسه قميص عثمان للطلب بدمه. هم الذين فعلوا ذلك و كانوا المقصرين، و مع ذلك راحوا يبحثون عن المقصر. لاحظوا أن انعدام البصيرة هذا ناجم عن عدم الدقة و عدم النظر و إغماض العيون عن حقيقة واضحة.
و في أحداث الفتنة الأخيرة أخطأ البعض، و كان ذلك نتيجة انعدام البصيرة. يطلق ادعاء التلاعب بالأصوات في انتخابات كبرى و عظيمة، حسناً، طريق الحل واضح. إذا كان هناك من يعتقد بوقوع تلاعب فعليه أولاً تقديم أدلته على وقوع التلاعب، ثم إذا قدم الدليل أو لم يقدم الدليل فإن القانون قد حدد سبيل الحل و العلاج، و بوسعه أن يشتكي. و يجب التحقيق و إعادة النظر. يأتي أشخاص محايدون و ينظرون ليتضح هل حصل تلاعب أم لم يحصل. هذا هو بالتالي سبيل العلاج. و الذي لا يرضى بهذا السبيل - مع أننا قدمنا مساعدات عديدة و قد مدّدتُ الفترة القانونية لتقديم الشكاوى، بل قلنا ليأت الأشخاص أنفسهم أمام كاميرات التلفزة و يفرزوا - فهو يتمرد.. (4).. انتبهوا رجاء. ليس القصد التحدث عن أحداث ماضية إنما نروم ضرب الأمثلة. إذن التحلي بالبصيرة‌ ليس بالأمر الصعب. إذا نظرتم و وجدتم طريقاً قانونياً معقولاً، و هناك من يتمرد على هذا الطريق القانوني المعقول و يفعل ما يضر بالبلد و مصالح الشعب، فواضح أنه مدان بالنظرة العادلة و المتعارفة و غير المتحيزة. هذا شيء واضح و حكم واضح. و عليه، لكم أن تلاحظوا أن المطالبة بالبصيرة ليست مطالبة بأمر صعب غير ممكن. التحلي بالبصيرة ليس عملية صعبة. ما يلزم للتحلي بالبصيرة هو فقط أن لا يقع الإنسان أسيراً في شراك الصداقات و العداوات و الأهواء‌ النفسية‌ و الأحكام المسبقة المختلفة. بمجرد أن ينظر الإنسان و يتدبر سيستطيع العثور على الحقيقة. المطالبة‌ بالبصيرة‌ هي المطالبة بهذا التدبر و النظر لا أكثر. و هكذا يمكن أن نفهم أن التوفر على البصيرة متاح للجميع، و بوسع الكل أن يتحلوا بالبصيرة. و بالطبع فإن البعض يغفلون أحياناً من دون أن يكونوا معاندين أو سيّئي النوايا. مع أن الإنسان يحب نفسه كثيراً، لكنه قد يغفل للحظة أثناء‌ قيادة السيارة أو ينام فتقع الخسارة. الزلات التي تحدث بهذه الطريقة لا يمكن اعتبارها ذنباً، لكنها إذا استمرت ستكون انعداماً للبصيرة و أمراً غير مقبولاً.
المهمة الرئيسية للأعداء اليوم في إطار الحرب الناعمة هو نثر الأغبرة في الأجواء‌ السياسية للبلاد. خذوا هذه المسألة بعين الجد. هذه هي المهمة‌ الأكبر التي يمارسها العدو حالياً. المطلعون على الشأن السياسي و القضايا السياسية يعلمون أن قوة‌ القوى الكبرى اليوم تكمن في أموالهم المكدسة في البنوك، و قدراتهم الإعلامية و أصواتهم العالية التي تصل إلى كل مكان، قبل أن تكون في قنابلهم النووية. و هم يتقنون الأساليب الإعلامية إتقاناً جيداً. و هم متقدمون حقاً في العمل الإعلامي. لقد تعلم الغربيون - سواء في أوربا أو في أمريكا - أساليب حديثة و متطورة جداً في العمل الإعلامي. و نحن متأخرون في هذا الجانب. من أهم صفاتهم و أعمالهم أنهم یحسنون العملیة الإعلامية. بهذه الأساليب الإعلامية و الضجيج و بث كم هائل من الكلام المخالف للواقع يسعون إلى تغيير أجواء‌ المجتمعات و التأثير فيها. ينبغي التنبه لهذه النقطة و الحذر منها. الواجب الذي يقع على كاهل شبابنا في هذا الإطار اليوم جسيم جداً. لستم وحدكم من يجب أن يعرف الحقيقة و يشخصها، إنما ينبغي عليكم أن تبثوا البصيرة في البيئة المحيطة بكم و توضحوا الأمور للآخرين.
من النقاط الأساسية في هذا المضمار أن الباطل لا يظهر أمام الإنسان جلياً مفضوحاً دوماً حتى يستطيع الإنسان تشخيص أنه باطل. كثيراً ما يظهر الباطل بلبوس الحق أو لبوس جانب من الحق. يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله». ثم يصل إلى قوله: «فلو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين» (5). لو ظهر الباطل و الحق صريحين علنيين بلا أية شوائب لما حصل خلاف حولهما. الكلّ يحبون الحق و الكل يبغضون الباطل. «و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من ذاك ضغث فيمزجان فحينئذ يشتبه الحق على أوليائه». يخلطون جزءاً من الحق بجزء من الباطل، و لا يظهرون الباطل صرفاً صريحاً، لذلك يشتبه المتلقون. و يجب التدقيق جداً في هذه المسألة. يركز الإعلام العالمي اليوم كل جهده على قلب الحقائق في بلادكم و مجتمعكم و نظامكم الإسلامي، و إمكانياتهم الإعلامية واسعة و كبيرة، و هم يعملون بنحو مستمر دائم. و بالطبع يوجد أشخاص في الداخل يكررون كلامهم و يعكسونه عن علم أحياناً أو عن غير علم في بعض الأحيان.
حسناً، ثمة هنا نقطة و هي أن البصيرة قد تتوفر أحياناً لكن الخطأ و الاشتباه يستمر مع ذلك، و سبق أن قلنا إن البصيرة ليست شرطاً كافياً للنجاح بل هي شرط لازم له. ثمة هنا عوامل مها عدم توفر العزيمة و الإرادة. البعض يعرفون بعض الحقائق لكنهم لا يتخذون القرار للعمل و المبادرة، أو للتعبير عن ما يعرفونه و إعلانه، أو للوقوف إلى جانب الحق و الدفاع عنه. و لعدم اتخاذ القرار هذا أسباب منها طلب السلامة و العافية و منها هوى النفس و منها أحياناً الشهوات و منها أيضاً حسبان المصالح الشخصية و منها أحياناً اللجاجة. يقول الإنسان كلاماً و يريد البقاء‌ على كلامه و عدم تغييره، لأنه يشعر بالعار إذا عاد عن كلامه. لذلك قيل: «لعن الله اللجاج». ثمة أشخاص على إطلاع و علم بالواقع، و مع ذلك يساعدون الاتجاه المعارض و توجهات الأعداء. الكثير من هؤلاء ‌الذين ندموا و عادوا عن الطريق كانوا في يوم من الأيام ثوريين متطرفين، لكنكم ترون أنهم وقفوا في يوم آخر في الاتجاه المعاكس تماماً لما كانوا عليه، و راحوا يقدمون الخدمات لأعداء ‌الثورة! السبب في ذلك هو هذه العوامل المذكورة: أهواء‌ النفس و شهواتها و الغرق في الماديات. و السبب الرئيسي لكل هذا هو الغفلة عن ذكر الله، و عن الواجب، و عن الموت، و عن يوم القيامة. هذا ما يؤدي إلى تغيير اتجاههم مائة و ثمانين درجة.
و بالطبع فإن البعض يخطئون. لا يمكن اعتبار الجميع مقصرين. رأينا البعض جاءوا و أعطوا البعض أموالاً كهدايا و من باب أبداء المحبة، و قد أخذ هؤلاء ‌الأموال و لم يدركوا أن اسم هذه الأموال هو الرشوة. ما يقع في عالم الواقع يشبه بعضه بعضاً، لكن المهم هو التفطن إلى أن اسم هذا الشيء هو الرشوة. حينما تكون في موقع تستطيع فيه القيام بعمل ما حسب رغبته و يأتي و يقبل يديك و يعطيك مالاً، فهذا اسمه رشوة. هذه هي الرشوة الحرام.
و كذا الحال في قضايا الفتنة. البعض دخلوا في هذه الفتنة و في هذا الضجيج و لم يفهموا أن اسم هذا الفعل هو إسقاط النظام. لم يدركوا أن هذه هي الفتنة التي قال عنها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «في فتن داستهم بأخفافها و وطأتهم بأظلافها و قامت على سنابكها» (6). الفتنة تحطم و تدمر الذين يسقطون تحت أقدامها. هؤلاء لم يدركوا الفتنة. قال شخص كلاماً و راحوا هم يكررونه. و بالتالي لا يمكن الحكم على جميعهم بحكم واحد. حكم المعاند يختلف عن حكم الغافل. و طبعاً يجب إيقاظ الغافل.
أريد أن أقول لكم أيها الشباب، إنكم من أجل أن تبنوا إيران الإسلامية، أي من أجل أن ترفعوا رأس شعبكم و وطنكم العزيز و تاريخكم و كذلك من أجل أن تؤدوا واجبكم إزاء الإسلام العظيم - و إذا سعى الإنسان اليوم لشموخ إيران الإسلامية يكون قد قدم الخدمة لوطنه و شعبه و تاريخه، و كذلك للإسلام العزيز الذي فيه خلاص البشرية - يجب عليكم أن تكونوا واعين يقظين متواجدين في الساحة، و أن تجعلوا البصيرة محور عملكم. احذروا من أن تقعوا في حالة اللابصيرة.
اعرفوا الأعداء. و لا تنخدعوا بظاهر العدو. النزعات المادية و التفكير المادي و الحضارة المادية عدو للإنسانية و لكم. توصل العالم الغربي منذ قرنين أو ثلاثة ‌إلى العلوم و التفوق العلمي و التقني، و وجد السبيل إلى الثروة و اكتنازها، و ظهرت فيه مدارس اجتماعية مختلفة و أفكار فلسفية و اجتماعية متنوعة - الليبرالية القائمة على التفكير الأوماني و الأفكار الديمقراطية و ما إلى ذلك - و كان هدف الذين ساروا وراء هذه الأفكار أن يحققوا السعادة و الراحة و السكينة و الرفاه للبشرية. لكن ما تحقق فعلاً هو عكس كل ذلك. لم تصل البشرية في ظل الأفكار الأومانية‌ [الإنسية] و في إطار الأنظمة ذات النزعة الإنسانية إلى الحالة‌ الإنسانية المنشودة و السكينة و الراحة، و ليس هذا و حسب، بل إن أكثر الحروب و المجازر، و أسوء القساوات و أقبح التصرفات التي مارسها الإنسان ضد الإنسان حصلت خلال هذه الفترة.
الذين كانوا أكثر تطوراً في هذا المجال كانوا هم الأسوء. قرأت في الصحيفة أمس أنهم نقلوا عن مصادر أمريكية أن أمريكا، من عقد الأربعينات إلى عقد التسعينات أي على مدى خمسين عاماً، دبرت ثمانين انقلاباً عسكرياً في العالم! لاحظوا أن هذا هو توحش الذين وصلوا إلى قمم الثروة و التقنية و السلاح و صناعة‌ الأجهزة و المعدات و .... إلى آخره. قتل البشر شيء عادي بالنسبة لهم. و على حد تعبيرهم بدم بارد! في تعابير الأدبيات الغربية‌ يقولون إن فلاناً يقتل بدم بارد! و هذا دليل على منتهى القسوة. لا في أفغانستان و العراق و المناطق الخاضعة لاحتلالهم فقط، بل داخل مجتمعاتهم أيضاً. راجعوا أدبياتهم الدالة ‌على واقع حياتهم. قتل البشر بالنسبة ‌لهم عملية جد سهلة. من جهة‌ أخرى تلاحظ في مجتمعاتهم و شعوبهم و بين شبابهم حالات كآبة و يأس من الحياة و تمرد على الآداب و الأعراف الاجتماعية. نمط ثيابهم و تسريحاتهم مرده غالباً إلى تمرد و نفاد صبر الشباب من الأجواء ‌التي تسودهم. هذه هي نتائج تجارب المدارس و النظم التي ابتدعها الغربيون. و السبب في كل هذا هو بعدهم عن الدين و القيم الروحية و الله. و عليه فسلوكهم سلوك معادٍ للإنسانية.
و أنتم اليوم تسيرون في النقطة المعاكسة لمسيرتهم. تريدون التوفر على العلم في إطار الفكر الإلهي. تريدون التوفر على الإمكانيات الطبيعية و الإنسانية لخير الشعوب، و لخير شعبكم المادي و المعنوي، و لخير البشرية مادياً و معنوياً. اتجاهكم اتجاه إلهي، و هذا ما سيكتب له النجاح و التقدم، و هو المسار المعاكس للمسار المنحرف الخاطئ الذي بدأه الغرب منذ قرنين أو ثلاثة قرون. هذه الحركة حركة مباركة و سوف تستمر.
على الشاب الإيراني المسلم أن يعدّ نفسه و يتجهز و يتوكل على الله تعالى في سبيل التقدم، و يستمد منه العون، و يتقدم إلى الأمام ببصيرة، و عندها سوف يتوفر على الأدوات و الوسائل المناسبة لمواجهة‌ الأساليب الخاطئة السائدة في العالم و سيصل إن شاء الله لكل المطامح و الآمال التي رسمتها هذه الثورة ‌و الإسلام.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الهوامش:
1 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 103.
2 - نهج البلاغة، الخطبة‌ رقم 153.
3 - سورة النمل، الآية 14.
4 - هنا يطلق الحضور بعض الشعارات.
5 - نهج البلاغة، الخطبة 50.
6 - نهج البلاغة، الخطبة 3.