بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهداة المهديين المكرمين، سيما بقية الله في الأرضين. اللهم صلّ على علي بن موسى الرضا المرتضى، الإمام التقي النقي و حجتك على مَن فوق الأرض و مَن تحت الثرى، الصدّيق الشهيد صلاة كثيرة تامة زاكية متواصلة متواترة مترادفة، كأفضل ما صليت على أحد من أوليائك (1).
قال الله الحكيم في كتابه:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (2).
أولاً نستبشر بالخير لاقتران ولادة الإمام الهمام علي بن موسى الرضا (عليه الصلاة و السلام) بعيد النوروز في مطلع عام جديد على شعبنا العزيز و بلدنا العزيز الكريم. و ثانياً أبارك عيد النوروز و هذه الولادة الكبيرة لكم أيها الأعزة المحتشدون في هذا الاجتماع الضخم العظيم و لكل أبناء الشعب الإيراني العظيم و لكل المسلمين و المؤمنين بأهل بيت النبوة و الرسالة و لجميع الإيرانيين في أرجاء العالم.
فكرت اليوم أن أستفيد من الفرصة لأشير إلى مسألة قرآنية إضافة لما ينبغي أن أستعرضه من مسائل هامة رأيت من المناسب أن أعرضها في بداية السنة الهجرية الشمسية الجديدة. هذه المسألة القرآنية الإسلامية تنطبق على ما ينبغي أن يسمعه الشعب الإيراني العزيز هذه الأيام. هذه الوقفه القرآنية ترتبط بوعد الله سبحانه أن يحفظ دينه الحق مقابل كل ما يبديه الأعداء من تربص و عداء و حسد و حقد على مرّ العصور. الآية الكريمة يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم في سورة الصف شبهت طريق الله و دين الله بالنور، بل بنور الله، و نور الله من الطبيعي أن يكون أقوى بكثير بل بمقدار اللانهاية من النور الذي يمكن أن يستوعبه البشر مثل نور الشمس و نور النجوم و أمثالها من الأنوار القوية. و ممارسات الأعداء شبهتها الآية بنفخة فم، كما أن نور الشمعة أو المصباح يمكن أن ينطفئ بنفخة، كذلك الأعداء يريدون أن يطفئوا نور الله بنفخة من أفواههم!! لو قيل أن أحداً يريد أن يطفئ نور الشمس بفمه لكان ذلك من الحمق و الجهل، و لكان ذلك مبعث استهزاء، فما بالك بنور الله الذي هو أقوى من أي نور يمكن أن يتصوره بشر.
القرآن الكريم شبّه دين الحق بهذا النور،‌كما شبّه مساعي الأعداء ـ سواء العسكري منها أو الإعلامي، أو السياسي، أو الاقتصادي ـ و أي مسعى آخر يبذله الأعداء في الماضي و الحاضر و المستقبل مقابل دين الله، شبهه بذلك الهواء الضعيف الذي يخرج من الفم، فما أضعف كيد العدوّ مقابل إرادة الله الواحد الأحد سبحانه!!
و الله متمّ نوره و لو كره الكافرون هذا وعد الله سبحانه، إنها حتمية تقضي أن المسعى و التحرك و البناء حين يكون قائماً على أساس دين الله،‌ فإن مساعي أعداء الله لا تستطيع أن تقضي عليه. طبعاً لهذه الحتمية شروط مذكورة في منظومة المعارف الدينية، لكن أصل هذه الحتمية هو هذا الذي ذكرناه، و لو ألقينا نظرة على التاريخ لشاهدنا هذه الحقيقة نفسها.
و في سياق هذه الآية الكريمة يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ و ما أريد أن أذكره جاء ضمن هذه الآية التي تقرر أن إرادة الله شاءت أن دينه.. دين الحق.. الصراط المستقيم الإلهي يتفوق على جميع ما أفرزه البشر من أديان سواء ما كان منها باطلاً أصلاً أو ما كان حقاً لكنه تعرّض لتحريف المحرّفين.. و يتفوق على جميع النظم البشرية سواء ما ارتبط منها بالنظم الاقتصادية أو بأساليب الحكم أو النظم الحياتية الخاطئة. سوف يُظهر الله دينه عليها جميعاً. دعهم يجولون و يصولون أياماً بقدر ما عندهم من سعي و بقدر ما في أصحاب الحق من ضعف، و لكن دين الله في النهاية سوف يظهر على الأرض، و سوف ينعم كل البشر من عطاء دين الله، هذا هو مضمون هذه الآية الشريفة.
و السؤال المطروح هنا هو: كيف يظهر الله دينه على كل الأرض؟ هل يتم ذلك بالقوة و بالقدرة السياسية و العسكرية؟ من المؤكد أن ذلك سوف لا يتمّ بهذه الصورة. ليس فخراً أن يحتل البلدان و يفرض عقيدته بقوة السيف. دين الباطل أيضاً يستطيع أن يفعل ذلك. أفراد من البشر و أتباع مدارس بشرية أرادوا يوماً أن يفرضوا معتقداتهم بالقوة على الشعوب كما فعلت الماركسية خلال عقود من السنين، لفرض أسلوب الشيوعية على حياتهم. دين الله لا يريد أن ينهج هذا الأسلوب، دين الله يستهدف أن يسيطر على القلوب، و لا يمكن السيطرة على القلوب بالسيف و القوة. القلب يحتاج إلى أن يفهم و يقتنع ثم يؤمن طواعية و رغبة.‌ و حين يحصل ذلك يظهر عطاء العقيدة على المؤمنين، و هذا لا يتحقق بقوة السيف، الإسلام يرفض ذلك.
طبعاً أعداء الله و أعداء الإسلام تقوّلوا في هذا المجال مختلف الأقاويل، قال بعضهم إن الإسلام أنتشر بحدّ السيف، و بعضهم وقع في الطرف المضاد و ادعى بأن الإسلام ليس فيه مكان للسيف. كِلا الإدعائين خاطئان، و يحتاج ذلك إلى بحوث موسعة لا أريد التطرق إليها. حديثي اليوم شيء آخر ذو أهمية بالغة لشعبنا و بلدنا و مسؤولينا. ذكرنا أن الآية تقرر أن دين الله يظهر على الدين كله، و هذا الظهور أو الغلبة على كل المناهج الاجتماعية و الثقافية البشرية لا يعني الهيمنة عليها بقوة السيف، و إذا لم يكن بقوة السيف فبأية وسيلة إذن؟ حديثي الأساس حول هذا الموضوع.
الإسلام له وسيلتان يستطيع بهما أن يهيمن على أديان العالم جميعها.. و أن يجذب القلوب كلها، و يهزم كل منطق خاو بهما، ‌و هما: المنطق القوي و الاستدلال المستحكم و الأدلة المتقنة التي يتضمنها الإسلام. و الآخر عبارة عن العدالة بمعناها الحقيقي و بصورتها المطلقة. هاتان هما وسيلتا تقدم الإسلام.
المنطق القوي و الاستدلال المستحكم لهما التأثير الكبير على أفكار البشر. انظروا ما واجهته العقيدة الإسلامية على مرّ العصور من شبهات و اعتراضات و افتراءات أريد بها وهن عرى الإسلام، لكن هذه العقيدة بما تمتلكه من استدلال منطقي قويّ، استطاعت أن تشقّ طريقها لتتسع يوماً بعد يوم، ذلك لأن كل ذهن سليم صاحب فهم و استدلال يخضع لمنطق الإسلام، و لا يقتصر الأمر في ذلك على العقيدة الإسلامية، بل أحكام الإسلام أيضاً لها نفس هذه الخاصية في الاستناد إلى المنطق و الاستدلال.
انظروا إلى وضع الإسلام اليوم و قارنوه بنصف قرن مضى. الإسلام ينتشر حتى في البلدان التي تجنّد طاقاتها لمحاربة الإسلام. على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية تقارع الإسلام بكل ما أتيحت لها من وسائل. طبعاً هي تحافظ على الظواهر و تدعى أنها لا تعارض الإسلام و لا تعادي المسلمين، لكنه تظاهر منافق، لإغفال المسلمين. و لكن في بلد كهذا، يحكمه نظام معارض للإسلام و أينما عثر على إسلام صحيح أصيل يقارعه بكل وسيلة ممكنة، تشير الإحصائيات إلى أن الإسلام الدين الثاني فيه. أي إن عدد المسلمين في هذا البلد في اتساع لا بين الأمريكيين السود فحسب، بل أيضاً بين الأمريكيين البيض ممن استوطن عدة أجيال من آبائهم في أمريكا. و هكذا الأمر في أفريقيا و الشرق الأقصى.
الإسلام يتّسع رغم كل العوائق.. لماذا؟ لأن الإسلام يقوم على أساس المنطق و الاستدلال. و ليس هذا الاستدلال أكاديمياً فحسب،‌لا يقتصر فهم هذا الاستدلال على العلماء. الإسلام في مضمون عقائده و أحكامه يجذب كل إنسان ذي طبع سليم و يفرض نفسه عليه. الاستدلال هنا ليس فقط ما يرتبط بالفلسفة و أساليبها المعقدة، و هو ما يمتلكه الإسلام أيضاً، الاستدلال الذي نعنيه هو ما كان قابلاً للفهم لدى عامة الناس. هذه إحدى وسائل الإسلام في انتصاره.
و هنا أذكّر كل المهتمين بنشر الإسلام، بأن ما يحبط هذا الانتصار و يقع في النقطة المقابلة لهذه الوسيلة هو نشر الخرافات باسم الإسلام. أكبر عداء للإسلام في هذا الحقل هو نشر الخرافات باسم الإسلام و باسم دين الله و باسم محبّة أهل البيت عليهم السلام، إذ حين تطرق هذه الخرافات الأسماع يقول القائل: «لو كان هذا هو الإسلام فإننا نرفض هذا الإسلام» هذه ضربة موجعة.
قبل عامين أو ثلاثة ذكرت موضوعاً بشأن ضرب القامات و شعبنا العزيز قَبِل ذلك بكل وجوده و طبّقة (3). و أخيراً سمعت من شخص أمراً عجيباً ملفتاً للنظر أنقله إليكم:
ذكر لي هذا الشخص المطّلع على شؤون الاتحاد السوفيتي السابق و على جمهورية آذربايجان الشيعية بشكل خاص فقال: حين سيطر الشيوعيون على منطقة آذربايجان السوفيتية سابقاً، أزالوا الآثار الإسلامية بأجمعها. حوّلوا المساجد إلى مستودعات، و غيروا الأماكن الدينية و الحسينيات، و لم يبقوا أثراً للإسلام و التشيّع. لكنهم أجازوا شيئاً واحداً هو ضرب القامات!! أوامر القادة الشيوعيين إلى الجهاز التنفيذي قضَت بأن يُمنع الناس من أداء الصلاة، و إقامة صلاة الجماعة، و قراءة القرآن، و إقامة مجلس الذكر، لا يجوز ممارسة أي عمل ديني،‌ و لكنهم يحقّ لهم أن يضربوا القامات. لماذا؟ لأن هذا العمل هو بالنسبة لهم وسيلة تشويه الدين و تشويه التشيع. من هنا فإن العدوّ يستغلّ بعض الأعمال التي تقام باسم الدين لتشويه الدين. الخرافات، أينما برزت، تسيء إلى الدين الخالص.
على دعاة الدين و علماء الدين و المفكرين الدينيين و المهتمين بنشر الإسلام و عشاق الإسلام و أهل البيت عليهم السلام أن يلتفتوا إلى أن الإسلام و القرآن مقترنان بالاستدلال و المنطق. مدرسة أهل البيت مقرونة بالاستدلال و المنطق.
و لو ابتعد الاستدلال عنه، فإنه يحل محلّه لا سمح الله ما يتنافى مع المنطق و ما له طابع خرافي، ‌و هذا يؤدي إلى حالة مجانبة للاستدلال. هذه هي الوسيلة الأولى من وسائل هيمنة الإسلام على الأديان و الجماعات و الشعوب و البلدان.
و الوسيلة الثانية هي العدالة الاجتماعية. و الفرق بين هذه الوسيلة و الوسيلة الأولى (المنطق و الاستدلال) هو أن المسلمين كلهم حتى لو كانوا في أقليّة يستطيعون بالمنطق و الاستدلال أن يقدموا الإسلام للآخر المتردّد في الإسلام، أما العدالة الاجتماعية فهي مشروع يمكن تطبيقه حين تقوم حكومة إسلامية و نظام إسلامي في بلد من البلدان، إذ لا يمكن أن تتجلى مظاهر العدالة الإسلامية بدون ذلك.
في المراحل التاريخية التي سادت فيها حكومة الإسلام بشكل حقيقي مثل عصر الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) و بعض المقاطع التاريخية الأخرى من صدر الإسلام، ما تجسّد فيها من عدالة اجتماعية لا يزال يستهوي القلوب، حتى أن عدداً من الكتاب و العلماء غير المسلمين ألّفوا في عدالة أمير المؤمنين عليه السلام، عرفوا علياً و انشدت قلوبهم إليه من خلال عدالته. هذا هو شأن العدالة. لو أنّ مجتمعاً قام على أساس الإسلام، و نشر في ربوعه العدالة الاجتماعية و العدالة القضائية و العدالة الحقوقية و العدالة التنفيذية، و أقيمت العدالة بين الناس بمعناها الشامل، و قُسّمت الثروة بشكل صحيح، فستكون هذه العدالة نفسها في المجتمع عاملاً على اجتذاب قلوب الشعوب في جميع أرجاء العالم نحو الإسلام، لماذا؟ لأن البشرية تعاني من انعدام العدالة.
حتى البلدان التي تتمتع بثروات مادية و علمية وفيرة اليوم تنعدم فيها العدالة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لذلك تعاني أكثرية الشعوب في تلك البلدان من انعدام العدالة. حين ترى هذه الشعوب أن بقعة من بقاع الأرض قد قام فيها نظام باسم الإسلام، و أن العدالة قد سادت في هذا النظام، و أن الجماعة البشرية هناك تتمتع بعطاء هذه العدالة، و ليس ثمة ما يجافي العدالة، و ليس هناك ظلم من الإنسان لأخيه الإنسان و لا انتهاك لحقوق الأفراد، و ليس ثمة مظلوم لا يستطيع أن يستوفي حقّه، فإن تلك الشعوب سوف تنشدّ إلى ذلك النظام، و هذا سيؤدي إلى انتشار الإسلام. العدالة مقولة يتجه الخطاب فيها اليوم إلى الجمهورية الإسلامية.
العدالة الكاملة الشاملة ليست بالأمر الذي يمكن تحقيقه خلال سنوات أو عقود من السنين على يد البشر الناقصين من أمثالنا. إنها مقولة صعبة للغاية. العدالة دونها خرط القتاد. لا بد من إعداد المجتمع أخلاقياً لتتحقق العدالة بصورتها الكاملة.
المسألة الأخرى هي أن حكومة الجمهورية الإسلامية منذ بداية إقامتها حتى اليوم قد بذلت بفضل الله مساعي كثيرة على طريق تحقيق العدالة. ما كان مهيمناً على إيران من مظاهر الظلم و الغطرسة و غصب حقوق الأفراد من قبل السلطة.. الثراء الفاحش لدى أصحاب السلطة بحيث كان على رأس السلطة من هو أثرى الناس في البلد. لم يكن أمراً عادياً. كان سلاطين السلالة القاجارية و البهلوية ـ و ليس عندنا خبر مَنْ قبلهم و لا شأن لنا بهم ـ و أولئك الذين ترأسوا الحكومات، و تلقبوا باسم ملوك هذا البلد و رؤساء هذا البلد كانوا أكثر ثروة من جميع أفراد الشعب. من أين لهم هذا؟ أكان ذلك ممكناً إلاّ بالظلم و اغتصاب أموال الناس؟ رضا خان (أول ملوك السلالة البهلوية) كان يستولي على الأملاك الجيدة، و على كل ما يلفت النظر من عمارات جميلة، و بذلك جمع لنفسه ثروة عظيمة. و ما أكثر المناطق و الإقطاعيات التي جعلها دفعة واحدة ضمن ممتلكاته!! و ورثته كانوا على نفس النهج. كانت ظاهرة انعدام العدالة سائدة بشكل واسع في قمة السلطة. و كان ذلك يسري إلى جهاز السلطة بأجمعه. و الظلم كان فاشياً في ذلك الجهاز، كلٌّ يظلم بقدر استطاعته على الظلم، دون أن يردعه رادع.
في نظام الجمهورية الإسلامية الأمر على العكس من ذلك و الحمد لله. و لو كانت ثمة ظواهر لانعدام العدالة أو عن عدوان فهي غير مرتبطة بقمة هرم السلطة. أولئك الذين يخدمون في قمة السلطة يعيشون كما يعيش عامة الناس، و مستواهم المعيشي أحياناً دون المتوسط. لا طمع لهم في مال الناس.‌ لا طمع لهم في مال الدنيا. شكراً لله سبحانه أن منّ على الجمهورية الإسلامية بسنّة حسنة هي أن أحداً من المسؤولين لا يفاخر بثروته. كان المتنفذون في العهد البائد يفاخرون بثرواتهم، لأنها كانت امتيازاً من الامتيازات، غير أن امتلاك الثروة اليوم له طابع سلبي. لو أن أحد المسؤولين كان يتميز بمالٍ وفير أو بمنزل خاص فإن ذلك من الصفات السلبية في ذلك المسؤول. إنها صفة سلبية و الحمد لله في نظر عموم الناس، و في نظر المسؤولين أيضاً، بل حتى في نظر الذين يمتلكون مثل ذلك هي سلبية أيضاً. و هذه صفة هامة جداً في نظام الجمهورية الإسلامية، هذه هي الحركة في اتجاه العدالة التي بدأت و الحمد لله في أول الثورة. إمامنا الراحل كان مظهر الطُّهر و التقوى و التحرر من متاع الدنيا، و انتشر ذلك بحمد الله، و الأمر اليوم كذلك في نظام حكومتنا.
مع كل ما قطعناه من أشواط على هذا الطريق فإن الطريق أمامنا طويل لتحقيق العدالة بمعناها الشامل. لكن الذي أريد أن أوكده للمسؤولين و للشعب هو أننا في مرحلة إعادة البناء، و هي مرحلة يتصاعد فيها خطر الإقبال على الدنيا أكثر من أي وقت مضى. في هذه المرحلة تتراكم الأعمال و تزداد النشاطات الاقتصادية و ينفسح المجال أمام كل من يريد أن ينشط اقتصادياً، و تبعاً لذلك تتراكم الثروات. في هذه المرحلة ينفسح المجال لأهل الدنيا و للمنشدين بمتاع الدنيا، و لأولئك الذين يفضلون مصالحهم الشخصية على مصالح البلد و الشعب و الثروة فيتجهون إلى حياة الترف و تكديس الثروة و جمع الأموال.
مرحلة إعادة البناء مرحلة التفتح و التقدم، و مرحلة بناء البلد. و لكن هي في نفس الوقت مرحلةٌ تحمل أخطار اتجاه ذوي الإرادة الضعيفة إلى الترف و فضول العيش و تجميع الثروة و الفساد الاقتصادي، لذلك لا بد للمسؤولين و لكل أفراد المجتمع من الحذر.
الله سبحانه أراد للمجتمع أن يتمتع بالغنى و الثروة، ما أراد الله للمجتمع أن يكون فقيراً، و لا يحبّ ذلك المجتمع الذي لا يستطيع أن يؤمّن احتياجاته الحياتية. أراد سبحانه للمجتمع أن ينشط في استثمار مواهب الطبيعة و استخراج كنوز الأرض. أراد الإسلام أن نعمّر الأرض و نحييها و نجني ثرواتها. هذا أمر لا شك فيه، غير أن الإسلام أراد من المجتمع أن لا تحدث فيه هوّة بين الفقراء و الأغنياء. أن لا تكون فيه فئة تعاني من الفقر و الفاقة و ضيق ذات اليد، و لا تمتلك ضروريات الحياة، و فئة تجمع ثروات أسطورية. هذا ما يرفضه الإسلام، إنه يتعارض مع العدالة. لو حدث ذلك في مجتمع و انفسح المجال له، ‌فإن تأمين العدالة الاجتماعية سيكون محالاً. عندئذ لا يمكن أن نعقد الأمل على تحقق العدالة الاجتماعية في المجتمع. لا بدّ من الوقوف أمام هذه الظاهرة. ما أريد أن أقوله اليوم في مطلع سنة 1376 هجرية شمسية و يوم مولد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ‌لكم جميعاً و لأبناء الشعب جميعاً و للمسؤولين كلهم هو هذه المسألة.
لقد قلت أمس في ندائي إلى الشعب الإيراني بمناسبة أول يوم من أيام السنة الهجرية الشمسية أن اجعلوا ترشيد الاستهلاك شعاراً لكم. و ترشيد الاستهلاك لا يعني الحرمان، قال بعضهم: لماذا لا تَدَعون الشعب يتمتع بالنعم الإلهية. كلا، ليس الأمر كذلك، لا بدّ أن يتمتعوا بنعم الله و لكن أن لا يسرفوا. الإسراف في المجتمع تتبعه حياة البطر و عدم التعادل في تقسيم الثروة و تضييع الأموال العامة و النعم الإلهية. ترشيد الاستهلاك هو الذي يطلق عليه في الإسلام اسم القناعة. لا يعني الجوع، بل يعني عدم الإسراف، و عدم التبذير في مال الله،‌ و عدم تضييع النعم الإلهية.
توجّه المجتمع نحو القناعة و ترشيد الاستهلاك، هو توجّه نحو العدالة الاجتماعية في إطارها العام. و لا بد من تعبئة المساعي لمواصلة هذا الطريق. و إذ تسير بلادنا اليوم و الحمد لله على طريق إعادة البناء لا بدّ من التوجّه التام لمسـألة العدالة و سدّ الطريق أمام المفسدين. مسؤولو الجهاز التنفيذي بإعطاء المسؤوليات و المشاريع و الأعمال بيد الأمناء، و مسؤولو القوة التقنينية و نواب مجلس الشورى الاسلامي بسنّ القوانين المناسبة، عليهم جميعاً أن يوفّروا ما يلزم لتحقيق هذا الهدف.
لقد قلت قبل أيام لأهالي أهواز و خوزستان الأعزّاء، و كان خطابي طبعاً موجّهاً للشعب الإيراني بأجمعه، إننا يجب أن ننهض بالمرحلة الرابعة من الثورة متمثلة في تجنيد بناء أخلاقي معنوي، و هي مرحلة أصعب من المراحل السابقة. أنها لعملية صعبة، فمن الصعوبة تجديد البناء الداخلي، و تغيير المحتوى النفسي و اقتلاع مفاسد الأخلاق و ترسيخ المعنويات في المجتمع.
نحن لا نستطيع أن نحقق العدالة الاجتماعية كما أرادها الإسلام من دون تغيير أخلاقي عميق و شامل. العدالة ستثير غضب بعضهم و سخطه، سوف يعترض على العدالة أولئك الذين يريدون نهب المال العام. و هؤلاء المعترضون ذوو نفوذ أيضاً، يمتلكون المكانات و الثروات، و يستطيعون أن يثيروا مشكلة. و الأعداء الأجانب أيضاً يساعدون مثل هؤلاء.
النظام الإسلامي نظام عدالة، لذلك تنصّ الآية الشريفة على أن إرسال الأنبياء و إنزال الكتب السماوية إنما ليقوم الناس بالقسط (3). حين يرى أهل العمل و النشاط أنهم قادرون على أن يعملوا و ينشطوا في المجتمع، و حين يرى المجتمع أن الانتهازيين و الوقحين و المعتدين على حقوق الآخرين لا يفلتون من القانون و حماة القانون، فإنهم ينجذبون نحو الإسلام، ليس هؤلاء فحسب، بل جميع الشعوب و البلدان و المتعطشين للعدالة في العالم ينجذبون نحو الإسلام.
الناس في جميع العالم يشعرون بعطش شديد للعدالة. انعدام العدالة اليوم في البلدان التي تدعي الديمقراطية أكثر من غيرها. في أمريكا ذاتها لا يزال التمييز بين السود و البيض مهيمناً رغم أنهم أعلنوا رسمياً على الورق منذ سنوات متمادية المساواة الحقوقية بين السود و البيض. التمييز أيضاً موجود في بعض البلدان الأوربية. التمييز العنصري لا يزال ماثلاً هناك. لا يزال المقتدرون في تلك البلدان - و منها أمريكا - يقمعون دون رحمة كل من يرونه يعارض معارضة جادّة تصرفانهم الرأسمالية.
المتابعون يتذكرون ما فعلته أمريكا من إحراق جماعة من البشر و هم أحياء! سبعون أو ثمانون من الرجال و النساء و الأطفال في أمريكا أُحرقوا في وضح النهار و أمام أعين شعوب العالم.. حدث ذلك في أمريكا التي يصورونها بأنها سنت حقوقاً للكلاب و الحيوانات، و التي يدّعون أنها تعاقب من ينزل الظلم في بيته بكلب أو قطة!! و التي يدّعون أنها تعاقب من ينزل الظلم في البيت بكلب أو قطة!! هذه الدولة هي التي تدعم بصراحة أكثر الإرهابيين فظاظة و قسوة و هم الصهاينة. لا يوجد في العالم اليوم نظام كالنظام الصهيوني في ممارساته للتمييز العنصري و الظلم و الفاشية و الإرهاب، و في ارتكابه كل قبيح و فظيع من الأعمال. النظام الصهيوني إرهابي و غاصب و عنصري و مزوّر و خدّاع و متحايل و مشاغب في شؤون الحكومات و الشعوب. هذا واضح بجلاء لكل من يمعن النظر في الوثائق الأمنية المنشورة عن أعمالهم. ينزلون أفظع ألوان الظلم بحق العرب المسلمين من أصحاب تلك الأرض (لا الساكنين فقط بل المالكين لتلك الأرض). لا تثار الشكوى على ظلم هؤلاء، و لو أثيرت على واحد بالمائة من مظالمهم و طرُحت في مجلس الأمن - كما حدث أخيراً - فإن أمريكا تسارع لاستخدام حق الفيتو تجاه صدور قرار بشأنها. انظروا إلى درجة حقارة هؤلاء و درجة مساندتهم للظلم و الظلام.
الناس اليوم متعطشون للعدالة. حين تسود العدالة في نظام الجمهورية الإسلامية فإن الأعناق ستشرئبّ إليها و العيون ستنشدّ إلى هذه الحقيقة الساطعة، و سيثنون عليها و ينشدّون إليها. عندئذ سيتحقق معنى هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.. هذه مسؤولية، مسؤولية الشعب، و مسؤولية الأجهزة الحكومية. الاجهزة كلّها.. القضائية، و التنفيذية و التشريعية.. يجب أن تعرف كل واحدة واجبها في إكمال تحقيق مشروع العدالة و بسطه و تنفيذه بشكل ذكي، خاصة في هذه الفترة، و أن تتجه في أعمالها نحو أداء ذلك الواجب.
الجماهير منشدّة بكل وجودها لنظام الجمهورية الإسلامية. الجماهير تحبّ هذا النظام و المسؤولين و النواب. هؤلاء المخلصون الأوفياء الحاضرون في كل ما تستلزمه ساحات الجمهورية الإسلامية يجب أن تزداد آمالهم في هذا النظام بتنفيذ العدالة و بسطها.
أيها الأعزّة!
ذكرت أن الإسلام من خلال الآيتين الكريمتين يضع أساسين من أسس عوامله الذاتية لتحقيق ظهور الإسلام على الساحة البشرية. الأول: المنطق و الاستدلال، و الثاني العدالة الاجتماعية. ظهور الإسلام لا يتم عن طريق التآمر، و لا السيف، و لا السبل التي لجأ إليها أعداء الإسلام و يلجأ إليها اليوم أعداء الجمهورية الإسلامية. بل عن طريق المنطق و بسط العدالة. و ذكرنا أيضا قوله سبحانه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ فليطلقوا ما شاءوا من التهديدات. حينما يعتبر الله كيد الأعداء ضعيفاً أمام الإسلام فليس المقصود كيد كفار قريش في زمن الرسول الأكرم (ص) و حسب، بل مؤامرات الأعداء كلها ضد الجمهورية الإسلامية بما في ذلك الحصار الاقتصادي و التآمر الإعلامي الواسع و الضغوط السياسية و تواطؤ الصهاينة ليلاً و نهاراً مع القوى المعادية للجمهورية الإسلامية.. كل ذلك من الكيد الضعيف في حساب الله سبحانه. و القرآن يقول إن هذه القوى و هذه المؤامرات و هذه الأحابيل و هذه المكائد و الدسائس و الخصومات فاشلة و مهزومة حتماً مقابل وحدة هذا الشعب و تضامنه، و مقابل ما حرّك هذا الشعب منذ اليوم الأول من عشق بالله و القرآن، و مقابل استقامة هذا الشعب و صبره و حكمته و وعيه.
أشكر الله سبحانه أن جعل قلوبنا مفعمة برجاء رحمته. أشكر الله سبحانه أن أخلى قلوبنا و أرواحنا تماماً من أي يأس بشأن مستقبل حركة هذا الشعب الكبير. أشكر الله سبحانه على حركة هذا الشعب.
أيها الإخوة الأعزاء!
إن هذه الحركة و هذا التضامن و هذا الوعي و هذه اليقظة التي تبدونها أينما تطلب الأمر سوف تحقق لكم النصر و تهزم عدوكم. إنها تبعث السرور في قلب وليّ العصر أرواحنا فداه، و تبعث البهجة في روح الإمام الراحل.
إلهي!! أسألك بمحمد و آل محمد أن تنزل الهزيمة و الفشل بأعداء هذا الشعب أينّما كانوا و بأي لباس تلبّسوا.. أسألك أن تحقق الآمال الكبيرة لهذا الشعب.
إلهي !! زد بفضلك هذا الشعب و الجمهورية الإسلامية شوكة و عزّة و قدرة و عظمة..
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 ـ بحار الأنوار، ج 102، ص 50.
2 ـ الصف/ 8 - 9.
3 ـ الحديد/ 25.