بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. نحمده و نستعينه، و نؤمن به و نستغفره، و نتوكّل عليه و نصلّي على حبيبه و نجيبه و خيرته في خلقه، حافظ سره و مبلّغ رسالاته، بشير رحمته و نذير نقمته، سيّدنا أبي القاسم المصطفى محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهداة المهديين المعصومين. سيما بقية الله في الأرضين.
أوصي جميع الإخوة و الأخوات المصلين و نفسي بتقوى الله و التزام الورع. يجب أن يكون زادنا بالدرجة الأولى في کل إجتماع من صلاة الجمعة، هو الاقتراب من حلية التقوى. التقوى عبارة عن المراقبة المستمرة للنفس، في القول و الفعل، بل و حتى المراودات الذهنية و الأفكار لئلّا نقترب مما يثير سخط الرب، سواء بأقوالنا أو أفعالنا أو حتى في أفكارنا. نسأل الله تعالى أن يعيننا في الاقتراب من العمل بالتعاليم العامة لأنبيائه و أوليائه ببركة هذا التجمع النوراني لصلاة الجمعة، و ببركة هذه الأيام التي تتعلق هي أيام أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام الذي يمثل التقوى.
سأتحدث في الخطبة الأولى لهذا اليوم عن أمير المؤمنين ( ع) الذي تزيّن هذا العام باسمه. عام أمير المؤمنين يصل إلى نهايته في هذه الأيام. طبعاً جميع الأعوام و الأيام و التاريخ بأكمله يتعلق بأمير المؤمنين و مسیرته و طريقه الواضح. على مدى هذا العام الذي تزيّن باسم أمير المؤمنين، تم إنجاز الكثير من الأعمال الفكرية الجيدة لمعرفة أمير المؤمنين من قبل المحبين لذلك الإنسان العظيم. لهذا کانت تسمية هذا العام باسمه تسمیة مناسبة و أدت إلى نتائج ملفتة للنظر حيث توجّهت القلوب نحو أمير المؤمنين، و حظي بإقبال الجماهير و تم إحياء ذكر ذلك الإنسان العظيم على مدى العام في المحافل و المراكز التي عقدت للتنبّه، و في أفئدة الناس. أنه أمر حسن. لكن ما هو مهم و الذي يحظى بالنسبة لنا بأهمية أكبر من المعرفة و الوعي، هو التقرب العملي من أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام، لأنه قدوة بالنسبة لنا. إن معرفة الإمام علي (ع) لا تكفي، بل لا بد أن تكون المعرفة تمهیداً للاقتراب من مكانة أمير المؤمنين. فإذا ما أرادت الحكومة خير الأمة و صلاحها فعليها أن تجعل علي بي أبي طالب (عليه السلام) قدوة و أسوة لها. حينها سيشعر الناس بالسعادة في حياتهم. هذا هو الوضع و الواقع اليوم، و سيكون التاريخ هكذا في المستقبل أيضاً. إذا ما كان المجتمع يتوقع بلوغ السعادة، فإن السبيل العملي لتحقيق ذلك هو أن تتخذ الحكومات من حياة أمير المؤمنين و حكومته أسوة لها و تنحو منحاه. إن إدعاء الحكومات الغربية - التي بيدها وسائل الإعلام العالمية - و أفعالها المرائية لا تستطيع أن توفر السعادة للبشرية أو أن تذيق المجتمع طعم العدالة الحقيقية.
إن لمفردة العدالة و مفهومها موقعاً متميزاً في حياة أمير المؤمنين و شخصيته. الكثير من الميزات كانت تجتمع في شخصیة ذلك الرجل العظيم، بيد أن أبرز تلك الخصال التي تقترن دوماً باسمه هي قضية العدالة. المفاهيم المتنوعة التي تنبع من شتى فروع العدالة، اجتمعت كلها في وجود أمير المؤمنين. فهو مظهر العدل الإلهي أيضاً. لقد اقتضى العدل - الذي نعتبره من أصول الدين - أن يختار الله سبحانه شخصاً كأمير المؤمنين عليه السلام لقيادة الناس و هدايتهم، هذا ما شاءه الله تعالى. فوجود أمير المؤمنين و شخصيته و تربيته و ذروة مكانته و بالتالي نصبه للخلافة كلها مظهر للعدل الإلهي. لكن العدالة تجسدت بمعناها الإنساني بأكمل صورة في كيانه. العدالة الإنسانية تتجسّد في بعديها الفردي و الاجتماعي في حياته: عدالة الإنسان في حدود حياته الفردية و عدالته في مجال حكومته و خلافته التي نطلق عليها اسم العدالة الاجتماعية. كلا البعدين يبرزان في حياة أمير المؤمنين، و علینا معرفة ذلك بغية تطبيقه عملياً، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يتحملون مسؤوليات في المجتمع و يتمتعون بمكانة في الحكومة.
لقد تمثلت العدالة فی شخصية أمير المؤمنين (ع) بأعلی درجاتها، و هو ما نعبر عنه بالتقوى، هذه هي التقوى التي تجسّدت في عمله السياسي و العسكري و توزيعه لبيت المال، و استفادته من مواهب الحياة، و استثماره لبيت المال، و في قضائه و جميع شؤونه. فالعدالة الفردية و الذاتية في كل شخص هي في الحقيقة بمثابة سند للعدالة الاجتماعية و صاحبة التأثير في العدالة على صعيد الحياة الاجتماعية. لا يمكن لمن یفتقر التقوى في ذاته و في عمله الشخصي و هو رهين أهوائه النفسية و أسيراً للشيطان، لا يمكنه له أن يدعي القدرة على تطبيق العدالة في المجتمع، فهذا غير ممكن. من يريد أن يكون مصدراً للعدالة في حياة الناس، لا بد له أن يلتزم بتقوى الله في ذاته أولاً. تلك التقوى التي أشرت إليها في بداية الخطبة، تعني المراقبة النفسیة للحيلولة دون ارتكاب الأثم، طبعاً هذا لا يعني أن الإنسان لن يرتكب خطأ، كلّا. فكل إنسان غير معصوم يرتكب الخطأ، لكن هذه المراقبة، هي صراط مستقيم و سبيل للنجاة و تنقذ الإنسان من الغرق و تمنحه القوة. الإنسان الذي لا يراقب نفسه و يعاني من فقدان العدالة و التقوى على صعيد القول و الفعل في حياته الشخصية لا يستطيع أن يكون مصدراً للعدالة الاجتماعية في المجتمع. هذا هو الموطن الذي أعطى فيه أمير المؤمنين درسه الخالد لكل الذين يمارسون دوراً على الصعيد السياسي لمجتمعاتهم، حيث يقول: من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل غيره (1). و يقول: و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه (2). إذ یمکن أن ینطق اللسان بكثير من الأشياء، أما ما يمكنه هداية الناس إلى صراط الله، فهو سيرة و عمل من ينصبونه إماماً و معلّماً للناس، أو من تکون طاعته مفروضة علی الناس، سواء على مستوى المجتمع أو أدنى مستوى من ذلك. ثم يقول: و معلم نفسه و مؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس و مؤدبهم (3). هذا هو منطق أمير المؤمنين (ع) و درسه. فالحكومة ليست ممارسة للحكم و حسب. بل الحكومة هي نفوذ إلى الأفئدة و استقرار في الأذهان. فمن يكون في هذا الموقع أو يضع نفسه فيه، يجب علیه أولاً أن ينشغل دوماً بتهذيب نفسه و إرشادها و تذكیرها و وعظها.
يقول أمير المؤمنين حول من يتمتع بالأهلية لإمارة الناس أو يتولّى مسؤولية من شؤونهم، و طبعاً هذا ما يبتدئ من زعامة البلد و يسري إلى ما هو أدنى من ذلك في الدوائر و المؤسسات حيث كان أمير المؤمنين يوصي ولاته و قادته بهذا ممّا يصدق على القاضي أو المسؤول عن قطاع معين أو المتصدي لدائرة من دوائر هذا الجهاز الواسع، فيقول: فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه(4). و يقول: يصف الحق و يعمل به(5). من هنا يأتي التلازم بين السلطة و الأخلاق في الإسلام، فالسلطة هي سلطة غاصبة ظالمة إذا ما خلت من الأخلاق. يجب أن تكون سبل الوصول إلى السلطة و الحفاظ عليها سبلاً أخلاقية. فلا معنى في الإسلام للتشبث بأي وسيلة لبلوغ السلطة. ليس هناك حق لأي كان - فرداً أو فئة - في اللجوء لأي سبيل أو وسيلة لبلوغ السلطة - كما هو شائع في عصرنا هذا في الكثير من بلدان العالم - كلّا، فالسلطة التي تأتي عن هذا السبيل أو التي يجري الحفاظ عليها بهذه الطريقة، إنما هي سلطة ظالمة و لا تتمتع بالشرعية.
إن للأساليب أهميتها في الإسلام؛ فشأنها كشأن القيم. كما يهتم الإسلام كثيراً بالقيم، فإن للأساليب أهميتها أيضاً، و لا بد أن تتجسد هذه المثل عن طريق الأساليب أيضاً. إذا ما أردنا أن تكون حكومتنا حكومة إسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلا بد لنا أن نسير في هذا الطريق دون مواربة. يجب على المسؤولين في القطاعات المختلفة، و السلطات الثلاث و المسؤولين من الدرجة الوسطى، كلهم جميعاً، أن يسعوا للاستفادة من الأدوات و الوسائل السليمة و الأخلاقية للقيام بالأعمال و تحقيق أهدافهم. الاستفادة من هذا الأسلوب قد تؤدي إلى بعض الأخفاقات و المتاعب في مجال بلوغ الحكم، لكن في الوقت ذاته فإن الاستفادة من الأساليب غير الأخلاقية ليست صحيحة من وجهة نظر الإسلام و في رأي أمير المؤمنين. هذا هو الطريق و علينا أن نتحرك هكذا. ما تطرقت إليه، كان حول العدالة في إطار الشؤون الشخصية لعلي بن أبي طالب (عليه الصلاة و السلام).
أمّا عدالة الإمام علي عليه السلام على صعيد المجتمع، أي توفير العدالة الاجتماعية، فأمير المؤمنين(ع) يمثل وصفة الإسلام الكاملة. كانت حكومة أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السلام) حكومة إسلامية 100% و ليست 99% أو 99/99%، كلّا. فلم يخرج ما كان يصدر عن أمير المؤمنين و حدود صلاحياته و سلطته من تحرك أو قرار عن صبغته الإسلامية. أي إنها كانت العدالة المطلقة. ربما مورست بعض الأعمال تتنافى مع العدالة في بعض المناطق المختلفة التابعة لحكومة أمير المؤمنين، لكن أمير المؤمنين كمسؤول كان يشعر بتكليفه عندما يواجه مثل هذه الممارسات. فكانت كتبه و تحذيراته و خطبه المؤثرة في النفوس و حروبه كلها بهدف تطبيق هذه العدالة.
هذا هو تكليفنا اليوم. لا أريد أن يتبادر إلى الأذهان الوهم بإمكانية أن يصل أمثالنا أو من هو أفضل منا إلى مستوى أمير المؤمنين(ع). كلّا. فقد كان أمير المؤمنين المثال الأعلى و الأنموذج الأصيل. و هو نموذج يُراد أن يتحرك الجميع نحوه، و إلا لا يمكن التشبّه بأمير المؤمنين و لا يمكن تشبيه أحد به. أولئك العظام الذين اختارهم الله تعالى و منحهم العصمة - سواء كانوا من الأنبياء الإلهيين العظام أو الأئمة الأطهار عليهم السلام - هم نجوم تتلألأ في سماء البشرية و الملك و الملكوت، ليس هؤلاء ممن يستطيع الأشخاص العاديون أمثالنا بنفوسهم الحقيرة و قابلياتهم المتواضعة، أن يتحركوا بذلك الشكل أو أن يصلوا إلى هناك. لكنهم الهداة. الإنسان يجد طريقه بواسطة النجوم. لذلك يجب أن نتحرك بهذا الاتجاه. هذا هو واجبنا اليوم. لا يحق لأي من المسؤولين في نظام الجمهورية الإسلامية القول بأننا لا نستطيع أن نعمل كأمير المؤمنين فلا تكليف علينا، كلا. فهناك مراتب شاسعة بين ما يمكننا القيام به و بين المستوى الذي كان عليه أمير المؤمنين. علينا المضي قدماً و طي هذه المراتب قدر استطاعتنا.
ينبغي أن تظهر العدالة بصورتها الحقيقية في المجتمع. و هذا ممكن كما أن الثورة الإسلامية و نظام الجمهورية الإسلامية حققا أبعاداً من العدالة كان یُعدُّ تطبیقها خلال فترة من الفترات مستحیلاً في إيران. فلقد مر على بلدنا زمن كان من المحال على الذين لم يكونوا ذيولاً لأمريكا و بريطانيا أو القوى الفاسدة أو البلاد الفاسدة الوصول إلى المراكز السياسية. لم يكن هناك أدنى دور لعامة الشعب. لم يخطر ببال أحد أن يكون له تأثير في سياسة البلد و سلطته دون أن يقع في مستنقع هذه المقاصد و التبعية. أمّا اليوم، فإن كافة أبناء الشعب يلاحظون إمكانية الوصول إلى أرفع المناصب السياسية في النظام إن أرادوا أن یوفّروا في أنفسهم الشروط اللازمة لذلك. لقد كانت العدالة الاجتماعية خارج حدود التصور في بلدنا يوماً ما. لكن جانباً منها قد تحقق الآن. فإذن نحن نستطيع. من الممكن تحقيق الكثير من الإنجازات عن طريق همة الجماهير.
على المسؤولين أن يتحلّوا بالعزم حتی يتمكّنوا من تطبيق العدالة التي ينشدها الإسلام في كافة الأبعاد سواء الأبعاد القضائية أو الاقتصادية أو على صعيد توزيع مصادر الثروة الوطنية و مختلف الفرص و ما يعد مهماً بالنسبة لأبناء البلد. فيجب أن يكون سلوك كل مسؤول في السلطات الثلاث - التنفيذية و القضائية و التشريعية - سلوكاً عادلاً و أن يكون هدفه تطبيق العدالة في مجال استثمار بيت المال و المنافع الشخصية و العزل و التنصيب و كل ما يفعله. إذا ما تحقق ذلك بحيث تبذل المساعي من أجل تحقيق العدالة في كل قطاع من قطاعات البلد و هذا النظام، و كان هناك من يتابع قضية العدالة و ذاق أبناء الشعب طعمها و توفّرت للجميع، إذ علينا أن نبذل جهودنا حتی لا يبق أثر للإجحاف في جميع مجالات الحياة فحينئذ سيكون بمقدور الجمهورية الإسلامية أن تطرح نفسها أمام شعوب العالم و جميع الشعوب الإسلامية كأنموذج إسلامي.
إن البلدان الإسلامية مشدودة اليوم لسيادة الإسلام، و هذا الانشداد سيتوطد متى ما تحققت السيادة الحقيقية للإسلام، أي متى ما رأوا مراعاة الحدود الإلهية في المجتمع، و مراعاة حقوق الناس في المجتمع على أكمل وجه، و ليس هناك من يمارس الظلم بحق الآخرين بسبب ما يتمتع به من قدرات، و ليس هناك من يتنصل من تطبيق العدالة الحقيقية بحقه بسبب ما يتمتع به من منصب أو مكانة، و إن المخالفة تعدّ جرماً أياً كان مرتكبها، و يُنظر إلى الناس على حد سواء في ضوء الطبيعة الإنسانية و الأخوة الإسلامية، إذا ما عملنا بهذا الشكل، نكون قد حافظنا على الأمانة الإلهية المودعة بأيدينا و إلّا فسيكون حكم أمير المؤمنين حكماً شديداً: إعلم يا رفاعة أن هذه الإمارة أمانة فمن جعلها خيانة لعنه الله إلى يوم القيامة.
اللهم! بمحمّد و آل محمّد وفّقنا جميعاً و كل مسؤولي نظام الجمهورية الإسلامية لتطبيق أحكام الإسلام النيّرة..إننا إذ نتحدث باسم علي و نسير على ذكراه، فاجعلنا اللهمّ في العمل أيضاً من السائرين على نهجه المستقيم. اللهم: أقم في مجتمعنا العدل الذي هو وديعة الإسلام و أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
و العصر، إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر.(6)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيّما على أمير المؤمنين و الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سبطي الرحمة و سيدي شباب أهل الجنة و علي بن الحسين زين العابدين و محمّد بن علي و جعفر بن محمّد و موسى بن جعفر و علي بن موسى و محمّد بن علي و علي بن محمّد و الحسن بن علي و الخلف القائم المهدي حججك على عبادك و أمنائك في بلادك و صل على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين.
أوصي نفسي و جميع الإخوة و الأخوات الأعزاء بالتقوى و سلوك هذا السبيل النير الطافح بالبركات.
بمناسبة ذكرى رحيل نجل إمامنا العظيم الحاج السيد أحمد الخميني رضوان الله تعالى عليه فقد اخترنا أن تكون صلاة الجمعة لهذا اليوم إلى جانب مرقده و مرقد إمامنا العظيم. إن تكريم عزيزنا الراحل هذا يعد مسؤولية و واجباً يقع علينا دوماً و ذلك لسببين: أولهما أداء حق الإمام و الثاني أداء حقه هو.
أما أداء حق الإمام: فقد قضى ذلك الرجل الصبور النشط الجاد للغاية عمره لخدمة الإمام و أهدافه بالمعنى الحقيقي للكلمة. فيما كان الإمام بدوره يعرف قدر هذا الولد الكفوء. سمعت من الإمام ما لا يقل عن مرتين أنه قال: إن أحمد أعز الناس علي. لم يكن الإمام من أولئك الذين يعبرون عن مشاعرهم الشخصية إزاء المقربين منه، لقد نطق بهذه العبارة كي نقولها نحن أيضاً لا أن نعلم بها و حسب. كما أن الإمام أعرب عن ثقته بالسيد أحمد في مناسبات عديدة. إنني لا أنسى ما صرح به الإمام أثناء اجتماع مثير للغاية ضمّني و آخرين من أنه يولي ثقة كاملة بالسيد أحمد. إذن أنه لأمر جيد أن نحيي ذكرى نجل الإمام دوماً أداءً لحق الإمام.
أما أداء حقه فهو أنه عانى من المحنة و بذل جهوده. فلقد كان يسير في الطريق الذي يرى فيه أنه يمثل طريق الثورة و الإسلام الذي يدعو إليه الإمام(ره) دون مواربة، مما أثار عداء الكثيرين ضده. كان بعض هذا العداء حتّى و إن جاء أحياناً باسم الإسلام و تحت غطاء الإخلاص للمفاهيم الجميلة، أضغاناً شخصية ناجمة عن العقد التي تضمرها قلوبهم إزاء هذا العزيز المظلوم، و ذلك لأنه كان متصلباً في مواقف الإمام و لم يساوم و لم يخضع للآخرين. إن الذين يسيئون إلى المرحوم السيد أحمد و يهجونه، لإدخال السرور على قلوب أعداء الإسلام، إنما يشعرون بالعقدة من الإمام و الثورة. إن السبب في عدائهم الشخصي لذلك المرحوم هو أنه كان مدافعاً عن الإمام و الثورة حقيقة سواء في عهد الإمام أو بعد رحيله. لقد دافع سماحته عن القيم و المبادئ و وقف صامداً و عمل عكس ما كان يتوقعه الكثيرون.
هو نفسه اشتکی لي مرتين أو ثلاثاً من بعض الذين يتوقعون منه أموراً أخرى. اللهم نسألك بحق محمد و آل محمد أن تنزل رحمتك و مغفرتك و رضوانك على روح السيد أحمد الخميني و روح إمامنا العظيم الذي كان مصدر وجوده و تربيته.
الموضوع الذي أرى من الضروري التطرق إليه في مجال قضايا البلد العامة في آخر جمعة من هذا العام و نحن على أعتاب العام الجديد، هو أننا و إن كنّا نوصي للشعب دوماً بالتحلي بالوعي و الحذر إزاء مؤامرات العدو المعقدة، غير أن وصايانا تهمّ في الغالب من يتحملون المسؤوليات المتنوعة. لأن العدو شدّد هجومه ضد نظامنا بسبب ما لمسه اليوم من عظمة الجمهورية الإسلامية و ازدیاد قدرتها.
فالأعداء يسلكون عدة سبل لشن الهجوم ضد نظام الجمهورية الإسلامية. لعلهم يوجهون ضرباتهم، لكنهم حين يجدون عدم جدوى هذه السبل و عدم تأثيرها، فإنهم يعيدون النظر في أساليبهم دوماً. إن اقتدار هذا النظام الذي يعتمد على عواطف أبناء الشعب و أصواتهم و إيمانهم، أربك العدو، لكنه لم يخرج بعد من الساحة. إن العدو لم يزل يقوم بالمؤامرات و سيقوم بها حتى مدة طويلة. فعلينا التحلي باليقظة. و ما دام العدو يغيّر أساليبه و مخططاته، فيجب علينا مضاعفة وعينا، سواء كافة أبناء الشعب أو المسؤولون. و لحسن الحظ فإن أبناء شعبنا من الشباب و سائر الشرائح يتحلون بالوعي و اليقظة و الفطنة. و هذه الحساسية التي يبديها أبناء شعبنا أمر مهم للغاية و هناك الكثير من الأمور الدقيقة التي تترصدها عيون الجماهير.
إنني أردت من الشعب و المسؤولين في بداية عام 79هـ.ش أن تتركز جهودهم على بعدين هما الوحدة الوطنية و الأمن القومي. طبعاً تمّ بذل جهود و إنني أشكر من صميم قلبي كل الذين بذلوا مساعيهم في هذا المجال. لقد أنجزت أعمال جيدة خاصة في مجال الأمن، كما تم تنفيذ أعمال قيمة في مجال الوحدة، لكنني أريد أن أكرر حديث بداية السنة في هذه الأيام الأخيرة من هذا العام، و أوكّد أن العدو يبلغ أهدافه متى ما استطاع إيجاد صدع في هيكلية النظام و بث الخلافات بين مسؤولي القطاعات المختلفة. هذا ما يتابعه العدو.
كيف يمكن إيجاد الصدع؟ يمكن سلوك طريقين: هؤلاء قد يأسوا من أحدهما تقريباً و لا نقول بشكل كامل، إذ أنهم لم يستطيعوا تحقيق شيء عن ذلك الطريق. الطريق الذي لم يفلحوا أن يقوموا بمناورات و دسائس فيه، هو طريق التسلل إلى أركان الحكم. إنهم لم يستطيعوا و ما زالوا أن يتسللوا إلى المراكز العليا في النظام. الطريق الآخر الذي سلكوه منذ بداية الثورة و أتذكر الكثير من الذكريات و النماذج منه منذ فترة رئاستي للجمهورية، هو أن يهتموا بفئة أو شخص من النظام و يطروه و يدعموه و يوحون له بأنهم من حماته، عسى أن يفلحوا من خلال ذلك في إثارة حفيظة الآخرين إزاءه و إذكاء حسن الظن لديه بهم، أي إنهم يخلقون صدعاً في النظام. هذا ما كان ضمن برامج دعايات الأعداء دوماً، سواء فيما مضى أو في يومنا هذا، و قد جرّبوه مراراً و ذاقوا طعم الفشل في العديد من المواقف. أرى من الضروري أن أذكر هذا لكم من باب الشكر لله على نعمته هذه، فمن أعظم النعم التي أعطانا الله تعالى هي أن الكثير من مسؤولينا واجهوا القضايا بكلّ وعي و يقظة و أدركوا أن لسان الأعداء اللين ما هو إلى فخ. عملوا بهذا المخطط بالنسبة لرئيس جمهوريتنا السابق و الحالي لكنهم فشلوا. اتهمت وسائل الإعلام قبل و بعد انتخاب رئيس الجمهورية الحالي بدعم الأجهزة الغربية له. لكن سماحته زرع اليأس في نفوس الأعداء في أول مؤتمر صحفي له بعد بدء مسؤوليته. و هكذا شأنه حتى الآن و الحمد لله. لكن العدو نجح في بعض الحالات و تمكّن من الاستفادة من هذه المؤامرة. فبمجرد أن يبرز خلاف حول قضية ما في داخل البلد فهو يعمل على قمع جهة معينة لصالح الجهة المقابلة، فيقوم بمدح و ثناء طرف في مقابل الطرف الآخر. علينا أن نتحلي بالوعي و الحذر لنعرف ما يعيشه العدو من تصورات و مخططات، هناك الكثير ممن يدركون هذه المؤامرات، و هناك من لا يدركها و ينخدع بها. لقد وضع الإمام رضوان الله عليه قاعدة عامة لمثل هذه الحالات. إنني لمست على مدى السنوات الاثنتين و العشرين التي مرت على قيام الجمهورية الإسلامية إلى اليوم، أن هذا المنهج و المنطق الذي كان يلتزم بهما الإمام، كان صحيحاً. إذ كان الإمام يقول: متى ما قام الأعداء بمدحكم فاعلموا أنهم يلتمسون فيكم مطمعاً، فعليكم إزالة أرضية ذلک الطمع. و اعلموا أن كل ما يدعون إليه أبناء الشعب و الجماعات و الشباب و الشرائح المختلفة إنما يلحق الضرر بكم. هذا ما جربناه لحد الآن. فلا بد من التحلي باليقظة الفائقة.
إن العدو يمتلك وسائل إعلامية فعالة للغاية. إن كافة وسائل الإعلام العالمية تقريباً تحتكرها اليوم الأجهزة القوية الثرية في العالم و التي تهيمن على الكثير من الحكومات، و أغلبهم من الصهاينة أو حلفائهم. إنهم لا يقومون بالدعايات أو يستهدفون أحداً أو يدافعون عن أحد دون هدف أو حسابات دقيقة. بل لهم أطماعهم أو أهدافهم من وراء ذلك. فلا بد من الحذر.
سبيل معالجة الأمر هو ما قلته - كما نقلته عن رئيس جمهوريتنا المحترم و رئيس جمهوريتنا السابق - أي على المرء أن يكون كلامه و موقفه و تحركه بالشكل الذي يدرك ذلك الذي حفر له البئر بامتداحه إياه أنه قد أصيب بالفشل و لم يبلغ هدفه. ربما حصل أن بادرت الإذاعات الأجنبية إلى امتداح و دعم كبار المسؤولين و المدراء في البلد بمناسبة - سواء المدح لشخصهم أو لمنظومتهم أو لفئتهم أو لحزبهم - إنني قلت لهم علیکم أن تفعلوا شیئاً حتی لا یُشتبه بکم مع الأعداء، أي عليكم تكريس البون الذي يفصلهم عنكم بصراحة. إن حصل هذا، فلن يبلغ الأعداء أهدافهم و ستحبط مؤامراتهم، و ليتحدثوا بما يحلوا لهم. عندما يكون هناك اختلاف بين تيارين أو فئتين حول قضية ما في بلدنا - طبعاً الاختلافات في الرأي و الأذواق أمر طبيعي بلا ریب - فإنهم يعبرون عن دعمهم لأحد هذين الطرفين بينما ينكّلون بالآخر! فطريق إحباط فاعلية مؤامراتهم هو أن يعلن الطرف الذي أعلنوا دعمهم له براءته منهم بصراحة. لو قاموا بهذا العمل، فلن يبلغ العدو هدفه الذي يتمثل في إيجاد شرخ. و إلّا فإن العدو سيأمل في إلى بلوغ هدفه.
اعلموا يا أعزائي، لو حصلت فجوة في النظام، فلن يتقدم أي عمل أساسي؛ فأيما جماعة تقوم بعمل ما، و تضع فئة أخرى علامة استفهام عليه و تحول دون تقدم هذا العمل - حيث لاحظتم أنتم نماذج ذلك في حالات عديدة. فإذا ما قام جهاز بعمل إيجابي مفيد، فسرعان ما تلاحظون أن هناك من يتخذون المواقف تجاهه و يوجهون النقد له و يهاجمونه و هو لم تتضح معالمه بعد! - بهذه الطريقة لا يتقدم العمل أبداً. حينما يُطلق شعار أو حديث جيد عن لسان، تظهر فئة أخرى تهاجمه و لا تسمح لهذا الشعار أن یثمر. هذه هي المشاكل الكبيرة التي تنبع من حالة التفرقة في مراكز الحكم الرئيسية، و إلا فلا إشكال في الاختلاف على الصعيد الفكري. بل الإشكال في الفرقة و التخاصم و العداوة التي تصب في صالح الأعداء. إنني أشكو من بعض المواقف التي يتخذها بعض الأشخاص سواء في السلطة التشريعية أو بعض المواقع الأخرى. ينبغي أن لا تكون المواقف بالشكل الذي يرى فيها العدو أنها تصب في صالحه و يحقق أهدافه و مآربه من خلالها. علينا أن نفسح المجال أمام أجهزة البلد - سواء السلطة التنفيذية أو القضائية أو التشريعية - كي تقوم بأعمالها بقدرة و شجاعة و ثقة بالنفس.
إن الصراع في المستويات العليا في الحكومة هو ما يريده العدو و يتابعه بجدية. و كما سبق أن قلت: إذا كان من الممكن لهم النفوذ إلى إحداها فسيقومون بهذا العمل - و لحسن الحظ لم ينجحوا به حتى الآن و لن ينجحوا في المستقبل أيضاً بإذنه تعالى - و إلا فإن لديهم سبلاً أخری تتمثل في تقربهم من البعض و تشديد الصراع لصالح فئة ضد أخرى. هذه هي إحدى السياسات الواضحة التي انتهجت ضد الثورة خلال هذه السنوات القليلة. هذا هو هدفهم من كل ما يصرحون به أو ما يصدر عنهم من مواقف، و هذه هي غايتهم من مبادرتهم لتأسيس الإذاعات. و هناك في الداخل أذناب المعادين للثورة و عملاء الأجهزة الجاسوسية الأجنبية - فهؤلاء أيضاً موجودون - الذين يتخذون نفس تلك المواقف و يطلقون نفس تلك الأحاديث و يتابعون نفس الهدف. إن هدفهم لا يتمثل في إيجاد الصدع في الأجهزة العليا للنظام و حسب، بل إن إيجاد الثغرة في الحوزة العلمية هو هدفهم الآخر. كانوا يبذلون مساعيهم لبث الخلافات بين كبار المراجع و العلماء المشهورين في الحوزة العلمية، و لحسن الحظ لم ينجحوا، و نتمنى أن لن ينجحوا في كل الساحات.
إنني و في آخر جمعة من العام الموسوم بعام أمير المؤمنين (ع) أوصي باسمه العظيم و ذكراه نفسي بالدرجة الأولى - إذ إنني أحتاج أكثر من غيري للتقوى - ثم أدعو مسؤولي البلد و كافة أبناء الشعب و أنتم أيها المصلون الأعزاء بالتقوى و هي ما وصّى به أمير المؤمنين بما تحمل من معنى المراقبة الحذرة لأقوالنا و أفعالنا و حركاتنا، لكي لا يأمل العدو و يشعر بأنه يستطيع إيجاد الصدع في النظام و يحول دون تقدم الأعمال الجيدة. أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العام الذي تزين باسم أمير المؤمنين ذخراً لهذا الشعب، و أن يجعل من العام القادم عاماً لتحقيق النجاحات الكبيرة لهذا الشعب إن شاء الله. و هناك أمور تتعلق بالعام القادم و قضية الانتخابات التي ستجري في مطلع العام القادم سأتطرق إليها في وقتها.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك و انحر. إن شانئك هو الأبتر.(7)
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الهوامش:
1) نهج البلاغة،الحكمة 70.
2) نهج البلاغة، الحكمة 70.
3) نهج البلاغة، الحكمة 70.
4) نهج البلاغة، الخطبة 86.
5) نهج البلاغة، الخطبة .86
6) سورة العصر: الآية 1-4.
7) سورة الكوثر: الآية 1.