بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم محمد، و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما بقية الله في الأرضين.
في الأدعية التي وردت في الصحيفة السجادية المباركة، أو بقية الأدعية المأثورة حول شهر رمضان هناك بعض الصفات لهذا الشهر كل واحدة منها جديرة بالتأمل و التدبر: «شهر التوبة و الإنابة». و سوف أذكر بعض النقاط لاحقاً حول التوبة و الإنابة. «شهر الإسلام» الصفة الواردة في دعاء من الصحيفة السجادية المباركة. و المراد بالإسلام ما ورد في الآية الشريفة: «و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى» (1). إسلام الوجه لله، أي تسليم القلب و الروح و الرضوخ مقابل الإرادة الإلهية و الحكم الإلهي و الشريعة الإلهية. «شهر الطهور»، و الطهور بمعنى المطهِّر، أي إنه الشهر الذي يوجد فيه عنصر مطهِّر يمنح الإنسان الطهارة و النقاء. أو يذكر على أنه مصدر بمعنى التطهُّر من الأدران و الشوائب. «شهر التمحيص» و التمحيص بمعنى الخلوص. حينما يوضع المعدن المشوب بمعادن من جنس آخر في الأتون - الذهب مثلاً - يسمّون هذا تمحيصاً، بمعنى فصل الذات الإنسانية الطاهرة عن الأدران و الشوائب و الأوساخ. هذه خصوصيات ذكرت لهذا الشهر.
يلوح للمرء أن شهر رمضان بين أيام السنة و شهورها بحكم أوقات الصلاة في اليوم. فكما وضعت الشريعة الإسلامية المقدسة بعض الفرص لنا نحن المصفّدين بعوامل المادة كي نصلي فيها - وقت الصبح و الظهر و العصر و المغرب و العشاء، و هي كأجراس التنبيه، الغرض منها الاختلاء بالذات لتحقيق النورانية في القلب و الروح.. وضعوا لنا أوقات الصلاة على امتداد الليل و النهار، لكي لا نغرق في الماديات، و لكي نخرج للحظة من أسر الماديات و نستعيد أنفاسنا و نعود إلى المعنوية و لا نغرق تماماً في الماديات - يبدو أن شهر رمضان له على امتداد العام مثل هذا الوضع. إنه مجال لسحق إنانية الروح الإنسانية، و فرصة لتحرير النفس من أغلال العوامل المادية المحيطة بنا، و استعادة أنفاسها و تنويرها عبر هذه الرياضة الطويلة لمدة شهر. وضع الشارع المقدس شهر رمضان لهذا السبب. هذه فرصة.
من بين الخصوصيات المذكورة - و كلها مهمة طبعاً - لفتت انتباهي و أذكرها لكم الآن باعتباركم مسؤولي البلاد صفة «شهر التوبة و الإنابة». إنه شهر التوبة و شهر الإنابة. التوبة بمعنى العودة عن طريق خاطئ و عمل خاطئ و فكرة خاطئة. و الإنابة بمعنى العودة إلى الله. التوبة و الإنابة يحتويان في داخلهما بشكل طبيعي على معنى. حين نقول إننا نعود عن طريق خاطئ فمعنى ذلك أن نعرف النقطة الخاطئة و الطريق الخطأ، و هذا على جانب كبير من الأهمية. إننا حينما نسير، غالباً ما نغفل عن أعمالنا و أخطائنا و تقصيراتنا، و لا نتنبه للإشكالات التي تشوب أعمالنا. و الأنا أو الذات هنا هي الذات الشخصية أحياناً، و الذات الجماعية أحياناً، و قد تكون الشعب أو الحزب أو التيار أو الفئة السياسية. كل ما يرتبط بالإنسان يغفل الإنسان غالباً عن عيوبه، لذلك يجب على الآخرين ‌أن يذكروا لنا عيوبنا. و لو أدركنا عيوبنا بأنفسنا و أصلحناها لما جاء الدور للآخرين و لما كانت هناك حاجة لأن يذكرها لنا الآخرون. التوبة و الإنابة المذكورة خطوتها الأولى هي التفطن للعيب الذي يشوب عملنا، و أن نفهم أين يوجد إشكال في ما نقوم به، و أين هي أخطاؤنا و أين هي ذنوبنا و تقصيراتنا. يجب أن نبدأ من أنفسنا لنصل بعد ذلك للدوائر الاجتماعية الأوسع. يجب أن نحاسب أنفسنا أولاً و نرى أين وقعنا في الخطأ. هذا من واجبنا جميعاً. ابتداء منا نحن البشر العاديين الكثيري الذنوب و التقصير و الأخطاء إلى الأفراد المميزين و إلى عباد الله الصالحين و إلى أولياء الله، أولئك أيضاً على هذه الشاكلة، و هم أيضاً بحاجة للاستغفار و التوبة. ثمة رواية عن نبي الإسلام الكريم (صلى الله عليه و آله و سلم) يرويها الشيعة و السنة على السواء.. روي عنه أنه قال: «إنه ليغان على قلبي».. أي إن قلبي ليعلوه الغبار و الغيوم. «يغان» من «الغين»‌ و الغين هنا «الغيم» بمعنى السحب، كما لو تحجب الغيوم الشمس و القمر. إنها حالة حالكة نسبية و احتجاب التألق. يقول (ص): «ليغان على قلبي».. أحياناً تنتاب قلبي حالة تراكم الضباب و الغيوم. «و إني لأستغفر الله كل يوم سبعين مرة». الرسول يقول هذه العبارة.. تلك الروح الملكوتية و الذات الطاهرة. و في رواية‌ أخرى - و هي من طرقنا - جاء أنه «كان رسول الله صلى الله عليه و آله يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة». و التعبير هنا هو التوبة. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن الرسول كان يتوب إلى الله كل يوم سبعين مرة «من غير ذنب». النبي معصوم فمن ماذا يتوب؟ يقول المرحوم الفيض (رحمة الله عليه): «إن ذنوب الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام ليس كذنوبنا، بل إنما هو ترك دوام الذكر، و الاشتغال بالمباحات». قد تعرض للنبي و الولي في الأزقة و الأسواق و الحياة العادية لحظات غفلة، و هي الشيء‌ الذي يشكل الغالبية من حياتنا، قد تعرض له هذه الحالة للحظة واحدة فينشغل بأمر مباح، فيكون هذا مدعاة استغفار للنبي. إذن، هذا الأمر لا يختص بنا، إنما هو للجميع.
و هذا الأمر أوجب و أهم للمسؤولين. فأنا و أنتم الذين نتحمل مسؤوليات، أو لنا تأثير في جانب من شؤون البلاد، و لنا نفوذنا في مجال اجتماعي معين، مسؤولياتنا في الاستغفار و التوبة و الإنابة إلى الله أكبر و أثقل، يجب التدقيق و حذر جداً. أحياناً قد تحصل مخالفة في المؤسسة التي نتولى مسؤولياتها، فإذا كانت هذه المخالفة مرتبطة بنا بشكل من الأشكال نكون نحن المسؤولين عنها، كأن نقصر مثلاً في الإبلاغ أو في اختيار الأشخاص أو في التصدي للمخالفات فيؤدي ذلك إلى وقوع تلك المخالفة. «قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة» (2).
إذن، النتيجة هي أن علينا المراقبة في حدود مقدرتنا خلال شهر رمضان، و أن نصحح سلوكنا و أفكارنا و أقوالنا و أعمالنا. و نبحث عن الإشكالات فنرفعها. في أي اتجاه يجب أن يكون هذا التصحيح؟ في اتجاه التقوى. يقول سبحانه في آية الصيام الشريفة: «لعلكم تتقون» (3). فالصيام من أجل التقوى. إذن، السعي و الجهد في شهر رمضان المبارك إنما هو من أجل التقوى.
حول التقوى سجلت هنا جملة أذكرها. حينما يقال التقوى و الورع ينصرف بال الإنسان لمراعاة ظواهر الشرع و المحرمات و الواجبات الظاهرية. كأن نصلي و ندفع الحقوق الشرعية و نصوم و لا نكذب. و هذه مهمة‌ طبعاً، كلها مهمة، لكن للتقوى أبعاداً أخرى غالباً ما نغفل عنها. ثمة‌ في دعاء مكارم الأخلاق الشريف فقرة توضح هذه الأبعاد: «اللهم صلّ على محمد و آله و حلني بحلية الصالحين و ألبسني زينة المتقين» (4). يطلب من الله تعالى أن يا إلهي حلني بحلية الصالحين و ألبسني زينة المتقين.. حسناً، فما هو لباس المتقين؟ بعدها يقدم هذا الشرح الملفت: «في بسط العدل»، أي إن لباس المتقين هو بسط العدل، و «كظم الغيظ و إطفاء النائرة».. أي السيطرة على الغضب و إخماد نيران العداوات و الأحقاد التي تنشب بين أفراد المجتمع.. هذه هي التقوى. «و ضمّ أهل الفرقة»، محاولة جمع و اجتذاب من هم منكم لكنهم انفصلوا عنكم. هذه من مصاديق التقوى التي وردت في دعاء مكارم الأخلاق الشريف، الدعاء العشرين من الصحيفة السجادية المباركة. هذا الدعاء دعاء مهم جداً. أعتقد أن على الجميع و خصوصاً المسؤولين أن يقرأوا هذا الدعاء و يدققوا في مضامينه، ففيه قيمة تعليمية كبيرة. «و إصلاح ذات البين».. بدل تأجيج النيران و الدس و النميمة و إذكاء العداوات يتحتم العمل على إصلاح ذات البين و إفشاء الألفة بين الإخوة المؤمنين المسلمين. هذه هي التقوى.
لاحظوا أن هذه كلها من قضايانا المعاصرة. إفشاء‌ العدالة، العدالة القضائية، العدالة الاقتصادية، العدالة في الاختيار و الانتقاء، و العدالة في توزيع المصادر و الفرص في البلاد بين الجماعات، و العدالة الجغرافية، هذه قضايا على جانب كبير من الأهمية. و هي جميعاً من احتياجاتنا. نشر العدالة أعلى مراتب التقوى. أنها فوق الصلاة الجيدة و فوق صيام يوم حار في الصيف. ثمة‌ رواية‌ تقول: أي أمير - و الأمير هو أنتم جميعاً بمعنى: أي شخص له مؤسسة أو جهاز يحكمه و تكون أوامره هناك نافذة - يحكم بالعدل يوماً كأنما عبد الله سبعين سنة. هذه قضايا على جانب كبير من الأهمية، و تشير إلى أهمية العدالة و السلوك العادل.
كظم الغيظ حيال الأصدقاء. الكلام هنا عن الأصدقاء. و بالطبع يجب الغيظ أمام الأعداء. «و يذهب غيظ قلوبهم» (5)، الغيظ أمام العدو الذي يعارض هويتكم و وجودكم غيظ مقدس و لا إشكال فيه. إنما يجب عدم الغيظ حيال جماعة المؤمنين، و بين من نكلف بالسلوك الإسلامي معهم. الغضب يضرّ بالإنسان. اتخاذ القرارات عن غضب مضرّ، و الكلام بغضب مضرّ، و العمل بغضب مضر و غالباً ما تقع فيه أخطاء و اشتباهات. و هي حالة نبتلى فيها بكثرة للأسف. الحؤول دون هذا الغضب،‌ الغضب المفضي للانحراف، يؤدي للوقوع في الأخطاء الفكرية‌ و العملية. من مصاديق التقوى «كظم الغيظ».
و الأمر الآخر هو «إطفاء النائرة». البعض يثيرون و يؤججون نيراناً سياسية و فئوية. و البعض كأنما هم مكلفون بهذا. أرى في داخل البلاد أن البعض كأنهم يريدون إشعال نيران العداء و الخلاف بين العناصر و التيارات المختلفة و الأفراد من كل التيارات و الاتجاهات. و كأنما تأجيج هذه النيران حالة‌ تروقهم. هذا بخلاف التقوى. التقوى هي إطفاء النائرة. كما تطفئون النيران في الأماكن المادية يجب أن تطفئوا النيران في المناخات الإنسانية و المعنوية و الأخلاقية. و كذلك:‌«و ضمّ أهل الفرقة».
ذكرنا سابقاً الاستقطاب الأقصى و الدفع الأدنى. طبعاً المعيار و الميزان هو الأصول و القيم. و الأفراد ليسوا في مستوى واحد من حيث الإيمان. ثمة بيننا أفراد ضعفاء الإيمان و هناك أفراد أقوياء الإيمان. علينا أن نجد الطريق. لا يمكن دفع ضعيف الإيمان، و لا يمكن التركيز فقط على أقوياء الإيمان، لا، ينبغي أخذ ضعفاء الإيمان أيضاً بنظر الاعتبار. الذين يعتبرون أنفسهم أقوياء يجب أن يلاحظوا الذين يعتبرونهم ضعفاء و يراعونهم و لا ينفروهم و لا يدفعوهم. الذين هم ضمن المجموعة لكنهم انفصلوا نتيجة خطأ أو غفلة يجب على الأقوياء أن يستقطبوهم و ينصحوهم و يدلوهم على الطريق و يعيدوهم إلى المجموعة. هذه من الأمور الأساسية.
إذن، هذه هي التقوى، و هذه هي طرق التوبة و الإنابة «شهر التوبة و شهر الإنابة». و لكن الملفت هنا أن صيام هذا الشهر عملية جماعية و ليست فردية. أي إننا جميعاً صائمون، و كلنا نعيش هذا الشهر، و كلنا جلوس على هذه المائدة.. جميع أفراد المجتمع الإسلامي و الأمة الإسلامية. حينما ترون العمل بهذه النصائح و هذه التوصيات المهمة في الكتاب و السنة، إذا اعتبرنا أنفسنا جميعاً مخاطبين بهذه التوصيات فلاحظوا ما الذي سيحدث في العالم الإسلامي. و في إطار أضيق ما الذي سيحدث في البلاد. ينبغي معرفة قدر هذا الشهر. و معرفة قدره بأن نجعله فعلاً شهراً للتوبة و الإنابة و التطهير و التمحيص. يجب أن نسير بهذا الاتجاه. طيب، هذا هو الشيء الرئيسي الذي أردنا أن نقوله في هذه الجلسة.
حول القضايا الحالية في بلادنا قدّم السيد رئيس الجمهورية تقريراً جيداً و مفصلاً و مفيداً. لو أردنا أن نحلل القضايا الراهنة في بلادنا تحليلاً صحيحاً و لا نقع عند تحليلنا في خطأ يجب أن نبدأ من أن هناك اصطفافاً قديماً بين إيران الإسلامية و بين مجموعة معينة. و قد مضى على هذا الاصطفاف و المعارضة و النزاع واحد و ثلاثون عاماً، و الأمر ليس بالجديد. و طبعاً شهدت الجبهة المقابلة لنا بعض التغييرات، لكننا لم نتغير، إذ لا زال كلامنا نفس الكلام و أصولنا نفس الأصول و طريقنا نفس الطريق. إننا نسير بسرعة على الخط الذي اخترناه. و قد شخصنا أهدافنا. و قد كانت هذه الأهداف معلومة و محددة منذ البداية في كلام الإمام الخميني و في أسس الثورة. إننا نتقدم إلى الأمام بقدر المستطاع. لكن الجبهة المقابلة شهدت تغييرات معينة. هناك فيها زيادة أو نقصان. كان هناك بعض الأشخاص خرجوا و دخل أشخاص لم يكونوا في الداخل. تلوح في هذا الاصطفاف حالياً ظاهرتان. الظاهرة الأولى هي أن الطرف المقابل لنا أو الجبهة المقابلة لنا أصيبت بالضعف قياساً إلى السابق. بمعنى أن حركة الجبهة المقابلة كانت باتجاه الانحدار و الضعف. و الظاهرة الثانية هي أن جبهتنا اتجهت نحو القوة. أي إن حركتنا كانت باتجاه القوة. و هاتان الظاهرتان يمكن البرهنة عليهما و ليستا من قبيل الكلام الشعاري، إنما هما كلام يرتكز إلى الواقع.
أذكر نقطة حول الجبهة المقابلة. ما معنى الجبهة المقابلة؟ إعلام هذه الجبهة يطلق على نفسه اسم المجتمع العالمي. و هذه كذبة كبيرة. أنهم ليسوا المجتمع العالمي بحال من الأحوال. إنهم عدد قليل من البلدان، و المحور الرئيس للأعداء هو الكيان الصهيوني و بلد الولايات المتحدة الأمريكية، و البقية إما تابعون في سياساتهم، أو متحرجون، أو يعانون من الضعف المفرط و لا يستطيعون فعل شيء. و ليس هناك عدد كبير يجتمع حول هذين المحورين، لا اليوم و لا في السنوات الماضية.
حسناً، ما هو الملاك الذي يجعلنا نعتبر هاتين الحكومتين أو هاتين المنظومتين معارضينا الأصليين في هذا الاصطفاف؟ و ما هي هذه المعارضة؟ لاحظوا، هناك نوعان من المعارضة، المعارضة الجذرية و المعارضة السطحية. الخلافات السطحية مثالها الخلافات حول الحدود و الأراضي، أو حول الشؤون التجارية، أو حول بعض السياسات بين بلدين. و المعارضات الجذرية معارضات تتعلق بالوجود، أي إنها معارضات بين بلدين يرفض كل منهما وجود البلد الآخر. و هذا هو وضعنا بخصوص الكيان الصهيوني. إننا لا نوافق وجود الكيان الصهيوني و نعتقد أنه كيان مزيف و مفروض، و عارض قبيح في طبيعة الشرق الأوسط، و هو عارض سوف يرتفع بلا شك، أي لا مراء في أنه سوف لن يبقى. على كل حال نحن نرفض هويته و وجوده. و الكيان الصهيوني بدوره يرفض وجود النظام الإسلامي. يحبون إيران إذا كانت خاضعة لسيطرة نظام طاغوتي، لكنهم يعارضون النظام الإسلامي بشدة. هذه هي المعارضة الجذرية.
و بخصوص أمريكا فإن نظرة الولايات المتحدة الأمريكية للنظام الإسلامي من نوع النظرة التي ترفض الوجود أساساً. هذا ما أدركناه بالكامل طوال هذه الأعوام. طبعاً هم يقول إننا لا نرفض الوجود و لكن نطالب بتغيير السلوك. و تغيير السلوك الذي يتحدثون عنه، رغم أنهم يصرون عليه دوماً، معناه رفض الهوية. بمعنى تغيير السلوكيات الأصلية التي تمثل مؤشرات الحالة الإسلامية. و نحن أيضاً نظرتنا لأمريكا رفض الوجود الاستكباري، و إلا فالنظام الأمريكي و الحكومة الأمريكية بلد مثل باقي البلدان و حكومة‌ مثل باقي الحكومات. الحالة الاستكبارية لدى أمريكا و هيمنتها العالمية و تفرعنها مرفوض من قبلنا. و هذه هي المعارضة الجذرية. و هذه المعارضة الجذرية فعالة ناشطة أحياناً، و هادئة ساكنة في أحيان أخرى. و قد تكون هناك معارضة جذرية مع بعض البلدان الأخرى في العالم لكنها معارضة غير فعالة بل ساكنة لأسباب معينة. قد تكون لهم أسبابهم و قد تكون لنا أسبابنا. لكن المعارضة مع هاتين الحكومتين معارضة‌ فعالة. هذه هي إذن الجبهة المعارضة. و هي جبهة تسير نحو الضعف و الهبوط. بمعنى لو قارناها بما كانت عليه قبل ثلاثين سنة و لو قارنا وضعها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و نفوذها و تواجدها في العالم فسنرى بوضوح أنها آلت للضعف و الهبوط. و بهذا الخصوص ثمة هنا نقاط سجلتها:
الجبهة المقابلة لنا محرومة تماماً من أي رصيد شعبي في العالم. أي إنكم لا تجدون أي بلد يناصر شعبه نظامَ الولايات المتحدة الأمريكية أو الكيان الصهيوني الغاصب. لا يتمتعون بدعامة و رصيد شعبي في أي مكان. حتى في البلدان التي تدافع‌ حكوماتها عنهم بعصبية نرى الشعوب تعارضهم، مع أن الكثيرين منهم غير مسلمين. و اليوم لاحظتم في الصحف. زار رئيس الكيان الصهيوني أحد البلدان الأوربية فتجمع الناس بالآلآف - كما جاء‌ في الأخبار - و قالوا له: أغرب و أخرج! و كذا الحال في كل مكان. أينما ذهبوا كانوا أمام هذه الحال. إذن، لا يتمتع هؤلاء بأي سند شعبي. و الكيان الصهيوني مفروغ منه، لكن النظام الأمريكي بكل قدرته و نفوذه السياسي و هيمنته وضعه هكذا أيضاً. أضف إلى‌ ذلك أن الجبهة المقابلة لنا مكروهة بين الشعوب. ليست عديمة‌ الأنصار و حسب، أنما هي مكروهة مبغوضة. يحرقون أعلامهم و يحرقون صورهم و يسحقون دُماهم. هذه هي حالهم.
لديهم تجارب مرة من الأحداث العسكرية‌ الأخيرة. لأمريكا تجربة مرة في أفغانستان و في العراق، فقد أخفقوا هناك. و في قضية فلسطين لم تصل الأنشطة و المساعي السياسية الأمريكية لأية نتيجة. فقد أخفقوا هناك أيضاً. و الصهاينة تبينت هزيمتهم و كراهيتهم للجميع في حرب الـ 33 يوماً و في هجوهم على غزة.
كما أن الوضع الاقتصادي للجبهة‌ المقابلة سيئ هو الآخر. رغم كل الجهود التي بذلوها لم يستطيعوا لحد الآن إزاحة كابوس الركود الاقتصادي و الوضع الاقتصادي السيئ. طبعاً يقولون إن هناك أعمالاً قد أنجزت لكن الأمر ليس كذلك، إذ لم يفعلوا شيئاً صحيحاً لحد الآن. لا يزالون تحت الضغوط الاقتصادية. و التدابير التي اتخذوها - ضخ الكثير من الأموال للمراكز المالية - لم تنفع شيئاً. لا يزالون في وضع اقتصادي سيئ جداً.
و قد أخفقوا في سياساتهم الشرق أوسطية، سواء في فلسطين أو سورية أو لبنان. الأخطاء الفاحشة التي ارتكبوها أعجزت ساستهم عن اتخاذ القرارات و بقوا في حال من الحيرة. الحقيقة أن الأمريكيين لا يعلمون اليوم ما الذي يجب أن يفعلوه في أفغانستان و ما الذي سوف يفعلونه. ثمة‌ اختلاف بينهم. لا يستطيعون اتخاذ قرار يثقون أنه سيكون لصالحهم. إذا خرجوا من أفغانستان كان ذلك خزياً و تعاسة لهم بشكل من الأشكال، و إذا بقوا في أفغانستان كان ذلك سوء صيت و تعاسة لهم بشكل آخر. و مثل هذه القضية تصدق على حالهم في العراق أيضاً. لا يعلمون ما الذي يجب أن يفعلوه. يتدخلون و يعملون و لا يصلون إلى نتيجة. ثقة مسؤوليهم بأنفسهم اليوم أقل منها في السابق بكثير. قارنوا بين أمريكا اليوم و أمريكا في عهد ريغان في بدايات الثورة. الثقة بالذات التي كانت لهم في ذلك الحين غير متوفرة لدى ساستهم في الوقت الراهن. و القدرات التي كانت لهم يومذاك غير موجودة لدى الساسة الحاليين. و النفوذ الذي كان لهم آنذاك لا يتوفر لهؤلاء. إذن، العدو في سير منحدر، و هو اليوم في موقف ضعيف.
و هذا الطرف من القضية، أو الظاهرة الثانية، على العكس. الجمهورية الإسلامية آخذة في السير بحركة تصاعدية. و المؤشرات نحو التطور و الصعود. و هذا هو الحال في جميع الجوانب و الميادين. واقعنا جيد جداً من حيث التقدم. ذكرت في اجتماع قبل فترة إحصاءات - و هي أحصاءات أجنبية طبعاً - أن النمو و التقدم العلمي في إيران أكثر من المتوسط العالمي بأحد عشر ضعفاً. و هذا شيء على جانب كبير من الأهمية. طبعاً ليس معنى هذا أننا وصلنا في تقدمنا العلمي إلى مستوى البلدان المتقدمة علمياً، لا، بل معناه أن حركتنا نحو الأمام حركة متسارعة، و هذه حالة كبيرة و قيمة جداً بالنسبة للشعب. إذا واصلوا هذا التقدم فسرعان ما سيصل شعبنا و شبابنا إلى المستويات التي يجب أن يصلوها. هكذا هو الحال في المجالات العلمية و في الميادين التقنية و في مجالات البناء و العمران في البلاد. قدم رئيس الجمهورية المحترم الآن إحصائيات - و هي صحيحة - تشير إلى وجود أعمال و مشاريع مميزة في البناء و العمران، و في قطاع الصناعة، و في قطاع الطاقة، و في الطرق و المواصلات، و في القطاعات المختلفة الأخرى. لقد حققنا تقدماً كبيراً بالقياس إلى ما قبل ثلاثين سنة حينما بدأنا، و حتى بالمقارنة إلى ما قبل عشرين سنة. لكن التقدم ليس في هذه المجالات المادية فقط، إنما هذا هو الحال في المجالات الاجتماعية و المعنوية أيضاً. معنوياتنا اليوم جيدة جداً. المعنويات في بلادنا عالية. شبابنا متحفزون مندفعون. و الساحة السياسية ساحة حماسية متوثبة.. حينما تقام انتخابات يشارك فيها أربعون مليوناً، و ينتخب خمسة و عشرون مليوناً.. هذه أحوال و ظواهر على جانب كبير من الأهمية. نعم، وقعت بعد الانتخابات عوارض مريرة، و كان لها أسبابها. لكل واحد من هذه الأحداث عوامله. بيد أن أساس هذه المشاركة الجماهيرية أمر كبير جداً و هو تقدم مهم للغاية. معارضونا كانوا يتوقعون بعد مضي ثلاثين عاماً على بدء الثورة - و قد كان لنا خلال هذه المدة ثلاثون انتخابات - أن يملّ شعبنا الانتخابات شيئاً فشيئاً، و تسقط الممارسة الانتخابية‌ من أعينهم، و لا يعود بهم ذلك الحماس و الاندفاع و الشوق للمشاركة في الانتخابات، و لكن كلا، كانت الانتخابات جادة و الحركة حركة عامة.. هذا تقدم.
رصيد نظام الجمهورية الإسلامية في البلدان منقطع النظير. إلى أي بلد يسافر مسؤولونا الكبار اليوم يواجهون استقبال الجماهير و هياجهم. و هذا ما لا نظير له بالنسبة لأي بلد آخر. و هو أمر لا يختص بالوقت الحاضر فقد كان منذ بداية الثورة. إلى أي مكان يسافر مسؤولو البلاد و رؤساء الجمهورية يواجهون استقبال الجماهير في بلدان قد لا تكون لها معنا أية‌ أوجه اشتراك من حيث اللغة و العرق و المنطقة الجغرافية. يتجمع الناس هناك و يبدون حبهم.. الرصيد الشعبي لنظام الجمهورية الإسلامية إذا لم يكن اليوم أضخم من الأمس فهو ليس بأقل.
أملنا بالمستقبل كبير. الإنجازات التي حققناها لم نكن نأمل أن نحققها بهذه السرعة. لكن الله تفضل و شبابنا اليوم ينجزون في المجالات العلمية و التقنية أعمالاً كانت بعيدة جداً عن أذهاننا نحن الذين كنا نفكر في المستقبل قبل خمسة عشر عاماً أو عشرين عاماً أو خمسة و عشرين عاماً، لكنها تحققت. هذا يضاعف أملنا بالمستقبل، و أملنا كبير.
و تجاربنا السياسية موفقة. إننا على عكس الجبهة المقابلة التي كانت تجاربها مخفقة في الشرق الأوسط، حيث هزموا في العراق و هزموا في أفغانستان و هزموا في المناطق المختلفة، كانت تجاربنا ناجحة في أي مجال دخلناه. في هذه الأماكن التي ذكرتها، و في حدود مشاركة الجمهورية الإسلامية، حيث وجدت من واجبها أن تتخذ موقفاً أو خطوة، كان النجاح حليفنا. و هذا ما يعترف به الجميع. و منافسونا هؤلاء منزعجون جداً لذلك.
و من نجاحاتنا أن أعداءنا اليوم محاصرون و مسجونون في سجن الكراهية العالمية. هذه من نجاحاتنا. إذن، هاتان الظاهرتان ملحوظتان. أي إن مؤشر الجبهة المقابلة في انحدار و مؤشرنا في ارتفاع. حينما تقارنون بهذه الطريقة و تنظرون لجميع قضايا البلاد من هذه الزاوية يمكنكم التحليل بصورة صحيحة.
طيب، نحن نفكر في هذا الاصطفاف و نحلله و ندبر و نبرمج، و العدو كذلك بالضبط. العدو أيضاً يبرمج و يخطط للجمهورية‌ الإسلامية و لما يجب أن يفعله مع الجمهورية‌ الإسلامية و الضربات التي يريد توجيهها لها. العدو يبرمج ضدنا من منطلق الهجوم و من منطلق الدفاع أيضاً. و لدينا أيضاً برامجنا مقابل العدو. يجب أن نفهم هذه الأمور كلنا سوية، و يجب أن ننزل كلنا سوية إلى ساحة العمل و نتقدم، و قد كان هذا هو الحال لحد الآن و الحمد لله.
أشير إشارة عابرة إلى ما يقوم به العدو. هذه هي خططه و برانجه: الضغط الاقتصادي، و التهديد العسكري، و الحرب النفسية للتأثير في الرأي العام داخل البلاد و على المستوى الدولي. هذه هي الأعمال التي يقومون بها. إيجاد خلل سياسي و أعمال تخريبية في الداخل. لا شك أنه توجد في الداخل مراكز تستلهم خطط الأعداء و توجهاتهم و تعمل بعض الأعمال «إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم» (6). هم و مراكزهم موجودون بلا شك. و إلى جانب كل هذا لا يتخلى الأمريكان عن شعار المفاوضات! و هناك الحظر الأحادي الجانب و القرارات و التهديدات العسكرية لكنهم يطرحون خيار المفاوضات أيضاً و يكررونه دوماً: نحن مستعدون للجلوس و التفاوض مع إيران! هذه هي تدابير الجبهة المقابلة لنا، أي تدابير أعدائنا في الحقيقة، و ليست أي منها بجديد. أعتقد أن من النقاط التي ينبغي التنبه لها هي أن هذه الأساليب ليس أي منها بجديد و غير مسبوق. الحظر الاقتصادي تمتد سابقته إلى ثلاثين سنة، و التهديد العسكري كان طوال الفترات التي سبقت هذه الفترة.
أقول لكم و أنا أعلم بذلك من الجميع، في فترة رئاسة كلينتون على ما أظن حيث كان التهديد العسكري‌ شديداً إلى درجة أن رئيس الجمهورية المحترم في ذلك الحين كان يقول لي غالباً أن نفكر مثلاً و نعمل شيئاً فمن المؤسف أن يهجموا علينا و يدمروا الأعمال التي أنجزناها و البناء الذي شيدناه. أي إن احتمال الهجوم لم يكن قليلاً، فقد كانوا يهددون و يتحدثون بذلك. و في الفترة الرئاسية التي سبقت الفترة التاسعة كانت التهديدات العسكرية أحياناً تشتد و تتكرر من قبل العدو إلى درجة أنها كانت تصيب القائمين على الأعمال و الأمور في الداخل برعب شديد. كانت هناك اجتماعات و هناك الكثير من الذكريات عن ذلك الحين، و لدي مذكرات سجلتها عن تلك الفترة. التهديد العسكري كان موجوداً على الدوام و لم ينقطع في أي فترة.
و الإعلام ضدنا كان قائماً منذ بداية الثورة. وجهوا كل ما استطاعوه من تهم للوضع في الداخل ابتداء من شخص الإمام الخميني إلى جماهير الشعب إلى التجمعات الجماهيرية، و أهانوا صلاة الجمعة الشعبية، و نشروا التهم و الادعاءات الكاذبة في الإعلام العالمي بما لهم من إمكانيات عالية في الإعلام، و هذه الحال لا تختص بالوقت الحاضر، و هي موجودة اليوم أيضاً، لكنها لم تكن في الماضي بأقل من الآن بل ربما أكثر في بعض الأحيان.
و التخريب الداخلي لا يختص بالوقت الراهن. في سنة 82 و بعد أحداث العراق - هجوم المحتلين على العراق - حدثت هنا في طهران اضطرابات لعدة أيام، فقالت تلك المرأة الزنجية مستشارة رئيس جمهورية أمريكا و التي أصبحت بعد ذلك وزيرة للخارجية بصراحة: إننا ندعم أي اضطرابات و توتر في طهران. أعلنت هذا بصراحة. راودهم الأمل و توهموا أن حدثاً في طريقه إلى الوقوع في طهران. كان هذا في سنة‌ 82 . كان ذلك في تلك الفترة و قبلها بشكل أو بآخر، و بعدها. و في سنة 88 حدث ما يشبه ذلك، و الجميع يتذكرون و قد لاحظتم جميعكم الوضع. التهديدات اليوم ليست جديدة. و أذكر هنا نقاطاً حول كل واحد من هذه الأمور.
حول المفاوضات، و أقول هذا قبل باقي النقاط، ليس من السيئ أن يتحدثوا عن المفاوضات. و هذا الاقتراح ليس جديداً بالطبع. في السابق أيضاً كانت الحكومات الأمريكية‌ تقترح علينا التفاوض و كنا نرفض دوماً هذا الاقتراح. طبعاً هناك أسباب، لكن السبب الواضح لذلك هو أن التفاوض في ظل التهديد و الضغوط ليس تفاوضاً. طرف من قبيل القوى العظمى يريد التهديد و الضغط و الحظر و استعراض القبضة الحديدية، و يقول من جانب آخر لنجلس على طاولة المفاوضات! هذه المفاوضات ليست مفاوضات! مثل هذه المفاوضات لن نقوم بها مع أي طرف. و أمريكا دخلت الساحة للتفاوض بهذا الوجه دوماً.
و لدينا تجربتان قصيرتا الأمد، إحداهما المفاوضات حول القضايا الخاصة بالعراق، و قد قلت في كلمة عامة إننا نقبل هذه المفاوضات، و ذهبوا و تفاوضوا. و التجربة الثانية كانت في الحكومات السابقة حول موضوع بعث الأمريكان رسالة و قالوا إنه موضوع أمني مهم، فتفاوضت الحكومة لجولتين أو ثلاث. عادة ما يتصرف الأمريكان في المفاوضات بحيث إذا لم يجدوا جواباً إزاء الاستدلالات الرصينة، و حين يعجزون عن تقديم أدلة مقبولة و منطقية يلوذون بمنطق القوة. و لأن منطق القوة لا تأثير له على الجمهورية الإسلامية يعلنون من جانب واحد إيقاف المفاوضات! أية مفاوضات هذه؟ لدينا هذه التجربة أيضاً. كلا الحالتين كانت على هذه الشاكلة. طبعاً‌ بخصوص الحالة السابقة كنت قد خمّنت هذه النتيجة. كنت أدرك من طبيعة المفاوضات أي طريق يسلكونه، و كانوا يبعثون التقارير لي، و كانوا قد عقدوا اجتماعين أو ثلاثة‌ للتفاوض. و قد قلت لوزارة الخارجية‌ في ذلك الحين أن اوقفوا هذه المفاوضات، و قبل أن يبادروا لذلك أوقف أولئك المفاوضات من جانب واحد. هكذا هم. حين يقول رئيس الجمهورية المحترم و الآخرون إننا من أهل التفاوض، نعم نحن أهل تفاوض و لكن ليس مع أمريكا. و السبب هو أن أمريكا لا تدخل حيز التفاوض بصدق كأي مفاوض عادي، إنما تدخل المفاوضات كقوة عظمى. و نحن لا نتفاوض مع وجه يتلبس بالقوة العظمى. ليدعوا وجه القوة العظمى جانباً و التهديدات جانباً و الحظر جانباً و لا يطرحوا هدفاً و نهاية محددة للمفاوضات يؤكدوا أن المفاوضات يجب أن تنتهي إليها. قبل عدة سنوات أعلنت في كلمة عامة في شيراز و قلت إننا لم نقسم أن نمتنع عن التفاوض إلى الأبد، لكن امتناعنا بسبب هذه الحال، بسبب أنهم ليسوا متفاوضين أنما يريدون إملاء منطق القوة. أشبه بذلك الشقي الذي دخل دكاناً، و كان يحب العسل، فسأل ما هو ثمن عبوة‌ العسل؟ فقيل له مائة‌ تومان مثلاً. فأخذ يد صاحب الدكان المسكين و ضغطها فخاف الكاسب إلى أن قال للشقي: كل ما تقوله أنت، فقال له ثلاثون توماناً، فقال الكاسب موافق! هذه ليست مفاوضات و لا تعامل. إذا كان بمستطاعهم الضغط على أيدي الآخرين و فرض إعطاء ما ثمنه مائة‌ تومان بثلاثين توماناً، فالجمهورية‌ الإسلامية‌ لن تخضع لمثل هذه الضغوط، أنما سترد على أي ضغط بطريقتها. ليتركوا منطق القوة‌ و لينزلوا عن سلم القوة العظمى المتهرئ، عندئذ لا إشكال في الأمر. و لكن طالما كانوا على تلك الشاكلة فلن يكون الأمر ممكناً.
أما بخصوص الملف النووي فإن دورة‌ إنتاج الوقود من حقنا، و لن نتنازل أو نتخلى عن هذا الحق. هذا حقنا. نريد أن ننتج الوقود. نحن بحاجة‌ إلى الوقود النووي بمقدار عدة آلاف ميغاواط. يجب تأسيس و بناء‌ محطات طاقة نووية. و يجب توفير وقود هذه المحطات في الداخل. إذا تقرر أن نستعين بالخارج لتوفير وقود هذه المحطات و نكون محتاجين للأجانب فسوف لن تجري أمور البلاد. يجب أن تستطيع البلاد إنتاج الوقود بنفسها. إذن، هو حقنا و سوف نتابع هذا الحق. و هم يقولون في الجواب على هذا:‌ إذا كانت إيران بحاجة للوقود النووي فسوف نوفره لها، و نؤسس بنكاً عالمياً و نفعل كذا و كذا و نوفره لهم.. هذا كلام فارغ و عديم المعنى و لا وجه له. في قضية تبادل الوقود المخصب بنسبة عشرين بالمائة اتضح كم هم صادقون (!). كنا بحاجة‌ إلى وقود مخصب بدرجة عشرين بالمائة‌ لهذه المحطة الصغيرة المختبرية، و هذا شيء عادي يتم تبادله و أخذه في العالم، و كنا قد أخذناه قبل ذلك بسنوات، قبل خمسة عشر أو ستة عشر عاماً. كنا قد اشتريناه و لم تكن هناك أية مشكلة. لكنهم بمجرد أن شعروا أن إيران تحتاج إليه راحوا يتلاعبون و حولوها إلى قضية. هذا بحد ذاته خطأ كبير في رأيي ارتكبته أمريكا و الغرب. لقد أخطؤوا حينما تعاملوا بهذه الطريقة في خصوص الوقود المخصب بدرجة عشرين بالمائة.
أولاً شجعونا بعملهم هذا على أن نتجه صوب إنتاج الوقود بدرجة عشرين بالمائة. لم نكن نريد ذلك، و لم يكن من قرارنا التخصيب بدرجة عشرين بالمائة، فقد كانت درجة ثلاثة و نصف تكفينا. لكنهم بعملهم هذا شجعونا و دفعونا و أفهمونا أن علينا الاتجاه صوب العشرين بالمائة، و ذهبنا في هذا الاتجاه. كان هذا خطؤهم الأول. و الخطأ الثاني أنهم أثبتوا و برهنوا للعالم كله أن أمريكا و باقي الذين يستطيعون إنتاج هذا الوقود غير موثوقين حتى يستطيع المرء الاعتماد عليهم في توفير الوقود. فمجرد أن يحتاج يقدمون له لائحة‌ طويلة من ادعاءاتهم و مطاليبهم و يقولون يجب أن تعملوا بهذا و هذا حتى نزودكم بالوقود! هذا ليس تعامل. إذن ليس لديهم ما يقولونه في الملف النووي و لا منطق لديهم. و قد وجدنا طريقنا و نسير فيه. و سوف نواصل هذا الطريق إن شاء الله.
و بخصوص التهديد العسكري، و من المستبعد طبعاً أن يرتكبوا مثل هذه الحماقة، لكن إذا حصل مثل هذا التهديد فليعلم الجميع أن ساحة هذه المواجهة لن تكون منطقتنا فقط إنما ستكون الساحة أوسع.
و حول الإعلام الأمريكي ضد الجمهورية الإسلامية أعتقد حقاً أنه الممارسة الأبعد عن الحق التي يمارسها الأعداء ضدنا، لأن المنتهك الأسوء لحقوق الإنسان هم الأمريكان أنفسهم. هذا هو الواقع. حينما يسعون وراء نفع معين لا يعيرون أية قيمة لأرواح حتى الأعداد الكبيرة من البشر، بل لا يرون لهم أية حقوق. و حينما يأتي الدور لهم يتخذون موقف الدائن المدّعي. في هجوم المحتلين على العراق و على البصرة ألقوا قنابل زنة الواحدة منها عشرة أطنان! و يسمّيها الأمريكان أنفسهم أم القنابل.. عشرة أطنان! قتلوا الكثير من الناس و المدنيين و الأطفال و النساء، سواء في البصرة أو الأماكن الأخرى. في تلك الأيام سقط عدد من الطيارين الأمريكان و عرضهم النظام البعثي في العراق في التلفزيون و أجريت مقابلات معهم، فارتفعت أصوات الأمريكان بأن هذا خلاف القوانين الدولية و يجب أن لا تجرى حوارات مع أسرى الحرب! هكذا هو وضعهم، أنه الكيل بمكيالين و الأذواجية في الكلام و التقييم.
المنتهك الأكبر للديمقراطية هم أنفسهم. في كثير من الأماكن أفسد الأمريكان نتائج الديمقراطية و الانتخابات الشعبية. و من الأمثلة على ذلك غزة - حكومة‌ حماس - و هناك نماذج سابقة في أماكن أخرى لا أريد ذكر اسمها. هم الأسوء. لكنهم يتشدقون بهذا الكلام على كل حال.
الأمر الذي يجب الالتفات إليه هو أن هذه الهجمات و هذه العداوات ليست جديدة. و للجمهورية الإسلامية تدابيرها حيال كل هذا. في مقابل الحظر اتخذ المسؤولون لحسن الحظ تدابير جد جيدة و محكمة. طلبت من رئيس الجمهورية المحترم أن يأتي وزراء الاقتصاد و يقدموا تقاريرهم، فجاءوا و ذكروا ما اتخذوه من قرارات حيال قرار مجلس الأمن الدولي - و هو قرار حظر - و من ثم أنواع الحظر الأحادي الجانب الذي أطلقته أمريكا و أوربا، و كانت القرارات صحيحة جداً. إنها أعمال جيدة جداً، و نيّة المسؤولين إن شاء الله بأن يبدلوا الحظر هذا إلى فرصة و غنيمة. و الحق هو أنه يجب أن يكون هكذا و يحوّل إلى فرصة.
علينا زيادة الإنتاج الداخلي و تعزيزه و التعود على استهلاك المنتوجات الداخلية، و على رفع مستوى جودة المنتوجات الداخلية، و في هذا الصدد يتحمل المسؤولون الحكوميون و كذلك المشرعون واجبات جسيمة. لقد أوصيت مسؤولي الحكومة فيما يتعلق بإدارة الاستيراد، و أؤكد هنا أيضاً على هذه النقطة. لا أقول أوقفوا الاستيراد، فالاستيراد ضروري في بعض الأمور، و لكن يجب إدارة الاستيراد. في بعض الحالات يجب أن لا يكون هناك أي استيراد، و في بعض الحالات يجب الاستيراد. ينبغي الاستيراد بنحو مدروس. طبعاً قال لي المسؤولون الحكوميون المحترمون أن القوانين التي صادق عليها المجلس لا تسمح لنا بمنع الاستيراد، و أرجو حل هذه القضية. إذا كان ثمة‌ حقاً قانون يمنع الحكومة من أيقاف الاستيراد فيجب إصلاح هذا القانون و إفساح المجال لإدارة الاستيراد. يجب رفع مستوى الإنتاج الوطني.
ينبغي اتخاذ تدابير عقلائية في هذه المجالات. العقلانية‌ مهمة‌ جداً. العقلانية في اتخاذ القرارات حالة على جانب كبير من الأهمية.. لا بد من قرارات عقلائية شجاعة.. و يجب أن لا نفهم من العقلائية الخوف و الهروب و التراجع. العقلائية إلى جانب الشجاعة. الأنبياء كانوا أعقل البشر. في الرواية عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: «ما بعث الله نبياً و لا رسولاً حتى يستكمل العقل» (7). لكن هذا النبي نفسه يقوم بأكبر جهاد و أكبر كفاح و تقبل للأخطار. أي إن الشجاعة يجب أن تترافق مع العقلانية.. بعزيمة راسخة و من دون تزلزل، و بنظرة للآفاق البعيدة و بالحفاظ على الاتحاد و التعاطف.
إنني أشدد على الاتحاد. الاتحاد و التعاطف بين مسؤولي البلاد فريضة. و تعمّد مخالفة ذلك هو اليوم بخلاف الشرع. خصوصاً في المستويات العليا. الجميع يجب أن يلتفتوا لهذا. يريد العدو أن يصنع من الاختلافات الصغيرة قضايا كبيرة، و يتعين عليكم أن لا تسمحوا بذلك. ليس أي اختلاف بين مسؤولين أو مؤسستين فاجعة، لا، يمكن بالتالي أن يكون للمجلس توجهاته في مجال معين، و للحكومة توجهاتها الأخرى، و أن تكون أفكارهم و أذواقهم متباينة، هذه ليست فاجعة. لكن تبديل هذه الاختلافات إلى هوّات لا تردم و جراح لا تلتئم خطأ كبير جداً.
طبعاً يجعلون بعض الأشياء مستمسكات، و قد طلبنا منذ مدة من مجلس صيانة الدستور المحترم عقد جلسة و تشخيص المواطن المختلف عليها بين الحكومة و المجلس لتحديد صلاحيات السلطات حتى يتحقق استقلال السلطات و هو من مواد الدستور. صيانة الاتحاد و الاعتصام بالأصول و مراعاة الأصول بشكل كامل هو ما وصّى به إمامنا الجليل دوماً.
و هناك التفطن لأحابيل العدو و حيله و عدم اللعب وفقاً لخطط العدو. من الأشياء التي يقوم بها العدو تحطيم الثقة بين الشعب و المسؤولين. ينبغي أن نحذر من التحدث بما يزعزع ثقة الشعب بمسؤولي البلاد سواء المسؤولين الحكوميين أو مسؤولي القضاء أو مسؤولي السلطة التشريعية. فتزعزع الثقة هذا ليس بحق، و هو ما يريده العدو. ينبغي أن لا نعمل به نحن أيضاً. أرى أحياناً تشكيكاً من دون سبب أو وجه في الإحصائيات التي تعرض، لماذا؟ لماذا التشكيك غير المبرر في الإحصائيات؟ إحصائيات تقدمها المؤسسات المسؤولة، و كلامها مسموع. و ما إلى ذلك من الأمور التي تؤدي إلى اليأس و زعزعة الثقة.
و هناك أيضاً التوجه لقدرة الله و صدق الوعود الإلهية. و هذا هو أساس جميع الأعمال أن نثق بوعد الله. لقد لعن الله تعالى الذين يسيئون الظن به و بوعوده، «و يعذب المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء و غضب الله عليهم و لعنهم و أعدّ لهم جهنم و سائت مصيراً» (8). فالله تعالى يذم الذين يسيئون الظن بوعوده، و هو القائل «‌لينصرن الله من ينصره» (9)، و «أوفوا بعهدي أوف بعهدكم» (10). سيروا في صراط الله و سوف يعينكم الله. و هذا ليس مجرد وعد إلهي. حتى لو كنا أناساً لا يصدقون بسرعة و حالكي الباطن بحيث لا نستطيع تقبل الوعود الإلهية بصورة صحيحة، فإن تجاربنا تدلنا على هذا. أيّ من عناصر الثورة الأصليين أو أصدقاء الثورة أو أنصارها أو أعدائها كان يحتمل قبل أربعين سنة أن يقع مثل هذا الحدث في البلاد؟ حدث بهذه العظمة و شموخ صرح بهذه الرفعة؟‌ من كان يحتمل هذا؟ لكنه حصل.. حصل بسبب التوكل على الله تعالى، و العزيمة الراسخة، و عدم الخوف من الموت، و عدم الفزع من الهزيمة، و السير و التقدم باسم الله و التوكل عليه. و بعد ذلك أيضاً سيكون هذا هو الحال.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة لقمان، الآية 22 .
2 - سورة التحريم، الآية 6 .
3 - سورة البقرة، الآية‌ 183 .
4 - الصحيفة السجادية، الدعاء رقم 20 .
5 - سورة التوبة، الآية 15 .
6 - سورة الأنعام، الآية 121 .
7 - مشكاة الأنوار، ص 251 .
8 - سورة الفتح، الآية 6 .
9 - سورة الحج، الآية‌ 40 .
10 - سورة البقرة، الآية 40 .