بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، و الصّلاة و السّلام علی سيّدنا و نبيّنا أبي ‏القاسم المصطفی محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيّما بقيّة الله في الأرضين.

محرّم، شهر ذو أهمیة تاريخية و معنوية و إنسانية
لا شكّ أنّ لقاءنا بكم اليوم أيها الإخوة لقاء ثري و حافل، نسأله سبحانه أن يمنّ علی جلستنا هذه بفيض بركته و رحمته، و يتحفنا بعطاياه، و يمنّ على لقائنا هذا بهدايته و تسديده.
لقد كانت كلمة عزيزنا السيد رئيس الجمهورية، كافية و وافية جداً، و قد عبّرت عن كثير ممّا كان يدور في خلدي و كثير من مكنونات قلبي. فقد تطرّق إلى قضايا مهمّة و حساسة ببيان واضح و شفاف. و رجاؤنا أن ينتفع الشعب إن شاء الله بهذه الكلمة كما انتفعنا نحن.
تقترن هذه الأيام، أيام بداية العام القمري الجديد ـ أي بداية شهر محرم الحرام ـ ببداية العام الشمسي الجديد. و لا يخفى عليكم ما لأيام محرم بالنسبة لنا من أهمية تاريخية و معنوية و إنسانية، و بالتالي فهي ليست حادثة تتكرر بالطقوس و الشعائر، إنّما هي حادثة خالدة تخلد معها الطقوس و الشعائر. و أود في بداية حديثي أن أعرج بشكل إجمالي على بعض ملامح الثورة الحسينية.

الوقوف بوجه طواغيت العصر، أبرز مهام الأنبياء
لقد ارتكب البشر على مدى التأريخ أبشع جرائمهم و أشد آثامهم وذنوبهم عندما تولوا مقاليد السلطة. فالآثام و الجرائم التي يرتكبها الحكام و السلاطين ضد الرعية، تختلف اختلافاً كلياً عمّا يرتكبه الفرد العادي مهما كان إثمه كبيراً، بل لا وجه للمقارنة بين الإثمين.
ففي مرحلة السلطة تكاد تغيب الأخلاق و يخفت نور العقل و تتضاءل حكمة البشر. و هنا ـ أي في دائرة السلطة ـ لا مجال للمنطق، كما هو الحال في غير ذلك من الأصعدة. أمّا الذي تقع عليه ضريبة الجهل و الفساد و الآثام فهي المجتمعات و الشعوب ـ أحياناً يدفع الضريبة مجتمع محدد و أخرى مجتمعات متعددة ـ .
لقد بدأت الأنظمة الاستبدادية بشكل فردي، أي استبداد الأفراد، لكنّها و بالتطوّر الذي شهدته المجتمعات البشرية بدأت تأخذ شكلاً تنظيمياً واسعاً. لذلك كانت أبرز مهام الأنبياء العظام تتمثّل في التصدّي لهؤلاء الطواغيت الذين كفروا بالنعم الإلهية و صدق عليهم قوله سبحانه: (و إذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل) (1). و الآية الكريمة تصف هؤلاء الطغاة بأوصاف رهيبة، و تعتبر فسادهم فساداً كونياً شاملاً. (أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً و أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا و بِئْسَ القَرَارُ) (2)، و قد تصدّى الأنبياء لهذه الطبقة و خاضوا معها صراعاً مريراً، و لو لم يقف الأنبياء بوجه هؤلاء لما شهد التاريخ كل هذه الحروب و الصراعات. يقول سبحانه: (وَ كَأَيِّنَ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) (3)، فمع من كانت هذه الحروب؟ لقد خاض الانبياء حروبهم مع الطغاة و مع الأنظمة الفاسدة الهدّامة التي أهلكت الحرث و النسل.

إنزال الكتب و إرسال الرسل لإقامة القسط و العدل
تتلخّص مهمّة الأنبياء في إنقاذ البشر و إيصالهم إلى ساحل النجاة، لذلك يحدّد القرآن الكريم هدف النبوة و الرسالة بإقامة العدل و القسط: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ و أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ و المِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ) (4)، أي بمعنى القضاء على الظلم و الجور و الفساد و اجتثاثه من الأرض. و لقد كانت النهضة الحسينية مثالاً واضحاً على ذلك. فقد قال الإمام الحسين عليه السلام حين خروجه: (إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي) (5)، و قال أيضاً: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله أو تاركاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله فعمل في عباد الله بالإثم و العدوان ثم لم يغير عليه بقول و لا فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) (6) أي كان حقاً على الله أن يحشره معه و يجعل مصيرهما واحداً. كما قال عليه السلام: (إنّي لم أخرج أشراً و لا بطراً و لا ظالماً و لا مفسداً)، لقد دعا أهل العراق الإمام الحسين عليه السلام ليأتي و يتولّى الخلافة، و قد استجاب عليه السلام لتلك الدعوة. و هذا يعني أن الإمام لم يكن طالب حكم أو سلطة، إنّما كان هدفه التصدّي لقوى الظلم و الطغيان سواء أكانت نتيجة ذلك توليه الخلافة أو سفك دمه الشريف و شهادته.

صمت دعاة الحق أمام الظلم
لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدرك جيداً ما سيجري على الإسلام فيما لو تخلّى عن حركته و أقر السلطة القائمة و اكتفى بالصمت. فالسلطة عندما تستحوذ على إمكانيات المجتمع و تستغلها في تعزيز نفوذها و هيمنتها و تبدأ بالطغيان، و لا تجد لدعاة الحق صوتاً يعترض، فإن ذلك بمثابة إمضاء لسلوكها، و هذا يعني أنّ أهل الحق قد أمضوا الظلم دون أن يقصدوا ذلك. و هذا هو الذنب الذي ارتكبه آنذاك کبراء بني هاشم و قادتهم و رؤسائهم، إلاّ الإمام الحسين عليه السلام الذي رفض الخنوع للظلم، فكانت نهضته.

ثورة الإمام الحسين علیه السلام إحياء للعقل و المنطق
نقل أن أحدهم جاء إلى الإمام السجاد عليه السلام بعد عودته إلى المدينة عقيب حادثة عاشوراء ـ ربما تكون المدة التي استغرقها الركب الحسيني منذ مغادرته المدينة و حتى عودته ما يقارب العشرة أشهر أو الأحد عشر شهراً ـ و قال له: يا بن رسول الله! أرأيت هذا الذي حصل بعد رحيلكم! و قد كان الرجل صادقاً فيما يقول؛ إذ انطلق الركب الحسيني و على رأسه الحسين بن علي (عليه السلام) شمس أهل البيت و سبط النبي و فلذة كبده، ترافقه بنت أمير المؤمنين بكل عز و هيبة و كرامة، و إلى جانبه أولاد أمير المؤمنين ـ العباس و أخوته ـ و أولاد الإمام الحسين و أولاد الإمام الحسن خيرة شباب بني هاشم و رجالاتها، فبهذه النخبة المباركة غادر الركب المدينة المنورة، لكنّه عاد الآن و ليس معه سوى رجل واحد ـ الإمام السجاد عليه السلام ـ و بصحبته نساء أرهقها الأسر، و ألمّت بها المصائب و المحن، و غاب عن الركب سيده الحسين، كما غاب علي الأكبر، و حتى الطفل الرضيع لم يكن بين العائدين. لكن الإمام السجاد عليه السلام التفت إلى الرجل قائلاً (ما معناه): أنظر لو لم نذهب ما الذي كان سيجري! نعم، كانت الأجساد ستبقى لكن الحقيقة ستغيب إلى الأبد، و الروح ستتلاشى، و الضمائر ستنعدم، و يُدان العقل و المنطق على مدى التأريخ، و لن يبقى للإسلام ذكر و لا اسم.

الإيمان بالكفاح وحده الذي يبقى جذوة الأمل مستعرة في القلوب
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالكفاح و النضال عايشنا الثورة الإسلامية و النظام الإسلامي. و كان من الممكن أن يدور في خلد البعض آنذاك أنْ يأتي يوم يتمكن فيه من تحقيق ما كان يصبو إليه دائماً أي تأسيس نظام طالما كان ينشده، لكن إلى جانب ذلك كانت صورة أخرى حاضرة و بقوة، و هي أنّه من الممكن أيضاً أنْ ينال الشهادة في هذا الطريق، أو على الأقل أنْ يقضي باقي أيام حياته في النضال و الكفاح و العسر و الشدة. فالصورتان كانتا ماثلتین أمامه، و هذا ما كانت عليه النهضة الحسينية. ففي الأعوام 41 و 42 هـ ش و الأعوام التي تلتها حيث بلغت القسوة و التعسف و العنف أبشع صورها في زنزانات النظام المقبور، كان القبس الوحيد الذي ينير عتمة تلك السنوات و يبقي جذوة الأمل مشتعلة و يلهم القلوب عزمها، هو قبس الإيمان بالنضال، و ليس الطمع بالوصول إلى السلطة. لقد كان هذا الطريق هو ذاته الطريق الذي سار عليه الإمام الحسين عليه السلام، لكن مع وجود مفترق في هذا الطريق يجعل منه طريقين، و ذلك تبعاً للظروف الزمانية و المكانية، التي قد تفرض واقعاً مغايراً بالرغم من وحدة المنطلق. فأحياناً قد تكون الظروف مؤاتية، زمانية كانت أو مكانية أو موضوعية، ما يتيح للنظام الإسلامي نشر رايته، و أحياناً أخرى يكون الطريق سالكاً أيضاً لكنّه يفتقر للظروف الموضوعية و يفتقر للإمكانات فتكون النتيجة هي الشهادة. و تأريخنا حافل بمثل هذا الواقع.

العلم البشري الحديث في خدمة الأطماع و الدوافع الدنيئة
يعد العصر الذي شهده الإمام الخمیني الراحل أشد تعقيداً من العصر الذي شهده الإمام الحسين (عليه السلام) من حيث البيئة الاجتماعية و العلاقات بين الأفراد، و هو لا يزال آخذاً بالتعقيد يوماً بعد آخر. و بالرغم من أنّ العالم أضحى قرية صغيرة بفضل الطرق و المواصلات و الاتصالات الحديثة، إلاّ أنّ العلاقات لا زالت تزداد تعقيداً و تشابكاً، و بالتالي فإنّ الحدث لا يصنعه عامل محدّد إنّما تشترك فيه عوامل كثيرة جداً. فعلى سبيل المثال إنّ الذي يحتل المركز الذي كان يحتله يزيد بن معاوية في ذلك الوقت، أصبح يطمع في الإستيلاء على العالم بأسره و التحكم فيه، أي إنّ الفساد و الطغيان بدأ يستهدف البشرية بأجمعها و يتخذ شكلاً كونياً، و هذا بفضل ما وصلت إليه علوم الاتصالات و المواصلات من تطور، و للأسف فإنّ هذا الطغيان قد استشرى في عالمنا اليوم و هو آخذ في النمو. فالتكنلوجيا الحديثة و التقدّم التقني الذي حققته البشرية، بقدر ما اختزل لها الكثير من الوقت و الجهد، فبالقدر نفسه أو يزيد، أتاح للأطماع و الدوافع الدنيئة الكثير من الإمكانات و وفر لها الكثير من الجهد و الوقت لتحقيق مآربها.
إنّ الأنظمة الطاغوتية أصبحت اليوم قادرة على أن ترسم لنفسها أهدافاً ترتقي للسيطرة على العالم بأسره و على البشرية بأسرها و التحكم بثرواتها و مقدراتها، و إزالة كافة العقبات التي تقف حائلاً دون تحقيق ذلك، و للأسف الشديد أصبحنا نشاهد اليوم طغياناً كبيراً تمارسه بعض الأنظمة لتحقيق تلك الأهداف المشؤومة. إنّ مسؤوليتنا اليوم كبيرة جداً و مهمتنا عسيرة للغاية.

النظام العالمي الجديد هدف المخططات الأمريكية
بعد تداعي الجبهة الشرقية و انهيار النظام الشيوعي، خرج الرئيس الأمريكي آنذاك ليعلن للعالم عن (النظام العالم الجديد)، و يكشف عن الهدف الاستكباري الذي طالما حلمت به أمريكا، و ليرفع الستار عن السياسة الأمريكية و ما يدور في أروقة صناع القرار السياسي الأمريكي. و لا يخفى أنّ هذا الإعلان لم يكن وليد ذلك اليوم، بل القصة تمتد لعشرات السنين حين هدّد الأمريكان بعدم اقتراب أي أحد من الأراضي اللاتينية. فقد كانت أمريكا اللاتينية تعد منطقة خاضعة للنفوذ و الهيمنة الأمريكية، و شيئاً فشيئاً اتخذت الأخيرة قرارها بتوسيع نفوذها ليشمل العالم بأسره، لكنّ ذلك لم يكن هدفاً معلناً بل بقي طي الكتمان، و استمر الحال على ما هو عليه حتى جاء الوقت الذي شعرت فيه أمريكا أنّ منافساً كبيراً كالاتحاد السوفياتي قد تداعى، فأخذت بالإعلان شيئاً فشيئاً عن هدفها: نظام القطب الواحد، النظام العالمي الجديد، القوة العظمى التي تتحكّم بمقدرات العالم. و الاستراتيجية الأمريكية على مدى العقود الماضية تشير إلى ذلك بوضوح. إنّ الهدف هو توسيع النفوذ العسكري و بتبعه السياسي و الاقتصادي، بما يخدم مصالح الشركات الكبرى التي ـ في واقع الأمر ـ هي من يحدّد مسار السياسة الأمريكية. و لا بدّ للناس من التعرّف على هذه الحقائق، ليتمكّنوا من تصحيح مواقفهم و اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. فالإنسان لا يمكنه تحديد موقفه إلاّ بعد أن يفهم ماذا يدور حوله.

أمريكا و دورها في إسقاط أربعين دولة مستقلة
تفيد الإحصائيات التي وصلتني أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ساهمت منذ مطلع العام 1945 م في إسقاط أربعين دولة مستقلة لم تكن حليفة لها، أكثر من نصفها تم بواسطة التدخّل العسكري! لكن جميعها و بدون استثناء رافقها عنف و دماء و جرائم إنسانية بشعة. و قد نجحوا في بعضها و أخفقوا في البعض الآخر. و هناك أمثلة على ذلك تكاد لا تغادر ذاكرتنا، كاستهداف اليابان بالقنبلة الذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية ـ و التي أشار لها السيد رئيس الجمهورية ـ و كحرب فيتنام، الحرب الدموية التي شهدت فجائع بقيت محفورة في أذهان الآلاف من الناس، و التي انتهت بهزيمة نكراء للولايات المتحدة. و كذلك دورهم في تشيلي، و في إيران في محاولة انقلاب (28 مرداد) ـ التي تمّت بواسطة العميل الأمريكي الذي وصل طهران و خطّط و عمل على تنفيذ المخطط ـ و التي اضطروا للإعلان عنها فيما بعد، و قد انتشرت الوثائق المتعلقة بها و أصبحت في متناول أیدي الجميع، إلى غير ذلك من الدول الأخرى. إنّ من يقف وراء كل هذه الأعمال هي الشركات الاقتصادية الكبرى، و أثرياء أمريكا و اللوبيات الصهيونية، و الشخصيات المضطربة فكرياً و أخلاقياً.
إنّه ملف مثقل بالجريمة، و تاريخ أسود حافل بالخزي و العار. إنّ هذه الأمور ليست أموراً هيّنة. فليس مهماً بالنسبة لهؤلاء أن تباد البشرية أو تمحى من الأرض، أو تحترق الثروات أو تسحق العدالة أو تقع الكوارث البشرية، فهذه الأمور لا تمثل عائقاً في طريقهم. طبعاً لا يخفى! فهؤلاء يمارسون التضليل الإعلامي بأبشع صوره و من أجل ذلك يملكون ماكنة إعلامية ضخمة مسؤولة عن تلميع صورهم المشوّهة. هناك استراتيجية مشهورة تدعى: (الصراخ بصوت أعلی) و هي مجدية إلى حد ما. و قد استثمرها هؤلاء للتغطية على جرائمهم البشعة بعد أن ملأوا الدنيا صخباً عبر قنواتهم الإعلامية الهائلة ليظهروا بمظهر دعاة السلام و الصلح و الديموقراطية و حقوق الإنسان.

الترویج للمبادئ ظاهرة الصلاح بأنها مبادئ أمریکیة
مساعي إعلامية حثيثة تبذلها الإدارة الأمريكية للترويج بأنّ المبادئ الصالحة في ظاهرها هي مبادئ أمريكية. و قد أشار الرئيس الأمريكي إلى ذلك في حديثه الذي ألقاه أمام الكونجرس الأمريكي مؤخراً، و ممّا يؤسف له حقاً أن عدداً من المفكرين و أصحاب الرأي الأمريكي حاولوا تأصيل حديث الرئيس نظرياً عبر بيان تفصيلي يعكس واقعاً مغايراً لما يجري خلف الكواليس لتمويه الرأي العام. لقد حاولوا إخفاء القضية الأساسية، و هي الطمع بالسلطة و الهيمنة و السيطرة على العالم. طبعاً لا يخفى أنّ الرأي العام الأمريكي يعتبر مهمّا جداً بالنسبة لهم ـ فالشعب هو الذي يتحكم ببقائهم أو رحيلهم ـ و قد سمعت أنّهم أشاروا في البيان الأخير إلى بعض نقاط الضعف التي تعاني منها الإدارة الأمريكية ـ بعض النقاط البسيطة جداً بالمقارنة بنقاط الضعف الكبيرة التي تعاني منها أمريكا ـ لكنّ نفس هؤلاء الذين يتمشدقون بحرية الرأي و حرية الفكر، تجنّبوا نشر هذا البيان داخل الولايات المتحدة! كما أنّه من الواضح جدّاً أنّ هذا البيان تم إعداده بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية و الاستخباراتية و العسكرية الأمريكية، و حيث أنّ جزءاً من فقراته جاء خلاف رغبتهم ـ جزء يسير جدّاً ـ و هو ما تضمّن بعض الفضائح ـ و هو الأمر الذي يستطيع القارئ ملاحظته بأدنى تأمل للبيان ـ فقد تجنّبوا بثّه داخل الولايات المتحدّة، و اقتصر البث على خارجها. أمّا الجزء المتعلّق بالحرب فقد تمّ نشره داخل الولايات المتحدة على نطاق واسع، و الغاية من ذلك إثبات كون الرئيس الأمريكي بوش يسعى وراء حرب عادلة تهدف للدفاع عن المصلحة الأمريكية الوطنية! هذا هو الجزء الوحيد الذي تمّ نشره على الصعيد الداخلي.

مواجهة التهديدات المبرمجة و المنظّر لها
نحن اليوم نقف بوجه أحد أبرز التهديدات الجاهزة التي تم الإعداد و التنظير لها مسبقاً بغية تمويه الرأي العام. فقد اتفق السياسيون و بعض المفكرين على تزوير الحقيقة و عرضها على الرأي العام. لكنكم تعلمون جيداً ما يجري خلف ستار هذا الإعلام المبرمج، إنّها ذات الأهداف و ذات الأطماع، حب الجاه و النفوذ و السيطرة على مقدرات العالم، على الثروات، و قمع كل صوت أو كل دولة أو كل نظام يرفض السياسة الأمريكية، يرفض الانصياع الأعمى للأوامر الجاهزة المعلّبة. لقد حاولوا التستّر على هذه الأهداف عبر إخفائها خلف واجهات برّاقة خادعة.

دواعي التهديد و مصادره و أهمية رصدها
لقد قلنا مراراً و تكراراً إننّا لا نستطيع الجزم بتعرّض إيران لهجمة عسكرية، كلا؛ فهذا الأمر غير معلوم، لكنّنا نجزم بتعرّضنا للتهديد. و بطبيعة الحال فإنّنا نحن من تقع عليه مسؤولية التصدّي لهذه التهديدات و إخمادها، و هذا الأمر يتوقف على إحاطة النخب و المسؤولين و الخواص إحاطة كاملة بالمرحلة التي يمرّون بها و بالواقع الذي يجري من حولهم، و تحديد مهامهم و واجباتهم إزاء هذا الواقع تحديداً دقيقاً، و الشعور بالمسؤولية و ضرورة تحمّلها. فالخطأ اليوم غير مغتفر، و التهديد الذي نتعرّض له ـ و هو ما صرّح به الرئيس الأمريكي بشكل علني، طبعاً هو أشار إلى ستين دولة، لكنّه خص بالذكر ثلاث دول بضمنها دولتنا ـ من حيث الدواعي و المصادر يتألف من عناصر يجب الوقوف عليها و تحديدها بشكل دقيق.

إيران، العنصر الأول للتهديد
العنصر الأول الذي يتألف منه التهديد هو دولتنا العزيزة إيران. إيران التي تمتلك نصف سواحل الخليج الفارسي ـ أي أعظم ثروة و أكبر مصدر للطاقة لعصرنا الحاضر و مستقبلنا ـ. فالموقع الجغرافي، و إطلالتنا على الخليج الفارسي، و امتلاكنا نصف سواحله، إضافةً إلى مصادر الثروة التي يزخر بها بلدنا، إلى جانب الموارد البشرية الهائلة التي نمتلكها، هو بحد ذاته عنصر أساسي من العناصر التي تشکل هذه الحالة.

العنصر الثاني: نظام الجمهورية الإسلامية
العنصر الثاني، نظام الجمهورية الإسلامية، نظام مستقل، عزيز، شجاع، يستند إلى الشعب، و أي شعب! الشعب الذي محّصته التجارب، الشعب المتسلح بإيمانه العميق، إيمان لا في اللسان بل في العمل، العمل ليس على صعيد واحد إنّما على شتى الأصعدة، لقد جسّد الشعب إيمانه على أرض الواقع، و أبدى رفضه و امتعاضه الشديد للبقاء تحت سلطة الأجنبي، لأنّه يحمل ذكريات مرّة جدّاً عن حقبة سيطر فيها الأجانب على مقدّراته. إنّها ذات القضية التي أشار لها الإمام السجاد (ع) (بما معناه): (لو لم نفعل ما الذي كان سيحصل؟!) لقد اختبر الشعب هذا الواقع. فعندما تعرّضت البلاد لمؤامرة انقلاب (28 مرداد) الأمريكية، لو كان الشعب حاضراً و مساهماً و مشتركاً لما اضطرّ لتحمّل 25 عاماً من الدكتاتورية السوداء، التي سرقت منه حقبة مهمّة جدّاً من حياته و انقضّت على خيراته و ثرواته المادية و المعنوية. هو ذاته الشعب الذي اختبر الناحية الأخرى لذلك الواقع، و ذلك عندما اشترك و ساهم في صنع الثورة الإسلامية، و شاهد كيف يمكن للشعب الأعزل أن يسحق بحضوره و مشاركته أقوى القلاع التي يتمترس خلفها العدو، و كيف يمكن أن يطرد الأمريكان من أهم نقطة استراتيجية بالنسبة لهم و هي إيران، و كيف يمكن للشعب أن يحوّل قاعدة أمريكية للسيطرة و النفوذ إلى قاعدة تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة. لقد اختبر الشعب هذا الواقع الجديد أيضاً.

لا عزة و لا شموخ من غير تضحية و عزم و شجاعة
وهكذا كان الأمر أيام الحرب أيضاً. فالبعض كان متردداً في إمكانية الدفاع عن أراضينا. فعندما كانت آلاف الكيلومترات من أراضينا تحت قبضة العدو و قد عرض علينا وقف إطلاق النار و التحوّل إلى المفاوضات، كان البعض يضغط على الإمام و على باقي المسؤولين باتجاه قبول وقف إطلاق النار. لكنّ الإمام صمد، و الشعب صمد، و القادة صمدوا، و من ثمّ قطفوا ثمار هذا الصمود.
نعم، فلا عزة و لا شموخ من غير تضحية و عزم و شجاعة. و لا تنال القمم بالوجل و التسليم و الانصياع و الدّعة و الهروب من الصعاب. حتى من ترونه قد حقّق اليوم ثروات طائلة و تقدماً علمياً كبيراً، و سخّره لأجل مطامعه، قد مرّ من أجل ذلك بأيام عصيبة جداً و طوى طرقاً وعرة و صعبة للغاية. إنّ أكبر جريمة ارتكبتها الأنظمة الدكتاتورية التي حكمتنا على مدى التأريخ، هو منعها الشعب من المشاركة في الأوقات العصيبة التي كان من الضروري مشاركته للدفاع عن مصالحه بكل إقدام و شجاعة. فعندما حاصر جيش (أشرف أفغان) و (محمود أفغان) مدينة إصفهان، كان الناس متحمسين جداً للخروج و الدفاع عن المدينة، لكنّ الحكّام المتخاذلين المنهزمين المرعوبين منعوا الناس من الخروج و الدفاع عن أنفسهم. لقد كان هؤلاء السلاطين مهزومين داخلياً، لذلك خضعوا و سلّموا و أخضعوا معهم الشعب و حملوه على التسليم أيضاً. و الذي حصل أنّه عندما قرّر المهاجمون الخروج من إيران بعد سنوات سوداء من الظلم و الاضطهاد، اقتادوا معهم مئات بل حوالي مائتي ألف نسمة معظمهم من النساء و الفتيات و الصغار كأسرى إيرانيين، أي حتى عند خروجهم لم يسلم الشعب من الاضطهاد.

أبرز قرارات الإمام الخميني السماح للأمة بتفعیل محفزاتها و مشاعرها
إنّ أبرز ما قام به إمامنا الراحل السماح للأمة بالتعبير عن مشاعرها و أحاسيسها و إفساح المجال لدوافعها و محفزاتها، و بالتالي دفعها للمشاركة و التفاعل. فعلى سبيل المثال لم يُلزم الإمام أحداً بالمشاركة في الحرب، بل كانت قوافل الشباب تأتي طوعاً و تتوسل و تصرّ على الذهاب إلى ساحات القتال. و قد تجلّت النتائج فيما بعد، فرأى الشعب كيف ضمن كرامته و استقلاله، و ذُلّ العدو و خزيه، كما رأى كيف أقرّ العالم بحقانيته و مظلوميته ـ طبعاً بعد مرور عدّة سنوات على نهاية الحرب ـ.
إنّ شعبنا قد خبر الحياة و عرف كيفية التعاطي معها، هو شعب يتمتع بإرث ثقافي عريق تمدّه ينابيع الإسلام الأصيلة، يقف على رأسه قادة ـ بحمد الله ـ من خيرة الناس، أشداء أقوياء لا يعرفون الهزيمة. لذلك فإنّ دولة كـ (إيران) تتمتع بهذه العناصر ـ عنصر النظام و عنصر الشعب ـ لا يمكن الإيقاع بها أو إخضاعها بهذه البساطة، و لا يمكن خداعها أو إغوائها، أو تسليط مجموعة من العملاء عليها ليعيثوا فيها الفساد، كما حصل في كثير من الدول الأخرى.

العنصر الثالث: صفة التكبر و الهيمنة و الجبروت عند الولايات المتحدة
العنصر الثالث، صفة الاستكبار التي تلازم الطرف الآخر. فالولايات المتحدة بحاجة إلى أن يبقى العالم خالياً تماماً من أية دولة أو نظام يكسر جبروتها، أو لا يخضع لهيمنتها و استكبارها. و هذا الأمر يعد ضرورياً للنظام العالمي الجديد الذي أسست له أمريكا. فوجود دولة لا تعبأ بالتهديد و لا تُخدع بالتطميع و لا تسير خلف السياسات المعلّبة الجاهزة، دولة لها سياسة مستقلة ترفض بشكل قاطع أي قيمومية لأحد عليها، أمر لا يطاق بالنسبة للولايات المتحدة.

العنصر الرابع: التستّر على الأزمات الداخلية
العنصر المؤثر الآخر، الأزمات التي يعاني منها الطرف الآخر. فمن الخطأ الاعتقاد بأن الرخاء و الاكتفاء و الترف عوامل تقف وراء الأطماع الأمريكية. كلا، فهناك أزمات و مشاكل داخلية و هناك ركود اقتصادي و هناك خطر يهدد الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة ـ الكيان الذي ارتبط مصيره بمصير الولايات المتحدة ـ و هناك الانتعاش الاقتصادي الذي تؤمّنه تجارة السلاح بين الشركات و بين الحكومة الامريكية. و هذه قضايا مهمّة تدفع الولايات المتحدة لاتخاذ مثل هذه المواقف و ذلك للتستّر على الأزمات الداخلية التي تعاني منها. ففي خطابه الأخير أمام الكونجرس الأمريكي وعد الرئيس الشعب الأمريكي بتخفيض الضرائب، و زيادة الكوادر التدريسية لتغطية كافة الصفوف الدراسية. إنّ هذه مشاكل حقيقية. بل هناك ما هو أشد من ذلك، هناك مشاكل أخلاقية، مشاكل نفسية، هناك نمو في معدلات العنف، نمو في قضايا الفساد و التحلل، هناك انهيار تدريجي للأسرة الأمريكية. إنّ هذه مشاكل ليست هينة على الاطلاق. إنّ هذه بحار من الجيفة، إذا وقع فيها أي كائن من الكائنات ـ و لو كان بحجم الولايات المتحدة ـ لغرق و اختنق بها. و لمواجهة مثل هذه التحديات يصبح من الضروري جدّاً صرف أنظار الرأي العام إلى عدو خارجي أو حدث بارز حتى لو تطلب الأمر اختلاقه. و هذه الاستراتيجية تعتبر من العناصر الأساسية للتهديد.

العنصر الخامس: تنامي الوعي الإسلامي
العنصر الخامس، تنامي حالة الوعي الإسلامي على الصعيد العالمي. فهناك من يدعي بأنّه لا يرفض الإسلام لكنّه يرفض الأصولية الإسلامية، و هذا مردّه إلى سذاجة هؤلاء و سطحية تفكيرهم تجاه الإسلام، و الملفت أنّهم طالما دفعوا ضريبة هذه السذاجة. إنّ تنامي الوعي الإسلامي اليوم أصبح حقيقة و واقعاً لا يمكن لأحد إنكاره. لقد بدأ المسلمون اليوم يشعرون بأنّهم اصبحوا مساهمين في رسم معالم الواقع البشري، و في صياغة و تحديد مصيرهم. و عندما يصل هذه الشعور في أمّة من الأمم و في شعب من الشعوب إلى نقطة معينة حينئذٍ يبدأ بالتحوّل إلى واقع ينعكس على الأرض. و هذا هو بحد ذاته ما يخشاه العدو. و كمثال على ذلك الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة التي لا سابق لها. فهل هذا مزاح؟ شعب أعزل يفتقر إلى أبسط الإمكانات يقف بوجه أكثر قوّة مجهّزة عسكرياً و تكنولوجياً و لوجستياً في المنطقة، و يتعرّض للإبادة بلا أي رحمة و بلا أي شفقة و بدون أي قيود، شعب يعيش تحت أشد الضغوط الجسدية و النفسية و الاقتصادية، لكنّه مع ذلك لا يزال صامداً، و قد مرّ على انطلاق الانتفاضة أكثر من سبعة عشر شهراً. فأي دراسة تقليدية أو أي تحليل سياسي يمكنه أنْ يفسّر لنا هذه الحالة؟ ما الذي دفع هؤلاء للصمود؟ ما الذي يحول دون استسلامهم؟ لماذا لا يستطيع العدو بكل جبروته و طغيانه و كافة سبل الضغط التي اتبعها إخضاع هذا الشعب؟ شعب صغير بسيط و محاصر من كافة الجهات، قد أغلقت عليه جميع المنافذ و أوقفت جميع المساعدات، ما الذي يبعث في قلبه الأمل، ما الذي يجعله متفائلاً لا يملّ الصمود؟ من أين يستقي هذا الأمل، و أي معين يمدّه بذلك؟ و ما الذي يدفع الأم الفلسطينية لتقبّل ولدها ثم ترسله إلى الموت ثم تقول: لو أنّ لي مائة ولد لأرسلتهم خلفه، ما الذي يقف وراء ذلك؟ إنّه سبب مهم للغاية. إنّه سبب لا يدخل ضمن الحسابات السياسية، و لا تستوعبه اللقاءات أو المفاوضات الدبلوماسية، و لا تتحكم به قوانين الشركات الكبرى. إنّهم يشاهدون ذلك و يخشونه خشية كبيرة، و بالتالي يسعون بكل جهدهم لتجفيف ذلك المعين، و استئصال السبب الذي يقف وراء ذلك.

إيران الإسلامية هدف التهديد الأمريكي الجاد
لا بدّ من النظر إلى هذه القضية من كافة جوانبها. فالقضية ليست قضية هروب ثلاثة أو أربعة أشخاص ـ كما يدّعون ـ و لجوئهم إلى البلد الفلاني، فتتحرك أمريكا بثقلها و حجمها و تعلن الحرب على ذلك البلد بحجّة لجوء أربعة أشخاص إليه. فهذه ليست هي القضية، إنّما هذا تبسيط و تسطيح للموضوع، فالقضية أعمق من ذلك بكثير، و قد أشرنا إلى بعض ملامحها فيما تقدّم. و عليه، فإنّ مجموع هذه العناصر ينتج عنه وجود تهديد مباشر و جدّي يستهدف إيران الإسلامية و نظام الجمهورية الإسلامية.

وصمة عار في جبين النخب الفكرية الأمريكية لا تمحى من الذاكرة
لا شك أنّ مَن رسم هذه السياسة، ليس الرئيس الأمريكي، كما أنّها لا تختص بفترة حكمه. فهناك أناس خلف الكواليس، كواليس السياسة الأمريكية، يتولون هذه المهمّة. و هناك ـ أيضاً ـ الأحداث و الوقائع و الظروف الطارئة، قد تساهم هي الأخرى في تقريب أو تأجيل الأهداف الاستراتيجية الكبرى. يضاف إلى ذلك، الحاجة المستمرّة إلى تضليل الرأي العام، و قد اضطلع بهذه المهمّة ـ هذه المرّة ـ البيان الصادر عن مجموعة من النخب الفكرية الأمريكية، و لست هنا بصدد الرد على هذا البيان، فهذه مهمّة النخب الفكرية، و الأساتذة و المفكرين و المثقفين و النخب السياسية و الثقافية للبلد، هم من يتولّى مهمّة دراسة البيان و تمحيصه و استخلاص الحقيقة المرّة التي تضمّنها تحت عنوان الثقافة و التنوير. و لكنّي اكتفي بالقول إنّ توقيع هذا البيان من قبل عدد محدود ـ يتراوح بين الخمسين و الستين شخصاً ـ من المفكرين الأمريكان، قد ترك نقطة سوداء في تاريخ التنویر الأمريكي لن تمحى من الذاكرة. فالنخب الثقافية التي يجب أن تعلن ازدراءها و رفضها و استنكارها الشديد للحرب و الاعتداء و المداهمات و القتل العشوائي ـ و هو الأمر الذي قامت به النخب الثقافية و الفكرية الأمريكية طوال سنوات ـ كيف تسنّى لها اليوم أن تأتي و تبرّر دور الشركات الأمريكية التي تتقدّم مسار الجهاز السياسي و الرئاسي، و بالتالي تبرّر القتل و تحكم بالإبادة الجماعية. فهل هكذا يحكم المثقفون! إنّ الجلوس على مائدة الشركات الصهيونية و الحكم بالإبادة الجماعية، لهو وصمة عار كبيرة لن تمحى من جبين أي مفكّر أو مثقّف ـ حكم بمثل ذلك ـ لكن المؤسف حقّاً أن هناك عدداً من المثقفين المأجورين قد ارتكب مثل هذه الخطيئة الكبيرة.

المبادئ الأمريكية، لا يمكنها أن تصبح مبادئ عالمية
يقرّ الأمريكان عدداً من المبادئ على أنّها مبادئ عالمية شاملة، كحرية الفرد، و حرية الفكر، و كرامة الفرد، و حقوق الإنسان و غير ذلك.. لكن يا ترى هل هذه هي مبادئ الأمريكان حقيقةً؟! و هل يتميّز المجتمع الأمريكي بهذه المبادئ في عصرنا الحاضر؟! و هل يتسم النظام الحاكم هناك بهذه المبادئ؟! ألم يكن هذا النظام، نفسه هو مَن ارتكب الإبادة الجماعية بحق السكان الأصليين للولايات المتحدة؟! ألم يكن هو مَن قام بالقضاء على الهنود الحمر و إبادتهم؟ ألم يكن هذا النظام و من لف لفّه، هو من اقتاد ملايين البشر نساءً و رجالاً من سكان أفريقيا من بيوتهم و استخدمهم كرقيق و عاملهم بأبشع الأساليب و لسنوات مديدة؟ إنّ من أشهر روايات الأدب التراجيدي رواية (كوخ العم توم) (7) التي تعكس جانباً من حياة الرقيق في أمريكا، و لا زالت هذه الرواية تتفاعل منذ ما يقارب المائتي عام على صدورها. فهذه هي حقيقة أمريكا، و هذا هو النظام الأمريكي، و هذه هي السمة التي قدّمها النظام الأمريكي للعالم. فلا حرية و لا مساواة، فعن أي مساواة يتحدّثون؟ إنّكم لحد الآن لم تساووا بين السود و البيض، و في انتقائكم و أولوياتكم للعمل لا زلتم إلى الآن تعتبرون الأشخاص الذين تعود أصولهم إلى أصول هندية بمثابة نقطة ضعف تسجل عليهم! حرية الفكر؟! يا مَن تدعون حرية الفكر، هل يسعكم أن تبثوا حديثنا هذا، أو حديث السيد رئيس الجمهورية عبر قنواتكم الإعلامية الأمريكية؟! إن كان لديكم حرية فكر و حرية تعبير فهذه كلمة السيد خاتمي التي لم تتجاوز النصف ساعة، خذوها و بثوها، عن أي حرية للفكر تتحدثون؟! صحيح إنّ القنوات الإعلامية متعدّدة و كثيرة و مختلفة، لكنّ الحبل السرّي لجميعها متصل برؤوس الأموال الضخمة و بكبار أثرياء أمريكا الذين تتحكّم بمعظمهم لوبيات صهوينية! فهل هذا هو مفهوم (حرية الإعلام) في أمريكا؟! لم تكذبون على شعوب العالم؟! و هل هذه هي المبادئ الأمريكية؟! بعد كل ذلك كيف يدّعي هؤلاء أن المبادئ الأمريكية، مبادئ عالمية شاملة. ثمّ من أنتم كي تمنحوا أنفسكم الحق بأن تضعوا للبشرية مبادئها؟! ثمّ ألم يسبقكم الشيوعيون إلى ذلك، حينما ادعوا أنّ مبادئهم مبادئ عالمية شاملة، لقد وضع ستالين مبادئ عالمية و أعلن أنّ على جميع العالم الامتثال لأوامره، و الالتزام بهذه المبادئ. فبرأيهم كانت المبادئ التي أعلنها ستالين مبادئ عالمية. أيّ منطق هذا، أنّ هذه مبادئنا، و هي مبادئ عالمية شاملة، و أي جانب في العالم یرفض هذه المبادئ فلا بدّ لنا من تدميره بالقنابل الذرية. فهل هذا المنطق، منطق شعب حرّ؟! و هل هذا المنطق منطق دولة تؤمن إيماناً صادقاً بكرامة الإنسان؟! أهكذا تسوّقون أكاذيبكم للرأي العام العالمي؟

أبشع تمظهر للاستكبار السلطوي
لقد قال ذلك الرجل (8): إنّ كل من لا يقف معنا فهو ضدنا! و قد كررها مرات عديدة. إنّ هذا في الواقع أبشع تمظهر من الممكن أن تتمظهر فيه الروح الاستكبارية التي يحملها نظام أو سلطة ما. فمن أولاكم قيادة مشروع مكافحة الإرهاب في العالم؟ إذا كان المعيار هو عدد ضحاياكم من الإرهاب؛ فلنر عدد ضحايا الإرهاب في باقي دول العالم. فإلى يومنا هذا لا زالت قوات الاحتلال الصهيونية تمارس في الأراضي المحتلة و بشكل علني أبشع جرائم القتل و الإرهاب بحق الفلسطينيين. ثم ألم تكن حربكم على فيتنام مشروعاً إرهابياً؟ ألم تكن القنابل التي ألقيتموها على هيروشيما و ناكازاكي مشروعاً إرهابياً؟ ألم يكن هناك أناس آمنون قد احترقوا بنار غيضكم عن عمد و قصد، و دون أن تحددوا هويتهم أو تعرفوا من هم؟! بأي حق يتولى أناس أمثالكم قيادة قافلة مكافحة الإرهاب؟ و بأي حق لا بدّ أن تكونوا أنتم من يحدّد مفهوم الإرهاب؟! أي استكبار و أي طغيان هذا؟ لذلك نجد أنّ الشعوب عندما تصغي إلى هذا الحديث بعد أن يبث إلى العالم تبدأ تدرك السبب الذي دفع بالثورة الإسلامية منذ مطلعها إلى رفض مبدأ (الاستكبار و المستكبر) و استنكاره. و شعوب العالم تدرك جيّداً المراد (بالاستكبار) في أدبيات الثورة الإسلامية.

موقفنا الصريح: الحوار و التفاهم و الودّ و سياسة مکافحة التوتر
السمة البارزة للمجتمع الأمريكي ـ تتمثل بالعنف، و الجنس، و التحلل، و الخشونة في التعامل و غياب الأمن في ظل تفشي العنف و الخشونة ـ كل ذلك يتم تجاهله و التستّر عليه. و كما أن النظام الأمریکي ينطلق من مبدأ القوة ليعطي لنفسه الحق في التجاوز على الآخرين، كذلك هو الحال بالنسبة للأفراد فيما بينهم، ففي شوارع مدينة نيويورك و غيرها من المدن الأمريكية الكلمة تكون للأقوى، فكل من تسمح له قوّته بالاعتداء على أموال الآخرين، يعتدي عليها. و كل من يمتلك بيده سلاح و يتمكّن من قتل عدد من زملائه التلامذة، يعطي لنفسه الحق في قتلهم. إنّ نتيجة ذلك المنطق هو هذه الحوادث. إنّهم متورطون بهذه الأزمات الكبيرة. بينما يوجه الرئيس الأمريكي دعوته للشعب الإيراني بالعودة إلى الأسرة الدولية، و الاندماج بها! إي إنّكم أيها الشعب الإيراني تواجهون العالم بأسره. فهل أصبحت الجمهورية الإسلامية تواجه العالم بأسره؟! إنّه أنتم من أصبح اليوم، بتفرّده، و عنجهيته، يبتعد عن الأسرة الدولية، أمّا إيران فلا تعاني من أزمة علاقات مع العالم. فعلاقتنا بآسيا و أوربا و أفريقيا و أكثر بلدان العالم علاقة مستقرة و طيبة و تشهد تعاوناً مستمراً، و قد كنت أتمنى أن يتحدّث لكم فخامة السيد رئيس الجمهورية عن سفره الأخير ـ الذي كان مثمراً للغاية ـ و عن المفاوضات و الحوارات التي جرت فيه، لكن لم يسمح الوقت بذلك (9). إنّ العالم يدرك جيداً اعتمادنا مبدأ الحوار و التفاهم و الود و تعزيز العلاقات مع كل الأطراف التي لا تسعى لإيجاد توتّر معنا، و توسيع أفق التعاون مع كل الأطراف التي تتطلّع للتعاون. فمواقفنا واضحة و صريحة.

التهديد الأمريكي لن يقتصر علی بلدان محددة
لقد أصبح الكثيرون اليوم يدركون جيداً أن الاستمرار بهذه العنجهية و التفرّد ـ من قبل النظام الأمريكي ـ سوف يجعل الخطر غير مقتصر على عدد محدد من البلدان، و لن يهدد العالم الإسلامي وحده، كما ظهر مؤخراً تهديدهم النووي ـ بشكل غير رسمي ـ لروسيا و الصين (10). و لو تطلّب الأمر ستكون أوربا مهددة هي الأخرى. إنّ هذا المنحى لن يتوقف عند حد. إنّ العالم بأسره يواجه مثل هذا التهديد. و كل من يرفض أو لا يؤمن بالقطب الواحد، عليه الاستعداد للمواجهة، و المعني بهذا الأمر ليس دولة أو دولتين. إذن لا بدّ لهذا الاتجاه المغلوط أن يتوقف.

مهمة النخب معرفة حقيقة الأمور
نحن الآن إزاء هذه الظاهرة، و على النخب في البلد معرفة حقائق الأمور، و اختيار أفضل السبل التي تخدم البلد و الشعب و النظام.. هذه هي مهمّة النخب. فالبعض قد لا يرى أي خطر محدق بالنظام، فيقول: كلا، لا وجود لأي خطر يهدد النظام. و البعض الآخر قد يعترف بوجود خطر، لكنّه لا يراه يهدد كل أجزاء النظام إنّما بعضها فحسب، و يرى نفسه خارج دائرة الخطر. و القسم الثالث قد يعترف بوجود خطر محدق بالنظام، و يراه خطراً جديّاً، لكنّه يجد أنّ سبيل الخلاص هو التسليم و الاعتذار.
إنّ كل هذه الأنماط من التفكير خاطئة. فالخطر قائم، و الخطر يستهدف كافة أجزاء النظام. فلا يتصوّر أحدكم أنّ المتجاوز المستكبر العنيد يكتفي بأقل من السلطة و الهیمنة الكاملة، أو يبقي على أحد. طبعاً لا يخفى عليكم أنّ من الأساليب المعروفة و التقليدية في مواجهة العدو، أن يأتي المهاجم و يشق صف العدو إلى شقين، و يخرج أحد الشقين من دائرة العدوان بشكل مؤقت فيوحي إليه بأنّه حليف له، ليتمكّن من تدمير الشق الأوّل و من ثمّ تتسنّى له العودة و الانقضاض على الثاني و تدميره. إذن فالخطر قائم، و الخطر يهدد الجميع، و سبيل المواجهة يتمثل في حفظ و مضاعفة عناصر القوة في صميم النظام.

الدفاع الشامل في مقابل الحرب
لدينا عناصر قوة كثيرة، علينا الاحتفاظ بها و مضاعفتها يوماً بعد يوم. نحن لسنا ضعفاء، و لا بدّ لنا من التأهب لمواجهة الخطر، و إن لم نكن مستعدين، فعلينا الاستعداد، و إنْ كنّا مستعدين و جاهزین فلا بدّ من المحافظة على الجاهزیة و مضاعفتها. و لمواجهة إعلان الحرب، علينا إعلان الدفاع العام الشامل ـ و أؤكد على مفردة ((الشامل)) ـ و لمواجهة شن الحرب، علينا القيام بالدفاع و الرد بالمثل.

تجنّب الحرب
ما هو موقفنا؟ نحن نتجنّب جميع الحروب، و على الجميع أن يعلم ذلك. و هذا الموقف موحّد يتفق عليه كافة قادة النظام و مسؤوليه. فنحن نعتبر اجتناب الحرب أحد أبرز مهامنا. كما نعتقد أن التوجّه الأمريكي الحالي يزعزع استقرار المنطقة و العالم. و نعتقد في الوقت ذاته، وجود مبالغة كبيرة من قبل الجانب الأمريكي في وصف قدراته. فالأدوات المطلوبة لتحقيق أهدافهم لا تقتصر على الصواريخ و القنابل النووية، إنّما هناك أدوات كثيرة أخرى يفتقدونها. و هم غافلون أیضاً عن قدرات شعبنا العظيم، و حساسية المنطقة، و یقظة مسؤولينا. نحن نمتلك موارد بشرية، و موارد جغرافية مهمة. و منطقتنا منطقة حساسة للغاية، و زعزة استقرارها تعني زعزعة استقرار العالم بأسره. هذه حقائق مهمّة للغاية لا بد من الالتفات لها. فالجمهورية الإسلامية ليست حركة (طالبان) موصول حبلها السري بدولة أجنبية، كيما إذا قطعوا الحبل انهارت من تلقاء نفسها. الجمهورية الإسلامية بلد كبير، بشعب كبير، بإمكانات زاخرة، و حياة مليئة بالنشاط الدؤوب، دولة لها ثقلها بين دول العالم الإسلامي، دولة ذات قدرات عالية في الدفاع عن نفسها و ردع الهجمات، فالجمهورية الإسلامية لا تقارن بسواها من الدول.

الإصرار على الحق، و اللجوء إلى العقل و التدبير و الحزم
إنّ جوهر الكلام الذي يتحدّث به الأمريكان هو دعوتنا للبقاء مقهورين و ضعفاء و تابعين كالدمى لا نحرّك ساكناً، كي نتجنّب هجومهم علينا، و هذا بطبيعة الحال أمر مستحيل. فنحن لسنا مقهورين و لا ضعفاء، نحن أقوياء، أعزّاء، مرفوعي الرأس على الدوام. فلا شعبنا و لا نظامنا و لا تاريخنا و لا ثقافتنا تسمح لنا بالخضوع لأي عدو مهما كان، لذلك فإنّ هذا الشعب لن يستسلم بأي حال من الأحوال. إنّ موقفنا يتمثل في الإصرار على الحق، و استخدام العقل و الحزم و التدبير، و نعتقد بأن هذا هو السبيل الوحيد لحفظ البلد. علينا أن نحافظ على مواقفنا المحقة، و نلجأ إلى العقل و الحزم و التدبير في كافة مراحل عملنا. إنّ النخب تتحمّل في هذه الفترة مسؤولية كبيرة، و تعتبر هذه الفترة بالنسبة لهم فترة اختبار.
یقول الشاعر: أيام خلت و لم نشاهد للوجد رجالاً، بينما اليوم عين العالم قلقة عليّ و عليك.
عين التاريخ قلقة عليّ و عليك. إنّكم اليوم اللاعبون الأساسيون و أبطال و مخرجو مقطع مهم من تاريخ البلد، لذلك يجب أن تنتبهوا و أن تركّزوا جيداً. لحسن الحظ، بالنسبة للمؤسسات الرئیسیة التي ترتبط هذه القضايا بها ـ أي المجلس الأعلى للأمن القومي و كافة الأقسام و الدوائر التابعة لها ـ فإنّهم فعّالون و يقدمون أداءً جيداً. و على الأجهزة الأخرى أن تحاول مضاعفة نشاطاتها و الارتفاع بمستوى أدائها.

أداء الواجبات القانونية بأفضل وجه ممكن
لدينا (وجوب) قطعي، و لدينا (نهي) قطعي أيضاً. (الوجوب) القطعي معناه أن يؤدي الجميع المهام التي أوكلت لهم بموجب القانون بأفضل وجه ممكن. و هذا أساس الموضوع. أيّ إذا أرادت دوائر الدولة و مؤسساتها أن تنجز مهامها الحقيقية، فعليها إنجاز كافة المهام التي أوكلها لها القانون، بشكل جيد و كامل و سليم. على جميع الدوائر المختلفة إنجاز مهامها بشكل صحيح. و هناك دوائر تختص مهامها بمعالجة قضايا في مرحلة معینة كالمرحلة التي نشهدها. و هؤلاء معنيون أيضاً بإنجاز مهامهم على أتم و أفضل وجه ممكن. و هذا هو الـ (الوجوب) القطعي، و جميعنا معنيون بالإلتزام به. إنّ الفترات الحسّاسة التي يشهدها تاريخ أي بلد من البلدان و أي شعب من الشعوب، قد لا تكون حساسة بالنسبة لمن يعيشها بل قد تبدو طبيعية جداً، لكنّها بالنسبة لمن سيأتي لاحقاً ستكون حساسة للغاية و كل حركة ستكون مهمّة و مصيرية. فأي كلام أو صمت و أي حركة ستكون تحت مجهر الأجيال القادمة، كما أنها اليوم تحت مجهر الكرام الكاتبين المكلّفين من قبل الله سبحانه لمراقبة أعمالنا و سلوكنا: (وكنت أنت الرقيب عليّ من روائهم و الشاهد لما خفي عنهم) (11).
إذن كل حركة تقومون بها اليوم قد تكون مؤثرة، لذلك لا بدّ من مراقبة كل كلام، و كل إجراء، و كل قرار، و كل موقف، و كل كلمة تقال و كل كلمة لا تقال. و هذا هو (الوجوب) القطعي.

لا تهابوا العدو
كما لدينا أيضاً (نهي) قطعي، يتمثل بالنهي عن الخوف و الرهبة من العدو. إنّ أكبر خطأ و ضرر و خطر قد يهدد بلد من البلدان في مثل هذه الظروف هو أن يشعر العدو أنّه تمكن من إخافة ذلك البلد و إرهابه. بل إنّ أحد أدوات القوى العظمى هو أداة الإرهاب و الإخافة، و أحياناً تؤثر الرهبة من القوى العظمى على الضعفاء أشد من تأثير السلاح. فالبعض ممّن يهابون القوى العظمى قد يؤدي بهم الخوف إلى ارتكاب أضرار فادحة بأنفسهم تفوق أو تساوي الأضرار التي قد يلحقها العدو بهم. إياكم و الخوف! ففي الحوارات المختلفة التي تجري هذه الأيام نجد البعض يتحدّث دون مراعاة الانضباط اللازم الذي يعد البلد في مثل هذه الظروف بأمس الحاجة له. و برأينا إنّ ذلك مردّه إلى قلّة الذوق لدى البعض، و إلى الخوف و الرهبة لدى البعض الآخر.

الحوار مع الظلمة و الطغاة لا يعالج أي مشكلة من المشكلات
إنّ الأمر ليس كما يعتقد البعض من أنّ سبيل العلاج في هذه المرحلة هو الرجوع إلى الظالم المتجبّر نفسه و فتح قنوات الحوار و التفاوض معه! فالتفاوض ليس الحل، و التفاوض لا يساهم في علاج أي مشكلة من هذا القبيل. هناك بعض الدول التي تعرضت للتهديد، فتحت قنوات للتفاوض مع الجانب الأمريكي، و مع وجود علاقات بين الطرفين إلاّ أنّهم تعرّضوا للتهديد. إذن قد تكون هناك مفاوضات و تكون هناك حرب أيضاً، و قد لا تكون مفاوضات و لا تكون حرب. و قد تكون هناك حرب لكن إلى جانبها كرامة و إباء و انتصار، و قد لا تكون حرب لكن ضريبة عدم وجودها الذلة و الهوان و الخضوع. لذلك فالأمر ليس كما يتصوره البعض من أنّنا لو ذهبنا و قلنا: طيب! ما هو رأيكم، لماذا أنتم غاضبون، قولوا شيئاً! ستجد المشاكل طريقها إلى الحل. إنّ العزم و التوكّل هما عنصرا الحسم، و الخوف و الانهزام هما عنصرا الحسم أيضاً لكن من الجهة الأخرى.

نحن دعاة للحوار و التفاوض
نحن دعاة للحوار و التفاوض. فمنذ انشغالي بمنصب رئاسة الجمهورية طالما كنت أوصي و أؤكد على وزير الخارجية و أجهزة الدولة المختلفة أن يكثفوا جهودهم و مساعيهم باتجاه التقارب مع الدول و فتح قنوات الحوار معها و الحرص على المشاركة في الجمعيات العالمية. كما كنت أؤكد دائماً على رؤساء الجمهورية الذي جاءوا من بعدي بضرورة السفر و التواصل و المساهمة في المفاوضات و تعزيز العلاقات. فنحن مبدئياً نؤمن بالتفاوض و الحوار، لكن التفاوض مع من و حول ماذا؟ إنّ التفاوض الذي نؤمن به هو التفاوض الذي يصل فيه الطرفان إلى قدر مشترك، و هذا النوع من التفاوض يتطلب وجود نوع من القبول لدى الجانبين، و يتطلب وجود مصلحة مشتركة يصل إليها الطرفان عبر هذا التفاوض. أمّا إذا كان الطرف الآخر رافضاً لكم جملةً و تفصيلاً، و معلناً عداءه لأصل وجودكم كجمهورية إسلامية، فأي قناة للتفاوض ممكن فتحها معه؟! إنّه يعلن و بكل صراحة رفضه للنظام الديني، و خصوصاً نظام الجمهورية الإسلامية، لأنّه أصبح يمثل مصدراً للوعي الديني الذي يلهم مسلمي العالم جميعاً. كما أنّه ـ أي الجانب الآخر ـ يعتبر حركة الإصلاح في إيران، حركة مناهضة للنظام الإسلامي، و لا يعتبر الحركة التي تقودها مجموعة من أخوتنا و أخواتنا تحت شعار الإصلاح؛ حركة إصلاحية مطلقاً! إنّه يرى أن الإصلاحيين الحقيقيين هم الذين لا ينتمون لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء و لا إلى أي حزب أو تيار، إنّه باختصار لا يريد أي وجود لنظام إسلامي. لذلك فمن يرفض أصل النظام الإسلامي، ثم يأتي و يتحالف مع طرف ما على حساب طرف آخر، فمن المؤكد أنّ هذا التحالف ينطوي على خدعة أو حيلة ما. فأي قناة للحوار و أي قناة للتفاوض يمكن فتحها مع هذا الجانب؟ ثم ما هي الأهداف المرجوّة من هذا التفاوض و الحوار؟

لا بد للمفاوضات أن تجري من منطلق قوة و الاقتدار
لا بدّ للمفاوضات أن تجري من منطلق قوة. إن مَن يُقدم على المفاوضات تحت طائلة التهديد فهو في الحقيقة يعلن عن موقف ضعيف متزلزل، و هذا خطأ كبير جداً. لقد قال الإمام [الخميني] ذات مرة كلمة تفوق مسألة المفاوضات، قال: لو كفّت أمريكا عن حماقاتها و سلكت سلوكاً إنسانياً لأمكننا إعادة العلاقات معها، بمعنى أنّها إذا تخلّت عن سجيّة الاستكبار و التعالي و تحلّت بصفة المساواة أي عدّت ذاتها مساوية للآخر، و تخلّت عن أطماعها في إيران، عندئذٍ يمكن التعاطي معها كبقية الدول. لكن الواقع شيء مختلف، فهم لا زالوا يحلمون بفترة النفوذ أبان العهد البهلوي، و يطمحون بالعودة إلى ذلك العهد و إلى تلك الحقبة، حقبة النفوذ و الهيمنة. إنّهم يرفضون رفضاً قطعياً أي نظام مستقل يريد أن يرسم سياسته بيده، و يتحدث بملء إرادته، مستلهما من دينه، و من عقائده، و من ثقافته.. إنّ ذلك مرفوض لديهم، بالرغم من أنّهم لا يفصحون عن ذلك لكنّه يظهر من زوايا و خبايا كلماتهم و أحاديثهم.

الولایات المتحدة غاضبة من التفكير الإسلامي بأساسه
ترفض الولايات المتحدة الإسلام بكافة أشكاله، حتى لو كان إسلاماً غير سلطوي ـ كالقائم في السعودية و مصر ـ و لو فرضنا على نحو الاستحالة ـ أن أمريكا حققت مطامعها هنا [في ايران] عندئذٍ سيتضح ما هو موقفها إزاء هؤلاء. لقد وصلني تقرير يفيد بأنّ عدداً من الضباط الأمريكان التقوا وزيراً من وزراء أحد البلدان الإسلامية المعروفة، و ضمن اللقاء أكدوا على أهمية أن يساهم في تطهير الكتب الدراسية من المواضيع الدينية و الجهادية، قائلين له: لماذا تضمنون كتبكم الدراسية هذه الموضوعات؟ إذن فواقع الأمر هو هذا، إنّهم يرفضون أصل الإسلام، و أصل الفكر الإسلامي.. الفكر الذي يحمل متبنيه و يربّيه على عدم الخوف و الرهبة من أي قوة مادية مهما بلغت و عدم الاكتراث لها، و هذه سمة القرآن الكريم و الدين الإسلامي الحنيف.

وحدة الرأي لدى المسؤولين في قبال طغيان العدو
علينا الاحتفاظ بعناصر القوة، و أبرز عناصر قوتنا هو الشعب، و أكبر عامل يحمل الشعب على المشاركة و يبقيه متفاعلاً هو الإيمان و الاتحاد. لذا رجائي من الإخوة أن لا يتحدّثوا في خطبهم أو حواراتهم بطريقة قد توحي إلى الشعب و كأنّ هناك شرخاً في النظام و عدم اتحاد و وحدة بين مسؤوليه. لقد صدق رئيس الجمهورية المحترم عندما قال: بحمد الله لا يوجد بين المسؤولين على هذا الصعيد أي اختلاف، فالجميع يفكر بطريقة واحدة، و الجميع متفق على ضرورة الصمود، و المقاومة، و عدم الاستسلام و الإصرار على الحق، و ليس هناك من أحد يفكر خلاف ذلك، و هذا هو الذي يطمح إليه الشعب، فالشعب عندما يشاهد أن هناك انسجاماً في المواقف بين المسؤولين يشعر بالسعادة و الغبطة، لأنّه شعب مؤمن. و إياكم و الوقوع في شراك الإعلام المضاد للعدو الذي يوحي بأنّ الشعب منفصل عن النظام، كلا فالأمر ليس كذلك مطلقاً. الشعب متمسك و مؤمن بالنظام الإسلامي، و للإنصاف قد أثبت وفاءه في جميع المراحل. فنحن المسؤولين قصرنا كثيراً، لكن الشعب لم يقصّر و لن يقصّر، فلا بد من مضاعفة الجهود و عدم التقصير. على المسؤولين في القطاعات المختلفة إنجاز المهام التي أوكلت إليهم بحكم القانون، و تقديمها إلى الناس على أكمل و أتمّ وجه. فهذا حق من حقوق شعبنا، و هذا أحد أهم عناصر وحدتنا.

الاختلاف بين المسؤولين أكبر حافز للعدو
إن ظهور أي اختلاف مهما كان حجمه، سيشكل حافزاً للعدو لشن اعتدائه. و هناك من يقول: لا تحفزوا العدو على الاعتداء عليكم، و أنا مع هذا الرأي، فمن الخطأ تحفيز العدو على الاعتداء، لكن أتعلمون ما الذي يحمل العدو و يحفزه على الاعتداء؟ أنّ أهم ما يدفع العدو للاعتداء هو أن يشعر بوجود اختلاف و تناحر بين المسؤولين في البلد، وجود اختلاف بين الساسة و النخب السياسية. فالاتحاد و الوحدة التي طالما أؤكد عليها أنا و السادة المسؤولون، ليست الوحدة في القضايا السياسية، إذ من الممكن أن يكون هناك اختلاف في وجهات النظر بين السادة المسؤولين في القضايا الاقتصادية و السياسية، لكن هناك اتفاق على وجوب المقاومة و الصمود و التصدّي لطغيان العدو. فالجميع ملزم بالاتفاق على هذا الموقف، ليس هذا فحسب إنّما يجب إبراز هذا الأمر، يجب الإعلان عن هذا الاتفاق و التصريح بوجود وحدة و انسجام في الرأي. و كل ما يساهم في تداعي هذا الاتحاد أو يعكس حالات اختلاف و تناحر، فإنّه يشكل حافزاً للعدو. كما أنّ الذين يتحدثون عبر الأبواق الإعلامية اللامشروعة و المغرضة و المرتبطة بالأجهزة المخابراتية للعدو و يقومون بتشويه صورة الجمهورية الإسلامية عبر تشبیهها برضا خان الطاغية، و بنادر شاه المشهور ببناء المنارات من الجماجم، هؤلاء يحفزون العدو و یشجعونه.

دروس الإمام لا تزال حية في قلوبنا
نحمد الله سبحانه إذ قرن أفئدتنا بالإيمان به، و نشكره إذ جعل دروس إمامنا [الخميني] الكبير حية في قلوبنا، و نشكره إذ جعل بيننا مثل هذه الشخصية التي كانت تجسيداً للتقوى و الشجاعة و التوكل على الله، و تجسيداً لقدرة الله سبحانه في الوجود الإنساني، و حبانا رؤيته و أتمم علينا حجته به، و نشكره إذ جعل افئدتنا معمورة بهذه الحقائق. فعليكم أن تزيدوا هذه الحقائق عمقاً في قلوبكم يوماً بعد يوم و ذلك عبر التوجّه إلى الله سبحانه. عليكم أن تصمدوا فإنّكم على الحق، و النصر حليفكم إن شاء الله.
اللهمّ! أفض علينا بركاتك و رحمتك و هدايتك. اللهمّ! اجعل جمعنا الحاضر و اجتماعنا و كل ما قلنا و سمعنا لك و في سبيلك و تقبله بفضلك و كرمك و إحسانك. اللهمّ! أعزّ الإسلام و المسلمين، و اخذل أعداءهم. اللهمّ! و نسألك بحق محمد و آل محمد أن تجعل فؤاد مولانا الإمام المهدي المنتظر راضياً عنا و مسروراً بنا، و نسألك أن تحيطنا بعنايتك و عنايته.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة البقرة، الآیة 205 .
2 - سورة إبراهیم، الآیتان 28 - 29 .
3 - سورة آل عمران، الآیة 146 .
4 - سورة الحدید، الآیة 25 .
5 - بحار الأنوار، ج 44، ص 329 .
6 - رجال النجاشي، ص 144 .
7 - تألیف هارییت بیتشر ستاو (1811 - 1896 م)، ترجمها للفارسیة: منیر جزني.
8 - جورج بوش الإبن.
9 - زیارة السید خاتمي للنمسا و الیونان، من 11 إلی 15 آذار 2002 م.
10 - تقریر سري للبنتاغون نشرته صحیفة لوس أنجلس تایمز یفید إعداد مشروع طارئ یهدف إلی استخدام محتمل للأسلحة النوویة ضد إیران و الصین و روسیا و سوریا و العراق و کوریا الشمالیة و لیبیا.
11 - مفاتیح الجنان، دعاء کمیل.