بسم ‌اللَّه ‌الرّحمن‌ الرّحيم‌
أشكر الله حقيقة من أعماق قلبي، و أحمده تعالى بكل وجودي لأجلكم أنتم أيها الشبّان الأعزاء. و في رأيي أن كل حريص على هذا البلد، و كل مَعنيّ بمصير هذا البلد، عليه أن يشكر الله عزّ و جلّ لما قيّضه لهذا البلد و لنا، من أمثالكم. و إنّي لأشكر الباري تعالى وفير الشكر على هذه النعمة الكبرى. الحمد لله، أن لدينا شباباً صالحین، و مؤمنین، و مؤهّلین، و متأهبین للعمل، و نابضین بالحياة و العطاء؛ فما الذي يريده أي شعب من أجل تقدّمه أكثر من هذا؟
إنَّ المواضيع التي تحدّث بها الإخوان هنا كانت جيدة جداً. و الحقيقة هي أن هذه الأمور قد دُرست و وضعت قيد العمل و التطبيق. و أقول طبعاً أن كل حركة لا بدّ و أن تعتورها سلبيات؛ و حسب التعبير الشائع فإن كل كتابة إملائية لا بدّ و أن تقع فيها أخطاء. و السبيل الوحيد لتلافي الوقوع في الخطأ هو عدم كتابة الإملاء. إن شعبنا اليوم لديه كتابة إملائية عسيرة. و المسؤولون و الحكومة، و الشعب، يسيرون اليوم في طريق وعرٍ. و من الطبيعي أن تحصل كبوات، و زلاّت، و سقطات. و إذا انتابنا في موضعٍ ما إرهاق، أو تأخرنا فلا ينبغي أبداً أن يرعبنا ذلك. و كونوا على يقين إنّني لا أتضايق أبداً و لا يسوءني ذكر الإشكالات و المؤاخذات. و قد أشار أحد الإخوان على سبيل الاعتذار و قال: إنّني لا أُريد أن أنقد، و إنّما أبغي بث ما يختلج في قلبي. و أنا أقول: حتّى لو انتقدتم، فلا ضرر من ذلك. و نحن لا نتحرّج من الانتقاد و الكشف عن الإشكالات و مواطن الخلل. و نحن أيضاً نقول ذلك، و مستعدّون للإستماع إلى ما يُقال. أي ليس ثمّة إشكال في هذا. و لا ينبغي الظن بأن طرح المؤاخذات فيه إشكال؛ غير أن الشيء المهم هو أن لا يكون في وجود المؤاخذات ما يبعث فينا الشك في صواب الطريق الذي نسير فيه، و لا يزعزع ثقتنا بصحة عملنا. فلا ينبغي أن ننسى الغاية التي نسير صوبها لمجرّد أن يشعر أحد الأفراد بالتعب، أو يجلس، أو إذا أراد أن يشرب غرفة ماء، أو إذا حصل لديه إشكال. يجب أن نضع القمّة نصب أعيننا على الدوام. و هذا هو ما أُريد قوله.
المواضيع التي طرحها الإخوان، يتعلّق قسم منها بقضايا النخبة و أصحاب الكفاءات ـ و هي تعود طبعاً إلى مؤسسة النخبة ـ و أمّا القسم الآخر منها فيتعدّى مجال أصحاب الكفاءات. و قد دوّنت المسمّيات لديّ، و ستكون أقوال الإخوان و الأخوات موضع اهتمام من قِبَل المكتب بإذن الله، و سيتمّ نقلها إلى المسؤولين المعنيين. و قسم من حضرات المسؤولين حاضرون هنا، و ستكون هذه القضايا موضع اهتمامهم. و على هذا فإنّ بعض القضايا التي طرحت تتعدّى شؤون أصحاب الكفاءات؛ و تتعلّق بمسألة العلم و التقدّم العلمي. و قد طُرحت في هذه المجالات ملاحظات كانت حسب رأيي صحيحة جدّاً. و هناك قسم من الأمور ذات طابع تنفيذي، و هي تعود أيضاً إلى السيّدة سلطان خواه بصفتها المعاونة العلمية لرئيس الجمهورية. و كلامها صحيح طبعاً حيث قالت إن هذا العمل أشبه ما يكون بالاختصاصات الدراسية المشتركة بين عدّة فروع علمية، و هو يتعلّق بالجميع بنحو أو بآخر. و يجب على الأجهزة المختلفة في الدولة مؤازرتها في هذه المهام. و قد سمعت ـ و لكن ليس عن طريق التقارير الرسميّة؛ و إنّما سمعت و علمت من تقارير غير رسمية ـ أن هناك أعمالاً ممتازة قد أُنجزت، أو هي على وشك الإنجاز بإذن الله. و نأمل أن نشهد معطياتها.
و هنا أقول إن الميثاق الذي ذكَرَته يُمثّل عملاً في غاية الأهمية. حيث قالت إن هناك ميثاقاً وطنياً للنخبة و أصحاب الكفاءات قد دُوّن أو هو قيد التدوين أو يمرّ في مراحل المصادقة عليه.
فهذا خبر سار بالنسبة لي. إذ أن كلّ هذه المشاكل التي طرحت هنا ناتجة عن عدم وجود مثل هذا الميثاق. توجد لدينا مسألة التعرّف على أصحاب الكفاءات. و قبل التعرّف على الكفاءات، لدينا مسألة التعرّف على المواهب الأكفأ التي ستتحوّل على مرّ الزمان إلى كفاءات؛ لأنه ليس كل صاحب موهبة هو بالضرورة من الكفاءات؛ و إنّما يتحوّل تدريجياً إلى صاحب كفاءة. إذاً ينبغي أوّلاً التعرّف على ذوي المواهب الأكفأ، ثم ينتهي مسير صاحب الموهبة الأكفأ إلى أن يصبح صاحب كفاءة، ثم يصل بعد ذلك إلى مرحلة الإثمار ـ التي تمثل في الواقع مرحلة التحوّل إلى كفاءة، و هو ما يحصل عادة في مرحلة الدراسات العليا، و هي مرحلتي الماجستير و الدكتوراه؛ حين يتحوّل هذا الشاب إلى صاحب كفاءة. و من بعد ذلك يستمر عمل أصحاب الكفاءات.
عليكم أن تلتفتوا جميعاً ـ و لعلكم تعلمون هذا بأجمعكم ـ إلی أن من يحصل على لقب نخبة أو صاحب كفاءة، يبدأ عمله منذ ذلك الحين. و من الخطأ أن نتصور بأن من أصبح صاحب كفاءة؛ فقد اطمأن باله، إذ أنه حصل على امتياز و نال لقباً. كلاّ طبعاً، بل حين نصبح من أصحاب الكفاءات فذلك يعني بداية الطريق. حسناً، لو أردنا رؤية كل هذه المراحل و متابعتها بالشكل الصحيح و صياغتها، فهذه تحتاج إلى هذا الميثاق الذي أشارت إليه. و انطلاقاً من ذلك فإن هذا الميثاق مهم. و أنا أؤكّد أنه إذا تمّت صياغته، سيجري تكميله إن شاء الله على نحو أسرع، أو يُعدّل أو يُصادق عليه ـ أو أي عمل آخر من المقرر أن يجري ـ و يدخل في حيّز التنفيذ و التطبيق.
أُشير هنا إلى بعض القضايا التي طرحها الإخوان. بالنسبة إلى مسألة الارستقراطية الثقافية و التسلّط الثقافي لأبناء الأعيان و الذوات، و هو ما أشارت له إبنتنا العزيزة، إنّني في الواقع لم أسمع شيئاً في هذا المجال. فرغم أن تصوّري هو أنني أطّلع على تقارير متنوّعة حول مختلف الشؤون و القضايا، إلا أن هذا الكلام جديد بالنسبة إليَّ. و قد ذكَرَتْ أن لديها شواهد على ذلك. و لا بدّ أن يُكشف عنها؛ أعني أن تكتبي لنا تقريراً. و إذا كان مثل هذا الشيء موجوداً فهو مستقبح جداً. و لكنني لم أسمع شيئاً يسترعي الانتباه في هذا المجال. و من المحتمل طبعاً أن يتباهى ابن أو بنت أحد المسؤولين في المدارس الإعدادية أو في الجامعة بكونه ابن فلان، و لكن إذا اتّخذت هذه الظاهرة صيغة العملية التربوية و أصبح لها تأثير في اختيار الطلاب، و الحصول على فرص أكثر للتعلّم، و ما شابه ذلك، فهذا شيء قبيح جداً. و إن كانت مثل هذه الظاهرة موجودة فلا بدّ من التصدّي لها. و أنا أُريد من السيّدة التي طرحت هذه الأمور أن تكتبها و تذكرها لي.
الملاحظة الأُخرى هي أن أحد الإخوان قال إن الشباب يقومون بأعمال جيّدة، و ينظرون و يفكّرون في مختلف القضايا و المسائل، و لكن المجال غير متاح لهم للظهور و التأثير. نفترض في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، أو في ملتقیات الأفکار الاستراتيجية التي أشار إليها ـ التي أسأل الله أن تستمر و تتواصل ـ لیکن للشباب أیضاً حضورهم. و هذا الكلام منطقي طبعاً و صحيح. فمن المؤكّد أن حضور الشباب في بعض القطاعات له تأثيره. و عليَّ أن أقول أيضاً، إنكم كلّكم شباب، و أنا أقول أمامكم أيّها الشُبّان الأعزاء ـ و أنتم طبعاً كلكم أولادي، و جميعكم أبنائي ـ من منطلق الصداقة و الأبوّة، إنه ليس حضور الشباب في كل القطاعات المختلفة بَنّاء. إحدى السيّدات وجهت إنتقاداً إلى القضاء و قالت إن إدخال القُضاة الشباب في سلك القضاء يؤدّي إلى رداءة إداء الجهاز القضائي؛ فالقضاة يجب أن يكونوا ناضجين. حسن جداً، فهذا كلام يسترعي الاهتمام؛ و قد دوّنت هذا الكلام. و هكذا هو الحال في بعض المواقع. طبعاً حضور الشباب في بعض القطّاعات ـ و هي قطّاعات غير محدودة ـ له تأثيرات إيجابية و بنّاءة و تطويرية؛ بل إنه يفتح أجواءً جديدة و أُفقاً جديداً أمام أعين الجميع. غير أن هذا لا يصدق في كل مكان. و على أيّة حال ينبغي استثمار طاقات الشباب و الاستفادة منهم، بَيْد أنني أقول ما يلي: لاحظوا أيها الأعزّة! إن فكركم و العمل الذي قمتم به و الطريق الجديد الذي اتخذتموه، و الاقتراح الذي قدّمتموه، لا ينحصر تأثيره في أنه يُنقل فوراً إلى الجهاز التنفيذي و يدخل حيز التنفيذ و يطبّق من ساعته. كلا طبعاً، فليس هذا هو تأثيره الوحيد، و إنّما أحد أهم التأثيرات التي تأتي من وراء هذه الأفكار هي أنكم تهيّئون الأجواء و تُعدّون الظروف المناسبة. و بالنتيجة، في الأجواء التي تؤمن بمبدأ فكري أو عملي، رئيس الجمهورية يفكّر بتلك الطريقة، و الوزير أيضاً يفكّر بتلك الطريقة، و المدير العام يفكّر بذات الطريقة أيضاً، بل و كل العاملين يفكّرون بتلك الطريقة ذاتها. و هذا حسن. و أنتم الذين تقومون بهذا العمل. فكّروا، و تكلّموا، و اكتبوا، و اطرحوا ذلك في أوساطكم. أسّسوا کراسي التفكير الحرّ ـ التي أكدت على تأسيسها مائة مرّة ـ مع احتمال النقصان أو الزيادة ـ و اطرحوا هذه الأمور هناك مرّات و مرّات. و هكذا تتكوّن الأجواء. و عندما تتأسس الأجواء الحوارية، فإنّ الجميع يفكّرون في تلك الأجواء، و يحدّد الجميع اتجاهاتهم في ضوء تلك الأجواء، و يعمل الجميع في ظل تلك الأجواء. و هذا هو ما تتطلّعون إليه أنتم. و على هذا الأساس إذا لم يطبق العمل الذي فكّرتم فيه في إحدى جلساتكم ضمن كذا مجموعة طلاّبية، و قررتموه و دعوتم إليه، و لم يتحوّل إلى قانون، أو لم يتحوّل إلى أوامر تنفيذية، عليكم أن لا تيأسوا؛ و لا تقولوا إن عملنا لا جدوى من ورائه؛ كلاّ، و أنا أقول لكم إنه على مدى السنوات الخمس عشرة أو الست عشرة الأخيرة، هذه الحركة العلمية التي انطلقت، إنّما بدأت على هذه الشاكلة. مثلما أن العلم قد أضحى اليوم قيمة و فضيلة، و لم يكن كذلك قبل عدّة سنوات. نحن أيضاً سرنا قُدُماً إلی الأمام هكذا يوماً بعد آخر.
ذات يوم كانت تُقال أشياء يثقل على الآذان سماعها. فقد طرحتُ أنا ذات يوم مسألة «إنتاج العلم». و رأيت بعد ذلك أن البعض أخذ يلمز حول هذا الموضوع و يقول ـ على سبيل المناقشة اللفظية طبعاً ـ إن العلم غير قابل للإنتاج! في حين أن هذا الأمر قد أصبح اليوم حقيقة قطعية؛ و أنتم متذمّرون لأن هذا العمل لا يسير نحو الأمام في مرحلته الزمانية الخاصة به. و هذا تقدّم هائل. و على هذا الأساس ينبغي العمل. فاعملوا، و فكّروا؛ فهذا مؤثر حتماً.
وُجِّه إليَّ سؤال حول رأيي في العلوم الأساسية، ما هو؟ و كما أشاروا، فقد طرحت موضوع العلوم الأساسية على بساط البحث عدّة مرّات. و أنا أعتبر العلوم الأساسية ذات أهمية فائقة. و قد قلت في وقتٍ ما إن العلوم الأساسية بالمقارنة مع العلوم التطبيقية لدينا كمثل الإيداعات المصرفية في مقابل النقود التي تضعونها في جيوبكم. فأنتم لديكم مقدار من المدخّرات المودعة في البنك و هي تُعتبر بالنسبة إليكم سنداً و أملاً و هي مصدر دخلكم. كما أنكم تضعون أيضاً مقداراً من النقود في جيوبكم للنفقات و المخارج. و لا نريد التجاسر و لكن هذا هو واقع القضية. فهذه العلوم التطبيقية الموجودة اليوم كلّها بمثابة هذه النقود التي ننفقها. فكل شعب لا بدّ أن يكون لديه مهندسون، و تخطيط عمراني، و صناعات، و أطبّاء، و شؤون صحيّة و علاج. و هذه هي النقود التي ننفقها يومياً؛ غير أن أساس هذه العلوم و مصدرها الأساسي هو العلوم الأساسية.
في شهر رمضان من هذا العام كان لنا كلام مع الطلاب الجامعيين و الشبّان حول العلوم الإنسانية. و قبل هذا كان لنا كلام حول هذا الموضوع أيضاً. و ستكون لنا لاحقاً بإذن الله جلسة خاصة بموضوع العلوم الإنسانية مع أصحاب الفكر و الثقافة و أمثالكم أنتم الشباب الصالحین. إن العلوم الإنسانية روح العلم. حقيقةً أن كل العلوم، و كل التحرّكات الأسمى في مجتمعٍ ما بمثابة الجسد، و روح هذا الجسد هي العلوم الإنسانية. فالعلوم الإنسانية هي التي تعيّن الإتجاهات و تؤشر لنا الإتجاه الذي نسير فيه، و ما الشيء الذي يسعى إليه علمنا. و عندما تنحرف العلوم الإنسانية و تُبنى على أُسس مغلوطة و وفقاً لرؤى كونية مغلوطة، فالنتيجة التي تتمخّض عن ذلك هي أن كل أوضاع المجتمع تسير نحو اتجاه منحرف. إن العلم الذي يملكه الغرب اليوم ليس بالشيء الهيّن و إنّما هو شيء هائل. و العلم الذي عند الغرب ظاهرة تاريخية فريدة، غير أن هذا العلم وظّفَ على مدى سنوات طويلة على طريق الاستعمار، و سُخّر لأجل الإسترقاق و الاستعباد، و استُخدم على طريق الظلم، و استُخدم من أجل الاستيلاء على ثروات الشعوب؛ و اليوم ترَون أيضاً ما الذي يفعلونه. و هذا ناتج عن ذلك التفكير المغلوط و النظرة الخاطئة و الاتجاه الخاطئ بحيث أن هذا العلم بكل عظمته ـ إذ أن العلم بحد ذاته شيء شريف، و ظاهرة عزيزة و كريمة ـ استخدم في هذه التوجهات. طبعاً بالنسبة إلى العلوم الإنسانيّة أبدى أحد الإخوة ملاحظات جيدة هنا.
لقد دوّنت هنا عدّة ملاحظات و أُريد إلقاءها على أسماعكم. إحدى هذه الملاحظات هي أن البلد بحاجة إلى علماء يحبّون بلدهم و شعبهم و هويتهم و مصير شعبهم. و لا يمكن أن يتقدّم العمل دون هذا الشعور بالإرتباط. و العالِم الذي ينظر إلى العلم كوسيلة لاكتساب المال و ما شابه ذلك لا يستطيع أن يكون نافعاً كثيراً لمستقبل بلده. و أقول لكم إن الدنيا كانت على امتداد الزمان ميدان صراع ـ لقد كانت على هذه الشاكلة على الدوام، بيد أنها اليوم أكثر ـ و موضع نزاع و ساحة مواجهة بين الناس. و هذا يُعزى إلى طبيعة النّاس أنفسهم؛ فكل من يستشعر في نفسه قوّة ينشب مخالبه في أبدان الضعفاء من غير رحمة، إلا إذا كان هناك وازع ديني و اعتقاد ديني يردع عن ذلك. إن القادة في صدر الإسلام عندما كانوا يفتحون البلدان ـ رغم أن تلك الشعوب المغلوبة كانت تستخدم غاية التشدّد، الا أنهم كانوا يعاملونهم بالأخلاق الحسنة و السلوك المتديّن. و حتّى في زمان الحروب الصليبيّة ـ التي وقعت بعد عدّة قرون من ظهور الإسلام ـ كان هذا المعنى موجوداً. فعندما كان المسيحيون القادمون من أوربا يدخلون بيت المقدس، كانوا يمارسون حرب إبادة ضد المسلمين ـ و كما تعلمون فإن الحروب الصليبية استمرّت ما يُقارب مائتي سنة، و تكرّرت الحملات المهاجمة عدّة مرّات. و عندما كان النصر للمسلمين، كانوا على العكس من ذلك؛ حيث كانوا يتعاملون معهم بمحبّة. و في صدر الإسلام كانت هناك في بلاد الشام ـ التي كانت تابعة لامبراطورية الروم البيزنطيين ـ أقليّة من اليهود الذين أقسموا و قالوا للمسلمين عندما كانوا يحكمون هناك ـ و قد سجّل التاريخ هذه العبارة نصّاً ـ قسماً بالتوراة إنكم أفضل من حكمونا حتى الآن. و كان هذا هو واقع الحال. و هذا يُعزى إلى الوازع الديني. و حيث لم يكن هناك دين كان الشعب المنتصر ينكّل بالشعب المنكسر و يقضي على دينه، و ثقافته، و أخلاقه، و يسحق كرامته، و ينتهك كبرياءه، و يمحو أمجاده. و لا أودّ ذكر أسماء بعض الدول المنتصرة. أمريكا و الغرب يرتكبون المظالم و الجنايات طبعاً، غير أن كلامي غير موجّه إليهما على نحو الخصوص؛ و إنّما هناك بعض الدول الأُخرى على هذه الشاكلة. فحين انتصروا في بعض المواطن، ارتكبوا من الممارسات الوحشية ما تقشعرّ له الأبدان من شدّة قسوتها عندما يقرأ الإنسان تلك الوقائع حتى بعد سنوات متمادية من حدوثها.
حسناً، يريد شعبٌ الآن أن يحافظ على اقتداره ليردع الآخرين عن الهجوم عليه؛ سواء كان ذلك الهجوم ظاهرياً و مادياً و عسكرياً و أمنياً، أم كان هجوماً برمجياً، و هجوماً أخلاقياً، و هجوماً ثقافياً، و احتقاراً ثقافياً ـ و ما غدا شائعاً في العالم في العقود الأخيرة ـ فما الذي عليه أن يفعله؟ يجب على رجال السياسة فيه و على العُلماء أن يعبّروا عن تضحيتهم و تفانيهم. و ليس مقصودي أنكم أنتم النخبة و أصحاب الكفاءات و أنتم الشُبّان یجب أن تُضحّوا، و لا تكون لديكم أية تطلعات ماديّة. كلا، فليست لدينا مثل هذه الآمال العريضة. و لكن من دون الوشائج المعنوية لا يمكن لجماعة الكوادر ـ سواء كانوا كوادر سياسية أم كوادر علمية ـ أن يصونوا بلدهم و يرفدوه بالقوّة.
و هكذا الحال بين السياسيين أيضاً. فإن كان كلّ همّ السياسي نفسه، و راحته، و جيبه، و شهواته، و يميل إلى تحاشي تلك الهموم و المعاناة الأساسية التي تنعكس بشكل طبيعي على راحته، فان هذا البلد سيُهزم. و الدليل على ذلك هو انكسار السلالات الملكية المتمادية، الواحدة تلو الأُخرى. لقد كانت الدولة الصفوية دولة قويّة، و جاءت إلى السلطة بكل اقتدار، و جاءت بإيمان؛ و لكن بسبب هذه الأسقام، و بسبب غلبة هذه الخصوصيات، انتهى بها الحال إلى ما تعلمون. و كان القاجار أسوأ منهم، و البهلوي أسوأ منهم جميعاً.
و هكذا الحال في ميدان العلم أيضاً. فإذا كان في البلد علماء معنيون بمصير بلدهم، و على استعداد للتضحية من أجله ـ و هذه التضحية حسب مقتضى الحال ـ فإن ذلك البلد سيزدهر و يتطوّر. و الشيء القادر على خلق هذا الدافع، و إيجاد هذا التقدّم أفضل من أي شيء آخر هو الإيمان. فإن توفّر هذا الإيمان یتطوّر البلد. إن التقدّم العلمي الموجود في بلدنا اليوم ـ و نحن بالتأكيد غير قانعين بهذا الحدّ منه ـ يفوق في قيمته الذاتية عدّة مرّات التقدّم العلمي المألوف في عالم اليوم. فما سبب ذلك؟ ذلك لأننا كُنّا محرومين من التبادل العلمي، و من الاستفادة العلمية، و من الدعم العلمي للآخرين. و كُنّا تحت الضغوط، و كانت الأبواب مغلقة أمامنا؛ و لكن في الوقت ذاته ظهرت لدينا شخصيات بارزة. ظهر «الشهيد شهرياري» ـ طبعاً كان و لا زال يوجد بيننا و الحمد لله العشرات و المئات من أمثاله ـ ظهر عشرات و مئات الأشخاص في مختلف الاختصاصات، و أنجزوا أعمالاً باهرة. و لم يستفيدوا قط من الجامعات و المعاهد العلمية الغربية و لا من الأساتذة الغربيين. و من المؤكّد أنهم بلا ريب قد استفادوا من المنجزات الغربية؛ بل و يجب أن نستفيد منها.
أحد الإخوة أدلى بكلام صحيح حين قال أن الابتعاد عن الأجنبي و مناوءة الأجنبي لا تؤدّي بنا إلى الوصول إلى نتيجة. نعم، هكذا هو الحال؛ و لكن ينبغي أن نلتفت إلى أننا حين ندعو أحياناً الى مناوءة الأجنبي أو الابتعاد عن الأجنبي فذلك لا يعني أن نحرم أنفسنا من علمه و من منجزاته؛ أبداً. لقد قلت مرّات و مرّات: نحن على استعداد تام لأن نكون تلاميذ كي نتعلّم؛ بيد أننا لا ينبغي أن نبقى تلاميذ إلى الأبد. و هذه هي المسألة المهمّة. إن شعبنا يستطيع الوصول إلى الحدّ الذي يجعل الآخرين يأتون للتتلمُذ على يده. و هذه القِمّة ماثلة أمام ناظري؛ و يجب أن نسير قُدُماً نحوها. و على هذا الأساس فإن الجهد و الهمّة المخلصة و الخالصة ضرورية بالنسبة إلى الكوادر العلمية، من أجل أن تكون قادرة على العمل. الحمد لله أن لديكم هذا الاستيعاب، و لديكم هذه المؤهّلات؛ و نشكر الله على ذلك. أنتم تستطيعون استعادة مجد هذا الشعب.
يا أعزّائي! لقد سحقت عزّة شعبنا، و كبرياؤه، و مجده، لأكثر من عشرات السنوات. و قد أعادتنا الثورة إلى رشدنا و نبّهتنا إلى ذاتنا. إن بلدنا بكل ما له من ماضٍ تاريخي، و ما له من تراث علمي، و بكل هذه الذخائر العلمية و الفكرية التي كانت لدينا، و بكل أولئك النوابغ العلميین الذين ربّاهم بلدنا في عهود الجهل و الغفلة التي كانت سائدة في العالم ـ من أمثال ابن سينا، و محمد بن زكريا، و الفارابي، و الخواجة نصير الدين الطوسي، و غيرهم. هؤلاء كلهم كانوا في عهود جهل البشرية؛ حيث ظهروا في القرون الوسطى، يوم لم يكن هناك أي ذكر للعِلم، و لا بارقة من العِلم في هذا العالم ـ و هذا البلد الذي له مثل هذا القدرات، و مثل هذه الأهلية، وصل به الحال إلى أن صرنا نتطلّع إلى ما في أيدي الآخرين حتّى في ما يخصّ المتطلّبات الأساسية لحياتنا. و كان ساستنا ـ التافهون المتخلّفون ـ يقولون إن الايراني لا يستطيع حتّى أن يصنع إبريقاً! و الإبريق يقصدون به تلك الأباريق الطينية. تُعساً لذلك السياسي الذي يقول هذا عن شعبه. أو ذلك الآخر الذي كان يقول: إنّنا يجب أن نكون إفرنجيين من قمّة الرأس إلى أخمص القدمین لكي نستطيع أن نتقدّم! إن هذا الكلام يعكس التفاهة و عدم الأهلية. و هذا من التخلّف طبعاً أن يلقي عددٌ من الأشخاص وزر نقاط الضعف هذه على الشعب، و يحتقروا الشعب بسبب ما كانوا يتصفون به هم من الضعف. و جاءت الثورة و بددت كل هذا. و عُدنا إلى رشدنا. و مما يدعو إلى الارتياح أن أعمالاً كبيرة قد أنجزت، و كفاءات جيّدة قد ظهرت؛ و قد تقدّمنا و سوف نتقدّم إن شاء الله.
أودّ أن أقول للمسؤولين الحكوميين إن الاستثمار في إنتاج العلم و الإبداع العلمي عاد على بلدنا و على شعبنا بفوائد مضاعفة؛ فلا تتركوه. إن الاستثمار في إنتاج العلم و في سبيل الإبداعات العلمية و من أجل التقدّم العلمي، يجب أن يزداد يوماً بعد يوم، و لا ينبغي أن يتناقص. طبعاً نحن اليوم لا نستثمر بقدر ما كانت تستثمر بلدان مثل بريطانيا أو إيطاليا أو فرنسا في أوائل دخولها إلى عالم الصناعة و العلم، بل إن استثمارنا أدنى. إن الاستثمار العلمي يجب أن يزداد بأكثر ما يمكن.
لا ريب طبعاً في أن هذه الاستثمارات يجب أن يرافقها تقدّم على الصعيد الإداري أيضاً. و أنا أؤكّد هذا للمسؤولين الحكوميين على وجه الخصوص. فنحن إذا زدنا المصادر المالية أيضاً، و وزّعنا، و أصبح لدينا فائض، و قسّمنا، و لكن لم يحصل ارتقاء لمستوى الإدارة في هذا القطّاع، فإنّ مصادرنا المالية ستذهب هدراً. في الجامعات و في المراكز العلمية، و في هذا القطاع؛ و هو قطاع المعاونية العلمية لرئيس الجمهورية، لا بدّ من الارتقاء بمستوى الإدارة. و هذه المراكز الحكومية ذات الصلة بقضية العلم و الجامعات، لا بدّ أن يرتقي مستواها الإداري، و أن تستثمر طبعاً.
الملاحظة الأُخرى، هي قضية الترابط بين الصناعة و الجامعة، و هذه قضية قديمة. طبعاً قبل خمس عشرة أو ستّ عشرة سنة مضت ـ و من المحبّذ أن لا أذكر تاريخ ذلك ـ طُرحت هذه المسألة و جرت متابعتها، حتّى اتخذت في النهاية طابع الفكرة الشائعة التي يميل إليها الجميع. و لكن كيف لنا أن نطبّق هذا التوجّه؟ إذا أرادت صناعتنا أن تواكب منافسة السوق فهي بحاجة إلى تطوير علمي و تحديث. و هذا التحديث تتوفر مقوّماته بشكل واسع في جامعاتنا، و في مراكزنا العلمية و في معاهدنا العلمية. إنّ هذه المراكز العلمية التي صدرت عدّة مرّات توصيات بإنشائها إلى جانب الجامعات و أن تكون على ارتباط بالجامعات، يمكن أن توضع أقسام منها تحت تصرّف الصناعات بحيث تشارك الصناعات في هذه المراكز العلمية، ليتسنّى لها تلبية احتياجاتها و متطلباتها عن هذا الطريق. و هذا العمل يمكن ترتيبه و تنسيقه في هذا القطاع الحكومي. عليهم أن يعقدوا الجلسات و يخطّطوا لهذا العمل؛ فهو مفيد للصناعات من جهة و للجامعات من جهة أُخرى. إن الجامعة حين تضع نصب عينيها حاجة المجتمع و حاجة السوق، و سوق العمل، فمن الطبيعي أن تجد الاتجاه الذي ينبغي أن تسير عليه؛ و يتكوّن لديها المزيد من النشاط و الاندفاع. و هذا يدرّ المداخيل على الجامعات أيضاً. عندما تُبنى الصناعات على رؤى حديثة و على أفكار جديدة و تتبنّى إنتاج العلم و التقنية ـ و هذا ما يتحقّق في الجامعات ـ فمن الطبيعي أن تتقدّم. و هذا ما نحن بحاجة إليه؛ و هو ما يجب أن يتحقّق حتماً.
و هنا أودّ أن أعرض ملاحظة حول المنتجات التي يجري إنتاجها في البلاد، و هي ما أشار إليه أحد الإخوان هنا، و قد سجّلتها كملاحظة عندي لكي أتحدّث عنها. مما يدعو إلى الارتياح أن لدينا في مختلف القطاعات منتوجات ذات كيفية و جودة عالية. و القسم الأعظم من المنتوجات في البلاد تستهلكها أجهزتها الحكومية. و يجب أن يكون لدى الأجهزة الحكومية قرار قاطع بعدم استهلاك أي منتوج آخر سوى المنتوج الوطني ـ في الحالات التي يكون فيها المنتوج الداخلي موجوداً، أي أن يُمنع منعاً باتاً استيراد أي شيء من الخارج إذا كان له مشابه يُنتج في الداخل.
طالبوا بهذا و اطرحوه على الحكومة. و على السيد رئيس الجمهورية أن يوعز إلى الأجهزة الحكومية بهذا. و هذا شيء ممكن. و قد جرّبناه. في الحالات التي صدر فيها أمر قاطع إلى جهاز حكومي بعدم استخدام أي إنتاج غير إيراني في هذا العمل الذي يجري تنفيذه، و قد تحقّق ذلك، بل و تحقّق على أفضل الوجوه. و إذا تحوّل عزم المدراء إلى قرارات حازمة باستخدام و استهلاك المنتوجات الوطنية، باعتبارها منتوجات ذات كيفية من جهة، كما يؤدّي من جهة أُخرى إلى الارتقاء بالمستوى الكيفي للإنتاج الوطني. عليهم أن يطبّقوا هذا العمل حتماً.
لقد سمعت طبعاً أن دعم الأجهزة الحكومية و البنوك و ما شابهها للمنتوجات الوطنية ضعيف؛ و في بعض الحالات تنتهي الأمور بالمنتجين إلى الإفلاس بسبب عدم وجود الدعم. و هذا ما ينبغي أن تتكفّل الحكومة ذاتها بمجابهته؛ أي أن تصدر أوامر بهذا الخصوص.
نعم... عُرضت ملاحظة أُخرى أيضاً، و قد دوّنتها هنا؛ و هي أن الأجهزة الحكومية عندما تعقد صفقة مع مُنتج داخلي، تقع في بعض الأحيان مماطلات في الحسابات؛ بينما عندما تُعقد مثل هذه الصفقة مع مُنتج خارجي يدفعون له الثمن نقداً، عند التعامل مع المُنتج الداخلي يبقون يماطلون و لا يدفعون له الثمن سنة أو سنتین. هؤلاء يجب الوقوف بوجههم.
هناك مسألة أُخرى و هي مسألة المقالات العلمية. فمما يدعو إلى السرور أن المقالات قد تطوّرت كثيراً من حيث الكم، و من حيث الكيف أحياناً؛ غاية ما في الأمر أن هناك ملاحظة مهمّة كنت قد طرحتها عدّة مرّات حتّى الآن، و مما يدعو إلى الارتياح أنني لاحظت اليوم أن هذه الملاحظة ذاتها قد تكرّرت في كلمات عدد من الإخوان، و هي أن إنتاج المقالات ليس هدفاً بحد ذاته، و إنّما كيفية المقالة هي المهمة أوّلاً. و الأهم من ذلك هو اتجاه المقالة؛ أي لأي شيء نكتب هذه المقالة؟ فهذه الزيادة في عدد المقالات يجب أن تنعكس معطياتها في سوقنا التشغيلية و في إنتاجنا و في واقع حياتنا. و المقالة يجب أن تكتب وفقاً لمتطلّبات البلد؛ و هذا شيء في غاية الأهمية. و على هذا الأساس فإن مسألة كيفية المقالة من ناحية مهمّة طبعاً، و من ناحية أُخرى ينبغي إعداد المقالة تلبية لحاجة في البلد. فإذا حصل ذلك، لنفترض لو أن شخصاً كتب مقالة و باعها إلى شخص آخر، قائلاً: «أعطيك هذه المقالة، أعطيكها كيف ما تشاء». و نحن لا نقول هكذا. إن المقالة إذا كانت فيها منفعة للبلد، و فيها منفعة لجهة ما، بأي نحو كان، فهي جيّدة؛ و أمّا أن تكتب المقالة لمجرّد كتابة المقالة، فهذا ليس هدفاً؛ بل يجب أن تنعكس معطياتها في الصناعات و في السوق.
و أمّا مسألة الزراعة التي تحدثوا عنها، فهي مسألة في غاية الأهمية و هم على صواب. فالزراعة من القطاعات التي تحظى بدعم خاص من الدولة في كل أنحاء العالم. و لا بدّ أن يحظى هذا القطاع بالاهتمام.
و على أية حال لقد كانت جلسة اليوم جلسة جيّدة جدّاً. و أنا سوف أستلم هذه المدوّنات إن شاء الله من الإخوان، و أدرسها و أُتابعها. أسأل الله تعالى أن يوفّقكم و يعينكم، و أن ينهض هذا البلد بأيديكم أنتم الشبّان الأعزّاء إن شاء الله، ليكون أقرب ما يمكن إلى الأهداف السامية لهذه الثورة.
و السّلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته‌.