بسم الله الرحمن الرحیم
و الحمد لله ربّ العالمین، و الصلاة و السلام علی سیّدنا و نبیّنا أبی القاسم المصطفی محمّد، و علی آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین، سیّما بقیّة الله فی الأرضین.
الجلسة هذه جلسة شبابیة تماماً بکل الخصوصیات الإیجابیة للشباب. و الأمل معقود علیکم أیها الشباب، سواء للحاضر، أو للمستقبل بدرجة أکبر. لقد استمعت بدقة للآراء التی عرضها هؤلاء الشباب هنا. تقییمی لهذه الآراء هو أنها کانت جیدة جداً. و هذا ما یعاضد رأیی السابق فی خصوص رقیّ المستوی الفکری لهذه المحافظة. خلال هذه الأیام أین ما ألقی أشخاص فی هذه المحافظة - من الشباب أو عوائل الشهداء أو المعلمین و الأساتذة - كلماتهم، کانت کل لحظة من لحظات الاستماع لهم سارّة و باعثة علی الارتیاح بالنسبة لی. و هذا آیة علی أن مدینة بجنورد و محافظة خراسان الشمالیة تتمتع و الحمد لله بمستوی عال من التفکیر و الثقافة. یجب أن تحافظوا علی هذا المستوی و تزیدوا منه باستمرار. و من واجبنا نحن أیضاً - سواء أنا أو باقی المسؤولین - أن نستثمر هذه النعمة الإلهیة الکبیرة بشکل صحیح لصالح الثورة و لصالح النظام، و أتمنی أن نوفق لهذا.
الحدیث الذی أروم طرحه علیکم أیها الشباب الأعزاء الیوم هو إیضاح و تبیین قضیة طرحتها فی الیوم الأول لزیارتی و هی قضیة التقدّم. إنه موضوع علی جانب کبیر من الأهمیة یجب أن نطرحه و ننقاشه. و طبعاً فإننا بطرح هذه الموضوعات لا نقنع أنفسنا بانتهاء الموضوع، إنما هذه مجرد بدایة. ذکرنا أن المفهوم الذی یمکنه إلی حدّ کبیر استیعاب أهداف النظام الإسلامی فی داخله و عرضها علینا هو مفهوم التقدم. و أوضحنا بعد ذلک أن التقدم یعید إلی الذهن حالة التحرّک و الطریق. کیف لنا أن نقول إن التقدم هدف؟ ذکرنا أن السبب هو أن التقدم لا یتوقف أبداً. نعم، التقدم حرکة و طریق و صیرورة، لکنه لا یتوقف بل یستمر دائماً. لأن الإنسان یستمر و لا توجد لمواهبه حدود تقف عندها. قلنا إن للتقدم أبعاداً، و أنه فی المفهوم الإسلامی یختلف عن التقدم ذی البعد الواحد أو البعدین فی الثقافة الغربیة. إنما هو تقدم ذو أبعاد متعددة.
من أبعاد التقدم بالمفهوم الإسلامی عبارة عن أسلوب الحیاة و السلوک الاجتماعی. هذا بعد مهم من القضیة. و أرید الیوم البحث فی هذا الموضوع بمقدار معین. لو نظرنا من الزاویة المعنویة - حیث هدف الإنسان هو الفلاح و النجاح - فعلینا الاهتمام بأسلوب الحیاة. و حتی لو لم نأبه للمعنویة و الفلاح المعنوی و لم نؤمن به فإن الخوض فی أسلوب الحیاة مهم لغرض الحیاة المریحة المتوفرة علی الأمن النفسی و الأخلاقی. إذن، القضیة قضیة أساسیة و مهمة. لننظر ما الذی یمکن قوله و ما الذی یجب قوله حول أسلوب الحیاة. و ذکرنا أن هذا بدایة البحث.
لو أخذنا التقدم الشامل بمعنی بناء الحضارة الإسلامیة الحدیثة - و ثمة بالتالی مصداق عینی و خارجی للتقدم بالمفهوم الإسلامی، فنقول إن هدف الشعب الإیرانی و الثورة الإسلامیة بناء حضارة إسلامیة حدیثة - فلهذه الحضارة الحدیثة جانبان: جانب ذرائعی، و جانب یمثل الأصل و المتن و الأساس. و یجب الاهتمام بکلا الجانبین.
ما هو الجانب الذرائعی؟ الجانب الذرائعی عبارة عن هذه القیم التی نطرحها الیوم باعتبارها تقدماً للبلاد: العلم و الاختراعات و الصناعة و السیاسة و الاقتصاد و الاقتدار السیاسی و العسکری و الاعتبار الدولی و الإعلام و وسائل الإعلام. هذه کلها تندرج ضمن الجانب الذرائعی للحضارة. و طبعاً، حققنا تقدماً جیداً فی هذا الجانب فی البلاد. تمّ إنجاز الکثیر من الأعمال الجیدة. سواء فی مجال السیاسة أو فی مجال القضایا العلمیة أو فی مجال القضایا الاجتماعیة أو علی مستوی الاختراعات - و تلاحظون هنا نموذجاً منها و قد شرحها لکم هذا الشاب العزیز - و أمور من هذا القبیل تمّ إنجازها بکثرة فی کل أنحاء البلاد. کان تقدم البلاد علی المستوی الذرائعی جیداً علی الرغم من الضغوط و التهدیدات و الحظر و ما إلی ذلک.
أما الجانب الحقیقی فهو الأشیاء التی تشکل متن حیاتنا و أصلها، و هذا هو أسلوب الحیاة الذی ألمحنا إلیه. هذا هو الجانب الحقیقی و الأصلی من الحضارة. و مثال ذلک قضیة العائلة، و أسلوب الزواج، و نوع السکن، و نوع الملبس، و نموذج الاستهلاک، و نوع المأکل، و نوع الطبخ، و التسلیة، و الترفیه، و الخط، و اللغة، و العمل و الکسب، و السلوک فی محل العمل، و السلوک فی الجامعات، و السلوک فی المدرسة، و سلوکنا فی الأنشطة السیاسیة، و سلوکنا فی الریاضة، و سلوکنا فی وسائل الإعلام التی نمتلکها، و سلوکنا مع آبائنا و أمهاتنا، و سلوکنا مع أزواجنا، و سلوکنا مع أبنائنا، و سلوکنا مع رؤسائنا، و سلوکنا مع مرؤسینا، و سلوکنا مع أفراد الشرطة، و سلوکنا مع مأموری الحکومة، و أسفارنا و رحلاتنا، و نظافتنا و طهارتنا، و تصرفاتنا مع الأصدقاء، و تصرفاتنا مع العدو، و سلوکنا مع الأجانب. هذه هی الجوانب الأصلیة من الحضارة التی تشکل متن حیاة الإنسان.
الحضارة الإسلامیة الحدیثة - و هو الشیء الذی نروم إطلاقه و طرحه - تتشکل فی جانبه الأصلی من هذه الأمور. هذه هی الأمور التی تشکل أصل الحیاة. و هو الشیء الذی نسمّیه فی المصطلح الإسلامی: عقل المعاش. لیس عقل المعاش مجرد معرفة طریقة کسب المال و إنفاق المال.. کیف نکسب المال و کیف ننفق المال، لا، فکل هذه المدیات الواسعة التی ذکرت من ضمن عقل المعاش. ثمة فی کتبنا الحدیثیة الأصیلة المهمة أبواب باسم «کتاب العشرة» الذی یتناول هذه الأمور. و ثمة فی القرآن الکریم العدید من الآیات تختص بهذه الأمور.
طیّب، یمکن اعتبار هذا الجانب بمنزلة الجانب الرقائقی من الحضارة، و ذلک الجانب الأول یمکن اعتباره الجانب الصلائدی منها. إذا لم نتقدم فی هذا الجانب الذی یعدّ أصل الحیاة فلن تقدر کل حالات التقدم التی نحرزها فی الجانب الأول علی تحقیق الفلاح لنا، و لا تستطیع أن تمنحنا الأمن و السکینة الروحیة. و ترون أنها لم تستطع ذلک فی العالم الغربی. ثمة هناک کآبة و ثمة یأس و ثمة انهیار داخلی، و عدم أمن الأفراد فی المجتمع و فی العائلة، و ثمة عبثیة و لاهدفیة، هذا علی الرغم من وجود الثروة و القنابل الذریة و التقدم العلمی المتنوع و القوة العسکریة. أصل القضیة هو أن نستطیع إصلاح أصل الحیاة و متنها، و الذی یشکل الجانب الأصلی من الحضارة. طبعاً لم یکن تقدمنا ملحوظاً فی هذا الجانب بعد الثورة. لم نتحرّک و نتقدم فی هذا الجانب علی غرار حرکتنا فی الجانب الأول. و لذا ینبغی معالجة الأمر و تشخیص الآفات. لماذا لم نتقدم فی هذا الجانب؟
بعد أن نجد الأسباب و العلل ینبغی الخوض فی کیفیة معالجتها. علی عاتق من تقع هذه المهمة؟ علی عاتق النخبة - النخبة الفکریة و السیاسیة - و علی عاتقکم أیها الشباب. إذا ظهر فی بیئتنا الاجتماعیة خطاب یختص بمعالجة الآفات فی هذا المجال یمکن الوثوق فی ضوء الحیویة التی یتمتع بها نظام الجمهوریة الإسلامیة و الشعب الإیرانی و المواهب المتوفرة، أن نحقق الکثیر من التقدم فی هذا الجانب، و عندها سیکون تألق الشعب الإیرانی فی العالم و انتشار الفکر الإسلامی للشعب الإیرانی و الثورة الإسلامیة الإیرانیة فی العالم أسهل. یجب تشخیص الآفات و من ثمّ علاجها.
النخبة یتحمّلون واجبات، و حوزات العلوم الدینیة تتحمّل واجبات، و الجامعات تتحمّل واجبات، و وسائل الإعلام تتحمّل واجبات، و أصحاب المنابر یتحمّلون وظائف و واجبات، و مدراء الکثیر من الأجهزة و المؤسسات، و خصوصاً الأجهزة المعنیة بالثقافة و التربیة و التعلیم یتحمّلون واجبات و مسؤولیات. و الذین یخططون تعلیمیاً للجامعات أو المدارس تقع علیهم واجبات فی هذا النطاق. و الذین یحدّدون فصول و عناوین الدراسة فی الکتب الدراسیة یتحمّلون واجبات. هذه واجبات تقع علی عاتق الجمیع. علینا جمیعاً أن ننادی أنفسنا بقوة و نعمل و نتحرّک فی هذا الجانب.
إذن، یجب تشخیص الآفات. أی ینبغی الاهتمام بالآفات التی نعانی منها فی هذا المجال و نبحث عن أسباب هذه الآفات. طبعاً لا نرید أن ننظر للمسألة هنا علی أنها منتهیة، إنما نطرح لائحة: لماذا تمتاز ثقافة العمل الجماعی فی مجتمعنا بالضعف؟ هذه آفة.. مع أن الغربیین سجّلوا العمل الجماعی باسمهم، إلا أن الإسلام قال قبلهم بکثیر: «تعاونوا علی البرّ و التقوی» (1)، أو: «و اعتصموا بحبل الله جمیعاً» (2). أی حتی الاعتصام بحبل الله یجب أن یکون جماعیاً. «و لا تفرقوا» (3). لماذا الطلاق کثیر فی بعض قطاعات بلادنا؟ لماذا إقبال الشباب علی المخدرات فی بعض شرائح بلادنا کبیر؟ لماذا لا نراعی الضرورات اللازمة فی علاقاتنا بجیراننا؟ لماذا صلة الأرحام بیننا ضعیفة؟ لماذا لسنا شعباً منضبطاً تماماً فی ما یخصّ ثقافة السیاقة و قیادة العربات فی الشوارع؟ هذه آفة. مرورنا فی الشوارع من مشکلاتنا، و هی لیست بالمشکلة الصغیرة، بل مشکلة أساسیة. السکن فی الشقق کم هو ضروری بالنسبة لنا؟ و کم هو ظاهرة صحیحة؟ و ما هی ضروراتها و مقتضیاتها التی یجب مراعاتها؟ و کم نراعی هذه المقتضیات؟ ما هو نموذج التسلیة السلیمة؟ ما هو نوع العمارة فی مجتمعنا؟ لاحظوا کم من القضایا المتنوعة التی تستغرق کل جوانب الحیاة تندرج داخل مقولة أسلوب الحیاة، و هو الجانب الأصلی و الحقیقی و الواقعی من الحضارة و الذی تشکّله سلوکیاتنا. کم یتناسب نوع عمارتنا الحالیة مع احتیاجاتنا؟ و کم هو عقلانی و منطقی؟ و ماذا عن تصامیم ملابسنا؟ و ماذا عن الزینة و التبرّج لدی الرجال و النساء؟ ما هو المقدار الصحیح منها؟ و ما هو المفید منها؟
هل نحن صادقون مع بعضنا تماماً فی الأسواق و الإدارات و التعامل الیومی؟ ما هو مستوی شیاع الکذب بیننا؟ لماذا نتحدث ضد بعضنا فی غیاب بعضنا؟ البعض یتهرّبون من العمل علی الرغم من قدرتهم علیه، ما السبب فی التهرّب من العمل؟ البعض یلجؤون إلی الصخب و الضجیج فی البیئات الاجتماعیة دون مبررات، ما هو سبب الصخب و التبرّم و عدم الحلم و التحمّل لدی البعض منا؟ کم نراعی حقوق الأفراد؟ و کم تُراعی حقوق الأفراد فی وسائل الإعلام؟ کم تراعی حقوق الأفراد فی الأنترنت؟ ما هی درجة احترامنا للقانون؟ ما هی أسباب التهرّب من القانون - و هو مرض خطیر - لدی بعض أبناء الشعب؟ کم یتوفر الوجدان و الضمیر المهنی فی المجتمع؟ و کم یتوفّر الانضباط الاجتماعی فی المجتمع؟ و کم یتوفر عندنا الإتقان فی الإنتاج؟ و کم نهتمّ بالإنتاج النوعی فی القطاعات المختلفة؟ لماذا تبقی بعض الآراء الجیدة و الکلام الجید و الأفکار الجیدة فی حدود الأحلام و الکلام؟ و لاحظتم أنهم أشاروا لهذه المسألة. لماذا یقال لنا إن ساعات العمل المفیدة فی الأجهزة و المؤسسات الإداریة قلیلة؟ ثمانی ساعات من العمل یجب أن تکون مفیدة بمقدار ثمانی ساعات، فلماذا هی مفیدة بمقدار ساعة أو نصف ساعة أو ساعتین؟ أین المشکلة؟ لماذا تشیع النزعة الاستهلاکیة بین الکثیرین من أبناء شعبنا؟ هل النزعة الاستهلاکیة فخر؟ النزعة الاستهلاكیة معناها أن ننفق کل ما نحصل علیه علی أمور لا تعدّ من ضروریات حیاتنا.
ماذا نفعل حتی نستأصل جذور الربا من مجتمعنا؟ ماذا نفعل حتی یتمّ مراعاة حقوق الزوج - حقوق المرأة و الرجل - و حقوق الأولاد؟ ماذا نفعل حتی لا یشیع الطلاق و انهیار العائلة بیننا کما هو شائع فی الغرب؟ ماذا نفعل لصیانة کرامة المرأة فی مجتمعنا و صیانة عزتها العائلیة، و لتستطیع فی الوقت نفسه النهوض بواجباتها الاجتماعیة و الحفاظ علی حقوقها الاجتماعیة و العائلیة؟ ماذا نفعل لکی لا تکون المرأة مضطرة لاختیار أحد هذه الأمور و ترک الباقی؟ هذه من أمورنا و قضایانا الأساسیة. ما هی حدود النسل و زیادة السکان فی مجتمعنا؟ لقد أشرت إلی أننا اتخذنا قراراً له مدة زمنیة معینة ثمّ نسینا زمانه! کأن یقال لکم أفتحوا حنفیة الماء هذه لمدة ساعة، فتفتحون حنفیة الماء و تذهبون! و قد ذهبنا نحن و غفلنا لعشرة أعوام و خمسة عشر عاماً. و الآن توافینا التقاریر بأن مجتمعنا سیکون فی المستقبل غیر البعید جداً مجتمعاً مصاباً بالشیخوخة، و سوف یزول هذا الوجه الشبابی الذی یتصف به مجتمعنا الیوم. ما هی حدود التناسل و زیادة السکان؟ لماذا توجد فی بعض المدن الکبیرة بیوت عزوبة؟ کیف تغلغل هذا المرض الغربی إلی مجتمعنا؟ ما هی نزعة البهرجة و البذخ؟ و هل هی سیئة أو حسنة؟ ما المقدار السیئ منها؟ و ما المقدار الحسن منها؟ ماذا نفعل حتی لا تتجاوز الحدود الحسنة و لا تصل للحدود السیئة؟ هذه أوجه متنوعة لقضایا نمط الحیاة، و ثمة من هذا القبیل العشرات من المسائل و القضایا، و بعضها أهم مما ذکرته. هذه لائحة من الأمور التی تشکّل متن التحضّر و أصله. و یبتنی علیها تقییم الحضارة.
لا یمکن تقییم الحضارة علی مجرد وجود المکائن و السیارات و الصناعة و الثروة فیها، و الثناء علیها لأجل هذه الظواهر، و الحال أنها تعانی فی داخلها من مشکلات عدیدة تستغرق کل المجتمع و حیاة الناس. ذلک هو الأصل و هذه أدوات لتأمین ذلک الجانب و لیشعر الناس بالراحة و یسیروا إلی الأمام بأمل و أمن، و یصلوا إلی التسامی و التکامل الإنسانی المنشود.
تنبثق هنا مقولة أو فکرة ألا و هی فکرة ثقافة الحیاة. یجب أن نسعی لتبیین و شرح ثقافة الحیاة و تدوینها و تحقیقها بالشکل الذی ینشده الإسلام. و بالطبع فإن الإسلام حدّد لنا أسس مثل هذه الثقافة. أسس هذه الثقافة عبارة عن التعقل و الأخلاق و الحقوق. هذا ما زوّدنا به الإسلام. إذا لم نتطرّق لهذه المقولات بشکل جاد فإن التقدم الإسلامی لن یتحقق و الحضارة الإسلامیة الجدیدة لن تتکوّن. مهما تقدمنا فی الصناعة و مهما ازدادت الاختراعات و الاکتشافات، إذا لم نعالج هذا الجانب فإن التقدم الإسلامی لن یتحقق بالمعنی الحقیقی للکلمة. ینبغی أن نعمل الکثیر فی هذا الجانب.. یجب أن نعمل الکثیر.
ثمة نقطة أو نقطتان بشأن إیجاد هذا الوضع و لوازم یخلقها لنا السعی وراء هذه الثقافة، ینبغی أن نتفطن لها. النقطة الأولی هی أن سلوکنا الاجتماعی و أسلوب حیاتنا تابع لتفسیرنا و رؤیتنا للحیاة: ما هو هدف الحیاة؟ أی هدف نرسمه للحیاة و نضعه لأنفسنا یستدعی بشکل طبیعی و بما یناسبه أسلوباً من أسالیب الحیاة. ثمة نقطة أساسیة ألا و هی الإیمان. یجب أن نرسم هدفاً - الهدف من الحیاة - و نؤمن به. من دون الإیمان لن یکون التقدم فی هذه المجالات ممکناً، و لن تسیر الأمور و الأعمال بصورة صحیحة. و قد یکون الشیء الذی نؤمن به هو اللیبرالیة أو الرأسمالیة أو الشیوعیة أو الفاشیة، و قد یکون التوحید الخالص. ینبغی بالتالی الإیمان و الاعتقاد بشیء، و التقدم سیراً وراء ذلک الإیمان و المعتقد. قضیة الإیمان مهمة. لا بدّ من الإیمان بمبدأ و بمرتکز أساسی للعقیدة. و سوف یصار إلی اختیار أسلوب الحیاة علی أساس هذا الإیمان.
ثمة هنا مغالطة أذکرها لکم أیها الشباب. طرح بعض أشباه الفلاسفة الغربیین عنوان «مکافحة الإیدیولوجیا». ترون أن عنوان «مکافحة الإیدیولوجیا» یطرح أحیاناً فی بعض الدراسات و البحوث التنویریة، فیقولون: سیدی، لا یمکن إدارة المجتمع بالإیدیولوجیا. قال هذا بعض الفلاسفة أو أشباه الفلاسفة الغربیون، و کرّر البعض هنا کلامهم و لا زالوا یکرّرونه بطریقة ببغاویة من دون أن یدرکوا عمق هذا الکلام و أبعاده. ما من شعب ینادی ببناء حضارة بإمکانه السیر و العمل من دون إیدیولوجیا، فهذا ما لم یحصل لحد الآن. ما من شعب یفتقر إلی الفکر و الإیدیولوجیا و المذهب أو المدرسة یستطیع أن یصنع حضارة. هؤلاء الذین تلاحظون الیوم أنهم شیّدوا الحضارة المادیة فی العالم، دخلوا من مدخل الإیدیولوجیا، و قالوا ذلک بصراحة، قالوا إننا شیوعیون، و قالوا إننا رأسمالیون، و قالوا إننا نؤمن بالاقتصاد الرأسمالی، و طرحوا ذلک و اعتقدوا به، و بالطبع فقد بذلوا جهوداً و کانت هناک تکالیف تحمّلوها علی عواتقهم. من دون التوفر علی مدرسة و فکر و إیمان و من دون الجدّ و السعی و الجهد فی سبیل ذلک الفکر و تحمّل تکالیفه و استحقاقاته لا یمکن بناء حضارة.
و بالطبع فإن بعض البلدان مقلدة. یأخذون شیئآً من الغرب و من بناة الحضارة المادیة و یشیدون حیاتهم علی أساسه. نعم، قد یحقق هؤلاء بعض التقدم صوری و سطحی، لکنهم مقلدون، و لیسوا بناة حضارة، بل هو عدیمو الجذور و معرضون للأخطار و الضربات. إذا هبّ إعصار أو طوفان فسوف یقضی علیهم لأنهم بلا جذور. أضف إلی ذلک أن ما یقومون به إنما هو تقلید، و التقلید سوف ینزل بهم الویلات. ینالون بعض منافع الحضارة المادیة الغربیة و لا ینالون الکثیر منها. لکنهم یصابون بجمیع أضرار الغرب.
لا أرید ذکر أسماء البلدان. بعض البلدان یذکر نموهم الاقتصادی کنموذج یحتذی فی کتابات و أقوال طائفة من مثقفینا. نعم، قد یحققوا شیئاً من الصناعة و بعض التقدم فی المجالات المادیة و العلوم و الصناعة، لکنهم أولاً مقلدون یعانون من ذلة التقلید و مهانته التی توصم بها جباههم. بالإضافة إلی ذلک فإنهم یعانون من کل مضرات و آفات الحضارة المادیة الغربیة الراهنة، و لا ینالون غالبیة منافعها. الحضارة المادیة الغربیة الیوم راحت تفصح عن المشکلات التی أوجدتها للبشریة و لأتباعها.
إذن، لا یمکن إیجاد حضارة من دون مدرسة أو إیدیولوجیا. هذه عملیة بحاجة إلی إیمان. هذه الحضارة ستکون ذات علوم و صناعات و تقدم، و هذه المدرسة تهدی کل هذا التقدم و توجّهه و تدیره. الذی یجعل المدرسة التوحیدیة أساساً لأموره و أعماله، و المجتمع الذی یسیر خلف رایة التوحید سوف ینال کل الخیرات المنوطة ببناء الحضارة، و سوف یبنی حضارة کبری عمیقة متجذرة، و سینشر أفکاره و ثقافته فی العالم. هذه هی النقطة الأولی و هی الحاجة إلی الإیمان. جرّ المجتمع نحو اللاإیمان من المؤامرات التی سعها لها أعداء تشیید الحضارة الإسلامیة، و لا زالوا إلی الآن یسعون لها بشدة.
ثمة الیوم فی المناخات الثقافیة أشخاص بأشکال مختلفة و بمظاهر متنوعة یحذروننا من الشعارات الإیمانیة العقیدیة، و یشککون بفترة ذروة الشعارات العقیدیة فی عقد الستینات [الثمانینات من القرن العشرین للمیلاد]، و یتخوّفون الیوم أیضاً من تکرار الشعارات العقیدیة و شعارات الثورة و الإسلام، و یحاولون بث هذا التخوّف فی قلوب الآخرین، فیقولون إن هذه الشعارات مکلفة و تجرّ المتاعب و تسبب الحظر و التهدیدات. بنظرة إیجابیة نقول إن هؤلاء لم یقرأوا التاریخ - و طبعاً ثمة نظرات سلبیة فی هذا الخضم - و لو کانوا قد قرأوا التاریخ و اطلعوا علی ماضی الحضارات و منشئها و مصادرها بما فی ذلک الحضارة المادیة الغربیة التی ترید الیوم فتح العالم بأسره و احتلاله، لما قالوا ما قالوا. ینبغی القول إنهم غیر مطلعین و لم یقرأوا التاریخ.
المجتمع المفتقر للمبادئ و الأهداف و المدرسة و الإیمان قد ینال الثروة و القدرة، و لکن حتی حین ینال الثروة و الاقتدار سیکون حیواناً شبعاناً مقتدراً - و قیمة الإنسان الجائع أکبر من الحیوان الشبعان - لیس هذا ما یریده الإسلام. الإسلام یناصر الإنسان الذی یتمتع بمواهب الحیاة، و یکون فی الوقت نفسه مقتدراً، و کذلک شاکراً و عبداً لله، و یمرّغ جباه العبودیة لله فی التراب. أن یکون الإنسان إنساناً و مقتدراً و عبداً لله.. هذا ما یریده الإسلام. الإسلام یروم صناعة الإنسان، و هو نموذج لصناعة الإنسان.
إذن، ما یحتاجه بناء الحضارة الإسلامیة بالدرجة الأولی هو الإیمان. و هذا الإیمان وجدناه و حققناه نحن المعتقدون بالإسلام. إیماننا هو الإیمان بالإسلام. یمکن أن نجد کل ما نحتاجه فی الأخلاق الإسلامیة و فی آداب الحیاة الإسلامیة. ینبغی أن نجعل هذه الأمور محوراً لبحوثنا و تحقیقاتنا. لقد عملنا الکثیر فی مجال الفقه الإسلامی و الحقوق الإسلامیة، و علینا أن ننجز أعمالاً ضخمة نوعیة فی میدان الأخلاق الإسلامیة و العقل العملی الإسلامی - الحوزات العلمیة تتحمّل مسؤولیات و العلماء یتحملون مسؤولیات و الباحثون تقع علیهم مسؤولیات، و الجامعات تقع علی عاتقها مسؤولیات - و نجعلها أساساً لبرامجنا و خططنا، و ندرجها فی موادنا و برامجنا التعلیمیة. هذا هو ما نحتاج إلیه الیوم و یجب أن نسعی إلیه. هذه هی النقطة و الفکرة الأولی فی باب بناء الحضارة الإسلامیة الحدیثة، و تحقیق هذا الجانب الأساسی من الحضارة، و هو السلوک العملی.
ما من شیء من هذه الأشیاء التی ذکرتها لا تجدونه مناقشاً بصورة خاصة أو تحت عنوان عام فی الإسلام. أنواع السلوک مع الذین تکون للإنسان صلاته و علاقاته بهم، و أنواع السلوکیات و التصرفات التی نقوم بها، و أنواع الأمور التی یواجهها الإنسان فی حیاته الاجتماعیة. هذه کلها موجودة فی الإسلام. ثمة أمور خاصة بالسفر، و خاصة بالذهاب و الإیاب، و بخصوص الرکوب و النزول، و بخصوص الأب و الأم، و بخصوص التعاون، و بخصوص السلوک و التصرف مع الأصدقاء، و بخصوص التصرف مع الأعداء. بخصوص کل الأشیاء ثمة تعالیم فی مصادرنا الإسلامیة إما علی نحو الخصوص أو تحت عناوین کلیة. و بوسع أهل الاستنباط و النظر استخراج ما یحتاجون إلیه منها.
و ثمة هنا نقطة ثانیة هی إننا ینبغی من أجل بناء الحضارة الإسلامیة الحدیثة أن نتجنّب التقلید بشدة.. تقلید الذین یحاولون فرض أسالیب الحیاة و أنماطها علی الشعوب. الحضارة الغربیة فی الوقت الراهن هی المظهر التام و الوحید لمثل هذا التعسّف و الإکراه. لیس الأمر أننا قرّرنا معاداة الغرب و محاربته، إنما هو کلام ناجم عن دراسة و تمحیص، و معاداتنا و کفاحنا ضد الغرب لیس ممارسات عاطفیة. البعض بمجرد أن یُذکر الغرب و الحضارة الغربیة و أسالیب الغرب و مؤامراته و عداؤه یحملون الأمر علی معاداة الغرب، و یقولون إنکم تعادون الغرب. لا، لیس لنا عداء مع الغرب - لدینا عداء معه طبعاً - لکننا غیر مغرضین. هذا کلام تسنده الدراسات و البحوث.
تقليد الغرب لم يجلب علی البلدان التی قلدته و سمحت لنفسها بذلک سوی الضرر و الفجائع. و هذا ینطبق حتی علی البلدان التی حققت فی الظاهر شیئاً من الصناعة و الاختراعات و الثروة، لکنها قلدت الغرب. و السبب هو أن الثقافة الغربیة ثقافة هجومیة. الثقافة الغربیة ثقافة تقضی علی الثقافات الأخری. أین ما دخل الغربیون قضوا علی الثقافات المحلیة و الأسس الاجتماعیة إلی درجة استطاعوا معها تغییر تاریخ الشعوب و لغاتهم و خطوطها. أین ما دخل البریطانیون بدلوا لغة الأهالی المحلیین إلی اللغة الإنجلیزیة، و قضوا علی اللغة المنافسة إن کانت هناک لغة منافسة. کانت اللغة الفارسیة هی اللغة الرسمیة فی شبه القارة الهندیة لعدة قرون. کل الکتابات و الرسائل بین المؤسسات و الأجهزة الحکومیة و لغة الدولة و الناس و العلماء و المدارس المهمة و الشخصیات البارزة کانت باللغة الفارسیة. و جاء البریطانیون فمنعوا اللغة الفارسیة فی الهند عنوة، و أشاعوا اللغة الإنجلیزیة. و صارت اللغة الفارسیة الیوم غریبة فی شبه القارة الهندیة التی کانت ذات یوم من أقطاب اللغة الفارسیة. بینما اللغة الإنجلیزیة هی لغة الدواوین و المراسلات الحکومیة، و معظم نخبهم یتحدثون الإنجلیزیة - یجب أن یتحدثوا الإنجلیزیة - و هذا ما فرضوه بالقوة. و هو ما حدث فی کل البلدان التی تواجد فیها الإنجلیز خلال الحقبة الاستعماریة. فرضوا اللغة الإنجلیزیة. و نحن لم نفرض اللغة الفارسیة علی أی مکان. اللغة الفارسیة التی کانت شائعة فی الهند احتضنها الهنود أنفسهم، و کانت الشخصیات الهندیة تکتب الشعر باللغة الفارسیة. فی القرنین السابع و الثامن للهجرة حتی الأزمنة الأخیرة التی شهدت مجئ البریطانیین، کان هناک الکثیر من الشعراء فی الهند ینظمون بالفارسیة، مثل أمیر خسرو دهلوی، و بیدل دهلوی - و هو من أهالی دلهی - و کثیر من الشعراء الآخرین. إقبال اللاهوری من أهالی لاهور لکن أشعاره الفارسیة أشهر من أشعاره بأیة لغة أخری. إننا لم نروّج للغة الفارسیة کما روّج البریطانیون للغة الإنجلیزیة. إنما شاعت اللغة الفارسیة هناک برغبة الناس أنفسهم و بتردد الشعراء و العرفاء و العلماء. لکن البریطانیین أجبروا الناس علی عدم التحدث بالفارسیة، و قرروا عقوبات للتحدث و الکتابة بالفارسیة.
و الفرنسيون أیضاً فرضوا اللغة الفرنسیة بالإجبار فی البلدان التی استعمروها. ذات مرة التقی بی رئیس أحد بلدان شمال أفریقیا - الذی تسلط علیه الفرنسیون لسنین طویلة - عندما کنتُ رئیساً للجمهوریة. کان یتحدث بالعربیة، ثم أراد ذکر جملة معینة فلم یتذکر المفردة العربیة اللازمة و لم یکن یعرفها. فقال له معاونه أو وزیره بالفرنسیة کیف یمکن التعبیر بالعربیة. فقال: نعم، هذا هو معنی هذه الجملة بالعربیة. أی إن شخصاً عربیاً لم یکن بوسعه التعبیر عن قصده بالعربیة، و اضطر للسؤال من صاحبه بالفرنسیة لیجیبه أن شکل هذه العبارة بالعربیة هو هذا ! إلی هذه الدرجة ابتعد هؤلاء عن لغتهم الأصلیة. لقد فرضوا هذا الشیء علیهم لسنین طویلة. و کذا الحال بالنسبة للبرتغالیین، و الهولندیین، و الأسبان. فرضوا لغتهم أین ما ذهبوا. و هذه هی الثقافة الهجومیة. و إذن، فالثقافة الغربیة ثقافة مهاجمة.
لقد هدم الغربیون أسس الثقافات و العقائد أین ما استطاعوا. فی مثل بلادنا حیث لم یکن هناک استعمار مباشر، و لم یستطع البریطانیون بفضل جهاد البعض أن یدخلوا بشکل مباشر، وضعوا بعض الحکام العملاء لهم. لو لم تواجه معاهدة 1299 أی معاهدة 1919 للمیلاد المعروفة بمعاهدة وثوق الدولة فی إیران مقاومة أمثال المرحوم حسن مدرس و بعض أنصار الحریة الآخرین، و لو تمّ تطبیق هذه المعاهدة، لکان استعمار إیران أمراً حتمیاً کما کان الحال فی الهند، لکن رجالاً لم یسمحوا بذلک. لکنهم استعانوا بعملائهم و نصبوا رضا خان بهلوی و عززوه و أمدوا المثقفین التابعین للغرب إلی جانبه - و هنا أیضاً لیس من الضروری أن أذکر الأسماء و لا أحب أن أذکرها - لیفرضوا ثقافتهم علینا. بعض الوزراء و النخب السیاسیة فی الجهاز البهلوی ذوی الطابع الثقافی کانوا عملاء للغرب بغیة تغییر ثقافة بلادنا، و فعلوا کل ما استطاعوا. و من الأمثلة علی ذلک حملة کشف الحجاب، و من الأمثلة أیضاً الضغوط التی مارسوها علی رجال الدین و إبعادهم عن شؤون البلاد، و الکثیر من الأمثلة الأخری التی مورست فی زمن رضان خان بهلوی. الثقافة الغربیة ثقافة مهاجمة تسحق الهویات و تقضی علیها أین ما دخلت. الثقافة الغربیة تجعل الأذهان و الأفکار مادیة و تربّیها تربیة مادیة فیکون هدف الحیاة هو المال و الثروة، و تزول المبادئ العلیا و الأهداف المعنویة و الروحیة السامیة من الأذهان. هذه هی سمة الثقافة الغربیة.
من خصوصيات الثقافة الغربیة تطبیع المعاصی و الذنوب. یحاولون جعل المعاصی الجنسیة أمراً طبیعیاً. لقد بلغت هذه الحال فی الغرب نفسه حالیاً حد الفضیحة. فی بریطانیا أولاً، ثم فی بعض البلدان الأخری، و من ثم فی أمریکا. تحوّلت معصیة المثلیة الجنسیة الکبیرة إلی قیمة! یعترضون علی السیاسی الفلانی لأنه یخالف المثلیة الجنسیة، أو یخالف المثلیین! لاحظوا إلی أین یصل الانحطاط الأخلاقی. هذه هی الثقافة الغربیة. کذلک انهیار العائلة، و انتشار المشروبات الکحولیة، و انتشار المخدرات.
قبل سنين - في عقدی الثلاثینات و الأربعینات [الخمسینات و الستینات من القرن العشرین للمیلاد] التقیت فی منطقة جنوب خراسان بشخصیات کبیرة و أصحاب فکر و شیوخ کانوا یتذکرون کیف أن البریطانیین أشاعوا الأفیون بین الناس بأسالیب خاصة، و إلا فإن الناس لم یکونوا یعرفون تعاطی الأفیون، و لم تکن مثل هذه الأمور موجودة. کان أولئک الأفراد یتذکرون و یذکرون الأمور بتفاصیلها و خصوصیاتها. بهذه الأسالیب انتشرت المخدرات تدریجیاً داخل البلاد. هکذا هی الثقافة الغربیة.
لیست الثقافة الغربیة مجرد الطائرات و وسائل الراحة فی الحیاة و السرعة و السهولة. هذه ظواهر الثقافة الغربیة و هی لیست بالأمور الحاسمة المهمة. باطن الثقافة الغربیة عبارة عن نمط الحیاة المادی الشهوانی المشوب المعاصی و الذنوب و الساحق للهویات و المعادی للمعنویة. شرط تحقیق الحضارة الإسلامیة الحدیثة بالدرجة الأولی هو اجتناب تقلید الغرب. و للأسف فقد تعوّدنا طوال الأعوام المتمادیة علی تقلید بعض الأمور.
إننی لست من مؤیّدی إطلاق حرکة جماعیة عامة فجائیة بخصوص الأزیاء و السکن و سائر الأمور، لا، هذه أمور ینبغی أن تحصل علی نحو تدریجی، و هی لیست بالأمور القهریة الرسمیة إنما تحتاج إلی بناء ثقافة. و بناء الثقافة کما ذکرت هو من مهمة النخبة و صنّاع الثقافة. و علیکم أیها الشباب أن تعدّوا أنفسکم لهذا. هذه هی الرسالة الأصلیة.
إننا نروّج للعلم، و نروّج للصناعة، و نشجع الاختراعات و الإبداع، و نضع أی مبتکر و أی ابتکار علی أعیننا و علی رؤوسنا بکل احترام - هذه أمور محفوظة فی محلها - و لکن کما ذکرنا فإن أساس القضیة شیء آخر. أساس القضیة صناعة نمط الحیاة و السلوک الاجتماعی و الأخلاق العامة و ثقافة الحیاة. علینا التقدم و السعی فی هذا الجانب. الحضارة الإسلامیة الحدیثة التی ندّعیها و نتابعها و ترید الثورة الإسلامیة أن توجدها و تشیّدها لا تتحقق من دون هذا الجانب. إذا تکوّنت هذه الحضارة فإن شعب إیران سیکون فی ذروة العزة، و سیحقق تبعاً لذلک الثروة، و الرفاه، و الأمن، و العزة الدولیة. سوف یتحقق کل شیء تبعاً لذلک و إلی جانب المعنویات.
من النقاط التی ینبغی التنبّه لها تماماً عند تعاملنا مع الغرب هو عنصر الفن و الأدوات الفنیة التی یمتلکها الغربیون. لقد استخدموا الفن إلی أقصی الدرجات من أجل إشاعة ثقافتهم الخاطئة المنحطة الهدامة للهویات، و استخدموا علی وجه الخصوص الفنون الاستعراضیة و خصوصاً السینما إلی أقصی الدرجات. إنهم یدرسون شعباً من الشعوب کمشروع و یشخصون نقاط ضعفه، و یستعینون بعلماء النفس و الاجتماع و المؤرخین و الفنانین و ما إلی ذلک لیجدوا سبل السیطرة علی ذلک الشعب، ثم یطلبون من المخرجین و المؤسسات الفنیة فی هولیوود أن ینتجوا الأفلام، فینتجوها. الکثیر من الأفلام التی ینتجونها لنا و لبلدان مثل بلدنا هی من هذا القبیل. إننی غیر مطلع علی الأفلام داخل أمریکا، لکن ما ینتجونه لسائر الشعوب فیه طابع هجومی. ورد فی الأخبار قبل سنوات أن بعض البلدان الأوربیة الکبری قرّرت مواجهة الأفلام الأمریکیة. أولئک لیسوا مسلمین و مع ذلک شعروا بالخطر و الهجوم علیهم. و هذه الحالة أشد بالنسبة للبلدان الإسلامیة و خصوصاً بلدنا الثوری. ینظرون و یدرسون و یفحصون الخصوصیات و السمات و الوضع و ینتجون الأفلام علی أساس ذلک و ینظمون الأخبار علی أساس ذلک، و یمارسون عملهم الإعلامی علی أساس ذلک و یبثونه فی الفضاء. ینبغی التنبّه لهذه المسألة. یصنعون الأذواق و الثقافات و بعد أن یغیّروا الأذواق و السلائق یعطون الدولارات إن کانت هناک حاجة لذلک، و یرسلون القوات العسکریة و الجنرالات إذا اقتضی الأمر. هذا هو أسلوب عمل الغربیین. یجب الحذر.. الکل یجب أن یشعروا أن مسؤولیة بناء الحضارة الإسلامیة الحدیثة تقع علی عاتقهم، و من حدود هذه العملیة و ثغورها مواجهة الحضارة الغربیة، بحیث لا یجری تقلیدها.
في الختام أضیف نقطة هی أن کلامنا الیوم بدایة نقاش و بحوث طویلة، و سوف نتحدث فی هذا الخصوص فی المستقبل أیضاً. نتوقع من أصحاب الفکر و الرأی فی المراکز المؤهلة و الصالحة لهذه البحوث أن یعملوا فی هذه المیادین و المجالات و یفکروا و یدرسوا لنستطیع أن نتقدم إلی الأمام. و ینبغی الحذر من أن نصاب بالتسطیح و النزعة الظاهریة و التحجّر - هذا جانب من القضیة - و نحذر کذلک من الوقوع فی العلمانیة الخفیة. الإعلام أحیاناً إعلام دینی فی ظاهره و الکلام کلام دینی و الشعارات دینیة لکنها فی باطنها علمانیة.. فصل الدین عن الحیاة.. و ما یجری علی الألسن لا دور له فی التخطیطات و العمل.. ندّعی و نتکلم و نرفع الشعارات، و لکن حین یحین الدور للعمل لا تجد أثراً لما رفعناه من شعارات.
الثورة الإسلامیة قدیرة. القدرة و الإمکانیة و الطاقة المتراکمة الموجودة فی الثورة الإسلامیة لها القابلیة علی رفع کل هذه العقبات التی ذکرتها، و لم أذکر الکثیر منها، عن الطریق، و وضع الحضارة الإسلامیة الممتازة البارزة المتسامیة العظیمة أمام أنظار کل العالم، و هذا ما سیحصل فی زمانکم، و علی أیدیکم إن شاء الله، و بفضل هممکم. أعدّوا أنفسکم ما استطعتم من حیث العلم و العمل و تزکیة الروح و تقویتها و تقویة الجسم کما ذکرت مراراً، و سوف تستطیعون إن شاء الله حمل هذه الأعباء الثقیلة.
و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.‌

الهوامش:
1 - سورة المائدة، الآیة 2 .
2 - سورة آل عمران، الآیة 103 .
3 - م س .