بسم الله الرحمن الرحيم
أيّها الاُخوة و الأخوات الأعزاء الذين سخّرتم أنفسكم لخدمة آمال و تطلعات النصف من شعبان، اقدّم لكم إبتداءً التهاني و التبريكات بمناسبة أيام شعبان المباركة و ذروة الأعياد الشعبانية ألا و هو النصف من شعبان. و هذه المصادفة تسترعي الانتباه حيث تقترن هذه الأيّام مع النصف من شعبان الذي كانت فيه ولادة الإمام الحجّة المنتظر المهدي (سلام الله عليه و عجّل الله تعالى له الفرج)؛ و ذلك لأن السمة البارزة في النصف من شعبان و الاحتفاء بولادة الإمام بقية الله (أرواحنا فداه) هي الأمل و العدالة. هناك أمران بارزان في قضية الانتظار و في احتفالنا بمناسبة النصف من شعبان، أحدهما مسألة بعث الأمل حيث أنّ بشرى هذه الولادة، و الأمل الذي ينتظره عالم البشرية على أثر هذه الولادة، يُعدُّ بحد ذاته مبعثاً للأمل؛ و الآخر هو أن أبرز المعالم في ذلك العالم الذي ستتبلور ملامحه من بعد ظهوره (علیه السلام)، هو مَعْلَم العدالة. فحينما نلقي نظرة على جميع الروايات و المعطيات التي تتحدث عنه و عن زمان ظهوره، نلاحظ ان التركيز فيها لا ينصبّ على أن أهل ذلك الزمان يكونون متديّنين ـ مع انّهم يكونون متديّنين أيضاً ـ و انّما ينصبّ التركيز فيها على أن الناس في ذلك الزمان ينعمون بالعدالة و يُقام العدل و القسط فيهم. و هذا المعنى مشهود في أدعيته و زياراته (عجّل الله فرجه). أي أن العلامة البارزة في ذلك المستقبل الحافل بالأمل هي العدالة؛ فالبشر متلهّف للعدالة و توّاق إليها.
أنتم ـ أيّها الحضور الكرام ـ أعضاء في حكومةٍ جعلت هذين المَعْلَمين بين شعاراتكم و برامج عملكم؛ فأنتم تبعثون البشرى و الأمل في نفوس الناس، و كذلك تعِدون بالعدالة. ذلك الأمل منطلقه أنّكم رفعتم لواء العدالة و تنادون بالعدالة. و الحقيقة هي أن الفراغ الذي تعاني منه البشرية اليوم أكثر من أي شيء آخر هو فراغ العدالة. و في بلدنا و في مجتمعنا أكثر ما يُتلهّف إليه هو العدالة. إذ إنّنا عندما ننظر إلى مشاكل الناس، و متطلّباتهم، و تطلّعاتهم و انتظاراتهم، و ما نحمله لهم في أذهاننا من آمال عريضة، نجد أنّها كلّها تقريباً تعود إلى قضية تطبيق العدالة؛ فلو طُبّقت العدالة لانحلّت جميع هذه الأشياء. لقد ناديتم بالعدالة، و هذا طبعاً يستحق الثناء. من المحتمل طبعاً أنّكم تسيرون خطوات على هذا المسار الطويل و الملئ بالمخاطر و المصاعب، و ربّما أن أعمارنا أو فرص الخدمة لا تسعفنا لبلوغ نهاية الطريق، غير أنّ هذه الخطوة التي تخطونها و الاتجاه الذي سلكتموه، ذو قيمة عالیة و فيه احياء لهذا الشعار. و في ضوء ما سبق ذكره، فإنّ ما حصل في هذا العالم من اقتران اسبوع الحكومة مع ذكرى النصف من شعبان، اقتران يبعث على الارتياح، و يجعل الكثير من المعاني تتداعى إلى الأذهان.
لقد كان الشهيد رجائي و الشهيد باهنر حقيقة ممّن يُعتبرون اليوم بالنسبة لنا رمزاً لهذه المفاهيم السامية و النبيلة؛ أي أن ما كان يدفعهما إلى العمل و الحركة حقاً ـ و هو ما كُنا نراه عن كثب هو عشقهما للعدالة و عشقهما لقيم الثورة و مبادئها. و إنّه لحريّ بكم أن تُجلّوا و تكرموا اسبوع الحكومة تخليداً لذكراهما، و تسيروا على نهجهما. نسأل الله أن يكرم مثواهما.
منذ أن أخذتم زمام المسؤولية بأيديكم، هذه هي المرّة الثالثة التي ألتقيكم فيها بمناسبة اسبوع الحكومة؛ بمعنى أن اسبوع الحكومة قد مرّ ثلاث مرّات. لاحظوا هذا المرور السريع للأعمار و كم هو أمر مذهل! لقد كان و كأنّه بالأمس حين جاءت هذه الحكومة للمرّة الاولى بمناسبة اسبوع الحكومة و كان لنا مثل هذا اللقاء. و حينها أيضاً عرضت على أسماعكم أن فرص الخدمة تمرّ بسرعة. انظروا كيف تمرّ فرصة الخدمة بسرعة! و لنا في هذا درس و عبرة؛ إذ لا ينبغي الغفلة عن أيّة لحظة و لا ينبغي التفريط بأيّة فرصة. أنتم و الحمد لله معظمكم شبّان و فيكم نشاط الشباب و قوّته. استثمروا هذه الفرصة بأقصى ما يمكن فالطاقة الشبابية، و الدافع الشبابي، و روح الابداع و روح الجرأة و التطلّع إلى المعالي الموجودة لدى الشبّان، سخّروها لخدمة هذه الأهداف النبيلة، و لا تستكينوا للتعب و الملل.
أنتم مشغولون بالعمل و خدمة الشعب منذ سنتين تقريباً. و الذي فهمته من عمل الحكومة على مدى هاتين السنتين هو ما سأعرضه في ما يلي، و أتصوّر أنّ المراقبين المنصفين ـ و هم الغالبية القريبة من الاجماع من أبناء الشعب الايراني ـ لديهم هذا الفهم و التلقّي نفسه:
أوّلاً: إن قضية التمسّك بالمبادئ و القيم تُعدُّ مؤشراً في غاية الأهمية. و هذه الحكومة تثبت بالقول و بالشعار ـ و هو جانب مهم طبعاً ـ و بالعمل انّها متمسّكة بمبادئ الثورة و بقيم الثورة. لاحظوا إنّنا إذا نظرنا إلى جميع الثورات الكبرى في العالم ـ و هي التحولات السياسية الهائلة التي وقعت في العالم في القرنين التاسع عشر و العشرين للميلاد ـ و قبل ذلك الثورة الفرنسية ـ نجد أن هذه الثورات تخلّت بعد مدّة وجيزة عن اصولها و مبادئها و تنكّرت لها! و هذا من غير أي تحليل ـ منبثق و مستقىً من بين ثنايا التاريخ. لقد كانوا في بعض الأحيان يتفوّهون بتلك المبادئ؛ بيد أن الجميع كانوا يعلمون أن تلك المفاهيم قد تغيّرت؛ سواء في فرنسا، أم في الثورة السوفيتية. لقد حصل ذلك خلال مدّة قصيرة و تغيّرت تلك المبادئ و تبدّلت كليّاً في القول و العمل.
و أمّا الثورات الاخرى الأصغر التي وقعت في هذه المدّة في بقاع اخرى من العالم فإنَّ مبادئها كلّها قد مُسخت مِن غير استثناء ـ على حدِّ علمي - و لا أكاد أجد من بينها و لا حالة استثنائية واحدة.
إنّ التمسّك بالاصول و المبادئ يمثّل بالنسبة إلى ثورتنا حالة اعجازية فريدة من نوعها. فنحن اليوم لازلنا نتبنّى و نعمل بذات الاصول و المبادئ التي أُعلنت في أوّل الثورة؛ في خططنا و في طموحاتنا لم يحصل أي تخطٍ لهذه الاصول. و هذا شيء مهم جداً. إنَّ الأساليب تتغيّر، و لكن المبادئ و الاصول تبقى ثابتة. و هذه الاصول الأساسية باقية. إنَّ كلّ العداء و الخِصام الذي تواجه به ثورتنا، إنّما هو بسبب بقاء هذه الاصول. لعل اصول الثورات و مبادئها يتراكم عليها الغبار بتقادم الزمن و على مرّ الأدوار المختلفة، و لكن المرء يلاحظ اليوم في ثورتنا أن هذه الاصول تتجلّى بشكل أبرز و أكثر حيوية و فاعلية و شفافية من أي و قت مضى؛ و هي تُطرح على ألسنتكم و في شعاراتكم و في ما تعلنونه من خطط و برامج. و بما انّكم مسؤولون، فإنّ ما تقولونه لا يبقى مجرّد كلام، و انّما يترك خَطّاً و أثراً عميقاً في المجتمع؛ و هذه هي طبيعة المسؤولية. و هنا أقول كلمة اعتراضية بين قوسين، و هذا هو السبب الذي يجعل درجة المسؤولية في كلامكم درجة عالية، و لا يكون كلامكم سريع الزوال كالنقش على الماء، بل إن كلامكم له تأثيره الدائم في واقع الحياة و في أذهان أبناء المجتمع سواء كان ذلك الكلام قليلاً أم كثيراً. إذن، فشعاراتكم تجعل الأجواء المبدئية و أجواء القيم الثورية و أجواء الوفاء لمبادئ الإمام و الثورة سائدة في المجتمع. و هذا شيء ذو قيمة عليا. و هذه أوّل و أهم معالم حكومتكم.
ثانياً، هذا التمسّك بالعدالة الذي ذكرته لكم. فأنتم ربّما لم تتمكنوا ـ أو لن تتمكنوا حتّى النهاية ـ من انجاز كلّ ما ينبغي انجازه بشأن العدالة، غير أن توجهكم نحو العدالة بحد ذاته يُعتبر شيئاً ذا قيمة عليا، و ينبغي عليكم السير إلى أقصى مدىً ممكن؛ إذ كما قال القائل:
إن هِمتُ هيـماً في البوادي أفضل لي من جلسة الكساد
كفــى إنْ لم أنــل مـــرادي سعيي بمقدار ما يكفي زادي
لا يجدر بالإنسان أن لا يتحدّث عن العدالة أساساً، أو أن يتناساها و يخفيها و يواريها بين ثنايا المفاهيم الاخرى و يبعدها عن فكره و عن عينيه. فهذا لا يجوز طبعاً. فحين تبرز العدالة و تكون موضع اهتمام باعتبارها مؤشراً و معياراً، فمن الطبيعي أن تدخل في خضم الخطط و البرامج. ثم يكون المؤشر التالي هو العمل و الالتزام بها.
الرغبة في خدمة الشعب أحد معالم هذه الحكومة، و هو ممّا يستحقّ الثناء و التقدير.
و للانصاف أقول إن مثابرة هذه الحكومة و عملها الدؤوب شيء بارز للعيان؛ و هو ما لا يستطيع انكاره حتّى اولئك البعض الذين اتخذوا مواقف معارضة؛ أي أن التجنّي و إن كثر فهو غير قادر على أن يغطي على حقيقة أنّ حكومتكم حكومة مثابرة و دؤوبة حقّاً و عملكم و تحرّككم كثير جداً. و هذا يدعو إلى الكثير من السعادة و الارتياح.
الصفة الاخرى التي أود التحدّث عنها هنا هي شجاعة هذه الحكومة و حزمها. إنَّ العمل الكبير الذي قمتم به في تقنين حصّة البانزين ما هو إلا خطوة اولى على طريق ترشيد و تنظيم الدعم الحكومي إلى أن يبلغ غايته، و لكنني ألاحظ هنا و هناك أن بعض أعضاء الحكومة أنفسهم لا يدركون مدى أهمية هذا العمل؛ فإنَّ ما أُنجز كان عملاً ضخماً و قد اشيرُ لاحقاً - إذا تذكرت إن شاء الله - إلى أن هذا العمل ينبغي أن يتواصل إلى نهاية الطريق و لا يفترض أن يتوقف أو يتعرقل ـ كما و توجد أيضاً اجراءات أُخرى تنم عن شجاعة هذه الحكومة و حزمها.
و من الخصائص التي دوّنتها لكي اتكلّم حولها هنا هي قضية التطوير و التجديد و الاصلاح. و مثلما قدّم السيّد رئيس الجمهورية في تقريره الآن أن تغييرات ستجري في مجمل البنية العامّة للمؤسسة الحكومية. و هذه أعمال أساسية و جذرية بمعنى الكلمة. و الاصلاح في واقع الحال معناه أن يتفحّص المرء مختلف القطاعات بنظرة المتطلع نحو الصلاح و يجري تغييرات أساسية في البُنى و المكوّنات.
و هناك أيضاً خاصية أُخرى جديرة بأن تُذكر و هي أن هذه الحكومة لم تقع في مواقف انفعالية في مقابل تمادي الاستكبار؛ و هذا في رأيي شيء على درجة عالية من الأهمية، و هو أن يكون الإنسان على معرفة بظروفه و مكانته عند التعامل مع العالَم، و أنْ يكون على معرفة بمطاليبه، و بما لديه من قدرات و طاقات، و يكون على معرفة بالذي ينبغي أن يفعله. العالم اليوم ليس ساحة هادئة و خالية من العناء و من المنافسين بحيث يقول الإنسان: حسناً، نحن أيضاً لدينا مصالحنا و نحن نسعى وراء مصالحنا رويداً رويداً! كلا طبعاً، فإن العالم ليس على هذه الشاكلة. و هكذا كان حاله على الدوام؛ و لكن هذا الواقع قد تفاقم اليوم من خلال اتصالات التقارب بين أفراد البشر. هذا العالم مكان تعارض المصالح، و موضع عراقيل و تعرّض الأقوياء لمن يفتقرون إلى القوّة أو قليلي القوّة؛ أو لنقل بالمعنى الواقعي إن الجو السياسي في عالم اليوم يسوده قانون الغاب. فهذه الأعمال التي تقوم بها الدول المستكبرة اليوم و على رأسها امريكا، ليس وراءها منطق عقلائي و عقلاني و سياسي و قبول دولي؛ و انّما وراءها منطق القوّة. و في مثل هذا العالم إذا استسلم الإنسان و أبدى ضعفاً و تراخياً و لم يثبت على مواقفه و لم يستثمر قواه في المواجهة و المجابهة فسيلحق به ضرر فادح قطعاً. في مثل هذا العالم لا يرأف أحد بأحدٍ! و هذا الصمود بوجه تمادي الاستكبار، و استشعار الكرامة في هذا المجال، تُعتبر في رأيي من خصائص هذه الحكومة. و هذه هي الخصائص التي تتّصف بها هذه الحكومة بحمد الله.
و أمّا قضية تقديم الخدمات إلى المحرومين من أبناء المجتمع و ايجاد العدالة، و كذلك الجولات التفقدية في المحافظات، فتُعدُّ من الامور ذات الأهمية البالغة. هذه الأعباء التي تكفلتم بها أنتم أيّها السادة و انطلقتم و سرتم و تجولتم في كلّ أرجاء البلاد و التقيتم بأبناء الشعب و لمستم عن كثب معاناة الناس ـ التي يُعَبّر عنها على ألسنة مسؤوليهم و خطباء الجمعة الذين يعيشون بينهم و وجهائهم ـ و هذه في رأيي أعمال جيّدة. و أنا شخصياً كنت على مدى سنوات طويلة في خضم الشؤون التنفيذية و غير التنفيذية لهذا البلد؛ و لكنّني حينما أسافر إلى منطقة من مناطق البلاد ثمّ أعود، أجد أن معلوماتي حول تلك المنطقة التي سافرت إليها أصبحت أضعاف المعلومات التي يطلع عليها الإنسان بشكل إجمالي على الورق و في التقارير. فإنّ الجولات التفقدية و رؤية واقع حياة الناس وجهاً لوجه، شيء في غاية الأهمية. فكيف لأحد أن ينكر أهمية هذا العمل أو يثير الشكوك حول مدى جدواه أو يقلل من شأنه؟ إنّ هذا العمل مهم جدّاً. و هذا العمل هو ما تقومون به اليوم. و هو بطبيعة الحال فيه مشقّة، و لكنّكم وطّنتم أنفسكم لتحمّل هذه المشقّة.
لقد كانت لكم هذه النجاحات و الحمد لله. و لكن ما هو واجبكم ازاء هذه النجاحات؟ واجبكم ازاءها هو الشكر؛ الشكر لله. إيّاكم و أنْ يظنّ أحد منكم ـ سواء كان رئيس الجمهورية، أم أي واحد منكم أنتم أيّها السادة ـ انّه هو الذي أنجز ما أُنجز. كلا، فإنّ الله تبارك و تعالى هو الذي وفّقكم لهذا. فكلّ عمل عملتموه كان بتوفيق من الله، بالقوّة التي اعطاكموها الله، و بالاندفاع الذي غرسه الله في قلوبكم، و بالفرصة التي أتاحها الله لكم لخدمة الناس. حذار أن يأخذنا الغرور؛ إذ أن الغرور واحد من أكبر المنزلقات؛ و هو أن يقول الإنسان انني أنا الذي انجزت هذه الأعمال، و أنا الذي كانت هذه الامور قد قدحت في ذهني. الإنسان عندما ينظر إلى أعماله، و إلى تجربته، و إلى ما وقع فيه من أخطاء و هفوات على مرّ الزمن، و يتنبّه إلى ما بدر منه من سهو و نظرة سطحية، يدرك حينذاك انّه عندما حصل نجاح، من اين كان ذلك النجاح، و إلا فلو كنّا نحن أنفسنا لما كان منّا سوى الأخطاء و الاخفاقات و ما شابه ذلك! إن الإنسان بطبيعة الحال لا يلتفت إلى أخطائه و هفواته بسرعة، و انّما يلتفت إليها على مرّ الزمان، فأنا اليوم حين أنظر إلى أعمالي على مدى العشر سنوات و الخمس عشرة سنة الماضية، الاحظ فيها مآخذ لم أكن قد تنبّهت إليها في حينها؛ بينما أنا أفهمها اليوم. فالإنسان لا يدرك أخطاءه مبكّراً؛ و إنّما يستوعبها على مرّ الزمان. و هذه الأخطاء لنا فيها درس؛ و هو أنّنا إذا كان منّا نجاح في مكانٍ ما و صدر منّا عمل جيّد و صحيح، فإنّه لم يكن إلا بتوفيق و تسديد من الله. و بناءً على ذلك أدعوكم إلى عدم الوقوع في هاوية الغرور لأن الخروج منها صعب و يتطلّب عوناً من الله. و بالمناسبة عليكم عدم الاكتفاء بما تحقّق. و لديَّ أيضاً توضيحات أُخرى ألقيها على أسماعكم و هي:
التوصية الاولى هي میثاق الأفق العشريني. فقد جاءت في التقرير الذي قدّمه رئيس الجمهورية جملة قصيرة و تمت الإشارة لمیثاق الأفق العشریني، غير أن هذا لا يكفي. فمیثاق الأفق قضية ذات آفاق أبعد من مدى هذه الحكومة و تلك الحكومة أو هذه السياسة و تلك السياسة، أو هذا التّيار و ذاك؛ و انّما هي حصيلة عمل مضغوط و مكثّف؛ و هي عبارة عن عمل أُنجز عن خبرة؛ و هذا صحيح طبعاً. إنَّ هذا المیثاق یمثل في الواقع تخطيطنا الشامل على مدى عشرين سنة، و هي بمثابة وثيقة مستقبلية بالمعنى الحقيقي للكلمة. إذ أن ما دُوِّن في هذا المیثاق لم يدوّن من باب المجاملة. إذ إنّ ما ينبغي فعله في جميع أنواع الخُطط ـ سواء في التشريع الذي يتولّى مهمّته المشرّعون، أو في التنفيذ و في المقررات و السياقات التنفيذية التي تتولون مسؤوليتها أنتم ـ هو أنّكم يجب أن تدرسوا میثاق الأفق العشريني و تمحّصوه و تدققوا فيه و تلاحظوا ما الذي لا يتلاءم مع هذا المیثاق، لتصححوه و لا تتركوه يسير في اتجاه منحرف، و هذا ليس من مسؤولية رئيس الجمهورية وحده ـ و إن كان رئيس الجمهورية هو الأكثر مسؤولية في هذا المجال ـ و انّما تقع مسؤولية ذلك على عاتق كلّ واحد منكم أنتم السادة الذين على رأس الأجهزة التنفيذية. أي عليكم أن تجعلوا میثاق الأفق العشریني ميثاقاً و مرتكزاً لعملكم. و هذه ملاحظة و توصية مؤكّدة منّي.
التوصية الثانية هي تطوير العمل بخبرة. انّني لا أأخذ على محمل الجدّ ما يثيره المعارضون لكم و منتقدوكم من ذوي الانصاف أو غير المنصفين و يقولون إن اعمال الحكومة لا تأتي عن دراسة و خبرة، و أنا لا أجعل من أقوالهم معياراً لاصدار أحكامي؛ لأنّني أرى هنا و هناك أعمالاً تأتي عن خبرة و دراسة و تجري بشكل جيّد؛ و لكنّني أودّ التأكيد على أنّكم ينبغي أن تتعاطوا بجد مع قضية العمل المدروس؛ و خاصّة في الأعمال الأساسية و البنيوية، مثل قضیة التخطيط، و اعداد الميزانية، أو قضية اللجان المتخصصة و ما شابه ذلك. فهذه أعمال بنيوية و باقية، أي يفترض أن تبقى. إذا جاء العمل عن دراسة و خبرة عميقة و دقيقة و شاملة و مستفيضة فإنّ هذا العمل سيبقى؛ و إلا فإنّه إذا كان الجانب الذي يتطلب الخبرة و الدراسة فيه مخدوشاً، فإن أتعابكم ستذهب أدراج الرياح. أوّلاً أنتم أنفسكم ربّما ستتنبّهون في المستقبل إلى الأخطاء التي تقع، و لكن بعض الأخطاء الاخرى لا سبيل الى التعويض عنها؛ و الأمر الآخر هو أن الذين يأتون بعدكم ـ فأنتم لا تقومون بهذه الأعمال لهذه الدورة من حكومتكم فقط، بل ترومون بقاء هذه الأعمال في الهيكل التنظيمي لجهاز الدولة ـ لن ينظروا إلى أعمالكم نظرة جادّة؛ هذا على العكس ممّا لو كان العمل قد جاء عن دراسة و خبرة دقيقة. و بالنتيجة أي خطأ يحصل في حسابات الاسس و المرتكزات تنتج عنه مخاطر كبرى. إن الأساس الذي يقوم عليه البناء يختلف عن الجدران التي تُبنى كفواصل بين الغُرف. فالحسابات هناك ينبغي أن تأتي في غاية الدقّة و عن خبرة و دراسة لكي يدوم البناء و لا تحصل فيه مشكلة. و هذه أيضاً قضيّة أُخرى تُضاف إلى ما سبق ذكره.
طبعاً في قضية العمل الخبروي، تُطرح على بساط البحث مسألة التعاطي مع ذوي الاختصاص ـ و هذا ما كنت قد عرضته على أسماعكم مراراً، و كذلك تكلّمت فيه مع السيّد رئيس الجمهورية؛ أي استفيدوا من ذوي الاخصاص. أصحاب الاختصاصات في هذا البلد كثيرون و لا ينحصر وجودهم في الوسط و في الأوساط المرتبطة بهذا الوسط. و للحق و الانصاف أقول إن ذوي الاختصاصات في البلد غير قليلين؛ فهم موجودون في الجامعات، و موجودون في أوساط العمل و البحث العلمي. أحياناً عندما يلتقي الإنسان بذوي الاختصاص يدرك أنّهم بأجمعهم أيضاً متأهبون و متلهّفون و توّاقون لتقديم العون و خدمة البلد؛ فابحثوا عنهم و استقطبوهم. و هذا طبعاً ينبغي أن يتجسّد على مستوى العمل و التطبيق لكي يأتي ذوو الاختصاص و يقدّموا أنفسهم للجهات التي تروم التعاون معهم. و هذه قضية مهمّة.
التوصية الاخرى التي أودّ ذكرها هي قضية العلاقة و التعامل مع السلطتين الاخريين. فممّا يدعو إلى الارتياح أن علاقات السلطة التنفيذية اليوم مع السلطتين التشريعية و القضائية علاقات حسنة؛ غير أن هذه العلاقة ينبغي تمتينها بنيوياً؛ بمعنى انّه ينبغي بذل المساعي من أجل بناء علاقات منطقية و سليمة. و لا أرى طبعاً أن مجلس الشورى يتغاضى عن واجباته في ما يخص علاقته مع الحكومة؛ كلا طبعاً، بل على المجلس أن يعمل بحزم في علاقته مع الحكومة و لكن بدافع الخير و المصلحة. كما أن الحكومة ينبغي أن لا تحيد أبداً عن صلاحيّاتها و انّما يجب عليها أن تستثمر إلى أقصى مدىً ممكن الصلاحيات التي منحها إيّاها القانون و الدستور في مقابل السلطتين الاخريين. و لكن روح التعاون و التوافق و الانسجام يجب أن تسود في كلٍ من السلطات الثلاث.
الملاحظة الاخرى التي أود التوصية بها هي قضية الإعلام التي كنت قد طرحتها أيضاً من قبل في اجتماع المسؤولين الحكوميين (1)؛ إذ يجب عليكم الارتقاء بمستوى العمل الإعلامي؛ و ارفدوا وسائل الإعلام المناسبة؛ إذ يفترض بوسائل الإعلام الوطنية أن تضطلع بدور نشيط في ما يخص الحكومة. إن العمل الإعلامي بطبيعة الحال عمل دقيق. و ليس المطلوب فيه أن يجلس شخص في مقابل أجهزة الكاميرات و يتوجّه بالخطاب إلى الجماهير و يقول إنّنا فعلنا كذا و كذا. ثمّ أن الناس حين يسمعون كلامه يرحبون بكلامه و يصدقونه، و يقولون نعم إن هذه الأعمال قد انجزت! كلاّ طبعاً، فالعمل الإعلامي ليس هكذا. العمل الإعلامي فن و ابداع. عليكم أن ترفدوا وسائل الإعلام الوطنية و تزوّدوها بالمادة الإعلامية، و على وسائل الإعلام أن تعمل بما عليها. عليكم القيام بالعمل الإعلامي بإبداع لكي يتقبل الناس منكم عن قناعة تامّة. الكثير من أعمالكم و انجازاتكم لا يعلم بها أبناء الشعب حالياً؛ أي انّهم لا يطّلعون على الانجازات الكبرى و الأعمال التي تأتي على الصعيد القومي و الوطني، فما بالك بالانجازات التي تجري في المدن و النواحي، و ما بالك بالانجازات على صعيد البُنى التحتية! إن انجازات البُنى التحتية من الخدمات المهمّة التي قدّمتموها و تفخرون بها، و هي جديرة بالفخر، و لكن الناس لا يعلمون عنها شيئاً. هذه الامور يجب إظهارها و إعلام الناس بها. و هذا العمل يبعث الأمل في نفوس أبناء الشعب، و يطلعهم على الامور، و يتمخّض عنه دعم أبناء الشعب و مؤازرتهم، و يجعل الامور واضحة أمام الانتقادات.
و أودّ أن ابيّن هنا أيضاً: انّكم لا ينبغي أن تغضبوا من الانتقادات أبداً. فالبعض ممّن يوجّهون الانتقادات إلى الحكومة يهدفون من وراء ذلك إلى اثارة غضبكم، و إنهاككم و ازاحتكم عن مواضعكم، بل إن الانتقاد يأتي أساساً من أجل هذه الغاية. أو عن طريق تتبّع المعايب من غير مبرّر؛ لقد رأيتم أنّهم أحياناً يبرّزون خبراً و يضخّمونه؛ ثمّ ينكشف غداً أو بعد غدٍ أنّه كان كاذباً أصلاً و ليس له أي أساس! و هذه أيضاً من الممارسات التي يقوم بها البعض من الناس. ينبغي أن لا تنتابكم أصلاً حالة الغضب و الجزع. بل عليكم أن تتقبّلوا النقد و إن لم يكن نقداً بناءً؛ لأنّ الانتقادات المعادية تضمّ بين ثناياها أحياناً حقائق لم يكن الناقد قد قصد بها النصح؛ غير أن نقده واقعي؛ فما بالكم بمن ينتقدونكم بدافع النصح. عليكم أنْ تتقبلوا الانتقاد و لا تضجروا منه أبداً.
الملاحظة الاخرى التي اريد أن أوصيكم بها هي أن ترفعوا الحيف و الاحجاف عن القطاع الثقافي. إن قطاع الثقافة للحق و الانصاف قطاع يعاني الظلم و الإجحاف. فالتقرير الذي عرضه رئيس الجمهورية الآن لم يرد فيه أي ذكر للثقافة. أو إن هذه الأولوية ذهبت ضحيّة الأولويات الاخرى في سلّم الأولويات، و تقدّمت الأولويات الاخرى عليها، بحيث تمّ بيانها في ضيق الوقت! و هذا اجحاف طبعاً. عليكم أن لا تستهينوا بقضية الثقافة. فالكثير من مشاكل مجتمعنا يمكن حلّها عن طريق التثقيف. انتبهوا إلى أن القوى الأساسية لأعدائنا تركز نشاطها اليوم على الجبهة الثقافية. فهذه الحروب النفسية، و هذه النشاطات الثقافية، و هذه الميزانيات السّرية و العلنية التي يخصصونها من أجل حرف الأذهان، تتعلّق كلّها بقضية الثقافة. فالثقافة مثل الهواء الذي يستنشقه الإنسان؛ فإذا استنشقه و تشبّع به يمكنه أن يسير خطوات و يقطع به شوطاً إلى الأمام؛ و كلّ الجوانب الاخرى تنبثق من هذا الشيء الذي استنشقتموه. فإن كانوا قد ضخّوا هواءً مسموماً في موضعٍ ما، فإنَّ النتيجة التي سوف تظهر على الاجسام تأتي تبعاً لحالة التسمم الذي يحملها ذلك الهواء. فإذا ملأوا الجو بالدخان أو بمادّة مخدّرة و استنشقتموه، يأتي سلوككم متناسباً مع ما استنشقتم؛ و هكذا الحال بالنسبة إلى الثقافة. فلا تستهينوا بالثقافة؛ إنّها ذات أهمية فائقة. و انطلاقاً من ذلك ابذلوا لها الوقت و خصصوا لها من الميزانية أموالاً و أبواباً جديرة بالاهتمام من أجل أن تعطوا للثقافة طابعاً قيمياً. فمن الأعمال المهمّة التي يجب أن يهتم بها المسؤولون الثقافيون في الحكومة بقوّة و لا يقصّروا بدقيقة واحدة من الوقت من أجلها؛ هو أن يصوغوا لثقافة المجتمع العامّة و للأدوات و الوسائل الثقافية اتجاهاً قيمياً. لان جهوداً كثيرة قد بُذلت لكي تسير التوجهات الثقافية و العناصر الثقافية ـ الفن و الآداب و الشعر و السينما و ما شابه ذلك ـ في اتجاه غير قيمي. و هذا ما يفرض عليكم بذل كل ما في وسعكم من الجهود من أجل أن ترسموا للحركة الثقافية في البلد اتجاهاً قيمياً.
و بهذه المناسبة و لأجل هذه الغاية، أتطرق هنا لقضية العلوم و الابحاث العلمية. قضية النهضة العلمية في البلد يجب أن تُعطى أهمية فائقة؛ و يجب أن تنال نصيبها من الاهتمام الجاد. و هنا أقول: إنّه ما مِن بلد ـ و من جملة ذلك بلدنا ـ يستطيع نيل تطلعاته الوطنية و آماله الكبرى إلا عندما يتمكن من احراز مرتبة و مكانة في التنافس العلمي. و من المؤكد أن التخلّف العلمي يستدعي وراءه التخلّف السياسي، و الاقتصادي، و الثقافي. هؤلاء المتوحّشون الذين يمسكون اليوم بالعالم و يتحكمون به و ليس فيهم ذرّة من الإنسانية و المعنوية، انّما استطاعوا التسلط على العالم بفضل العلم؛ حيث أنّهم اكتسبوا العلم. و قد قلت عدّة مرّات إنّ مثلهم في ذلك كمثل البلطجي إذا كان عاقلاً ثمّ اكتسب العلم، و لكنّه لم يترك عمل البلطجة. فالإنسان يرى حقيقة انّهم بلطجية العالم؛ هؤلاء المستكبرون هم بلطجية العالم و أصحاب الضجيج و العربدة؛ إلا انّهم متسلّحون بالعلم. فأنت شخص نجيب، و متديّن جداً، و شريف جداً، و أصيل جداً، و من اسرة عتيدة؛ بينما هو لا أصل و لا نسب له، و لا اسرة كريمة، و لكنّه متسلّح بالعلم و أنت غير متسلّح. و أنت أُميّ و هو يحسن القراءة و الكتابة؛ فيأتي و يتسلّط عليك من غير جدل و لا نقاش .
عليكم أن تتسلحوا بالعلم. و قودوا بلدكم و شعبكم قُدُماً في قافلة العلم. نحن متخلّفون في هذا المجال. لعنة الله على اولئك الذين لم يدركوا في زمانهم أولوية العلم و البحث في هذا البلد، و تسبَّبوَا في تأخير البلد و تخلّفه. ثمّ انه لم تكن في البلد همم عالية تستطيع التعويض عمّا فات من التخلّف. ثمّ جاءت الثورة؛ فقلبت الصفحة كلياً و بدّلت المسار بمسار آخر. و نحن قادرون على التعويض عن هذا التخلّف. و إذا أردنا نستطيع طبعاً السير على ذات الطريق الذي ساره الآخرون، و لكن هذا يبقينا متخلّفين عنهم إلى أبد الدهر. هناك طرق مختصرة. خَلْقُ الله فيه مسالك و طرق عجيبة و مثيرة للدهشة، و ينبغي اكتشاف هذه الطرق و المسالك. كلّ هذا التطوّر العلمي جاء بفضل الطرق المختصرة. إنَّ الطرق المختصرة من الكثرة بحيث أنّكم إذا اكتشفتموها و عثرتم عليها و سرتم فيها قُدُماً، ستجدون أنفسكم فجأة في ذلك الموقع المتقدّم من هذا السباق. و لا شك طبعاً في أنّه من المتعذّر العثور على طريق مختصر من غير ايجاد مقدّماته العلمية. فلا بدّ من طيّ المقدّمات العلمية و تسليح الناس بسلاح العلم و جعلهم علماء. و لكن ينبغي طبعاً أن يُنظر إلى البحث العلمي نظرة جادة. إذن، قضية النهضة العلمية و القفزة العلمية قضية مهمّة.
إنّ ميزانية البحث العلمي تُعدُّ هي الاخرى من نقاط ضعفنا. فأنا أحياناً حين ألتقي الجامعيين و الاساتذة و مسؤولي القطاعات العلمية في البلد، أراهم يطرحون قضية ميزانية البحث العلمي. منذ ثلاث أو أربع سنوات قالوا لنا إنّه تقرر أن تصل ميزانية البحث العلمي إلى ثلاثة بالمائة من الميزانية، و لكنّنا حالياً نسير و نعمل بنسبة ستة بالعشرة من المائة أو بسبعة بالعشرة من المائة من الميزانية! و الواقع أن هذه النسبة من التخصيصات ضئيلة جداً. فهم على الدوام يقدّمون الوعود بأن الأمر سيتحسّن و سيصبح كذا و كذا. و لكن لا يُرى أي أثر من ذلك. إنّي أدعوكم بجد إلى زيادة ميزانية البحث العلمي؛ خفّضوا من تخصيصات قطاعات اخرى و لكن زيدوا تخصيصات هذا القطاع. إنّ معاونية العلوم و البحوث التي أُنشئت بفضل الله مؤخّراً في رئاسة الجمهورية، تُعدُّ من الأعمال ذات الأهمية الكبيرة ـ فهذا واحد من الأعمال البنيوية ـ إفسحوا لهم المجال و افتحوا أمامهم الطريق. ارفدوهم بالعون و اطلبوا منهم المعطيات و طالبوهم بالنتائج؛ فهم يستطيعون تطوير هذه الأعمال. هذه واحدة من القضايا.
القضية الاخرى التي أودّ بيانها هي قضية سياسات المادة 44 التي اتحدث هنا عنها کحالة خاصة. إن سياسات المادة 44 مهمة جداً. و مشروع القانون الذي قُدِّم إلى المجلس كانت فيه نواقص؛ و في المجلس جرى اكمال قسم من نواقصه. و أنا أريد أن اوصي لتجري الامور بالنحو الذي يجعل هذا القانون يتطابق مع الأهداف المذكورة في هذه السياسات؛ أي حقيقة إن هذا النهج المغلوط الذي طبق في الاقتصاد منذ أوائل الثورة من غير حقّ، و استمر على هذا المنوال، عليكم أن تضعوا له حدّاً و تسيرون على نهج يضعه على الطريق صحيح! و هذا لا يتعارض مع الدعوة إلى العدالة و لا مع ما ذكرناه في سياسات المادة 44؛ أي إن قضية العدالة يجب أن تأخذوها بنظر الاعتبار قطعاً؛ غير أن اقتصاد البلد يجب أن يتطوّر و يزدهر؛ و القوى الجماهيرية يجب أن تدخل إلى ميدان الاقتصاد و تعمل فيه. و هذا طبعاً لا يتحقّق بمجرّد الكلام و الدعوات، بل لا بدّ من اتخاذ خطوات و اجراءات ذات طابع ملموس.
و هنا يُطرح على بساط البحث موضوع الاستثمارات. فقد عُقدت هنا في وقت ما ـ قبل عدة سنوات ـ جلسة تفصيلية مع مسؤولي القطاعات الاقتصادية المختلفة؛ و تحدّث أحد السادة بكلام حسن؛ قال فيه: نحن ندعو الأجانب ليأتوا و يستثمروا هنا! و لكن الأجانب ينظرون ليروا هل أصحاب الاستثمارات الداخليين يستثمرون رؤوس أموالهم في داخل البلد أم لا؟! فهذا بمثابة واجهة و معرض يظهر واقعنا؛ فإنْ وجدوا أن من لديهم القدرة على الاستثمار من أهل البلد، يستثمرون أموالهم في داخل البلد و هم مرتاحي البال، عند ذاك يجدون في أنفسهم الحافز فيتشجّعوا و يأتوا لأجل الاستثمار. و لكن حين يلاحظون أن أهل البلد أنفسهم لا يستثمرون رؤوس أموالهم في داخل البلد، فمن الصعوبة جداً إقناع المستثمر الأجنبي بأن تعال إلى هنا و استثمر أموالك لكي نستفيد نحن من استثماراتك! هذه الامور كُلها أُخذت بنظر الاعتبار في سياسات المادة 44.
هناك قضية أُخرى أودّ الاشارة إليها کحالة خاصة هي الأخرى؛ و هي قضية الغلاء؛ عليكم أن تجدوا لها حلاً بجد. فهناك في الواقع غلاء و خاصّة في مجال السكن و بعض السلع، و يتسبّب في ضغوط على الناس. إن حلَّ مشكلة الغلاء يحتاج إلى عمل جذري طبعاً. و من البديهي أن السيطرة على التضخّم اجراء علمي، و جذري و أساسي و له مقدماته و أصوله، و سيبقى التضخّم قائماً ما لم تُطبق تلك القواعد و الاصول؛ و لكن يجب القيام بإجراءات عاجلة أيضاً. إذ لا يمكن الجلوس بانتظار أن تُعطي الاجراءات الجذرية ثمارها يوماً ما. كلا طبعاً، بل عليكم التفكير بحلول حقيقية، و اتخاذ اجراء عملي. و أنا لا أُريد هنا أن اقترح عليكم ما ينبغي أن تفعلوه في هذا المجال. و هنا لا بدّ أن نشير أيضاً إلى أن الغلاء له اسباب حقيقية، و أسباب أُخرى كاذبة و نفسية؛ أحياناً كلمة واحدة غير مدروسة و قرار مغلوط واحد، يؤدّي فجأة إلى إثارة هذه الموجة من الغلاء، و يزيد معدّلات التضخّم في القطاعات المختلفة، و ينتهي إلى ايجاد انتظارات. نأمل أن يتمكّن السادة المسؤولون من متابعة هذه القضیة أیضاً إن شاء الله.
توكّلوا على الله، و اطلبوا منه التوفيق. وثّقوا علاقتكم يوماً بعد آخر بالمعنوية و بالله تعالى. أرجو أن لا يحوّل الانهماك في العمل دون الذِكر و التوجه إلى الجوانب المعنوية! بمعنى أن أحد المخاطر هو أن ننغمس في العمل و نغفل عن ذلك الارتباط القلبي. فإنّ المحفّز وراء نشاطنا و اندفاعنا و حركتنا و حماسنا و نجاحنا هو العون الإلهي. إذ يجب طلب العون من الله بالمعنى الحقيقي للكلمة. كما يجب أيضاً شكر النعمة الإلهيّة ـ نعمة هذه المسؤولية، و ما أعطاكموه من توفيق لخدمة الناس ـ و ينبغي في الوقت ذاته أن ندعو الله لزيادتها و دوامها و استمرارها. و لهذا فإنّ هذا كلّه يحتاج إلى توجّه؛ فاغتنموا هذه الأيّام من شهر شعبان. إقرأوا في صلوات الظهر الشريفة هذا الدعاء: «الذي كان رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ يدأب في صيامه و قيامه في لياليه و أيّامه بخوعاً لك في اكرامه و اعظامه الى محل حمامه». أي أن رسول الله (ص) كان حتى لحظة وفاته يعظم شهر شعبان و أيّامه و لياليه، و كانت كلّ أشهر شعبان في حياته تسير على هذه الشاكلة و على هذا المنوال. ثمّ اقرأوا في هذه الصلوات أيضاً: «اللّهم فأعنّا على الاستنان بسنّته فيه و نيل الشّفاعة لديه». واصلوا سنّة الرسول الاعظم في (ص) هذا الشهر؛ التوجّه، و الدعاء، و الذكر، و الاستعداد للدخول في شهر رمضان المبارك.
أسأل الله العلي القدير أن يوفّقكم، و أنْ يزيد من أجر إمامنا الخمیني الراحل لقاء ما تقدّمونه من خدمات و ما تتحملونه من مشقّة ـ و هي لها أجر عند الله ـ. و يُرضي أرواح الشهداء الأبرار عنكم و عنّا.
و السّلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته‌.

الهوامش:
1 - لقاؤه بمسؤولي النظام الإسلامي بتاریخ الثلاثین من حزیران 2007 م.