بسم الله الرحمن الرحيم (1)

إنه لاجتماع جد منوّر و عاطر و عميق المعاني و المغزى. الشهداء الذين ذُكروا في هذه الجلسة هم من الشرائح المتفوّقة و النخبة في المجتمع، إنهم من الطلبة الجامعيين و الفنانين و المعلمين و تلاميذ المدارس، و هذا يدل على أن محفزات التضحية و الشهادة في سبيل الله شائعة على مختلف مستويات مجتمعنا، و هذا شيء على جانب كبير من الأهمية. أستاذ جامعي يتوجّه إلى جبهات القتال و يستشهد، و فنان يلتحق بالجبهات و يستشهد، و طالب جامعي يقاتل و يستشهد. الكثير من هؤلاء المشاهير في ساحة الدفاع المقدس في إيران - الذين تزيّن أسماؤهم شوارعنا و مراكزنا، و تجمّل صورهم بيئاتنا الحياتية - أو غالبيتهم كانوا من الطلبة الجامعيين. و البعض منهم كانوا نوابغ حقاً، و كانوا فنانين، و كانوا معلمين، و كانوا أساتذة، ذهبوا للجبهات و قدموا و أهدوا أرواحهم و أعمارهم - و هي أثمن ما يمتلكه الإنسان من الأمور المادية - في سبيل الله و من أجل الأهداف. هذا شيء مهم جداً.
ملتقيات إحياء ذكرى هؤلاء الشهداء هي مواصلة لمسيرة الجهاد و الشهادة. لو لم تتكرر أسماء شهدائنا و تكرّم، و لو لم يتحول احترامهم و احترام عوائلهم في مجتمعنا إلى ثقافة - و لحسن الحظ أنه غدا ثقافة في مجتمعنا - لكانت الكثير من هذه الذكريات القيمة الثمينة قد نسيت اليوم، و لكان هذا التقييم الكبير الذي يتكوّن في المجتمع بفضل مسيرة الشهادة قد غاب في مطاوي النسيان. يجب أن لا تسمحوا بحدوث مثل هذا الشيء بعد الآن أيضاً. ينبغي إحياء ذكرى الشهداء و تكرار أسمائهم و التدقيق في سيرهم في أوساط المجتمع أكثر فأكثر. و إذا كان هذا بقيت قضية الشهادة - و هي تعني الجهاد الحقيقي في سبيل الله - في مجتمعنا قوية راسخة. و إذا كان هذا فلن يعود هناك انكسار يُمنى به هذا المجتمع و لن يكون للهزيمة معنى بالنسبة له، بل سيتقدم باستمرار. الأمر تماماً كقصة الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، و قد مضى اليوم 1300 عام على استشهاد سيدنا أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أو أكثر، و قضية الحسين (ع) تتعاظم و تكبر يوماً بعد يوم. ثمة في داخل هذه القضية مضامين ضرورية لحياة المجتمع حياة إسلامية. لو لم تنتشر هذه المضامين لما كان ثمة اليوم أثر للإسلام و القرآن و حقائق المعارف الإسلامية. و كذا الحال بالنسبة للأمر في الوقت الحاضر. لا تدعوا أسماء الشهداء و ذكرياتهم يلفّها النسيان أو تصاب بالقدم في مجتمعنا، و طبعاً ينبغي أن تفعلوا ذلك بأساليب مبتكرة، فهذه الملتقيات التي تقيمونها أيها السادة - و هي قيمة جداً - ليست مجرد مجالس فاتحة ضخمة، بل هي ملتقيات ذات مضامين خاصة، و يجب أن تفسّر فيها معاني الشهادة، و يُعرّف الشهداء، و تكرّس ثقافة الشهادة في المجتمع.
يقول الله تعالى حول الشهداء إنهم أحياء: «وَ لا تَقولوا لِمَن يقتَلُ في سَبيلِ اللهِ اَموات» (2)، «وَلا تَحسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللهِ اَمواتًا بَل اَحيآءٌ عِندَ رَبِّهِم يرزَقون* فَرِحينَ بِمآ ءاتهُمُ اللهُ مِن فَضلِه» (3). هذه آيات قرآنية. إنها معارف صريحة لا يمكن لأيّ مسلم أن يغضّ الطرف عنها. كل من يعتقد بالإسلام و القرآن الكريم يجب أن تنتصب هذه المعارف أمام عينيه. هذه الآية القرآنية الشريفة تقول إنهم أحياء و حياتهم حياة واقعية، و حياة معنوية، و هم يرزقون عند الله تعالى، بمعنى أن فضل الله تعالى ينهمر عليهم دوماً، «فَرِحينَ بِمآ ءاتهُمُ اللهُ مِن فَضلِه». ماذا يحدث في الجانب الآخر للحدود بين الحياة و الموت؟ ما الذي يعرفه البشر عن ذلك العالم و تلك النشأة المجهولة؟ بخصوص الشهداء نعلم أنهم راضون مسرورون فرحون، «فَرِحينَ بِمآ ءاتهُمُ اللهُ مِن فَضلِه»، و فوق ذلك «وَ يستَبشرونَ بِالَّذينَ لَم يلحَقوا بِهِم» (4)، أي إنهم يتحدثون معنا و يخاطبوننا: «اَلّا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يحزَنون» (5). هذا شيء مهم للغاية. يجب أن نوجد في أنفسنا هذه الأذن التي تستطيع أن تسمع نداء الشهداء الملكوتي. إنهم يبشروننا و يخبروننا بأن لا نخاف و لا نحزن: «اَلّا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يحزَنون». إننا نصاب بالخوف نتيجة حالات الضعف عندنا، و نعاني من الحزن، و هم يقولون لنا يجب أن لا نخاف و لا نحزن، فهم إما يتحدثون عن أنفسهم أو عنا - حسب الاختلافات الموجودة بشأن تفسير هذه الآية الشريفة - إنهم ينفون الخوف و الحزن، سواء في هذه النشأة أو تلك النشأة. من المهم بالنسبة لشعب مقتدر أن لا يصاب بالخوف و الحزن في مسيرة تقدمه، و أن يسير بأمل. هذه هي رسالة الشهداء لنا، و ينبغي استماع هذه الرسالة. إنكم بهذه الملتقيات و النشاطات التي تقيمونها تقع على عواتقكم واجبات إيصال هذه الرسالة للأسماع.
ذكر أخونا (6) نقطة جيدة، و هي أنه عندما يقام ملتقى لإحياء ذكرى الشهداء، فالذين يشاركون في هذه الملتقيات مهما كانت مراتبهم و مقاماتهم العالية فإن ما سينالونه من خيرات هذه الملتقيات و بركاتها و هدايتها و معارفها أكثر مما يمنحونه لها من خير و فائدة و عظمة؛ و هذا هو الواقع. اعملوا ما من شأنه أن تكون هذه الملتقيات مباركة إلى هذا الحد، و روّجوا لهذه المفاهيم، و انشروا هذه الثقافة في المجتمع. لقد قام الشعب الإيراني بشيء عظيم كبير. في عالم يدور حول مدار القوة و العسف و الغطرسة و النهب الذي يمارسه العتاة و الأقوياء، و تتعرض فيه الشعوب المستضعفة في شتى الأماكن و الأنحاء من العالم إلى ضغوط المتجبّرين دوماً، في مثل هذا العالم قام كائن أو هوية يعارض بصراحة و بدون ملاحظات و بمنتهى الشجاعة هذا السياق الخاطئ في العالم، ألا و هو سياق الهيمنة الذي نعبّر عنه بعبارة نظام الهيمنة. هذا هو ما فعله الشعب الإيراني. لقد رفض شعب إيران نظام الهيمنة القائم على الهيمنة و الخضوع للهيمنة. شيّد العتاة الناهبون عالمهم على أساس تقسيم العالم إلى مهيمن و خاضع للهيمنة، و كذا الحال اليوم أيضاً، و كذا كان الحال عندما تفجرت الثورة الإسلامية، و هكذا كان الحال على مر التاريخ. و بالطبع فإن هذا الواقع اليوم أشد مما كان عليه في العصور الماضية، لأن أدوات الهيمنة اليوم لا تقبل المقارنة بما كانت عليه قبل مائة عام و ألف عام و خمسة آلاف عام، فقد توفرت للمهيمنين فرص أكبر للهيمنة على المظلومين و المستضعفين، و هم ينتهزون هذه الفرصة إلى أقصى الحدود، فينهبون المصادر و يدمّرون الثقافات و يذلّون البشر و ينشرون الجوع بين الشعوب المظلومة المحرومة، و غير ذلك من الفجائع. مقابل هذا السياق ظهرت هوية اسمها الثورة الإسلامية تعمتد على أسس الوحي و الركائز الإلهية و الأخلاق الإلهية و المسيرة الإلهية و ما يقوله القرآن الكريم بصراحة؛ هذه هي مسيرة الشعب الإيراني. و قد تنامت هذه المسيرة و تقدمت إلى الأمام يوماً بعد يوم و الحمد لله.
إننا لا ندعي أننا استطعنا تطبيق الأهداف الإسلامية في البلاد، هذا ما لا ندّعيه أبداً. في الكثير من الحالات كانت قدراتنا محدودة و لم نستطع العمل بما أردنا القيام به كما نحبّ و نرغب، لكننا واصلنا حركتنا و لا نزال نسير نحو القمّة. حاولوا بث الندم في نفوسنا على مسيرتنا هذه فلم يستطيعوا، و حاولوا إيقافنا فلم يستطيعوا، و سعوا إلى أن يفرضوا علينا التراجع فلم يستطيعوا. نعم، نحن لم نصل إلى القمة، لكننا سرنا على هذا السفح مسافات كبيرة، و تقدمنا إلى الأمام، و لا تزال هذه الحركة مستمرة و المحفزات متظافرة، و سوف تتنامى هذه المحفزات و الدوافع أكثر فأكثر إن شاء الله و لا تتوقف. ذات يوم كان البعض يفكّر و البعض يذكر هذه الفكرة باللسان فيقول: يا سيدي، أنتم تأخذون هؤلاء الشباب من الطلبة الجامعيين إلى الجبهات - و الحال أننا لم نكن نأخذهم بل كانوا يتوجهون هم أنفسهم إلى الجبهات بشوق، و حتى الذين يواجهون ممانعات مَن حولهم بشأن الذهاب للجبهات، يفرضون على المحيطين بهم بشتى الحيل و الأساليب أن يسمحوا لهم بالالتحاق بالجبهة - فتبقى الجامعات خالية و تتوقف مسيرة العلم، إلّا أن تحركات الطلبة الجامعيين و جهادهم و مساعيهم جعلت تقدمنا على الصعيد العلمي أكبر و أسرع من تقدمنا على الصعد الأخرى. الحمد لله على أن مسيرتنا العلمية اليوم و على مختلف مستويات البلاد مسيرة مقبولة و تبعث على الفخر. في ذلك الحين لم يكن هذا الأمر متصوّراً، بل ربما كان يقال إنه لو توجّه هؤلاء النخبة و الفنانون و الطلبة الجامعيون و الأساتذة و المعلمون إلى الجبهات و قتلوا فستكون هناك ثغرة. و تبيّن أن بركات الشهادة و الجهاد في سبيل الله أكبر من ذلك بكثير. ذهب أولئك إلى الجبهات، و اليوم ظهر لدينا أشخاص مميزون في عالم العلم و مجالات الفن و مختلف الميادين، و يمكن أن يكون لهم أداؤهم الجيد على المستوى الدولي و العالمي. هذه من خيرات مسيرة شعب و جهاده الذي سوف يستمر و يتقدم إلى الأمام و يتواصل.
لديّ اعتقاد راسخ بأن من الاحتياجات الأساسية للبلاد إحياء اسم الشهداء، هذه حاجة تبدو لنا - سواء كنا أناساً متدينين متعبدين، أو حتى لو لم نكن متدينين بدرجة عالية لكننا نحب مصير هذا البلد و هذا الشعب - ضرورية و حيوية لمستقبل البلاد كيفما فكّرنا. ثقافة الشهادة تعني ثقافة السعي و التضحية و تجاوز الذات من أجل الأهداف البعيدة الأمد المشتركة بين جميع الناس. و طبعاً، ليست تلك الأهداف خاصة بشعب إيران و لا بالعالم الإسلامي، بل هي أهداف عالم الإنسانية. إذا تكرّست هذه الثقافة لدى شعب لكانت على الضدّ تماماً من الثقافة الفردية الغربية الحالية، و التي تقيس كل شيء لأجل الذات و بالمعايير الشخصية، و ترى لكل شيء سعراً بالعملات و الأموال، ألا و هو الحصول على المال. هذا على الضدّ تماماً من تلك الثقافة. بمعنى «وَ يؤثِرونَ على اَنفُسِهِم» (7). إنهم أفراد يعملون بالإيثار و بثقافة الإيثار و التجاوز و التضحية بالذات من أجل مصير المجتمع و الشعب. إذا عمّت هذه الثقافة، فإن أيّ بلد أو مجتمع يتوفر على هذه الثقافة سوف لن يتوقف أبداً، و لن يتراجع إلى الوراء، بل سيتقدم إلى الأمام. عملكم هذا يحيي هذه الثقافة. و عليه، فإني أتقدم بالشكر لكل الإخوة و الأخوات المتعاونين و المشاركين في هذا العمل الصالح، و أتمنى لهم جميعاً التوفيق. هذه المجاميع الثلاث الحاضرة اليوم هنا - مجموعة لجنة إحياء ذكرى الشهداء الفنانين، و لجنة إحياء ذكرى الشهداء من الطلبة الجامعيين، و لجنة إحياء ذكرى الشهداء المعلمين و المسؤولين عن الشؤون التربوية - كل واحدة منها تقوم بعمل قيّم عميق المعاني و المغزى، و سوف نشاهد آثار هذه الأعمال في المجتمع إن شاء الله.
و السلام عليكم و رحمة الله.

الهوامش:
1 - حضر هذا اللقاء أعضاء لجان الملتقى الوطني للشهداء من الطلبة الجامعيين، و ملتقى تكريم ذكرى الشهداء الفنانين، و ملتقى الشهداء المسرحيين.
2 - سورة البقرة، شطر من الآية 154 .
3 - سورة آل عمران، الآية 169 و شطر من الآية 170 .
4 - م ن .
5 - م ن .
6 - السيد حسين مسافر آستانه.
7 - سورة الحشر، شطر من الآية 9 .